أصداء السيرة الذاتية
ـ نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
ولد في القاهرة عام 1911.
أمضى طفولته في حي الجمالية حيث ولد، ثم انتقل إلى العباسية والحسين والغوريه، وهي أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامه في أعماله الأدبية وفي حايته الخاصة.
حصل على إجازة في الفلسفة عام 1934 وأثناء إعداده لرسالة الماجستير " وقع فريسة لصراع حاد" بين متابعة دراسة الفلسفة وميله إلى الأدب الذي نمى في السنوات الأخيرة لتخصصه بعد قراءة العقاد وطه حسين.
بدأ كتابة القصة القصيرة عام 1936 . وانصرف إلى العمل الأدبي بصورة شبه دائمة بعد التحاقه في الوظيفة العامة.
عمل في عدد من الوظائف الرسمية، ونشر رواياته الأولى عن التاريخ الفرعوني. ولكن موهبته ستتجلى في ثلاثيته الشهيرة ( بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية) التي انتهى من كتابتها عام 1952 ولم يتسن له نشرها قبل العام 1956 نظرا لضخامة حجمها.
نقل نجيب محفوظ في أعماله حياة الطبقة المتوسطة في أحياء القاهرة، فعبر عن همومها وأحلامها ، وعكس قلقها وتوجساتها حيال القضايا المصيرية. كما صور حياة الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية وامتداد هذه العلاقات في المجتمع.
ولكن هذه الأعمال التي اتسمت بالواقعية الحية لم تلبث أن اتخذت طابعا رمزيا كما في رواياته " أولاد حارتنا" و "الحرافيش" و "رحلة ابن فطوطة".
بين عامي 1952 و 1959 كتب عددا من السيناريوهات للسينما. ولم تكن هذه السيناريوهات تتصل بأعماله الروائية التي سيتحول عدد منها إلى الشاشة في فترة متأخرة.
ومن هذه الأعمال " بداية ونهاية" و " الثلاثية" و " ثرثرة فوق النيل" و" اللص والكلاب" و " الطريق ".
صدر له ما يقارب الخمسين مؤلفا من الروايات والمجموعات القصصية.
ترجمت روايته " زقاق المدق" إلى الفرنسية عام 1970 ، ونقل عدد من أعماله البارزة إلى لغات متعددة، ولا سيما الفرنسية والإنكليزية، بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1988 .
أصداء السيرة الذاتية
دعاء
ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة. وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير :
بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا.
غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد.
رثاء
ورأيتني صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه في جميع الحجرات، فكل شخص تذكره وكل شخص تحدث عنه بما قسم.
وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتي لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء. وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء وهمست بحنان : لا تبق وحدك.
واندلعت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون. وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدري بكل ما يموج فيه من حزن وخوف.
دين قديم
ولما تماثلت للشفاء خفت أشد الخوف الرجوع إلى الجحيم. عند ذاك خلق بين جوانحي شخص جديد، صممت على الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة، إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة فلأجتهد مهما كلفني ذلك من عناء ، وجعلت أثب من نجاح إلى نجاح، وأصبح الجميع أصدقائي وأحبائي. هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي.
الحركة القادمة
جئتك لأنك ملاذي الأول والأخير.
فقال العجوز باسما:
هذا يعني أنك تحمل رجاء جديدا.
تقرر نقلي من المحافظة في الحركة القادمة .
ألم تقض مدتك القانونية بها ؟ هذه هي تقاليد وظيفتك فقال بضراعة :
النقل الآن ضار بي وبأسرتي.
أخبرتك بطبيعة عملك منذ أول يوم .
الحق إن المحافظة أصبحت وطنا لنا ولا غنى عنه.
هذا قول زملائك السابقين واللاحقين، وأنت تعلم أن ميعاد النقل لا يتقدم ولا يتأخر.
فقال بحسرة :
يا لها من تجربة قاسية !
لم لم تهيئ نفسك لها وأنت تعلم أنها مصير لا مفر منه.
مفترق الطرق
زيارة تنفخ في البيت روحا من السرور والزهور، وقد تحمل إلي علبة من الحلوى، رجل آخر يتردد على أم البيه كل يوم جمعة. صورة طبق الأصل من البيه غير أنه يرتدي عادة جلبابا ومركوبا وطاقية وتلوح في وجهه أمارات المسكنة. وتستقبله عمتي بترحاب وتجلسه إلى جانبها في أعز مكان.
حيرني أمره.
وحذرتني أمي من اللعب في الحجرة في أثناء وجوده.
ولكنها لم تجد بدا في النهاية من أن تهمس لي:
إنه ابن عمتك !
تساءلت في ذهول : أخو البيه؟
أجابت بوضوح :
نعم .. واحترمه كما تحترم البيه نفسه؟
وأصبح يثير حب استطلاعي أكثر من البيه نفسه
الأيام الحلوة
وكنت جالسا بمقهى الحسين عندما فوجئت به مقبلا يحمل عمره الطويل وعجزه البادي .
ورآني فعرفني فابتسم، وجلس دون دعوة . وبدا عليه التأثر فراح يحسب السنين العديدة التي فرقت بيننا . ومضى يسأل عمن تذكر من الأهل والأصحاب. ثم تنهد وسأل في حنان :
هل تذكر أيامنا الحلوة؟
النسيان
إنه الشيخ مدرس اللغة العربية الذي أحيل على المعاش منذ أكثر من عشرين عاما.
كلما أدركه التعب جلس على الطوار أو السور الحجري لحديقة أي بيت، مرتكزا على عصاه مجففا عرقه بطرف جلبابه الفضفاض .
الحي يعرفه والناس يحبونه ، ولكن نادرا ما يحييه أحد لضعف ذاكرته وحواسه.
أما هو فقد نسي الأهل والجيران والتلاميذ وقواعد النحو.
المطرب
الحلوة جاية
وسرعان ما لاحت أشباح النساء وراء خصاص النوافذ.
وقدحت أعين الرجال شررا.
ومضى الشاب هانئا تتبعه نداءات الحب والموت.
قبيل الفجر
تتربعان فوق كنبة واحدة . تسمران في مودة وصفاء ، الأرملة في السبعين وحماتها في الخامسة والثمانين . نسيتا عهدا طويلا شحن بالغيرة والحقد والكراهية ، والراحل استطاع أن يحكم بين الناس بالعدل، ولكنه عجز عن إقامة العدل بين أمه وزوجه ولا استطاع أن يتنحى ، وذهب الرجل فاشتركت المرأتان لأول مرة في شيء واحد وهو الحزن العميق عليه. وهدهدت الشيخوخة من الجموح، وفتحت النوافذ لنسمات الحكمة. الحماة الآن تدعو للأرملة وذريتها من أعماق قلبها بالصحة وطول العمر، والأرملة تسأل الله أن يطيل عمر الأخرى حتى لا تتركها للوحدة والوحشة .
السعادة
لم يبن من صورته الذهبية أي أثر يذكر.
على جانبيه قامت عمارات شاهقة في موضع الفيلات، واكتظ بالسيارات والغبار وأمواج البشر المتلاطمة.
تذكرت بكل إكبار طلعته البهية وروائح الياسمين.
وتذكرت الجميلة تلوح في النافذة باعثة بشعاعها على السائرين.
ترى أين يقع قبرها السعيد في مدينة الراحلين؟
ويوافيني الآن قول الصديق الحكيم : " ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين".
الطرب
نسيتني؟!
فقلت في استحياء.
معذرة ، إنها ذاكرة عجوز!
كنا جيران على عهد الدراسة الإبتدائية وكنت في أوقات الفراغ أغني لكم بصوت جميل، وكنت أنت تحب التواشيح..
ولما يئس مني تمام مد يده مرة أخرى قائلا :
لا يصح أن أعطلك أكثر من ذلك قلت لنفسي : يا له من نسيان كالعدم، بل هو العدم نفسه، ولكني كنت وما زلت أحب سماع التواشيح.
رسالة
ابتسمت. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر.
وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمس.
وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس.
وتذكرت قول الصديق الحكيم . " قوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان"
عتاب
وقال الصديق الحكيم، ليست أول من كابد الهجران.
فسألته أليس للشيخوخة مقام؟
فقال : غر من يعشق قصة قديمة.
ووقفت تحت شجرة الكافور أرنو من بعيد إلى الملهى.
وهي تجلس وسط الشرفة يشع منها نور الإغراء المبين.
لا يدركها كبر ولا يمسها انحلال.
وتخطاني بنظرة لا مبالية فليس لقرارها تبديل، بل وسوف أرجع وحيدا كما بدأت.
التلقين
خيمت فوقنا ذكريات ذلك العهد القديم
وجاء رجال ذلك العهد يسيرون رجلا وراء رجل
كانت الأرض تزلزل لأي منهم إذا خطا.
اليوم هم شيوخ ضائعون لا يذكرهم أحد
وجاء خلفاءهم تنحني الأرض تحت وطأة أقدامهم
تقول نظراتهم الثابتة إنهم ملكوا الأرض والزمن
أخيرا، هل النعش فوق الأعناق فتخطى الجميع وذهب
الوظيفة المرموقة
ألقى نظرة أخيرة على التوصيات التي قدمتها، ثم قال :
لشفعائك تقدير وأي تقدير، ولكن الاختبار هنا يتم بناء على الحق وحده.
فقلت برجاء :
إني على أتم استعداد للاختبار.
أرجو لك التوفيق.
فسألته بلهفة:
متى ندعى للامتحان؟
فتجاهل سؤالى وسألني :
ولماذا هذا الوظيفة بالذات على ما تتطلبه من جهد خارق؟
فقلت بإخلاص :
إنه الحب، ولا شيء سواه.
فابتسم ولم يعلق .
ورجعت وأنا أتذكر قول صديقي الحكيم " من ملك الحياة والإرادة فقد ملك كل شيء، وأفقر حي يملك الحياة والإرادة".
الصور المتحركة
وهذه جامعة لأصدقاء العهد القديم.
نظرت إليهما طويلا حتى غرقت في الذكريات.
جميع الوجوه مشرقة ومطمئنة وتنطق بالحياة.
ولا إشارة ولو خفيفة إلى ما يخبئه الغيب،
وها هم قد رحلوا جميعا فلم يبق منهم أحد،
فمن يستطيع أن يثبت أن السعادة كانت واقعا حيا، لا حلما ولا وهما.
العدل
ـ أنت صاحب حق ، ولكن خصمك أيضا صاحب حق، فقلت له :
ـ عرضت عليه أن نحتكم إلى شخص يكون موضع ثقتنا معا.
ـ هيهات أن يوجد هذا الشخص في زماننا.
ـ لدي خطابات مسجلة ستعرف منها المحكمة حسن نيتي.
ـ قد يطعن فيها بالتزوير.
ـ الحق أن برئ مائة في المائة.
ـ ليس الأمر بالمستحيل.
ـ ألم تهدده في لحظة غضب بالقتل؟
ـ هو نفسه لم يأخذ كلامي مأخذ الجد.
ـ بل قام باحتياطات كثيرة، وزار الأضرحة ونذر النذور. فهتفت ضاحكا:
ـ هذا هو الجنون..
ـ عليك أن تثبت أنه مجنون خاصة، وأن محاميه سيحاول من ناحيته أن يثبت جنوك.
فأغرقت في الضحك حتى قال المحامي:
ـ لا يوجد ما يدعو إلى الضحك
ـ اتهامي بالجنون مثير للضحك
ـ بل أنه يدعو للأسى
ـ لماذا يا سيدي؟
ـ الجنون يدعو للأسى
ـ طالما أني عاقل فلا أهمية للاتهام.
ـ ولكن عدم الاهتمام قد يعني الجنون نفسه.
فسألته بذهول:
ـ هل يداخلك شك في عقلي؟
ـ بل إني على يقين، اختلافكما المزمن يدل على جنونكما معا.
ـ لكنك أبديت استعدادا طيبا للدفاع عني؟
ـ إنه واجبي.
وتنهد المحامي من أعماقه وواصل :
ـ ولا تنس أنني مجنون مثلكما.
من التاريخ
عند منتصف الليل سمع حركة خفيفة في الصمت المحيط ورأى امرأة ينبثق من الماء أمام الموضع الذي يفترشه . وجد نفسه أمام جمال لم يشهد له مثيلا من قبل. ترى أتكون ناجية من سفينة غارقة؟ لكنها كانت غاية في العذوبة والوقار فداخله الخوف - وهم بالوقوف تأهبا للتراجع، ولكنها قالت له بصوت ناعم :
اتبعني
فسألها وهو يزداد خوفا .
إلى أين
إلى الماء لترى أحلامك بعينيك .
وبقوة سحرية زحف نحو الماء وعيناه لا تتحولان عن وجهها.
تعليق