الدرويش و الرأس المعلق علي البوابة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • إبراهيم كامل أحمد
    عضو أساسي
    • 23-10-2009
    • 1109

    الدرويش و الرأس المعلق علي البوابة



    " الدرويش والرأس المعلق على البوابة "


    بقلم : إبراهيم كامل أحمد


    قلبى يخاف منك يا أمير
    [align=justify]
    جلس السلطان على كرسيه وعيناه تتابع ما يجرى بين الظلمة والنور من النافذة المفتوحة التى تطل على القاهرة الرابضة عند أقدام هضبة القلعة . كان يحب منظر الغروب ويحلو له أن يتابع المعركة بين الظلمة والنور رغم علمه بنتيجتها مسبقاً.
    - الصلاة يا مولاي.
    تنبه السلطان وعاد من سرحانه فرد على أتابك العسكر([1]).
    - حقا يا أمير يشبك .. هيا بنا إلى الصلاة.
    قام السلطان والأمير "يشبك" ليؤديا الصلاة ، وصوت المؤذنين يتردد من فوق مأذن القاهرة التي تزيد عن الألف.
    وبعد الصلاة قدمت الفاكهة وعلى كرسيه جلس السلطان يدخن نارجيلته ويطالع انتشار الأضواء في القاهرة المغرمة بالسهر . بينما جلس الأمير يشبك على كرسى منخفض يدخن نار جيلته ويرقب وجه السلطان وما يرتسم على صفحته من انفعالات . ضايقه أن وجه السلطان كان ينبئ بهم ويشى بالقلق والفكر ، وسائل نفسه لماذا ؟ ما الذى يهمه ويقلقه لقد مهدت له الأمر ووضعته فوق الكرسى وثبته له.
    انثالت الذكريات ورأى نفسه والسلطان طفلين في العاشرة مربوطين بالحبال ونخاس غليظ القلب يسحبهما ورائه في شوارع القاهرة ، وتذكر أيام الدرس ومران الفروسية وفنون الحرب في القلعة ، لقد لازمه منذ خرجا من بلدهما البعيد النانىء في الشمال بعد أن باعهما أبوهما للنخاس لفقرهما آملين أن يصبحا من الحكام في مصر في يوم ما . فقد كان حكام مصر في ذلك الزمان من المماليك الذين يدخلونها مربوطين بالحبال ثم تفرش لهم الأرض بالحرير حتى يطأوا عليه بسنابك خيلهم حيث يشق الموكب السلطانى شوارع القاهرة. ولقد جعل منه سلطاناً داس على الحرير الأحمر بسنابك فرسه وزغردت له نساء القاهرة وهتف رجالها بالدعاء له ، ويعلم الله وحده ما فعل من أجل ذلك من سفك للدماء ونكث للعهود وتنكر للأصدقاء وغدر بالأمراء من الرفاق ، فما الذى يقلقه وهو جالس على كرسى السلطنة ؟ وتنحنح فالتفت إليه السلطان فبادره بالقول:
    - أرى مولاي مهموماً منشغل البال!.
    - المخاوف تعربد في قلبى يا أمير. رد عليه السلطان وهو ينفث الدخان في حلقات تتسع صاعدة نحو الثريا المتدلية من السقف.
    - مم يخاف مولاي وقد مهدت له الأمر فلم يعد هناك من يعصى له أمراً؟
    كان يشبك يتحدث وابتسامة الثقة تطل من عينيه ، وعاجله السلطان بالرد كحجر يتدحرج من أعلى المقطم.
    - قلبى يخاف منك يا أمير.
    وكأن رد السلطان كان له فعل السحر فما أن نطق به حتى هجم حارسان على أتابك العسكر "يشبك" وقيداه وساقاه في الأغلال إلى محبسه في برج الاسكندرية.
    [/align]


    الحب ساحر يصنع المعجزات
    [align=justify]
    برج الإسكندرية سجن للأمراء ومعتقل للسلاطين الذين أسقطوا من على كرسى السلطنة في لعبة الكراسي الموسيقية السلطانية ، ومحبس لأولاد السلاطين السابقين والذين غدر بهم أوصياؤهم فبدلاً من أن يجلسوهم على كرسي السلطنة جلسوا هم وأرسلوهم إلى برج الاسكندرية القائم على الشاطئ في منطقة منعزلة أمامه البحر وتحيط به الصحراء من باقي الجوانب.
    ومثل كل السجون كانت حياة السجناء في زنازين ، ولكن الزنزانة كانت تختلف باختلاف مكانة الأمير أو السلطان ومدى خطورته ومبلغ غضب السلطان القائم بالأمر عليه. فكانت رفاهية السجين تتفاوت تبعاً لذلك . وكان هناك سجناء يعيشون مع زوجاتهم وعيالهم ، وسجناء دخلوا أطفالاً وحملتهم موجات السنين إلى مشارف أرذل العمر ، وسجناء كانوا سلاطين وضاع منهم كرسي السلطنة وضاع معه العقل أيضاً فكانوا يعيشون في الماضي المفقود ، وقد وجدوا في الجنون راحة ، فكانت هلوستهم مصدر تسلية للسجناء والحراس ، ولكن إذا تجاوزت الحد أو لم ترق لحارس نكد المزاج فكانت صفعة على قفا جناب السلطان (السابق) أو ضربه عصا على مؤخرته السمينة كفيله بأن ترد جنابه إلى حظيرة التعقل وليس العقل.
    لم تكن الحياة قاسية في برج الاسكندرية ، وكان عرفاً مرعياً من كل السلاطين أن الطعام الذي يقدم لنزلاء البرج لابد أن يكون بكميات كافية ، ومن أفخر الأصناف وأشهى الألوان إلى جانب الفاكهة – لقد كان النبيذ الجيد يقدم لمن يشربون الخمر ، والحشيش لمن يأكلونه أو يدخنوه وغيره من المصطلات والمعاجين والمفرحات ، وكانت وسائل التسلية متاحة من شطرنج ونرد ، وما يلزم لخيال الظل الذي أغرم به عدد من السلاطين والأمراء نزلاء البرج، فكانوا يقدمون بابات (تمثيليات) خيال الظل من آن لآخر ،وقد برعوا في هذا الفن كأربابه من المخايلين المحترفين . كذلك توفرت الكتب لمن يريد أن يقرأ ، ولكن كتب السحر كانت محظورة خشية استخدامها في الهرب أو العودة إلى السلطة.
    كان مقدم برج الاسكندرية في استقبال "يشبك" وأدخله إلى زنزانته التي كانت كبيرة فاخرة الأثاث ملحق بها حمام خاص وبها نافذة تطل على البحر وكان عليها قضبان حديدية غليظة ، وكان في صحبة الأمير مقدم البرج معاونوه من الحراس وحداد فك قيود الأمير يشبك وتقدم منه متردداً ليضع في رجله اليمنى قيدا يتكون من سلسلة في نهايتها كرة من الحديد تزن عشرة أرطال ، ووجه مقدم البرج الحديث إلى "يشبك".
    - اعذرنا يا أمير نحن ننفذ الأوامر.
    - لا عليك ، ياحداد اعمل شغلك.

    لقد اعتذر مقدم البرج للأمير "يشبك" ، فمن يدرى ربما عفا عنه السلطان وغادر البرج وعاد إلى السلطة فسيذكر له رقته في معاملته.
    ومضت الأيام بالأمير "يشبك" في برج الاسكندرية ، ولم يكن يشكو أو يتبرم ، وزاره عدد من نزلاء البرج ، وتجاذب معهم أطراف الحديث وهم يدخنون النارجيلة التي مزج تبغها بالحشيش دون أن يخوض أي منهم في حديث السلطة أو لماذا جاء إلى البرج ... فكلهم في الهوى قيس.
    وبعد أسبوعين من مقام الأمير "يشبك" في برج الاسكندرية ، وذات صباح مشمس من أيام ديسمبر دخل مقدم البرج ليزف إلى يشبك بشرى سارة ، لقد تعطف جناب السلطان فسمح لجارية يشبك الأثيرة بأن تزور مولاها ولها أن تقيم معه إن شاءت . وللمرة الأولى منذ جاءوا ه إلى البرج أحس بالفرحة تدغدغ قلبه الذي يشعر به يدق في صدره وكأنه كان فى نومة وأفاق على النبأ السار.

    شكر "يشبك" مقدم البرج ودعا للسلطان ، وتركه مقدم البرج متعللاً بكثرة المشاغل على أن يعود له ومعه الجارية بمجرد وصولها .. عاد يشبك إلى مجلسه المفضل أمام النافذة يدخن نارجيلته ويتطلع إلى البحر الذي لا تمل أمواجه من القدوم إلى الشاطئ لتتكسر على صخوره وتتطاير أشلاؤها رذاذاً في الهواء ، وردد "يشبك" في نفسه:
    - والله يشكر .. لم تهن عليه صداقة الصغر ولازمالة الكبر.
    لم يكن حانقاً على السلطان ، فهو يعرف أصول اللعبة التي كان يلعبها والغدر واحد من أصولها ، ولا بأس أن تتغدى بخصمك ومنافسك أو من يحتمل أن يكون خصمك ومنافسك قبل أن يتعشى هو بك ، ومن يدري ماذا يخبئ له الغد .. فربما وألف ربما .. وحملته موجة من موجات خدر الحشيش إلى جزيرة بعيدة في بحر هادئ ، ووقف عند الشاطئ يرقب "ياسمينة" جاريته وحبيبته تسبح عارية تماماً ، وحار نظره عندما خرجت على أي من جواهر جسدها يقع أولاً .. وجلسا تحت شجرة تفاح وصوت قبلاتهما وضحكهما يتناغم مع تغريد الطيور وموج البحر ... وانحسرت الموجة تاركة له على نفس كرسيه أمام النافذة وأحس برودة حلقه القيد حول ساقه ومن خلف قضبان النافذة رأى سرباً من السمان يطير في انتظام وانسجام خلف قائد السرب .. فشد أنفاسا سريعة من نارجيلته وملأ بها صدره ثم أخذ ينفثها في اتجاه النافذه واستخفه الطرب كلما رأى نفثات الدخان تخرج من فرجات النافذة دون أن تعبأ بالقضبان وضحك مسروراً ، وأحس أن اليوم لابد وأن يكون واحداً من أيام سعده.
    جاءت "ياسمينة" قبل مغيب الشمس بقليل ، وتعانق الحبيبان وأطفأ برد اللقاء لهيب الفراق، وأخذت عيون الليل ترمقهما بحنو ، والقمر يضحك نشواناً و ... و .... .
    [/align]
    طار الصقر من القفص

    [align=justify]
    اقترب والى الشرطة من مجلس السلطان ، وهو يفكر كيف يبدأ كلامه وكيف يبلغه الخبر، ولم يمهله السلطان ووخزه بنظرات عينيه فأفلت الكلمات من بين شفتيه.
    - حمل إلينا الحمام الزاجل خبر هروب يشبك من برج الاسكندرية.
    سكت والي الشرطة في انتظار رد السلطان وهو يختلس النظرات إلى وجه السلطان ليرى وقع الخبر عليه.
    كدر الغيظ صفاء عيني السلطان ، وقال دون أن تختلج عضلة في وجهه:
    - طار الصقر من القفص ولكن كيف؟
    واندفع والى الشرطة يتكلم وكأنه يقرأ من ورقة:
    - وضعت جارية يشبك البنج في جرتين نبيذ معتق أهدتهما للحراس .. وهربا عند الفجر بعد أن نشرت القيد وقضبان النافذة بمبرد أخفته في فرجها فقد فتشتها زوجة أحد الحراس تفتيشاً دقيقاً قبل دخولها إلى يشبك .. وما أن علمت بالخبر حتى بثثت العيون في كل مكان يا مولاي ولن يلبث يشبك طويلاً خارج القفص، ..

    أسكته السلطان بإشارة من يده .. وضع مبسم النارجيلة في فمه وأخذ يسحب أنفاساً متلاحقة وقد اتجه بعينيه ناحية النافذة وكان الأفق قد صبغ بالحمرة إعلاناً بحسم المعركة لصالح الظلام ، وبدا أنه قد نسي يشبك ووالي الشرطة الواقف أمامه ، وكان والي الشرطة قلقا وإن لم يسمح للقلق بأن ينضح على وجهه ، وكلما مر الوقت أحس كأنه واقف على قمة نارجيلة السلطان والجمر الذي يحمر كعيني غول كلما سحب السلطان نفساً يحرق باطن قدميه ، وأخذ في سره يلعن "يشبك" وجاريته الفاجرة وحراس برج الاسكندرية ، لقد انتزعه هروب "يشبك" من بين أحضان جاريته التى وفدت إلى حريمه منذ يومين أذاقته فيهما عسل جسدها الذي يحاكي أجساد الحور وسائل نفسه هل الحور سيكن أمتع من هذا وهل؟ .. وانتزعه صوت السلطان من حضن خياله.
    - احذر أن يهرب إلى الشام .. بث مزيداً من العيون .. راقب البر والبحر والنيل .. اكبس الحارات وفتش البيوت .. أقلب كل حجر ولكن دون أن تحدث ضجة في البلد والويل لك لو امتدت يد أي من أعوانك إلى حوائج العوام أو أموالهم أو نسائهم .. لا تجعل كائناً من كان يعرف عما تبحث أو عما تفتش لا أريد أن يتسرب الخبر إلي العوام وأن يصبح حديث القهاوي والمحششات .. هيا تحرك ووافنى بما يستجد في حينه.

    هرول والي الشرطة خارجاً ، ومد السلطان يده إلى حق عاج لطيف عليه نقوش وفتحه وبملعقة ذهبية كانت في الحق تناول معجون "البسط"([2]) ، وأخذ يحركه بلسانه في فمه ، ويحدث نفسه "صدقنى قلبي في الخوف منك يا "يشبك" ، ولكن لن تذهب بعيداً .. وستعود إلى القفص".
    [/align]
    الولي على باب المتولي

    [align=justify]
    باب زويلة أو باب المتولي أحد أبواب السور الجنوبي للقاهرة وأهمها ، لو تكلمت أحجاره لقالت الكثير ، ولكن كثيراً مما ستقوله ليس ساراً أو مفرحاً ، وإن كان مثيراً ومرعباً ربما كانت أحجار البوابة الكبيرة ذات البرجين المتوجين بمئذنتي مسجد المؤيد هى التي تستطيع وحدها أن تحصي كم رأس قطعت عند الباب أو أتى بها لتعلق على هذا الباب الدموي التهم إلى رؤوس البشر يتزين بها حتى ولو كانت تقطر دماً ساخناً .. رؤوس أمراء .. شحاذين .. قضاة .. لصوص .. شيوخ .. زنادقة .. سلاطين .. حثالة .. مسلمين .. أقباط .. عرب .. عجم .. إفرنج .. تتار .. حالمين .. مغامرين . لم يحدث مرة أن رفضت البوابة رأساً .. فعنده تتساوي الرؤوس .. لا فرق بين رأس ملك من الملوك ورأس أي صعلوك .. وقد عرفت البوابة طعم الرأس الطازجة التي تعلق بعد قطعها مباشرة وطعم الرأس المحفوظة التي أتى بها من مكان بعيد فلزم حفظها حتى لا تفسد .. وكم من رأس كانت محشوة علماً أو شعراً أو ألحاناً أو أحلاماً أو طمعاً أو .. أو .. وصارت محشوة تبناً ومعلقة على باب زويلة.

    ألقى متولي الشرطة نظرة على الباب من فوق ظهر فرسه .. ليست هناك رؤوس معلقة .. لكز فرسه بالمهماز فتحرك الفرس وتحرك أتباع والي الشرطة خلفه على الدرب الأحمر .. الدرب الذي يتصاعد حتى يسلم من يسلكه إلى القلعة مقر السلطان والسلطة.

    قاد حاجب الحجاب والي الشرطة إلى مجلس السلطان .. لم يهتم السلطان بدخول والي الشرطة فقد كان يرقب معركة الظلمة والنور ، وما أن بدأ هروب فلول النور حتى وخز والي الشرطة بنظراته .. أجفل والي الشرطة .. تذكر حصانه حين لكزه بالمهماز .. لشفق عليه وانطلق:
    - وجدته يامولاي .. يتنكر في هيئة درويش شامي .. يتكلم بلهجة الشوام .. يقيم في خانقاة سعيد السعداء .. تأكدنا أنه هو يامولاي .. تبعه واحد من البصاصين حين دخل حمام المؤيد ورأى آثار الجروح التي في صدره وظهره .. حتى أثر القيد في رجله .. يمضى معظم الوقت في محششة "أبو رجيلة" المواجهة لباب زويلة .. لم يقابل أحداً لا يتكلم في السياسة .. يدخن الحشيش بشراهة .. العيون حوله في كل مكان ترافقه كظله ، ولكن لا سبيل أن يفطن إليهم أو يتعرف عليهم..
    - أحسنت ياوالي الشرطة.

    خفض والي الشرطة نظراته إلى الأرض وارتفع صوت قرقرة نارجيلة السلطان.. أحس والي الشرطة بشئ من الراحة حين سمع السلطان يأمره بالجلوس . استمر السلطان يسحب أنفاساً من نارجيلته وهو ينغم القرقرة ، وسرح والي الشرطة وحلق في أجواء الحريم .. لابد أنه سيضيف أمرأة أخرى إلى حريمه .. لتكن شركسية عذراء .. ولامانع من نوبية ..
    - لا تمسوا شعرة من رأسه .. وادن منى واحرص على تنفيذ ما أقوله لك.
    همس السلطان بكلمات لم يسقط حرف منها خارج أذن والي الشرطة الذي سارع بتحية السلطان والخروج.

    إنهم يعلقون رأسي


    جلس الدرويش الشامي في ظل العنبة التي في مدخل محششة (أبورجيلة) يشد أنفاساً من نارجيلته ، ويتفرج على السائرين في الطريق ، والداخلين والخارجين من باب زويلة . شمس الضحي في أيام الشتاء تغري بمزيد من الخدر ، جاء أبورجيلة بكوز من القرفة الممزوجة بالزنجبيل ناوله للدرويش وحياه بصوت منغوم:
    - صباح الفل يا بركة.
    جلس أبو رجيلة بجوار الدرويش ، ومد يده وأخذ "مبسم" النارجيلة وأخذ يشد أنفاساً سريعة من النارجيلة جعلت الجمر يتوقد ووجه الدرويش يكاد يختفي وراء سحابة من الدخان الأزرق . ظهرت علامات الانبساط على وجه أبورجيلة ، وعلى غير انتظار سأل الدرويش:
    - لو وجدت نفسك يابركة أمام أسد كاسر ، وليس معك أي سلاح ماذا تفعل؟
    - اصعد الى أقرب شجرة.
    - لا توجد أشجار.
    - أبحث عن أي صخرة أختفي ورائها.
    - لا توجد صخور.
    - انفجر الدرويش باللهجة الشامية .. "دخيل الله أنت معي أم مع الأسد؟".
    ضحك أبورجيلة ، وضحك الدرويش ، وضحك الآخرون حتى وإن لم يعرفوا علام يضحكون ، قام أبورجيلة يلبي طلبات الزبائن، حلق الدرويش بعيداً .. السلطان يطارده وهو يجري ويقفز كعفريت صغير .. قفز إلى سطح جامع طلائع .. تبعه السلطان .. قفز إلى مئذنة البرج الأيمن.. يضحك جذلاً والسلطان أيضا يضحك .. نفس ضحكات الصبا عندما كانا يلعبان في بلدهما البعيد .. قفز إلى مئذنة البرج الأيسر .. سقط في نصف المسافة .. تعلقت رأسه في أعلى الباب .. سقط جسمه محدثا دبة عالية ..
    عاد من تهويم الصطل ليرى موكب والي الشرطة ومشاعلي يحمل رأساً على رمح وقارع الطبل والمنادي يتلو مما كتب له في ورقة بآلية ، ولكن بصوت عال يتناغم مع قرع الطبل.
    [/align]
    يـا أهل مصر . . الحـاضــر يعلـم الغـائـب

    هذه رأس "يشبك" أتابك العسكـر الــهــــارب


    خرج على جناب السلطان ونكث العهـد والأيمـان


    فاستحق القتل وهو جــزاء لـمــن خـــان


    يـاأهل مصر بفضل مولانا أنتم في نعمة وسـلام


    وعلى العوام ترك الخوض في أمـور الحكـــام
    [align=justify]
    والي الشرطة يرقب المشاعلي وهو يعلق الرأس .. سلحت حدأة على وجهه .. سب ولعن وهوى بسوطه على واحد من الحرافيش الذي تجمعوا للفرجة .. عوى الرجل ككلب وطأ جمراً.
    الدرويش الشامي ارتسمت على وجهه كل حيرة البشر . لحظ أبورجيلة تغير سحنته سأله باهتمام صادق:
    - سلامتك يا بركة خير ؟
    أخذت الدرويش نوبة من الضحك حتى أنه استغرق وقتا كي يجيب:
    - أنهم يعلقون رأسي !!!
    ضحك أبورجيلة حتى سقط على الأرض ، وأجابه بصعوبة:
    - سلامة رأسك وتعيش .. اسم الله عليك .. هذه تخاريف حشيش.
    اعتدل الدرويش ونظر إلى أبي رجيلة بجد واحتقار:
    - أنا يشبك ..
    عاجله أبو رجيلة بالرد وقد تعالت قهقهته:
    - وأنا الزناتي خليفة
    اختلطت القهقهات بنداءات الباعة وصدى قرع الطبول وصوت المنادي الذي اختفى في الدروب والأزقة المحيطة بباب زويلة.
    [/align]


    ([1]) قائد الجيش في العصر المملوكى.

    ([2]) مربى من زهر الحشيش وعسل النحل وأعشاب ذات روائح عطرية كان لها تأثير مخدر وتجعل من يتعاطاها يشعر بالإنبساط لذا سميت "بسط".
    [CENTER][IMG]http://www.almolltaqa.com/vb/picture.php?albumid=136&pictureid=807[/IMG][/CENTER]
  • دريسي مولاي عبد الرحمان
    أديب وكاتب
    • 23-08-2008
    • 1049

    #2
    الدرويش والرأس المعلق مسيرة تاريخية كتبت ببراعة متناهية...بحذق استثنائي...والأهم من ذلك بهم انساني يشغله قراءة تاريخنا باليات مختلفة لاكتشاف القوانين الموضوعية التي تحكمت فيه....
    أحالتني أجواء النص الى نيكوس كزانتزاكيس في المسيح يصلب من جديد... والى سمرقند لامين معلوف ونقلتني الى ركام الاداب السلطانية....
    أخي ابراهيم كامل أحمد...نصك قوي للغاية...وما أثارني فيه هو نفسه المشوق ولغته البسيطة وهو من أروع ما قرأت هنا وسأعود اليه لانفس عن نفسي...فكم اتعبتني القراءة الايديولوجية للاداب السلطانية مرارا....
    فتحية كبيرة لابداعك مع توكيدات تقديري...

    تعليق

    • إبراهيم كامل أحمد
      عضو أساسي
      • 23-10-2009
      • 1109

      #3
      لك الشكر كله

      المشاركة الأصلية بواسطة دريسي مولاي عبد الرحمان مشاهدة المشاركة
      الدرويش والرأس المعلق مسيرة تاريخية كتبت ببراعة متناهية...بحذق استثنائي...والأهم من ذلك بهم انساني يشغله قراءة تاريخنا باليات مختلفة لاكتشاف القوانين الموضوعية التي تحكمت فيه....
      أحالتني أجواء النص الى نيكوس كزانتزاكيس في المسيح يصلب من جديد... والى سمرقند لامين معلوف ونقلتني الى ركام الاداب السلطانية....
      أخي ابراهيم كامل أحمد...نصك قوي للغاية...وما أثارني فيه هو نفسه المشوق ولغته البسيطة وهو من أروع ما قرأت هنا وسأعود اليه لانفس عن نفسي...فكم اتعبتني القراءة الايديولوجية للاداب السلطانية مرارا....
      فتحية كبيرة لابداعك مع توكيدات تقديري...
      الأستاذ الفاضل دريسي مولاي عبد الرحمان

      [align=justify]
      كلماتك الطيبة تعدل أفضل جائزة أدبية و تنبئ عن أديب واع و قارئ رائع يستحق كل الثناء و التقدير.. تحياتي.
      [/align]
      [CENTER][IMG]http://www.almolltaqa.com/vb/picture.php?albumid=136&pictureid=807[/IMG][/CENTER]

      تعليق

      يعمل...
      X