أزمة في السماء - قصة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • بلقاسم عفيصه
    أديب وكاتب
    • 16-03-2008
    • 60

    أزمة في السماء - قصة


    حزمت أمتعتي أخيرا وقررت السفر إلى بلاد راودني الحلم أحيانا القفز إليها و التمتع بمناظرها و السياحة في أرجائها؛ بلاد لم تدع النّوم يسكن داري، و الأرق من صحبتي وخلاني لا يبرح مكانه. في كل لحظة يأخذني في غفلتي و تيهي عطر أزهارها، وواحاتها الغنَّاء وروعة تناغم أطيارها إلى أبعد حد، إلى حيث أصنع بساطا من الأوهام وأهب مسرعا لأمتطيه وأشق به الريح شقا، إلى هناك حيث يناديني صوت لا أعرف عنه شيئا، سوى أنه حرم النّعاس إِطباقه أجفاني وهيمن على أفكاري و أبلاني، فما العمل ؟
    جمعت ما استطعت من مال لهذا اليوم المشهود الذي أرى فيه حلما لابد من تحقيقه و سلما يفرض عليّ ارتقاءه ولو لوهلة أو مدة قصيرة أشفي بها لهفي وحبي .
    ما جمعت من سيولة قد لا تكفي، المكان بعيد و التكاليف باهظة في هذه الأيام، وأنا لست ملمّا بالخبايا والمفاجئات التي قد تحصل أو تحول بيني وبين الاستمتاع، من غلاء المعيشة اليوم وتكلفة الطائرة و النزل وما شابه ذلك .
    لكن إرادة كسرت كل القيود وعششت كاللقلق فوق رأسي لا تريد أن تدعني أو تفارقني وما زاد شوقي و حب المغامرة شريط وثائقي كنت قد رأيته يوما بإحدى الإذاعات المختصة بالبيئة والحياة، فأخذ ما بقى من صبري، وكرهت من جرائه بيئتي الحقيرة و مقت نفسي بها .
    عمدت إلى مدّخراتي، وما استطعت الإحاطة به وجمعه، و اضطرني الأمر إلى الاستدانة. وبعد أيام فقط حزمت أمتعتي ووضعتها في زاوية من زوايا غرفتي أنتظر الموعد المناسب للسفر الذي قرر يوم الثلاثاء من بسكرة على الساعة العشرة صباحا .
    لم أدع شيئا لم أحمله معي في الحقيبة الكبيرة، لوازم الحلاقة، ملابس جديدة اقتنيتها، كتيبات ودفتر لتدوين بعض الأفكار أو اللحظات الجميلة إن سنحت الفرصة، وآلة تصوير رقمية أيضا. كادت الحقيبة تتمزق من فرط ما حملت، لم أشفق عليها المسكينة لأنها تذكرني بمسكني و بيئتي.
    مرت الأيام كأنها وميض لم أستفق إلا و أنا أودع الساعة المتبقية من زمن الرحلة، ودعت أهلي وصحبي وألقيت نظرة على غرفتي التي تزداد ضيقا رغم اتساعها وأمعنت النظر فيها جيدا، و أنا أردد داخلي:" سوف أغيب عنك أيام أيتها الضالة المظلمة، سأتركك وهذه البيئة الناكرة الظالمة؛ والتي زرعت فيها كثيرا وما جنيت إلا الكره واليأس".
    نمت تلك الليلة بين الأرق وشهوة النّوم لإدراك الصبح وموعد السفر، وأخيرا راودني الكرّى، فنمت وما إن بان خيط من خيوط الشمس المرسلة، يقبل جدران ونافذة غرفتي حتى أسرعت لتغيير ثيابي وتناول الفطور، وأرسلت في طلب سيارة تقلني ومتاعي إلى المطار. ولحسن الحظ فالمطار ليس بعيدا عن مقر سكناي كثيرا .
    انطلقت السيارة أخيـرا وروحي تكاد تطير من بين ألواح صدري أكاد أسابق الزمن و الأحداث و أرسم لوحة أمامي أكون فيها بتلك البلاد و الطبيعة الخلابة، أفتش عن نفسي بين أهلها وزخرفها فلا أكاد أجدها.
    الوقت يمر وكأني به يسير إلى الخلف وخيل لي أنني متوقف فلا عجلة الزمن أو السيارة تتحركان. دقائق حتى توقفنا بالمكان المخصص للسيارات بساحة المطار، نزلت ونظرت حولي لم أجد إلا بعض الركاب متجهين مثلي صوب المدخل الرئيسي للمطار وحولهم من يشيعهم...
    حملت متاعي وعرجت إلى الباب فتلقاني رجل أمن وجمركي وأجريا معي ما يطلبه القانون من إبراز الوثائق و تفتيش الأمتعة و الحقيبة، ووُجهت إلى رجل آخر. وتوجهت إلى قاعة الانتظار بعدما ألقى مسئول الجوازات على الوثائق ووضع عليها الختم.
    حملت حقيبتي ومشيت إلى أن انتهيت بغرفة واسعة لا تخلو من مسافرين لهم وجهات مختلفة على ما أظن. اخترت لنفسي كرسيا من بين الكراسي المتناثرة منها و المصطفة، و أخرجت كتيبا صغيرا من حقيبة يدي أردت به تجزية بعض الوقت لكن دون فائدة ولا طائل، فالأفكار المتزاحمة بمخيلتي لم تدع للقراءة مكانا ولا لغيرها. أدرت رأسي صوب الزجاج الذي يفصلني عن الساحة الخارجية المؤدية إلى ميدان الطائرة أبصرت هناك طائرة متوقفة وحولها رجال هم من عمال المطار قد هموا بتنظيفها وتهيئتها لرحلة ربما ستقلع بعد ذهابنا.
    كان بالقاعة ضجيج شغلني عن النظر بالخارج مع إني لمحت جمعا من المسافرين قد تجمعهم روابط عمل أو غير ذالك، تمعنت فيهم جيدا فلم يسعفني الحظ في التعرف على شخص واحد كأني في مكان غريب أو أنا الغريب بينهم . سمعت صوت مضيفة أو مشرفة تقول: "سيداتي سادتي المسافرين على متن الطائرة نحوى مطار orly بباريس على الساعة العاشرة يرجى منكم الاستعداد ."
    ما إن أتمت تلك الجملة المكررة حتى وثبت من مكاني ودبت الرعشة ببدني و ازدادت ضربات القلب، شعرت بسخونة وشيئا غير معتاد يتملكني وفرحة ارتسمت على وجهي العبوس طيلة هذه المدة، وغير بعيد سمعت صوتا مدويا و أزيزا اهتز من وقعه زجاج النوافذ والأبواب، إذا بها الطائرة الماكثة من ساعة وصولي، شغلت محركاتها وتنادي ركابها.
    اتجهت ومن كان معي بالقاعة صوب هذا العملاق الجاثم أمامنا مرددا " هل هذه الكتلة الحديدية هي من تقلنا وهذا الجمع؟ وتشق بنا الريح و السحاب؟ يا إلهي أدركني بصبرك وعونك ومغفرتك" وصلنا أخيرا إلى السلم المؤدي إلى باب الطائرة وتوقفنا بالقرب منه واصطف الواحد وراء الآخر. وذلك من أجل استكمال أخر مرحلة وهي تقديم قصاصات الحجز لعون الأمن وتفتيش حقائب اليد إن وجدت. صعدت السلم وكلي دهشة من هذا الطائر الحديدي العجيب الذي يقل عددا هائلا من المسافرين و أمتعتهم، يا له من منظر رهيب ومدهش لهذا الكم المعدني .... ما إن بلغت آخر درجات السلم حتى قابلتني مضيفة بهية الطلعة جميلة ذات قوام حسن بابتسامة قد أخذت عليها دروس في معهد متخصص ووجهتني إلى ردهة كانت على يميني بها صفان من المقاعد المرتفعة المنسقة، وسرت حتى بلغت منتصف الطائرة أو الصفان كما جلست بمقعد محاذي لأحد النوافذ كي أتفرج في ملكوت الله وطبيعة المدن التي ربما يتاح لي التعرف إليها.
    ما ان أخذت مكاني حتى كادت المقاعد من حولي تمتلئ . وجلس بقربي رجل ذو أناقة وهندام ووقار، بين الكهولة والشيخوخة أخذ مكانه ولم يقل أو يدر رأسه نحوي حتى السلام والتحية نسيها أو ربما تناساها.
    في الأسفل عمال المطار يشحنون ما تبقى من متاع، وسحب السلم أخيرا من مكانه ولم يبقى إلا الإقلاع. زمجرت محركات الطائرة معلنة بداية المشوار ونهاية فترة كانت بالنسبة لي كل ما جمعت من ذكريات سخيفة لا تتعدى البيت و المدرسة ومناطق زرتها قريبة و أتربة لعبت بها في صغري وحين كبرت لم تنمو تلك الذكريات بل اضطجعت وانزوت وتركت العنكبوت تصنع لها قضبانا من الخيوط الواهية.
    اشتدت قوة صوت المحركات بالخارج و إذ بها تسير ببطء شديد وبين الحين و الأخر تدفعها المحركات إلى الأمام أكثر فأكثر ويحدث صفيرها دويا في أذني له رهبة تدب بداخلي، حملتها الريح كريشة تتلاعب بها. دقائق حتى سكنت الطائرة السماء وجاورت سحبها، نظرت من النافذة فشعرت بالغثيان للوهلة الأولى لكن سرعان ما زال شغفي وحب الاستطلاع فحال دون ذلك و استمرت مشاهدتي إلى حين مجيء مضيفة أخرى تدفع نقّالة به أنواع من العطور و التدخين، صرفت نظري وعاودت ملاحقتها بعينيّ لأرى معاملتها للزبائن أو المسافرين التي تمنيت لو عوملنا بها في كامل الإدارات و المحلات و الطابوهات التي تشتكي إلى الله سوء الاستقبال ونفور النفس منها .
    عقارب الساعة تصعد بعناء كأن شيئا ما يثقلها و الوقت لا يكاد يطل علينا فانتابني شيء من القلق سرعان ما تلاشى لصوت ناعم ناد من خلال خصاص آلة فوق رؤوسنا تدعوا لنا بالسلامة وتحدد لنا الوقت المتبقي لرحلتنا. لكنه صوت أنعم من صوت صاحبة الحركات التي قدمت لنا استعلامات حول كيفية ربط حزام الأمن و استعمال آلة الأكسجين في حالة الاختناق أو خلل ما.
    تابعت سير الرحلة مبصرا تارة إلى من حولي أتفحصهم و أتمعن في وجوه بعضهم متسائلا: " ما حاجتهم؟ وهل مقصدنا واحد وحلمنا واحد ؟ أم هي الدنيا نثرت همومها و أشجانها و حوائجها فاصطبغ كل بلون من ألوانها وهام من هام على وجوهها، و أدركت مبتغاها وفازت ثلة قليلة لا تكاد تحصى"، وتارة أخرى أتفرغ لحالي و أفكاري المتراكمة التي تفسح الطريق لنفسها لتجد لها موضع قدم بين هذا الزخم الحقيقي في هذا الكون الرحب الشاسع الذي يتسع لما لا تحصيه عين أو كتاب.
    مر على حالتنا ونحن بالسماء قرابة الساعة و أربعة وأربعون دقيقة. الوقت ليس بالهين بالنسبة لسائح مثلي لا يعرف أسرار الطيران أو مشاكله و عواقبه.
    دقائق حتى عاد ذلك الصوت يقول: أعزائي المسافرين لم يبقى على الهبوط إلا قرابة العشر دقائق نرجو منكم تفقد أحزمتكم أو ربطها جيدا، فالنزول وشيك لا تنزعوها حتى تتوقف الطائرة تماما شكرا .
    تفقدت حالي وتيقنت أني والحزام بسلام ننتظر الهبوط والمغادرة السريعة إلى تلك الأرض الساحرة... فجأة أحسست بشيء غريب يحرك الطائرة ويرجها رجّا لكن لجهلي بأمرها لم أعي شيئا وزادت تلك الحركة و الانقباض في أحشائي و أحسست أن قلبي تركته فوق رأسي، ويا لغفلتي لقد كان هذا النزول اتخاذ الطائرة مسارا أخر للهبوط. فهي تكاد تقبل الأرض وتصطدم عجلاتها بكف الأرض، فيا لها من دهشة ويا لها من أرض رحيمة على هذه الطائرة فقد استوت عليها أخيرا وقدمتها للمطار كعروس بحلة بيضاء وجهت صوب غرفة عريسها .
    زالت تلك الرهبة التي امتلكت كل جوارحي وبدا أخيرا لي المطار ومن حوله ، اشتد الضجيج بالداخل من نازع لحزامه ومناديا صاحبه أو زوجه ومتفقدا نفسه كحالي وما حوله باحثا عن أشلائه يلملمها ويرجعها مكانها.
    نهضت من مضربي بعد أن نزعت الحزام وحمل سترتي وحقيبة يدي وسرت مع الوفد المتجه صوب سلم لم أرى مثله بمطارنا حسبته للوهلة الأولى نفق حقيقي، لكن هو نفق به مساحة مسطحة خاصة بالمشاة ينتهي بباب المطار أو مدخله .
    تساءلت في نفسي:" لماذا لا توجد هذه الآلات المتطورة في بلادنا ؟ أم هي حكرٌ على الدولة المتقدمة فقط؟ وا أسفاه على حالي وبيئتي .!! "
    قابلتنا وجوه بريئة طيبة تقطر فرحا وبشاشة ووجهتنا حيث نجد أمتعتنا بساحة واسعة كثرت بها الشبابيك و اللافتات و الأضواء، ذهبت بحثا عن متاعي الذي هو خلف حائط تقده لنا سلسلة متحركة والناس من حولها يترقبون مثلي ومن بعيد تعرفت على حقيبتي المنتفخة من بين كم هائل من الحقائب. مثلت أمامي فحملتها وسرت بها نحوى أحد الشبابيك به طابور لا يقل عن عشرة مسافرين، طابور هادئ ساكن وقور لا يشبه طوابيرنا وحالتهم المتعفنة من غليان وفوضى جعلت أتقدم شيئا فشيئا حتى وصلت أمام كوة الشباك قابلني صاحبه أو العامل وهو رجل أسود لم ألحظ علامات السرور التي ألفتها عليه، سلمت وقدمت له الجواز. نظر إليه جيدا وتمعن في خلقتي وقارنها بالتي على الجواز ومرر فوقه ضوء حسبته للتبيان أو لنقص الإضاءة لكن هو لكشف التزوير والمطابقة. هو نظام معمول به منذ زمن بعيد في الدول المتطورة أو الغربية. ختم على الجواز وقدمه إليَّ فأخذته وجعلته داخل حقيبة اليد وتوجهت إلى رواق به من المسافرين ما لا يحصى ووجوه لا تتشابه إطلاقا من أبيض مائل إلى الحمرة وأبيض معتدل و أسود و أصفر وقامات مختلفة اختلاف أشجار الحديقة و الغابة، وسرت به حتى انتهيت بقاعة فسيحة الأرجاء بها أكشاك عديدة لمختلف الصنوف والحاجيات وكراسي متناثرة، منها الشاغرة والممتلئة والمسافرين في غدو و رواح، حركة تعج بها القاعة وتعطيها رونقا وزخرفة رائعة تصلح لرسام يجسدها في لوحة تبرع بها أنامله وتضفي عليها مكنونات طاقته وحسّه الراقي . أخيرا خرجت من هذا المعترك و السوق إلا ما لا يقل عنه تعقيدا وتشابكا هي متاهات صرت بداخلها من أجل بلوغ المخرج وقد كان لي ذلك بعناء، استوقفتني بائعة الورد، ذات الجمال النادر، أحسست نفسي أمام عارضة أزياء لكن لم يدع جمال طبيعة الأرض المتجه إليها مكانا لهذا الوجه المليح والعيون الزرقاء و القامة الطويلة و الكلام الجذّاب، مع أنني استرقت النظر إليها من الحين إلى الآخر قبل خروجي لرؤية العالم والطبيعة خلف هذا المطار الضخم الواسع ولمدة قصيرة فقط ، فموعد إقلاع الطائرة غير بعيد يفصلني عنه قرابة ساعة. تسكعت خارج المطار والتهمت الطبيعة الخضراء بعينيا وروعة اصطفاف أشجارها ... يتبع
    [frame="11 98"]لتكون الكلمة صخرة لا تزحزحها اعاصير الحضارة الزائفة.[/frame]
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    وصف جذاب لرحلة تأخذ من عمرنا مساحة نرى فيها عالما آخر
    لغة شيقة واسلوب جميل
    نتابع استاذ بلقاسم
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • بلقاسم عفيصه
      أديب وكاتب
      • 16-03-2008
      • 60

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
      وصف جذاب لرحلة تأخذ من عمرنا مساحة نرى فيها عالما آخر
      لغة شيقة واسلوب جميل
      نتابع استاذ بلقاسم

      بارك الله فيك ايتها الاخت الكريمة على المرور والدفع الجيد بكلمات لا تقل وزنا عن كاتبها.. شكرا لك
      [frame="11 98"]لتكون الكلمة صخرة لا تزحزحها اعاصير الحضارة الزائفة.[/frame]

      تعليق

      • دريسي مولاي عبد الرحمان
        أديب وكاتب
        • 23-08-2008
        • 1049

        #4
        بهذا الانسياب العميق في رصد رحلة النفس نحو افاق رحبة...كنت سيدي هنا بارعا في جعلنا نعانق الرحلة بامتياز.
        سفر في أجواء دقيقة كان الوصف فيها مميزا لدرجة لا تترك جزئية ما...وصراع داخلي محموم يحاول أن يبرر مبارحة المكان لايجاد الذات مع تجاوز الزمن...
        استمتعت بما خطته أناملك هنا...تقبل مروري...
        تقديري.

        تعليق

        • بلقاسم عفيصه
          أديب وكاتب
          • 16-03-2008
          • 60

          #5
          اخي ادريس مولاي عبد الرحمان
          بارك الله فيك على الاهتمام والمرور العطر . واتمنى انها نالت اعجابك . شكرا لك.
          [frame="11 98"]لتكون الكلمة صخرة لا تزحزحها اعاصير الحضارة الزائفة.[/frame]

          تعليق

          يعمل...
          X