أرجو قبول مشاركتي المتواضعة على الرابط
مسابقة أحسن عمل أدبي بالملتقى 2009 متصفح ( 3 )( القصة و الرواية)
تقليص
هذا الموضوع مغلق.
X
X
-
أرشح نص
[align=right]
[align=center]
الباب والأغراب
[/align]يتسلل الضوء حبالا من ذهب تنغرز في الجدران المقابلة وتنفجر في الغرفة معلنة أن هناك نهارا جديدا يحقق عبوره ، النهار عنيد [align=right]وهذا دأبه ، و قد كانت النفس منذ الصبا ، تهفو وتندفع للقائه فيطيعها الجسد ، أما الآن....[/align]
الضوء نفاذ، يستغل كل شيء ليحقق عناده، فضولي يتسرب عبر الثقوب والشقوق، عبر الأنفاق والكهوف ليعلن وجوده للكائنات، ويعري المستور.
ويتذكر الطيب يوم اندفعت حبال الضوء لأول مرة عبر ثقوب الباب؛ لتطهرها وتمحو الألم ، وتطارد الرعب ، وتمنح الدفء للأشلاء ، وللدماء المقرورة المتخثرة المتعانقة في برك.
كانت حبال الضوء، تكتب، تقول وتغني : سيبقى الإنسان أخطر الآفات ، يهلك الأحياء والأحلام والحياة .
حبال الضوء تسللت من خلال الثقوب التي مر عبرها رصاص الجريمة واستقر في الأجساد المستريحة في استرخاء وطمأنينة ورضا ، كان الباب حين أمطرته الرشاشات موصدا ، وراءه ظلام دامس يلف نفوسا تلهث متوثبة، أعين تدور في محاجرها ، تقلص الإحساس وضاقت دائرته ، ورق الخط الفاصل بين الموت والحياة حتى كاد يمحي ،... ما معنى الموت ؟ الموت هو أن لا تكون هنا ، أو على الأقل هو ألا تعي أنك هنا ، وأن تتخلص إلى الأبد من أناك ، ومن فكرة الخوف و الانتقام من الآخر، عدوك المفترض . وأن تستغني الروح عن الجسد، وعن الأحلام.
ولاحت بذهن الطيب مقابر وبقايا مقابر بعضها وجوه أصحابها باتجاه المشرق ورؤوسهم نحو الجنوب ، وبعضها وجوه أصحابها باتجاه الشمال ورؤوسهم نحو المغرب . لم يعد للاتجاهات لديها معنى ، وكل مدفون فرح بنومه الأبدي .
رفع يده بصعوبة ومسح وجهه بجمع كفه، فشعر أنه أزاح قطعا من أكوام ضبابية داكنة استقرت على روابيه وأحاطته بهذا الخواء الرهيب، فراغ ممتد في فراغ أقسى، ومال برأسه قليلا نحو الباب و تساءل:
- ما وظيفة هذا الباب؟ .
الباب يسد منفذا أو يؤدي إليه فما وظيفة هذا الباب ، لاشيء إنه فقط أثر لموطئ قدم حمقاء ، لخطوة خاطئة خطاها التاريخ فداس ضحاياه في غفلة ، طحنهم وعبر ، وبقي الباب يحتفظ بمداخل الجرح ، بثقوب الدم ، شلالات تتدفق على الآفاق تزين شفق الأماسي ، وشفاه الأسحار ، ويزيد وله الأقمار العاشقة المهرولة لمواعيد اللقاء في مواقيتها .
كان من المفروض أن يدفن الباب في المقبرة إلى جانب من دفن؛ الجميع قد دفن حتى التاريخ ذاته، ولم يبق سوى الباب، وآثار الأغراب.
وأنا أيضا سأدفن عما قريب ، أما الباب فسيبقى في مكانه ، يدور على محوره الخشبي و يصر صريرا فيه مرارة الحزن الجاف الذي يلج إلى أعماق الأرض ، ويصعد إلى عنان السماء، يروي حزن الإنسان ووحدته ، يتنفس الهواء والنور من ثقوبه التي حولها إلى مسام للاستنشاق.
دفن العسكريون الأغراب الذين سددوا عليه رشاشاتهم منتشين ، ودفن ضحاياهم ، أهل تلك الدار ذات الباب ، التي كانت، و الذين كانت أجسادهم تلهث ، تريد استبقاء دمائها المندفعة إلى الخارج عبر الشرايين ، منساحة من الثقوب الوردية المرسومة على صدورهم تريد لثم النور والغوص في أعماق التربة تروي لظى الشوق وغم العطش وألمه.
تعاكست – يومها- اتجاهات الرشاشات وزخات الرصاص؛ شأنها شأن الصراخ والعويل وأصوات المواشي والطيور الداجنة ، وصار القتل مجرد لعبة ؛ لا تختلف عن غيرها من الألعاب إلا في درجة خطورتها بالنسبة للأحياء، كان الطيب يومها مشاركا في اللعبة ؛ صبيا منكمشا مكورا على ذاته في ركن البيت، ولحسن الحظ أو لسوئه أخطأته قدم التاريخ ، وادخرته للمشاركة في ألعاب أخرى لاحقة، تدور معظمها حول اختبار مدى قدرة الإنسان على التمسك بالحياة و احتمال الألم.
النور مازال يتسلل من ثقوب الرصاص ، يحاول بعناد أن يطرد العتمة ، أن يفضح المسرح الذي جرت على عتباته معركة التحرير ، تحرير الأرواح من ربقة الأجساد ، إزالة الحدود بين الأعداء، القاتل ليس عدوا للمقتول بالضرورة لأنه في أغلب الأحيان لا يعرفه ، وليس بينهما سابق خصومة، ولأنه بفعله يوجد حلا لمشاكل القتيل.
الباب الوفي لصدقه فقط هو الذي مازال يحمل مخطوط العداوة على ظهره؛ يبرزها لمن أراد الدخول أو الخروج ، والمخطوط يحدد العدو بدقة، العدو هو الذي يبرزه تلاشى الغريب ،يحترف توسيع الجراح ، يبقي جراح الضحايا مفتوحة لأطول مدى ، وبقلوبهم ما بالباب من الثقوب ، تنفتح كلما دنف دانف وكلما غادر مغادر ، تقوب ، مسارب ، تغور بأعماق القلوب ، تحفر بشظايا العجز مساحات أوسع للتعاسة؛ تجعل الجسد يتمرد عن الروح ، يخرج عن طوعها ، فلا يعود هناك معنى للحلم أو الأمل.
وتلك حال ورثتها -أيها الطيب- منذ هدر الرشاش بساحة البيت أمام الباب.ومنذ أن وقف جسدك قبالة روحك، كل مستقل بذاته.
سأل الناس،عن الضحايا كالعادة ، سألوا هل بقي هناك أحياء ، ثم تأسفوا كالعادة ، و انصرفوا ,تركوا نصفي مذبوحا من الوريد إلى الوريد لم يروه ، والنصف الآخر سليما واقفا ، رأوه ، أحنوا له رؤوسهم وانصرفوا.
كان الضرب في جنب الجبل ؛ وقد صار الواقف جزءا من الجبل ، و المشكلة كانت دائما في الجبل ، الجبل يرفض أن يتزحزح ، أن يركع ،لا يمكن لأحد أن يحاوره ، يصمد ، يدافع بشراسة عن هويته ، والحرب ضده كانت مستمرة و شرسة أيضا ، غسل بالنار عشرات المرات؛ بأيد الغرباء والأعداء وبأيد الأهل والأبناء ، ولكنه كان يستعيد جلده دائما، ينبعث من العدم ، تخرج الجذور من تحت الأرض خضراء زاهية تعيد نسج أنشودة الحياة بنولها الدوار، وتعيد تلقين نفس الأغاني الحزينة لنفس الطيور ، وتغذي الأغصان بنسق التاريخ الخالي من الزيف ، والطيب كان - في جزء منه - جزءا من الجبل يستعصي على الانحراف و الانجراف يستعصي على الصدأ والالتواء.
كتب في الباب بدم الضحايا : لا ضير من النار في جنب الجبل ، أرواح ساكنيه مباح قتلها بحكم العادة المتأصلة منذ الأزل، وللقتل لذة تغوي القتلة ، وتبهج الأعداء وترضي المتفرجين .
- أنا أهذي أين الكتابة التي ترى؟؟
- أنا لا أهذي الكتابة في قلبي وفي قلب الباب ولونها فاقع بلون الشفق.
- الأمر محزن ومأساوي.
- نعم الحياة كلها مأساة بالنسبة للضحايا.
- ومأساة أن تحدث الروح ذاتها ساعة احتضارها بأشياء لم يعد لها قيمة.
لا الوعي قيمة في ذاته .
تعمق أكثر يوم أنهدت أصوار البيت ، واتكأ الباب لسنوات يغتسل بماء المطر ، ثم عاد إلى مكانه ليواصل دوره ،فالبيت بدون باب ليست بيتا.
- والوعي في الروح الطاهرة أمة، والأمة الفاسدة الخامدة جثث تهلك الكون قبل أن تهلك.
-الأمة معظمها أغراب يعيشون بأقعنة تحمل ملامح أهل الجبل.
وتمنى الطيب لو تطاوعه حنجرته فيمد صوته بأنشودة: < من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا>.
انتكست أمنيته.
- كيف تصرفت الجثث يوم الإغارة؟؟!.
- كانت تقف هناك خلف أو داخل الأغراب ، تنتظر خلف الأقنعة أن يجف النجيع لتنسق من الزيف شعارات تزرعها في ثنايا الجراح وتقتات على الحكايات ومهرجانات المواسم والذكريات.
كان لا مفر للغرباء - و الجثث حينما تبدو - من التظاهر بالإحساس بالحرج ، تعبر عنه بشيء من الحزن العارض وبتلوين الملامح بعلامات الأسى تزفها إلى الآذان بعبارات الاعتذار المحفوظة ، ليرتفع الحرج وتعود كل الأمور إلى مواضعها ، وذلك ما فعله الطبيب والممرضتان وهم يتفقدون أشلاء البشر والحيوانات المتآلفة في وئام غريب.في اليوم الموالي لانشطار الطيب .
يدير الطيب وجهه بصعوبة باتجاه الباب ،يفتح جفنيه الواهنين بصعوبة.
لم تتوسع ثقوب الباب ، ولم تسمح للضوء بالمرور ، إلا بالقدر الذي كانت عليه أيام الجريمة ، ربما لأن الجريمة تواصلت على أيدي الأهل بصور أبشع ، من أواهم الجبل وابتلع القنابل الحارقة في جوفه ليحميهم يتفرجون على الحرائق تزرع الموت في حناياه ويجدون الفرجة ممتعة ، لم يعد الجبل بالنسبة إليهم جبلا ، تغير العهد صار القاتل للسلف صديقا للخلف ومالت الأقنعة وصار المنحاز للجبل نذلا ، و الغريب أكثر تحضرا يبقي الجسد و يجتث الروح. لا معنى للنور في الخارج.
حاول الطيب أن يطرد الصراع من باطنه، أن يضع نهاية للحرب التي استمرت خمسين عاما وأن يعيش لحظة النصر، لحظة الوداع بكل ما بقي لديه من إحساس.
- هذيان الروح هذا أم استراحة الروح؟؟.
أخذت مساقط النور تنحرف نحو اليمين معلنة حلول وقت الزوال، وتمنى الطيب لو استطاع الوقوف لآخر مرة ، لو استطاع أن يدفع الباب ،ويخرج لتوديع التربة النقية الطاهرة ، بألوانها البديعة ، يكحل عينيه المنهكتين بألوان آكامها الرمادية والشهباء التي شكلت من ندبات الحرائق خانات على جنباتها ،تشقها أخاديد تصدعات الفجيعة، وجريان الدمع المسكوب على الرمم ، ويودع لآخر مرة القلة الباقية من ساكنيها الذين رفضوا الرحيل رغم الموت والنار.
كان الطيب ممددا ينزع، حين راح العالم ينسحب شيئا فشيئا تغمره موجات من الضوء ، تنفتل حبالا لولبية تصل جسده بالسماء ، ترفعه على مهل و الموجودات من حوله تصغر مبتعدة ، وأعمدة الضوء تكبر وتتسع أقطارها وتصرط جسده النحيل في صمت مهيب وأشجار الزيتون الهرمة وجاراتها تخنقن فحيح بكائهن وفاء لطبعهن ، تختزن دموعهن حتى يحين أوان الموسم الذي قد يأتي وتصير زيتا مباركا عونا للصابرين.
في اليوم الموالي حمل جثمانه على الباب الشهيد فعانق كل منهما الآخر العناق الأخير وبعد الدفن أعيد تثبيت الباب في مكانه ليواصل صريره الحزين يشرب حبال الضوء ويتابع شهادته على زيف التاريخ، وساما يشهد للمرحوم معلقا على صدر الجبل.
[/align][align=left]
الضيف حمراوي 14/07/2007
[/align]
تعليق
-
-
قصة قصيرة بعنوان دفء مغادر
الأصدقاء الأعزاء يسعدنى ويشرفنى ان اشارككم مسابقتكم الغراء مع خالص امنياتى للجميع
دفء مغـــــادر
اشعر بالدفء المنبعث من ذلك الجسد النحيل مذ كان ملتحما بجسدى وانا اطوقه بذراعى .
وكلما نظرت فى تلك العينين الصافيتين ..أشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى، ودمعت العينان.
يذهب بعيداً .. يتذكر تلك الأيام القاسية التى عاشها بعيداً عنى ..يشكو لى لوعة الفراق ومرارة الغربة وطول الليالى التى تعب من عدها .
أتلمس جسده الدافئ بيدى.. املأ له كأس حيقى.. يشربه بنهم ويطلب المزيد.
يحدثنى عن مدرسته.. عن أساتذته .. عن تفوقه فى النشاط الرياضى .. عن الجائزة التى أعطاها المدير والتصفيق الذى لاقاه من زملائه .
لن أنسى تلك البراءة فى عينيه وهو يحكى لى عن زميلته التى تحنو عليه وتقتسم معه طعامها وحلواها وتودعه بعد المدرسة بقبلة رقيقة يستأنس بها وتذكره بى .
حانت لحظة الوداع .. بكى كثيراً واستعطفنى ألا أسافر مرة أخرى وأنه لايريد شيئاً سواى .. ووعدته بأن يكون الفراق لآخر مرة . تشبث بى ولم يتركنى حتى أقسم له أنى سأعود فى المرة القادمة ولا أفارقه أبداً .. لكنه مل من الانتظار .. وعدت فلم أجده .
ما زلت أتلمس دفء جسده بين يدى .. وأدعوه فى كل لحظة وانصهر شوقاً إليه لكنه قرر أن .
يفارقنى .. إلى الأبد ..التعديل الأخير تم بواسطة ابتسام الدمشاوى; الساعة 04-11-2009, 20:55.
تعليق
-
-
ومشاركة ثانية بعنوان تمثال
تـمـثــــال
يحمل حقيبته ويحاول أن يعبر الميدان الكبير . . رغم ما يبدو على وجهه من تعب السفر إلا أنها استوقفته .. تأمل وجهها كثيرا . . نظر إليها من أسفل إلى أعلى . . حاول أن يرى فيها أى لمحة جمال أو ومضة رقه أو حنان . رآها جامدة صامته ليس فى وجهها إشارة إلى إدراك أو شعور .
-السيارات خلفه تصيح بأبواقها العالية تنبيها له ، ولكنه لم يكن ينتبه إلى شىء غيرها . . سأل نفسه لماذا تقف هكذا ؟ . . ما اسمها ؟ . . نظر تحت قدميها فرأى قدميها حمراوين بلون الدم ، صعد بنظره إلى أعلى فرأى أظافرها مطلية بالدم وفمها ملوث كأنها انتهت لتوها من أكل كبد رطب أو لحم بشر .
-أزعجته السيارات . . نظر حوله لم يجد غيره أمامها مشى وهو لا يلوى على شىء .
أخرج من جيبه تلك الورقة الصغيرة . . سأل بعض المارة على العنوان المكتوب فيها . . لم يستمع إليه أحد وبعد طول سؤال دله أحدهم . . ركب التاكسى . . ذهب إلى العنوان . . دق الجرس مرات ومرات لم يرد عليه أحد . . . دق جرس البيت المجاور قيل له أن الساكن أودع السجن دون ذكر الأسباب .
أخرج الورقة الثانية وفعل مثلما فعل بالأولى فعلم أن الآخر ³طرد من مسكنه وليس له عنوان آخر .
والورقة الثالثة صاحبها قد مات ودفن فى مدافن الغرباء.
والرابعة .. والخامسة. .وهكذا حتى انتهت جميع الأوراق .
تعليق
-
-
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
أتشرف بالمشاركةبنصي
حكاية مايكل
على الرابط التالي
تأملت خارطة الوطن ..في محاولة لإيجاد حدود بيننا وبين الآخر ....وطن لنا ووطن لهم ..كما يريد أولئك ال..... لكزني إبني ..أمي ...لماذا يريدون وطن لنا ووطن لهم ..ألسنا جميعا ً مصريين ...تأملت خارطة الوطن مرة أخرى ...لم أرى أي أثر لحدود .. شعرت بيد زوجي على كتفي ..يزيل كل تعب البحث في خارطة الوطن .. هل أعددتِ لوليمة الإفطار السنوي..[CENTER][FONT=Comic Sans MS][SIZE=5]أهلاً بكم في مدونتي " يوميات أم البنين "
[URL]http://omelbanen-ema.blogspot.com/[/URL]
[/SIZE][/FONT][/CENTER]
تعليق
-
-
[align=center]أتشرف بمشاركتكم المسابقة
قصة قصيرة
http://almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=30266[/align]
تعليق
-
-
القاتل المجهول
أود المشاركة بقصتي - القاتل المجهول -
هادي زاهر
القاتل المجهول
وقف أبو طليع في المكان الذي عُثِرَ فيه على جثة ولده.. راح يتفرس في أشجار الحرش من حوله.. ينكش بنظراته الأرض من حوله.. أحاط بقعة الدم بنظرات اخترقت التربة من تحتها..
إنه يعلم جيداً بأن رجال المخابرات العسكرية والعامة الذين حضروا إلى المكان في الأمس، قد نبشوا الأرض بحثاً عن دليل قد يعطيهم طرف خيط يقودهم إلى الفاعل.. ولكن الصريع، ولده البكر.. إنه ليس ولد أي واحد منهم.. وعليه الآن أن يعصر تجربتـه التي اكتسبها خلال ربع قرن أمضاها في البحث الجنائي والتحقيق، للإمساك بطرف خيط..
بالأمس رفضوا أن يتركوا له فرصة لمشاركتهم في البحث.. طلبوا منه مغادرة المكان.. لقد كانت حجتهم بأنه متقاعد منذ أكثر من عام، وأن الأمر يتعلق به شخصياً، فهو والحالة هذه، لن يكون محايداً.. وقد تؤثر وجهات نظره الخاصة على مسار التحقيق مما قد يربكه أو يفسده..
كانت الأسئلة الأولى التي تبادرت إلى ذهنه: أين اغتيل ولدي؟ أهو اغتيل هنا حيث وجد ملقى على وجهه فوق أديم الأرض.. أم أنه اغتيل
في مكان آخر ومن ثم تم نقله إلى هنا؟
بقعة الدم الكبيرة، التي حاولوا العبث بمعالمها، تؤكد أنه قد اغتيل هنا.. لا يوجد أي آثر للجر حول مكان الجثة.. ولا يوجد أي أثر للدم في غير هذا المكان.. ودم المغدور يتجمع عادة في المكان الذي تغتصب فيه الحياة منه، حيث يكون كثيفاً وغزيراً.. لو أنه اغتيل في أي مكان آخر لما بلغت بقعة الدم هذا الحجم.. والرصاصة الخاشمة، جاءت من الخلف.. فهو لا يعتقد بأن القاتل كان يبعد عن ولده أكثر من أربعة إلى خمسة أمتار فقط.. صحيح أن التقرير الطبي الذي يعتمد على تشريح الجثة لم يعلن بعد، ولكن خبرته الطويلة مع عشرات الأحداث المشابهة، أعطته القدرة على أن تكون تقديراته قطعية وحاسمة في معظم الحالات..
لم يكد يمض اليوم الأول على اكتشاف الجثة حتى أمست المخابرات العسكرية والمخابرات العامة تجزمان على أن الجريمة قد تمت على يد الإرهابيين.. فلقد تأكدوا من عدم وجود أعداء له أو لأهله، وأنه من الشباب المستقيمين، وأن لا علاقة له بالعالم السفلي الذي له بعض الأوكار في تلك المنطقة، ولهذا لم يبق أمامهم إلا احتمال عمل إرهابي.. إذ من المستحيل أن يكون انتحاراً، لأن الرصاصة أطلقت من الخلف.. وعند الإعلان عن ذلك الاستنتاج، أسرعت أحدى التنظيمات الفلسطينية في بيروت تعلن مسؤوليتها عن ذلك.. جاء ذلك الإعلان، ليريح أعصاب المحققين.. ولكن الأب لم يقتنع به.. فقَّرر التحرك من جهته في صمت..
أخـذ الأب يمرر أنامل يده اليمنى على جبهته.. في البداية كانت
بالكاد أنامله تلامس جبهته، ولكن تدريجياً بدأت تدعك جبهته.. كانت تلك عادة لديه، مارسها منذ بدأ عمله في البحث الجنائي.. وعندما تبدأ أنامله تدعك جبهته، فإن هذا مؤشر بأن ذهنه قد بدأ يعمل باتجاه ما.. وفجأة، ثار السؤال في رأسه: كيف والمجني عليه لم يفقد شيئاً من ممتلكاته الخاصة.. لا محفظته التي كانت تعمر براتبه، ولا سلاحه الذي قد يكون أكثر أهمية للإرهابيين؟! ومكان الجثة الذي كان على بعد يزيد عن مئتي متر من الشارع العام.. ما الذي دفعه إلى المجيء إلى هنا؟ أكان مسحوباً وهو على قيد الحياة إلى هنا؟
إن هذا الموقع المقطوع، يعتبر في نصف المسافة بين معسكره على الحدود وبين أقرب بلدة إليه.. أيكون قد هبط من السيارة التي كانت تقله ليقضي حاجته الطبيعية؟ ولكن أين السيارة؟ لماذا تركته ورحلت؟ لماذا لم تبلغ عن اختفائه؟ ما الذي يجبره على هذا التعمق في الحرش؟ كان يمكن، أن يقضي حاجته خلف أول شجرة بعد الشارع المعبد، ولن يجد من يعبأ له، لأن حركة السير على هذا الشارع القريب من الحدود قليلة أصلاً، فلا تمر به إلا السيارات العسكرية، وقليل من المركبات، التي تقل عدداً من السائحين، الذين يأتون إلى هذه المنطقة في العادة بواسطة تصاريح خاصة.. أو من تلك الفئة القليلة الذين كانوا يقصدون بعض البغايا اللواتي جعلن من هذه المنطقة المهجورة مسرحاً رائجاً لعملهن.. فهل يكون ولده قد جاء إلى المنطقة لقضاء وتره قبل أن يعود إلى البيت؟!
ولده لا يملك سيارة خاصة ليتنقل بها كيفما شاء، وإلى حيث يرغب أو يريد..وإذا كان قد حضر إلى هذا المكان بقصد قضاء الوتر، فكان، لا بد من أن يكون برفقة شخص ما.. لقد كان ولده طليع يطمح أن يصبح ضابطاً لأنه تربى وسط جو عام يؤكد له بأن المواطن في هذه البلاد لا يستطيع أن ينطلق في حياته المدنية دون أن يكون قد نال رتبة عسكرية حتى ولو كانت صغيرة. فهذه حقيقة واقعة راسخة في المجتمع الصغير الذي يعيش فيه.. فلقد بات على قناعة بأن السلطات تسهل إيجاد فرص عمل للمواطنيين من ذوي الرتب العسكرية، في العديد من المرافق الهامة برواتب جيدة، وأنها تفتح الباب على مصراعيه أمام حملة الرتب العالية، بعد التقاعد، برواتب مغرية..
كان طليع يمتاز بابتسامته الحانية، وطبعه الهادئ، وبخفة ظل كان يحسد عليها.. كان دائماً مبتهجاً منشرحاً.. فلقد حرص والداه على تربيته خير تربية، وكانت أمه دائماً تحاول أن تقدم له أباه كنموذج عليه أن يحتذى به لرسم خطوط مستقبلة.. كان ولدها البكر، وربما لقي عناية منها أكثر مما لقيه باقي إخوته، إذ كانت على قناعة تامة من أنه إذا ما نجح فإن النجاح سوف يكون حليفاً لإخوته من بعده.. وهي دائماً لا تكف عن الترديد له: أنظر إلى مركز أبيك.. يجب أن تصل إلى أبعد مما وصل إليه.. كن دائماً متيقظاً فطناً نشيطاً.. وكانت لا تفتأ تردد له"لا تحمل هم شيء.. سوف أزوجك بعد أن تنهي الخدمة الإلزامية، من أجمل البنات، وأعرقهن نسباً وأكثرهن خُلقاً، ثم تلتحق بعد ذلك بالجيش أو بالشرطة كما فعل أبوك.. لا تفكر بشيء غير هذا..".
وها هي تربيتها تؤتي أكلها في اجتذاب الآخرين نحوه. لقد كان موقفاً في اختياره لأصدقائه.. فليس كل من يتقرب منه يضمه إلى قائمة الأصدقاء.. فلقد كان أي شاب، سواء أكان قريباً أو بعيداً عن أسرته، يبدأ بالتودد إليه، كان لا بد من أن يمر على الفرازة، ليقرر أمره.. تذكر الأب أصدقاء ولده.. فراح يستعرض من يعرفهم منهم واحداً واحداً.. ركز على أصدقائه الذين يخدمون معه في الجيش.. إلا أنه وجد أن أقربهم إليه، وأكثرهم انسجاماً معه هو "يؤيل شالوم"، الذي بات يبادله الزيارات البيتية حتى أصبح أهل طليع يعاملونه كواحد من أبناء الأسرة..
طفرت دمعة حرَّى من عيني الأب، سالت على خده فألهبته، عندما استعادت ذاكرته كيف أعدت الأسرة العدة للاحتفال بعيد ميلاده العشرين، لقد كان كل شيء جاهزاً، وجلس الكل في انتظار طليع الذي لم يحضر.. لم يتوقع أحد بأن يداً غادرة قد اختطفته وهو في الطريق إلى الاحتفال مع أسرته بعيد ميلاده.. توقعوا كل شيء إلا هذا.. لقد كان كل شيء معداً، وجلس الكل في الانتظار.. ولكنه لم يأت.. وعندما بدأ الوقت يتسرب من بين أيديهم، بدأ القلق يتسرب إلى قلوبهم ونفوسهم.. فلم يطق الأب صبراً، فقام واتصل بقيادة المعسكر، فأبلغوه بأنه قد غادر المعسكر قبل أكثر من أربع ساعات، فازداد قلقه.. وعاد يسأل عن العمل، فطمأنه المسؤول، ووعده بالقيام بكل ما يلزم في مثل تلك الحالات.. وخلال أقل من ساعة كان قد عُمِّم عنه في كافة أقسام الشرطة في البلاد، وأبلغت كافة وحدات الجيش في المنطقة الشمالية، عن فقد المجند طليع..
في البداية، بدأت عملية البحث عنه في صمت.. ولكن شيئاً كهذا لا يمكن أن يخبأ في بلدته، فما أن علم أول شخص، حتى بدأ الخبر بالانتشار فعمَّ البلدة من أولها إلى آخرهـا.. ومع ساعات المغيب بدأ الأهل والمعارف والأصدقاء من سكان البلدة يتقاطرون إلى منزل الأسرة ليستفسروا عن الأمر، وبدأت بذلك رقعة القلق والتوتر بالانتشار، حتى شملت معارف الأسرة خارج البلدة، وبدأت الاتصالات تنهال للاستفسار عنه .. وكلما رن جرس الهاتف، التقط الأب سماعته بسرعة على أمل أن تحمل أسلاكه أية أخبار سعيدة، ولكن لا خبر ولا أثر.. فكانت كلها اتصالات للاستفسار عمَّا آلت إليه الأمور..
وفي ضحى اليوم التالي، بعد أن أمضت الأسرة ومعارفها ساعات عصيبة طويلة، دقت آذانهم الفاجعة.. فلقد حضر إلى المنزل ثلاثة ضباط من ذوي الرتب العالية، ونعوا إليهم طليعاً الذي تم العثور على جثته بواسطة أحد السياح كان يتجول في الحرش القريب من الحدود.. وهنا بدأ مشوار التحقيق الذي لم يستمر أكثر من يوم واحد..
استعاد الأب كل ذلك في ذاكرته، ثم رفع رأسه المثقلة بالآسى والحزن، فبدت عيناه مغرورقتين بالدموع.. لم يُبلغ أحداً بقدومه إلى مكان الحادث.. كان الجميع يعتقدون بأنه قد توجه إلى المشرحة حيث يرقد ابنـه، وربمـا لإجراء بعض ترتيبات الجنازة الرسمية التي سوف قد جري له.. إلا أن إبا طليع قرر أن يستأنف نشاطه الذي توقف مع تقاعده عن العمل، في البحث في قضية مصرع ولده.. يريد أن يتأكد من أن كل شيء يجري حسب الأصول، دون ترك ثغرات هنا أو هناك.. وها هو قد بدأ فجأة يتحرك على شكل دوامة اعتمد مكان الجثة مركزاً لها. كان يتحرك وعيناه المخضلتان بالدموع تحاولان البحث حول خطواته.. هنا آثار عجلات سيارة الإسعاف.. وهذه آثار عجلات جبات عسكرية.. وبدأت حلقة الدوامة تتسع.. وفجأة، التقطت عيناه آثار عجلات سيارة صغيرة.. توقف عن حركة الدوامة، وبدأ السير مع آثار عجلات السيارة الصغيرة التي قادته إلى مكان دخولها من الشارع إلى الحرش.. زاوية الدخول تؤكد بأنها كانت قادمة من جهة المعسكر.. إنه ليس المكان الذي عبرت منه الجبات العسكرية وسيارة الإسعاف.. عاد مع آثار العجلات.. فوجد آثار استدارة عجلات السيارة الصغيرة على بعد لا يزيد عن عشرين متراً من مكان الجثة، وإن كانت آثار عجلات الجبات العسكرية قد طمست معظمه..
توقف للحظات، ثم عاود البحث بتركيز أكثر، حتى اهتدى إلى آثار خروج تلك العجلات.. لم تكن في خروجها بعيدة عن مكان دخولها وإن كانت زاوية الخروج تؤكد بأنها قد اتجهت صوب المعسكر.. صمت.. تقلصت عيناه.. عاد ووضع بعض الإشارات التي قد تساعده إن هو فكر في العودة إلى المكان لإعادة النظر في بعض الأمور..
لم يشأ إضاعة الوقت.. أخرج دفتر تلفونات صغير من جيبه. قلب فيه حتى وصل إلى رقم سيلكوم أحد أصدقاء ولده من أبناء بلدته، وقد كان مجنداً معه في نفس المعسكر.. اتصل به.. لم يضع الوقت في البكاء والنحيب.. استطاع أن يعلم منه بأن طليعاً قد غادر المعسكر برفقة " يؤيل شالوم " الذي تطوع لإيصاله بسيارته إلى موقف تجمع للسيارات بالقرب من إحدى محطات الوقود على الطريق.. وأن المسكين يؤيل قد أُعطي إجازة بعد انهياره عندما سمع الخبر.. لم يتردد أبو طليع.. يجب عليه أن يدق الحديد وهو حام..
اتصل بيؤيل.. الذي ما أن عرف صوته حتى ابتدره بالعزاء والمواساة، إلا أن إبا طليع قطع حبل المجاملة وسأله فجأة عن المكان الذي ترك ولده عنده. بدا على صوت يؤيل عبر الجهاز المحمول بعض الارتباك.. في البداية لم يقو على تحديد مكان تركه له.. وعندما ضغط عليه باسئلته المتلاحقة التي كان يجيدها.. قال بأنه اضطر لتركه قبل الموقف بكيلومتر تقريباً لأنه تذكر أمراً مهما في المعسكر، كان يجب عليه العودة سريعاً لقضائه.. وعندما سأله عن هذا الأمر الهام الذي دفعه لأن يترك ولده على قارعه الطريق، اكتفى بأن قال بأنه أمر خاص.. فأثار رده شكوك الأب المفجوع، الذي راح يضغط بقوة دون فائدة..
إن أحداً لم يسأل يؤيل في التحقيق الرسمي.. لقد تجاهل التحقيق وسيلة النقل التي أقلت ولده عند خروجه من المعسكر.. قد تكون هذه ثغرة كبيرة في التحقيق.. فما أن أعلن ذلك التنظيم الذي لا يعرف أحد عنه شيئاً، مسؤوليته عن الحادث، حتى توقف المحققون عن متابعة عملهم، إذ ركنوا إليه.. عشرات الحوادث في الفترة الأخيرة، كان يتوقف فيها التحقيق عندما تتجه كل الشكوك إلى أعمال إرهابية، وكانت تحال ملفات تلك القضايا بعد ذلك إلى جهات متخصصة بأمن الدولة.. وكثيراً ما كانت تتضح الأمور في النهاية بأن الجريمة إنما هي عمل جنائي، فتحال إلى المحاكم المختصة، وإن كانت معظم تلك الجرائم تبقى عالقة بأذهان الناس على أنها أعمال إرهابية، لأن الناس لا يريدون أن يرهقوا أنفسهم بمتابعة تلك القضايا.. فقط، ذوو الشأن وحدهم الذين كانوا يتابعون الأمر، ليقفوا على الحقيقة..
إن ما تأكد لأبي طليع الآن، أمر في غايـة الخطورة.. ووجد نفسه يعود إلى سيارته بسرعة، لينطلق باتجاه مركز التحقيق.. وهناك عرض على المسؤول نتيجة بحثه بإسهاب.. كان العرق يتفصد عن جبينه، وهو يروي وجهة نظره، التي أنهاها بمطالبة المسؤول بالتحقيق مع يؤيل شالوم.. صحيح أن يؤيل هو أقرب أصدقاء ولده إلى نفسه، ولكن هذا لا يمنع من حدوث شيء ما، هو يجهله الآن، ولكن التحقيق قد يتوصل إليه، وتمنى في النهاية أن تكون كل شكوكه باطلة..
هز المسؤول رأسه واعداً إياه خيراً، ثم طلب إليه أن يذهب إلى منزله للإعداد لجنازة تليق بإبنه، وعليه أن يترك هذا الأمر لذوي الاختصاص..
اعتقد الأب بأن إثارته لبعض الأمور قد تحرك الموضوع من جديد.. واعتماداً على ذلك، ترك الأمر لذوي الاختصاص، وانشغل هو بالجنازة، وبيت العزاء.. وبعد أسبوعين، عندما حاول الاتصال بمسؤول التحقيق، طلب منه المسؤول صراحة بأن لا يتدخل في الموضوع، لأن جهات مسؤولة عليا قد تولت التحقيق، إلا أنه علم بأن يؤيل قد نقل إلى وحدة أخرى في جنوب البلاد بناء على طلبه، ودرءً للمخاطر التي قد يتعرض لها نظراً لإثارة الشكوك من حوله.. ولكن الناس في المنطقة بدأوا يستعيدون الأحداث السابقة المشابهة لها.. وبدأوا ينسجون القصص والحكايات، حتى طفت على السطح، العديد من علامات الاستفهام، أثارت الكثير من الشكوك حول ما يجري، ولكن رسمياُ طوي الموضوع، ولا أحد يستطيع أن يتوقع متى يمكن أن يعاد فتحة.." أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "
تعليق
-
-
هذه مشاركتي معكم في هذا الكرنفال الأدبي
هي رواية - قصيرة - . أو ربما تُصّنَّف كقصة طويلة
[align=center]
1
سعيدة
سأروي لكم حكاية سعيدة . أو حكايات مَنْ هُمْ حول سعيدة . وكيف كان لها أثرا في
مجرى حياتهم حتى باتوا أطيافاً يُسَيِّرْهُمْ القدر الذي يعبر بهم , بالقدر الذي صنعوه .
سأروي لكم كيف أن روح سعيدة قد انتقلت من جسد إلى جسد . وكيف أن الإرث لا
يفنى . بل ينتقل من جيل إلى جيل .
لم أشهد من وقائع الحكاية إلا طورها الأخير الذي عاصرته , ولكني سجلتها جميعا
في ذاكرتي .
ربما يكون هناك رواة غيري , وما أكثرهم في زمن يلهث وراء الحكايات
حتى بات الرواة قناديل شهادات زور .
تزوج سعيد من سعيدة مع بدايات الحرب العالمية الثانية كي لا يُساق إلى الخدمة
العسكرية . مثله مثل جميع الأسر العربية التي كانت تنأى بأولادها عن الخطر .
ولو كان هذا الخطر دفاعا عن الوطن الأم ؟ لما تردد الأهل بدفع أبنائهم للذود عنه .
إنما للأطماع الاستعمارية ولذيولها . ويذهب أولادهم كباش فداء .
لم يُتَح لسعيدة رؤية عريسها قبل الزواج كباقي الزيجات في هذا الركن من الكرة
الأرضية . كانوا يتزوجون ولا يشاهدوا بعضهم البعض إلا في ليلة الدخلة .
أما سعيدة فلم تنعم بمشاهدة عريسها قط .
فقد تم استدعائه للخدمة العسكرية رغم زواجه بينما كان يهم برفع الطرحة عن رأسها .
سِيقَ مع مَنْ انطلقوا إلى جبهات القتال .
بعد انتهاء الحرب , عاد مَنْ عاد , وبُلِّغ عن الموتى . وسعيد لم يعُدْ مع مَنْ عادوا ,
ولم يكن اسمه ضمن لائحة مَنْ ماتوا . أعتبر مفقودا .
لم تَمَلْ سعيدة الانتظار , حتى جاءت نكبة 1948 فهاجرت مع من
هاجروا إلى عمان .
لا يوجد لسعيدة أقارب أو معارف سوى أسرة إبراهيم أفندي , والذي كان بانتظار
ورود اسمه للهجرة إلى أمريكا .
عاشت معهم باعتبارها قريبة إبراهيم أفندي من بعيد .
تأخر طلب الهجرة إلى أمريكا لعائلة إبراهيم أفندي وامتد أشهرا وسنوات .
خلال هذه الفترة , قفزت علاقة الود والاستلطاف بين ناصر ابن إبراهيم أفندي
وبين نوال ابنة صاحب البيت الذي يقطن به إبراهيم أفندي , إلى الحب والوعد بالارتباط .
فتم الزواج .
رفضت نوال ضم اسمها إلى أسماء عائلة إبراهيم أفندي كي تلتحق بالركب وتهاجر
معهم إلى أمريكا .
أنانية نوال بحب أهلها . والدتها وأخوتها كانت طاغية إلى حد أنها
أقنعت زوجها ناصر بطريقة أو بأخرى أن يبقى في عمان ولا يهاجر مع
أهله . وكان ما كان .
هاجر الجميع إلى أمريكا , باستثناء ناصر ونوال وسعيدة المغلوبة على أمرها .
في البداية , رفضت نوال وبإصرار مكوث سعيدة في البيت بعد سفر والدي ناصر
وإخوته إلى أمريكا . ولكنها حين أدركت أن لسعيدة أمورا ايجابية كالقيام بمقام
خادمة تتولى أمور البيت من تنظيف وطبخ وحراسة ورعاية للطفل الذي سَيَهِلْ بيوم
من الأيام . ومع إصرار نوال أن تستمر بعملها كي تساهم كما يساهم زوجها ناصر
بمصاريف الحياة , فتصبح له ندا في اتخاذ القرارات . رضيت بسعيدة على مضض .
تتمتع نوال بقوة شخصية نافذة . وتقود الآخرين نحو وجهة نظرها باللين تارة
وتارة بالخداع . إلا أنها بحقيقة الأمر ضعيفة كغصن شجرة اسكدنيا . فإذا تراكمت
عليها عُقَدْ الحياة تفقد توازنها وتنهار وتبدأ بتدخين السجائر بِنَهَمْ . كما أنها فاقدة
الثقة بالغير بشكل مطلق . وما تقوله أو تفعله هو الصواب . أما زوجها ناصر ,
فيبدو مسالما ودودا , لكنه بحقيقة الأمر صلب كغصن شجرة ليمون . لذلك تراه
يتحاشى الاصطدام معها كي لا تخرب الدنيا ويذهب كل واحد لحاله .
غدا فقدان الثقة بالناس لدى نوال سمة لا تفارقها , حتى بات الأطباء والطب على
رأس القائمة . وكان ذلك حين اقدمت على قلع ضرس العقل . فالتهب الجرح وتورم
خديها لدرجة الاختناق . ومن يومها بدأت القطيعة مع أطباء الأسنان , والطب بمجمله .
2
لم تكن سعيدة، سعيدة بإقامتها في منزل ناصر قريبها . ولم تكن نوال أيضا راضية
بتصرفات سعيدة الصبيانية . ومع ان عمر سعيدة قد جاوز الأربعين سنة . إلا أن
تمتعها بقسط ضئيل من الجمال والجاذبية وانحسار نموها العقلي , جعلها تبدو كفتاة
بالخامسة عشر من عمرها تقف أمام المرآة بالساعات . وتلتهم الشيكولاطة
والحلويات بنهم . وحين تسير بالشارع تعدو كالفتيات الصغيرات . وترطم الحجارة
والعلب الفارغة بقدمها . وتسير بخط مستقيم فوق حافة الرصيف وكأنها تسير على حبل .
كل هذا جعل نوال تمتلئ غيظا من أفعالها . وكانت تؤنبها بقسوة . لكن دون فائدة .
ومما زاد من حنق نوال على سعيدة . الحركة العصبية التي كانت تنتاب سعيدة حين
تنفعل فيرتجف جفنها لا إرادياً فيظن مَنْ أمامها أنها تغمز له . وكذلك حالة
السرحان التي كانت تنتابها بين فينة وأخرى . كانت تجلس خلف النافذة فتبدو
وكأنها تنتظر قدوم أحدهم " ربما زوجها سعيد " ثم تنهض مفزوعة الى غرفتها وتنام .
توالى حمل وولادة نوال . فأنجبت جميل , ثم ريما وآخر العنقود تامر .
عَظُمَ قدر سعيدة بمجيء الأطفال الثلاثة . فكانت ترعاهم بغياب نوال في شغلها .
فأحبها الأطفال حباً فاق حبهم لوالدتهم فتسربت بذور الغيرة إلى قلب نوال , حتى
باتت لا تطيق رؤية سعيدة بالبيت . لكنها كانت تراجع نفسها قائلة :
ــ الكلب الي بدك إشي مِنُّه , بوس تُمُّه .
عاشت نوال في دوامة من الغيرة والتحفز . وصَبَّتْ جام غضبها على المسكينة سعيدة .
فبات أي عمل تقوم به سعيدة يستوجب اللوم والتحقير , لا بل كانت ترميها بالجهل
والبَلَه . حتى كادت بيوم من الأيام أن تضربها , لولا تدخل ناصر بآخر لحظة ,
وفضَّ النزاع .
باتت هذه المناكفات يومية . وكانت تزداد حده يوما بعد يوم .
كان الأطفال الثلاثة , جميل وريما وتامر يتقوقعون بركن الغرفة . وهُمْ بحالة رعب
وفزع كبيرين حين كان يدب الصراع بين سعيدة وأمهم .
كانوا بقراره نفسهم يتعاطفون مع سعيدة . لكنهم بذات الوقت , أمام
خيار صعب , ولا مجال فيه للمفاضلة . فكانت عاطفة الأم تنتصر في وجدانهم
على حساب سعيدة التعيسة .
حاولت نوال استمالة أطفالها لجانبها وكسب ودهم بأساليب مباشرة وتخلو من عاطفة
الأمومة التي لم تكن غائبة عن نوال . لا بل كان فيض هذه العاطفة السبب فيما هي
فيه من قسوة بالتعامل مع مَنْ يُحيطون بها . لكن غيرتها الشديدة وأنانيتها المفرطة طغتا على
انسياب هذه العاطفة بصورة عفوية وطبيعية .
لم يغب عن ذهن الأطفال انفلات الزمام من يدي امهم .
فغدا حبهم لها واجبا يفتقد الحميمية . كما وأدركوا رغم صغر سنهم أن
قربهم من سعيدة هو سبب هذه المنازعات . فقادهم تفكيرهم كأطفال إلى الالتصاق
بأمهم والابتعاد عن سعيدة مكرهين .
وكان هذا هو السهم القاتل بصدر سعيدة . فبكت بصمت .
لو كان بمقدرة سعيدة ترتيب أمور حياتها دون الاعتماد على ناصر قريبها .
ولشعورها بحضوره قربها وبثُّه الأمان في ثنايا جسدها المتعطش لدفيء العلاقات
الأسرية . لهربت من هذا الجحيم بدون رجعة وغير آسفة .
3
وبينما كانت سعيدة تحتسي القهوة مع ناصر في – البلكونة - وتبث له امتعاضها من
أسلوب معاملة نوال لها , وكيف ان هذه العداء في التعامل قد انعكس على الأولاد
مما اضطرهم للنفور منها ونبذها . إذ بنوال تدخل عليهم غاضبة . وتمسك بشعر
سعيدة تسحبها بقسوة قائلة لها :
ــ انت ايش بتسوي هون ؟ روحي عالمطبخ وما تطلعي منه .
التفتت سعيدة نحو ناصر مستنجدة به وهي تصرخ :
ــ شايف . والله لو كنت كلبة كان عاملتوني احسن من هيك .
سحب ناصر سيجارة من علبة سجائره . أشعلها وأعطاها لنوال التي التقطتها بعصبية
وبدأت بتدخينها بشراهة . اقترب منها ثم قال لها هامساً :
ــ يا نوال , الأولاد كبروا ودخلوا المدارس , وصاروا يفهموا . كثر النكد مش كويس
عشانهم وعشان دروسهم . وما تنسيش إنهم بيعتمدوا عليها بكل ايشي . حتى جميل
إلي صار عمرة أربعة عشر سنة , سعيدة لليوم بتحممه . وانت يا نوال الله يعينك ,
الشغل برّه والشغل في البيت هد حيلك . ولولا سعيدة كان خلصتِ من زمان .
رغم عصبية نوال وتوترها إلا ان عمود سيجارتها التي قاربت على الانتهاء لم يزل
صامدا ولم يسقط . قالت له وهي تلقي بالسيجارة في المنفضة وتطفئها :
ــ يا ناصر , انت مش فاهم , هاي المجنونة صارت تكَرِّهْ الأولاد فيِّ .
ــ اصبري , فات الكثير وما فضل غير القليل . بعد سنة ونصف بتقدمي على التقاعد
المبكر وبتفضي لبيتك وأولادك . وساعتها لما تكوني انت في البيت . سعيدة بتكون
تحت سيطرتك , وقدام عينك ساعة بساعة . واللي انت عايزاه بتعمله هالمسكينة .
بس رَوْقِي جو البيت عشان الأولاد ودروسهم .
مدت نوال يدها نحو علبة سجائر زوجها ناصر وسحبت سيجارة وهي تقول بقرف :
ــ انت عايزني أأوي هالمجنونة بعد ما اطلع من الشغل كمان ؟
أشعلت السيجارة وهي تقول لزوجها :
ــ بعيد عن عينك . بتشوفلها ملجأ عجزة وبترميها فيه .
مع أن سعيدة , قريبة ناصر من بعيد إلا انه كان يعاملها معاملة فيها من الرفق والدفيء
عوَّضا عنها الجفاء وحياة الرِق التي كانت تعانيهما. وكان دائما يدعوها بعمتي سعيدة
وهذه الكلمة بحد ذاتها كانت بلسما يُطَيِّب جراحها .
لكنه بحضور زوجته نوال كان يقف مُجبرا لصف زوجته . وكانت سعيدة تعي ذلك وتتفهمه .
تمر الأيام والشهور والنكد لم يبرح المكان .
في يوم من الأيام , بينما كانت سعيدة تحمم جميل كعادتها . سألها بجرأة غير معهودة :
ــ انت ليش بتزَعْلي ماما ؟
لم تُعِرْهُ سعيدة أي اهتمام , واستمرت بتلييف جسده بالصابون فلامستا جزءاً حساساً
من جسمه فارتعش إرتعاشة وقف لها شعر رأسه ومن شدتها دمعت عينه .
بدا عليه الخجل والندم . وما كاد جميل يناهز الحلم حتى أعلن سخطه على سعيدة ,
وأعلن رغبته في الاستحمام لوحده وبيديه .
4
عبر جميل عالم الشباب . نفرت تفاحة آدم برقبته . واشتد عودة صلابة مع انتشار
الشعر بساعديه وساقيه . كما ونما جسده حتى غدا فارع الطول وبات يحاكي طول
أبيه . عملاق في الرجال . بالطول والعرض , وقسمات الوجه الخليقة بتمثال , ويند
عنه صوت هادي خفيض يُعد غريبا بالنسبة للهيكل العملاق الصادر عنه . وتشع
من عينيه نظرة بريئة تتحلى بالطيبة والسلام .
فانهالت عليه المشاكسات والتعليقات التي لم يحتملها . حتى وان قبلها فليس لديه
مخزونا من الحوار والكلام حتى يرد على من يتمهزأ عليه . طغى عليه الخجل
وركن إلى السكوت وعدم الكلام إلا فيما نَدَر .
وغدا الخجل المترافق مع شح الكلام , صفة التصقت بجميل . أما نوال " ام جميل "
فكانت تعزي ذلك بدرجة الأدب التي يتحلَّى بها ابنها , ولم تعترف أو تصارح نفسها
أن ذلك ما هو سوى خلل بالتربية , ونتيجة لبعد الأهل عن أبنائهم .
كان جميل يعي أن صاحب القرار في البيت ليس والده . إنما , نوال والدته . فكان
عليه أن يؤدي لها في نطاق التقاليد الأسرية فروض الطاعة إلى حد اللجوء لها في
كل صغيرة وكبيرة . كانت تمنعه من الخروج للترويح عن نفسه قائلة له :
ــ الأولاد بَرّه وسخين . العب مع أختك وأخوك في البيت .
كان يصدق كل ما تقوله له والدته . وكان يطيعها حتى وان كانت هذه الطاعة على
حساب ميوله . فهو يدري انه الخاسر مهما قال ومهما فعل . وبذلك بات البيت ,
المكان الذي يمارس فيه نشاطاته . فأشرك سعيدة بلعبه وألعابه التي لم يبخل ناصر
بتوفيرها له ولأخته ولشقيقه الصغير تامر .
حين رأت نوال أن حميمية العلاقة بين أولادها وسعيدة أخذت تنمو ثانية . ركبها
عفريت الغيرة فأخذت توكل لسعيدة مهام تافهة وليست ضرورية كي تبعدها عنهم .
لا بل كانت في اغلب الأحيان تتعمد الإساءة لسعيدة أمامهم كي ينفروا منها .
5
في يوم من الأيام بينما كانت سعيدة تحمم تامر الصغير . دخلت عليهما ريما الحمام
طالبة أن تستحم أيضا . فما كان من سعيدة إلا أن قامت بنزع ملابس ريما وأشركتها
بالحمام مع أخيها الصغير .
نظر تامر باندهاش الى جسد أخته وقال لها ببراءة :
ــ انت مافيش إلك زيْيِّ
ومد يده نحو أخته باحثا عن ما تفتقده من جسدها .
وإذ بنوال تدخل الحمام بغتة وترى هذا المشهد . كان لها عقل وطار . قبضت على
عنق سعيدة تلوي خنقها . وسعيدة تصرخ والأطفال يصرخون . هرع ناصر على
صراخهم وحرر عنق سعيدة من قبضتي نوال بصعوبة , ثم انهالت نوال ضربا بريما
إلى أن خلَّصها والدها من بين يدي والدتها . لم يكن جميل بعيدا عن المكان . انزوي
في الركن قانعا بمشاهدة ما يجري , فبدا وكأنه ممثل في فيلم صامت .
كان تامر يرقب تسلسل الأحداث وهو بحالة من الفزع الشديد . وكأن تدفق الدم
بعروقه قد توقف عن الجريان . فسقط مغشيا عليه وارتطم جبينه بحافة الحنفية
مخلفا جرحا عميقا .
حَلَّ هدوء ثقيل محل الصراخ والانفعال . حملت نوال ابنها تامر والدماء تنفر من جبينه
وانطلقت به مع ناصر إلى طوارئ مستشفى فلسطين .
بعد أن قُدِّمَتْ لتامر الإسعافات الأولية وبعد أن تم خياطة الجرح سأل الطبيب الأم قائلا :
ــ هل حالة الإغماء التي انتابت ابنكم كانت قبل ان يرتطم رأسه بالحنفية , أم بعدها ؟
لم تَشَأ نوال الإجابة على سؤال الطبيب فهي لم تزل بحالة من التوتر والهيجان لا
يسمحان لها بمخاطبة أحد .
تبرع ناصر للإجابة على سؤال الدكتور مستفسراً :
ــ ليش بتسأل يا دكتور ؟ المهم انه وقع وانجرح . قبل ويلا بعد مش مهم .
استدار الطبيب نحو ناصر وهمس له قائلا :
ــ الفرق كبير . إذا أغمي عليه من اثر الضربة تعتبر بسيطة . لكن عكس ذلك ربما
يحتاج ابنكم إلى رعاية طبية . وفحوصات تستثني أي مرض بالقلب لا سمح الله .
استدركت نوال ما يرمي إليه الطبيب . وهو أن ابنها تامر ربما يكون مصابا بداء في
القلب . فقالت له بثقة زائفة :
ــ لقد أغمي عليه بعد أن ضُرِبَ رأسه بالحنفية . ابني ما فيه ايشي .
حملت نوال ابنها تامر وخرجت مسرعة من غرفة الطوارئ دون ان تستأذن الطبيب .
في حين هرول زوجها ناصر خلفها .
ربما تكون هذه الحادثة , هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير. إذ لم يُشاهد ناصر
مقطباً قط بهذه الصورة .
كما ولم يكن بحالة من التوثب والهجوم كما هو اليوم . الأولاد نائمون . وسعيدة في
السوق – تتبضع - . ونوال بالمطبخ تعمل القهوة لها ولزوجها ناصر . حين اقتربت
من- البلكونة- وبيدها صينية القهوة . بادرها بالهجوم قائلا :
ــ اسمعي يا نوال . أنا باسكت وباطنش عن أي إيشي . والأمثلة قدامك كنير . لكن ,
ولادي اللي هُمِّه ولادك انا ما بارضى انك تضربيهم . وأهم من هيك , صحتهم .اذا
كان تامر بحاجة فحوصات . لازم نوخده على اختصاصي .
ابتسمت نوال وهي تقدم القهوة لزوجها ناصر وقالت له متوددة :
ــ نعم يا خوي . كلامك مزبوط . لكن هالملعونة سعيدة بتعلم الأولاد الوساخة .
ولكي تكسب الجولة أردفت قائلة :
ــ وبكرة أنا وانت بنروح على الدكتور ونطمئن على تامر . مع إني ما بحب الدكاترة
ولا باقتنع فيهم وباحس إنهم نصابين وكل إلي بيعملوه علشان المصاري وبس .
لكن ناصر لم يكن قد هدأ من ثورته بعد , فقال قبل أن يفتر حماسه :
ــ إحنا ايش مقعدنا هون . الجنسية الأمريكية ممكن نوخدها خلال اشهر. وما تنسيش
انه التعليم هون مكلف . وهناك ببلاش . غير هيك عمامهم هناك وسِتْهُم وسيدهُم .
نهضت نوال وهي تضع فناجين القهوة الفارغة فوق الصينية . ثم قالت منهية الحوار :
ــ وخوالهم وخالاتهم هون . ولو طوبوا امريكا كلها باسمي . ما باتزحزح من عمان .
وأدارت ظهرها لناصر وذهبت .
6
كانت تنتاب نوال بين فينة وأخرى نوبات من المغص الشديد المترافق مع ارتفاع
بدرجة الحرارة . ولكي لا تذهب للطبيب والأطباء كانت تتحامل على نفسها وتبتلع
حبوب المسكن دون علم زوجها ناصر فيجبرها للذهاب إلى الطبيب .
لكن , في يوم من الأيام وكان المغص شديدا بدت شاحبة اللون .
أصرَّ ناصر ان تذهب للمستشفى . وحين رفضت . جلب لها الطبيب الى البيت .
كانت حصوة في المرارة وواجب إزالتها بالجراحة .
بعد مداولات . وأخذ ورد . عُمٍلَتْ لها العملية . وخلال فترة النقاهة التي امتدت
إلى أكثر من ثلاثة أسابيع بسبب مضاعفات بعد العملية . تم إحالتها على التقاعد .
نوال , في المنزل أربعة وعشرون ساعة في اليوم . لها كامل السيطرة على زوجها
وعلى أولادها , وعلى سعيدة بالذات . وكانت تذيقها مُر العيش ولا تتوانى عن إهانتها
حتى وبوجود الزائرين والضيوف كي تغادر المسكينة البيت باختيارها ولا يُقال بيوم
من الأيام أن نوال قد طردتها من بيت قريبها ناصر .
كانت ريما تشعر بالذنب . لأنها في ذلك اليوم المشؤوم هي التي كانت مبادرة ومهدت
الطريق لتامر كي يجول بأصابعه باحثا عن ذاك الشيء الذي تفتقده هي ويملكه هو .
ولم تكن سعيدة هي المحرضة كما ادعت والدتها نوال . فغدت ذكرى هذه الحادثة
تسبب ألما لريما وتدفعها لا شعوريا الإتيان بحركة عصبية يرتجف معها جفنها
وخدها كلما همت بالكلام .
دخل جميل الجامعة . في حين التحقت ريما بمعهد دير- السلزيان- لتعلم السكريتاريا .
وانتظمت بالعمل في احد البنوك قبل تخرج جميل من الجامعة بسنتين .
في يوم من الأيام وقد قاربت الساعة من السابعة مساءاً . وسعيدة لم تَعُد من السوق .
تَحَفَّزَ ناصر بعد أن انهكه التساؤل والانشغال عن سبب غياب سعيدة لهذا الوقت .
وبينما هو يجوب المنزل ذهابا وإيابا. وقف بالباب قاصدا الخروج للبحث عنها .
قالت له نوال بغير اكتراث وباستهزاء :
ــ بتلاقيها قاعدة بتلعب مع بنات وولاد الحارة . تعال يا زلمة . ترجع وقت ما ترجع .
وانشالة تضيع .
صفق الباب خلفه وخرج .
سأل عنها في المستشفيات . وفي أقسام الشرطة بعد أن بلَّغ عن غيابها . لم يشأ سؤال
اهل نوال أو المعارف والأصدقاء لأنها لو كانت عندهم لكانوا أخبروا ناصر بذلك .
مرَّ أسبوع ونتيجة البحث والتحري لم تقود إلى شيء . سعيدة اختفت . أين ؟ لا احد يدري .
7
بدأ طُلاَّب الزواج ينقرون باب ناصر ونوال وعينهم على ريما , البنت المؤدبة
والجميلة والموظفة .
هذا قصير . وذاك طويل . وهذا عينه على راتبها . والآخر يريدها ممرضة لوالديه الكهلين .
هكذا , كانت نوال ترفض العريس تلو العريس لأبنتها ريما .
ليس بسبب الطول والقِصّرْ وحسب . إنما لسبب خفي تعيه نوال ولا تُصرِّح به لأحد .
ألا وهو خوفها من المجهول خلف كل عريس . وكذلك حرصها
أيضا على بقاء أولادها قربها وتحت سيطرتها . كما وطُبِّقت نفس الأسلوب مع جميل
الذي أصبح هو الآخر على وش زواج .
لن تحتمل نوال فقدان أولادها بالزواج .
لأن الزوج أو الزوجة باعتقادها سوف يأخذون أبنائها منها عنوة . كما وستتقاسم
حب أولادها مع الغرباء , مثلما حصل مع سعيدة . وهذا ما لا ترتضيه بأي حال من
الأحوال . حتى وان كان على حساب سعادتهم .أضحت هذه الأنانية المفرطة في
حب أولادها سوارا وطوقا حول رقابهم حتى باتوا في طاعتها مرغمين . كما وغدت
هذه الطاعة هَوَسَاً أصاب وجدانهم .
أين ناصر من هذا كله . حين أدرك انه لا فائدة من الحوار مع نوال . وكأن الذي
أمامه حائط صد . وحين أقفلت نوال بوجهه باب الهجرة إلى أمريكا . وحين لم يرف
لها جفن لضياع سعيدة . قرَّرَ أن يسير بدرب الأزواج الذين لا حول لهم ولا قوة .
لا بل أصبح مع مضي الوقت نسخة طبق الأصل عن نوال .
لم تكن ريما ترغب بالزواج , حبا للعشرة أو ولها بالأطفال وتكوين أسرة . إنما
جاءت رغبتها ترجمة لنداء داخلي يدفعها للانطلاق من العش ذي الأشواك الذي
يكبل حتى تفكيرها . تخشى ريما ان تصبح ذات يوم طبعة مكررة لسعيدة بعدما
أصبحت نوال تعتمد عليها في تدبير شؤون البيت . والسهر على طلبات تامر الذي
اوشك على الانتظام بدراسته الجامعية . لو كانت تملك الجرأة لانتزعت حقها من بين
براثن القدر الذي لا يرحم . وكأنها عبرت طور العنوسة المبكرة رغما عنها .
فرضيت بما قُسِمَ لها مُكْرَهَة . رغم ذلك لم يأخذها اليأس والإحباط بعيدا .
فها هي تشتري الملابس من أرقى المحلات وتعتني بزينتها وكما اجتازت فحص
قيادة السيارات . لكنها لم تجرؤ على قيادة السيارة لوحدها فغدت رخصة القيادة
كحرز يملأ حيزا في محفظتها ليس إلاّ .
8
وذات مساء . وكان الشتاء والبرد قارصاً . قرع جرس الباب . فهرعت ريما لفتحه
كعادتها .
كان الطارق راهبة من راهبات- السليزيان- عرفتها ريما . إذ أنها كانت مُدَرِّستها
حين كانت تدرس في المعهد التابع للدير .
رحَّب ناصر بالراهبة وأدخلها الصالون ومن ورائها نوال . توجهت الراهبة بكلامها
لناصر قائلة بحزن :
ــ من آمن بي وإن مات فسيحيى . جئت أخبرك بوفاة الأخت سعيدة في الدير التابع
لنا في عجلون وقد تم دفنها هناك . الله يرحمها , والبقية بحياتكم .
انفجرت نوال بالبكاء . كان بكاءا صادقا . ثم نهضت وحضنت زوجها ناصر . دخل
الغرفة جميل وريما وتامر تباعا وهم يبكون . ترنحت نوال وكادت تسقط على
الأرض من شدة انفعالها . فانكب جميل وتامر على أمهما يسنداها , ثم حملاها بين
أيديهما , ومضيا بها إلى الكنبة . وقفت الراهبة استعدادا للذهاب وهي تقول لناصر :
ــ لقد التجأت ألينا سعيدة بجبل اللويبدة قبل سنوات . وأصرت ان لا نخبر أحداً
بمكانها إلا حين تموت . فوفينا بالوعد احتراما لرغبتها .
ثم فتحت شنطتها وسحبت منها صرة وهي تقول لنوال :
ــ معي اسوارة وخاتم ودبلة هدية منها إلى ريما وجميل وتامر . رحمها الله .
هرولت نوال مسرعة نحو غرفة النوم . ثم عادت وبيدها مائة دينار وأعطتهم
للراهبة تبرعا للدير . رفضت الراهبة قبول التبرع وقالت لنوال مبتسمة :
ــ تبرعك هذا مقبول . لكن تفضلي بزيارتنا بجبل اللويبدة أنت والسيد ناصر وقدموا
تبرعكم هناك .
لم تنقطع ريما عن زيارة المعهد بعد تخرجها منه . وكانت تزورهم بين فينة وأخرى
وحين تسمح لها الظروف .
وعليه فان ريما كانت على علم بزيارة الراهبة . ولكنها لم تكن تعلم سبب زيارة
الراهبة لمنزلهم .
لم يتردد ناصر بعمل قداس وجنازة على روح سعيدة في الكنيسة .
ثم قام بتقبل التعازي في بيته . وقفت نوال بجانب زوجها طيلة أيام العزاء . وكانت
تفعل ذلك بحب نابع عن شعورها بالذنب . كما وأدركت مدى حب أولادها لها
وتفانيهم في السهر على راحتها فاغرورقت عيناها بالدموع وحضنتهم بحميمية كما
لم تفعل من قبل . لم ينعم منزل ناصر ونوال بهدوء وطمأنينة منذ كانت سعيدة تقيم
معهم إلى اليوم الذي جاءهم بخبر موتها .
9
وكأن الفرح والابتسام كان محظورا عليهم . وكأن الفسحة والرحلات كانت محجوبة
داخل فانوس علاء الدين السحري . وقد آن الأوان لينعتقوا ويتحررا فغدت نوال
كمارد الفانوس تلبي طلباتهم التي كانت بيوم من الأيام من المحظورات . اشتركوا
بالنادي- الأرثذكسي- وباتوا لا يفارقوه . سافروا برحلات سياحية إلى لبنان وقبرص
والى اليونان . وابتاعوا شقة جديدة في الرابية أرقى أحياء عمان .
ولم تتوان نوال ساعة واحدة عن تحقيق حلمها. ذلك الحلم الذي جذبت به أولادها
إلى ساحتها , ولقنتهم دروسا في حب الذات , وحولتهم من أفراد يرومون التفرد
بشخصيتهم إلى دمى يدورون في فلكها .
سرعان ما فرضت سيطرتها عليهم حتى باتوا يستأذنوها في كل صغيرة وكبيرة .
رغم الانفتاح الذي عَمَّ على جو الأسرة والانطلاق في العلاقات الاجتماعية , فلم
يزل الخجل يكمم أفواه أولاد نوال . وحين يتكلمون تنتابهم الرعشة العصبية القاهرة
فيلوذون بالصمت درءاً لأي هفوة تحاسبهم أمهم نوال عليها حين تنفرد بهم .
كان تامر ألأكثرهم خجلا ولأقلهم استجابة للرعشة العصبية . في حين كانت ريما
المستجيب الأكبر لهذه الرعشة .
أنهى تامر دراسته الجامعية بتفوق . وحصل من الجامعة على منحة دراسية لتكملة
الماجستير والدكتوراه في أمريكا .
واعتقد تامر انه آن له أن يفكر في ذاته . وجاءته هذه المنحة وفي نيته ان يسافر .
يتعلم ويتعرف على أعمامه وأولادهم . ويخوض تجربة الاستقلال . ولكنه لم يلقى
من نوال تشجيعاً , فاضطر إلى قبول الوجه الآخر من المنحة , وهو الدراسة عن
بُعد , ثم يسافر لمدة أسبوع إلى أمريكا يقدم الامتحان هناك ويعود .
قبلت نوال بهذا العرض على مضض .
اشتغل تامر بعمان وبذات الوقت كان يدرس للماجستير وللدكتوراه .
تفوق في الدراسة وفي الامتحانات . وانبهر ممتحنوه الأمريكان لذكائه ولقوة
شخصيته . عرضوا عليه الإقامة والعمل في أمريكا .
الحق يُقال , أن تامر أمريكا غير تامر عمان . هناك الحرية والعمل والدولارات .
عشق أمريكا وكان يتمنى موافقة نوال , تمني العاشق الولهان بنظرة أو ابتسامة
من المحبوب . باءت جميع محاولاته بالفشل . تقدم لوظيفة بعمان تلائم وضعه
الجديد بعد حصوله على الدكتوراه .
كان الأول بين المتقدمين في امتحان القبول الكتابي . وكان الأخير في المقابلة
الشخصية . عزا الممتحنون ذلك لضعف شخصيته . لكنهم رغم ذلك قبلوا به على
افتراض انه يمكن تأهيله للوظيفة . وجاء قبولهم هذا حين أجاب على سؤال يحدد
الفرق بين المدير والقائد . كان جواب تامر في البداية , ان المدير هو مَنْ يُدير
العمل . في حين أن القائد هو مَنْ يُدير الذين يقومون بالعمل . وحين سُأل عن أيهما
ترغب أن تكون . كانت إجابته صادقة وصريحة ولا تخلو من براءة فطرية . هناك
آلاف المدراء . لكن القادة قلة ومعدودون على الأصابع , كما وبإمكانكم صنع مدير
جيد وقت تشاءون , أما القيادة فهي هبة كما الفنان والمبدع وتولد معه .
وعليه يستطيع من يشاء أن يطلب أن يكون مديرا . أمّا القيادة فلها ناسها وهي التي
تستدعيهم .
رغم ازدهار شخصه بقوة شخصية جده إبراهيم , وبموهبة القيادة التي ورثها عن
جدوده . إلا أن هذه الصفة لم يكتب لها أن ترى النور فكمنت في عقله . لكنها لم
تتلاشى , لا بل كانت تطل برأسها أحيانا , وعند الضرورة . لم تفارق سمة الحزن
تامر . كما ولم يفارقه حلم الهجرة إلى أمريكا . حتى بات الحزن يرافقه من البيت
إلى العمل , والى النادي حيث من المفترض ان يروح عن نفسه مع- شوب- البيرة
الذي يعشق احتساءه .
ها هو قد دخل بالعقد الثالث من العمر , وشقيقه جميل بالعقد الرابع , وريما في نهاية
عقدها الثالث . ولم يتزوج أحدا منهم .
وطرأت حركة جديدة غير مألوفة في منزل نوال الرتيب . الأحداث أفتعلها تامر
بقصد حث والدته على الانصياع لرغبته بالسفر . فكان يدخل البيت متجهما .
يأكل وينام . ولا يشاركهم ذهابهم إلى النادي أو للتسوق الذي اعتادوا على فعله
مجتمعين . لجأت نوال لحيلة التمارض كي تكسب عطفه ولهفته عليها . نجحت
الحيلة . لكنه بقي بقراره نفسه منطويا على ذاته وزاد حزنه لدرجة الاكتئاب .
انه جاد برغبته للهجرة إلى أمريكا أكثر مما تتصور نوال . لقد دان لها زوجها
وأولادها . وليس ثمة قوة تتحداها . ولا مشكلة تشغل بالها سوى رغبة تامر
الجامحة الانفلات من المدار الذي يحوم حولها ووضعت أولادها فيه بغير إرادتهم .
كما أدرك تامر انه أمام معضلة حقيقية وعاطفة أمومة غير سوية وليس له سوى أن
يقذف بسهمه الأخير علَّهُ يُصيب .
ذات مساء بينما كانت نوال تحتسي القهوة وتدخن مع زوجها ناصر في- البلكونة- .
دخل عليهم تامر وبيده- شوب- البيرة الذي يعشقه . جلس بالقرب من والدة ومواجه
والدته نوال . بدأ حديثه متوددا وقال :
ــ أنا بأعرف أنكم بيتحبوني وبدكم مصلحتي . ومتأكد كمان انه سعادتي بتهمكم ؟
عشان هيك أنا شايف مصلحتي وسعادتي في أمريكا .
يعي تامر أن كلامه قد دخل بأذن نوال اليمنى وخرج من اليسرى دون ان يترك له
أثرا . كما يعي تامر أيضا أن والده ناصر لن يقف إلى جانبه بهذا الموضوع بالذات .
وربما لسبب آخر غير أسباب نوال الحصرية ألا وهو رغبة الأب بوجود أبنائه
بقربه وهو بهذا السن الكبير فلربما يحتاجهم حين يغزو المرض بنيانه ويصبح بحاجة
إلى مَن يرعاه بشيخوخته . كان يرمي تامر بسهمه وهو يعي انه طائش . ولكن
الأمثال تقول : الطلق الي ما بيصيب . بيدوش .
برمت نوال- بوزها- بينما كانت تنفث الدخان من انفها ثم قالت :
ــ الموضوع هادا انتهينا منه .
ولأول مرة بحياته يجيب تامر والدته محتدا وهو يقول :
ــ بس أنا ما انتهيت منه .
ثم قال وهو لم يزل محتدا :
ــ إذا بدكم أضل هون . لازم أتجوز .
وصمت . بعد أن قذف بسهمه وأصاب الهدف .
10
الزواج والسفر والموت . هي عدة وجوه لعملة واحدة . هكذا تفكر نوال .
أدركت نوال من أول وهلة , ما يعنيه ابنها تامر . تجسَّدَتْ لعينيها صورة ابنها تامر
خارجا عن السرب , ومحلقا في فضاء ليس فضائها . انذعرت للجرأة التي تحلَّى
بها ابنها أكثر من انذعارها لسفره أو حتى لزواجه . وتساءلت متغابية :
ــ حاطط عينك على بنت معينة ؟
طبعا , لم يكن بنية تامر الزواج . والزواج أولا وأخيرا ليس مرامه في هذه المرحلة .
إنما قد خطا هذه الخطوة للضغط على والدته كي توافق على سفره . وبفعلته هذه ,
ها قد حشرها بين خيارين أحلاهما مُر .
رأت نوال الشرك الذي نصبه ابنها تامر فاغرا فاه . رأت تامر مكشرا عن أنيابه
ومُحال أن ينصاع بعد اليوم لأمر غير مقتنع به .
استرسلت نوال في تغابيها وقالت وهي تبتسم :
ــ اذا مش حاطط عينك على حَدْ . مينشوفلك بنت حلال . والبنات على قفا مين يشيل .
استدرك تامر ما قد تؤول له الأمور إذا ضَعُفَ أو رخا الحبل لنوال . عينه على
السفر فقط . ولكي يرفع من سقف طلباته أمام والدته قال لها متحدياً :
ــ أنا صاحب الاختيار . وانأ إلي بشوف البنت إلي تناسبني ومش حد تاني .
ــ يا تامر يا حبيبي بدنا بنت كويسة وما تغلبك .
ــ أنا ما بدي تعملي معي زي ما عملتِ مع جميل لما حط عينه على بنت ام عادل
وانت رفضتِ .
ــ البنت قوية . وأهلها شراشيح .
ــ يبقى سيبوني أسافر .
وتدافع الحوار مثل عاصفة رملية حتى غدا كل طرف لا يرى سوى نفسه من شدة
الغبار . رفع تامر الراية البيضاء . واستسلم لجبروت الواقع الذي يُحيط به والذي
بداخله . راوده الاكتئاب ثانية حتى بات لا يفارقه .
11
جالا موظفة في البنك الذي هو مديرا له . يتبدى وجهها في هالة بيضاء , صافية
العينين الخضراوين , في صوتها دسامة تذكر بصوت مذيعات الراديو والتلفزيون ,
وفي سجيتها رزانة فطرية . وكانت ذات قامة طويلة , جعلتها تنظر للغير من
علٍ _ الأمر الذي لم يغفره لها مَن هم قصار القامة _ كانت تموج بالحيوية
والخفة وسبقت زمنها بالتحرر التلقائي المنطلق بقوة نضج مبكرة . كانت بين
موظفات البنك أقواهن شخصية , وأحدهن ذكاء . عيبها الوحيد , أنها ثرثارة ,
عنيدة متطرفة في أحكامها متعصبة لرأيها . لا تخلو نظرتها من تسلط ومكر .
وكان تفوقها بالجمال يحرك الغيرة في بنات جنسها الموظفات في البنك . ولم يشغل
بالها شيء قط إلاّ الزواج .وضعت عينها على تامر من أول يوم طبع به قدمه على
سجاد البنك . أخذت تنتهز الفرص وتفتعلها كي تختلي به في غرفة الإدارة .
لم تكن جالا تفتقر للباقة أو للدلال . فعبرت بكل سهولة ويسر بنيان المدير الذي كانت
تعتقده قلعة موصدة فإذ به فضاءًا رحباً . بكر لم تحلق به حمامة .
إن لم يكن لتودد جالا أثراً . إن لم تسمو العلاقات الإنسانية حتى تصل الذروة . إن
لم تتجدد الحياة كما أرادها الخالق أن تكون . فهي حياة تجري مع الدم وتكمن في
جذور البسمات والدموع والأحلام في قلب تامر الذي لم يخفق قبل أن يصادف جالا .
غدا تامراً آخر . غادره الاكتئاب والتصقت بشفتيه ابتسامة رقيقة لو رسمها دافنشي
لفاقت الموناليزا شهرة .
مواصفات الزوجة الذي يريدها تامر لم ترقى للكمال في حساباته . شَدَّهُ قوة
شخصيتها وعنادها واللمعان في عينيها , الذي ينبئ بذكاء مفرط . قبل انجذابه
لجمالها وقدَّها الرشيق .
وكما أن تسلطها والمكر الذي تمارسه في بعض الأحيان هما صفتان يرتاب منهما
اي فرد مقبل على شراكة الزواج . إلا أن تامر وجد بهما طوق نجاة لعبور النهر
الجارف الذي ينتظرهما .
بمراسم بسيطة ومتواضعة تم زفاف تامر وجالا . لم تفرح نوال بابنها العريس
كما تفعل باقي الأمهات .
زغرودة لم تخرج من فمها . لم يُحتفل بحفلة عريس . لم . ولم ....
مرَّت مراسم العرس التقليدية وكأن نوال بميتم .
بذلك تحولت أول تجربة سعيدة في حياة جالا إلى محنة عاطفية ذبحت قلبها الطري
وأدمت كبرياءها . وهَوَّنَ من آلامها وَقْدَة الغضب التي اندلعت من حولها دفاعا
عنها وعن تامر . فأخذت على نفسها إدارة المعركة حول الكبرياء الجريحة وحدها
وبنفس الأسلوب الذي مارسته خلال فترة الخطوبة التي طالت . وحاولت فيها نوال
وأد التجربة قبل أن تغدو واقعا يُبنى عليه . لم تشأ أن يكون لتامر صلة كما فعلت
بالتجربة السابقة . جالا اليوم لها بتامر كما لنوال وأكثر . وهذه النقطة بحد ذاتها
شدَّت من أزرها ودفعتها إلى ساحة المواجهة متلفعة بشبك حديدي كفرسان القرون
الوسطى .
ولكن , تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن . جاء الحمل أسرع مما توقعت . وبخفة
ولياقة لص المنازل , دخل البيت واستوطن .
الحمل بالنسبة لنوال سلاح فتاك بيد غريمتها جالا . به تكون جالا قد أضحت ركنا
أساسيا في العائلة , لا يمكن تجاهله . وما على نوال إلا أن تُنهي هذا الحمل كي لا
تفقد الأمل في أن ينفصل تامر عن جالا بيوم من الأيام . كي يعود لحظيرتها .
انحسر حماس جالا ودفعت بفكرة النزال مع نوال إلى قائمة الانتظار , بعد الولادة .
كي تحمي جنينها من ردة فعل مباغتة , تقذف به الى سلة المهملات .
أنجبت جالا لتامر ناصر الصغير . طاروا به فرحا . حتى نوال لم تستطع كتمان
سعادتها لمجيء ناصر . أخذت على عاتقها رعاية الطفل , ليس حبا به فقط .
وإنما كي تحرمه من حنان الأم وتشربه كراهيتها .
قدمت جالا استقالتها بعد إجازة الولادة مباشرة كي تقطع الطريق على نوايا نوال
في استحواذ الطفل وأبيه وجالا نفسها . وكانت الشرارة التي التهمت بجذوتها
كومة القش والعش الذي ما فتئت نوال نصبه وتمتين بنيانه . فأضحت هذه
الاستقالة كالشعرة التي قصمت ظهرها .
أشرقت الحقيقة . وباتت رياح النكد كقرص الشمس الأحمر مرتفعا فوق الأفق .
12
دهمه البيت بمنظر مفزع . رأى جميل أمه نوال بباب الحمام ملقاة على الأرض
فاقدة الوعي , ووالده ناصر يحاول إنعاشها وبيده زجاجة كولونيا . وريما أخته
منزوية بركن الصالة حائرة ومتوترة . لم تسعفه فطنته بعمل شيء . فهذه أول
حادثة تصادفه ومطلوب فيها سرعة ردة الفعل والتصرف . كاد أن يفقد توازنه .
لكنه تمالك نفسه وركض نحو التلفون . أدار القرص بتوتر جلي . كان على الخط
الآخر شقيقه تامر . خاطبه بلهجة مستغيثة قائلا :
ــ أمك مغمى عليها . تعال بسرعة .
سقطت سماعة التلفون من يد تامر وداهمه دوار كاد ان يخل بتوازنه . التقطت جالا
سماعة التلفون من زوجها وسألت جميل قائلة :
ــ ايش فيه
ــ أمي مغمى عليها ومش عارف ايش أسَوّي ؟
أجابته بهدوء وثقة قائلة :
ــ ما تخاف . إحنا في الطريق .
أدارت جالا قرص التلفون واتصلت مع الدفاع المدني وأعطهم العنوان . ثم انطلقت
مع تامر وناصر الصغير إلى بيت نوال . كانت سيارة الإسعاف قد سبقتهم بحمل
نوال والانطلاق بها إلى المستشفى .
ارتفاع بضغط الدم . وكان قد داهمها منذ فترة طويلة. ونوال تعالجه بحبوب
المسكن كي لا تذهب للطبيب .
فقدت نوال بهذه الوعكة أعزَّ صديق . ألا وهو السيجارة . كما ونصحها الأطباء
بعدم الانفعال . غدا تامر بعد مرض نوال كالخاتم في إصبعها . تطلبه بالتلفون وهو
بالعمل وتنهال معاتبة وشاكية من قلة الزيارات إلى بيت الأسرة . في حين تعايره
بوفرة هذه الزيارات لأهل جالا . حتى بات بين فكي كماشة . أمه نوال من ناحية ,
وزوجته جالا من الناحية الأخرى .انحاز تامر لوالدته . جن جنون جالا وأخذت
ابنها ناصر وانتقلت إلى بيت والدها . ولم تعد لبيتها إلا حين تعهد تامر وتعهدت
هي أيضا بقسمة الحق مناصفة بن أهله وبين أهلها .
13
كان من عادة جميل مرافقة شقيقه تامر لشرب البيرة في النادي- الأرثذكسي- . ليس
لجميل أصحاب سوى شقيقه تامر . كانا يبثان همومهما لبعض . ثم يغادران وقد
روَّحا عن نفسيهما .
ذات يوم سأل جميل تامر معاتباً :
ــ أنا تفاجئت بقرارك اللي اتخذته من غير ما تشاورني .
ابتسم تامر ابتسامته المعهودة كاشفا عن ثنيتين متراكبتين قائلا لأخيه :
ــ قصدك قرار استقالة جالا ؟ ما حبيت ادوش راسك . القرار قرار جالا . سألتني ,
وانأ وافقت .
ــ يا تامر انت طيب كنير . بهذا الزمن الطيبة مش مطلوبة .
ــ هل بتشك بنواياي ؟
ــ أبدا . الحق معك دايما يا أخي
ــ أنت اخوي الكبير يا جميل . وما لقيت منك غير الحب والوفا . أنا تحت أمرك .
رفع كلاهما كأس البيرة الذي بيده وطرقاه ببعضهما واحتسى كل منهما شرابه .
أجاب جميل شقيقه تامر قائلا :
ــ خللي العواطف على جنب , ونشوف العقل لوين بده يودينا ؟
عاد تامر للابتسام ثانية ومن شدة نقاء الابتسامة كادت أن تطيح بوقار جميل الذي
نهض عن مقعده وقبل شقيقه بكل شغف وود . ثم أكمل حديثه قائلا :
ــ شوف يا تامر , خللينا نكون , وين مصلحتنا بتكون .
ثم سكت .
أدار تامر ما سمع من شقيقه في رأسه طويلا وهو بحالة من الاندهاش متسائلا بينه
وبين نفسه عن سبب وعن توابع ما يرمي له جميل .
لم يطل سكوت جميل وقال :
ــ ما تغتر بحالك وتفكر انك صرت مستقل وإلَكْ بيت ومرة . امك نوال هي القوة
الحقيقة , أبوك ناصر مع انه قريب منها لكنه ما يوفر الأمان الدائم . خللي ولائنا لأمنا .
سكت . ثم استرسل قائلا قبل أن يفتر حماسه :
ــ الأمهات إلي زي أمك نوال يا تامر ما يحبوا يكون الهم شريك في حب أولادهم .
وأهل مرتك زوَّدوها وأشعلوها نار بدخولهم على الخط .
واضطرب تامر , واسترق الى جالا نظرة سريعة وهو يتساءل عن ردة فعلها إذا قام
بمصارحتها في هذا الموضوع القديم المتجدد . وارتأى أن يؤجل البحث فيه إلى ما
بعد ولادتها الثانية.
تفاقمت الضغوط عليه من كل طرف . والدته نوال وزوجته جالا , إضافة الى
مشاكل بالعمل اضطرته لتقديم استقالته , والعمل بمكان آخر , يبعد عن مكان إقامته
ساعتين في الذهاب ومثلهما بالعودة . فغدا التعب مضاعفا . جسدي ونفسي .
بالرغم من انه نما بين والد وديع دمث وأم تعشق أولادها حتى العبادة . إلا انه
كان أشبه بطائر النعام الذي يغرز رأسه بالرمال كي لا يشاهد الحقيقة المؤلمة
والمتمثلة بعجز أبيه وجبروت أمه .
أما هو حقيقة فالدموع لا تزال تطرق أبواب عينيه , وقلبه يفطر حزنا فيذكر بذلك
القلب الذي اتخذ من الحزن شعارا . أهذه هي نهاية الحلم القديم ؟
إن المرض الكامن يهدد بالانفجار والذي مرض قديما بالقلب يجب ان يحذر
الحزن والانفعالات .
14
حين كانا تامر وجالا برحلة شهر العسل بعد زواجهما مباشرة , انتابت تامر
حالة إغماء . أخذته زوجته جالا هناك إلى المستشفى , وبعد تقديم العلاج
الطارئ له , نصحه الأطباء بمتابعة حالته في الوطن .
عَزَتْ نوال حالة الإغماء تلك إلى الإجهاد وقالت لابنها ولجالا وهي تبتسم :
ــ طنشوا . هادول الدكاترة ما بيصدقوا يجيهم مريض, وبيصيروا يمطوحوا فيه .
تعال وروح ورح وتعال .
لم تقتنع جالا بتخاريف حماتها نوال . فذهبت بتامر إلى اشهر اختصاصيي القلب
في عمان .
وبعد الفحوصات . طمأنه الطبيب . لكنه أشار عليه ونصحه بتركيب بطارية للقلب .
ضحكت نوال وقالت مبتسمة باستهزاء :
ــ يعني مثل السيارة .
حدجها زوجها ناصر بنظرة تصهر الفولاذ . بدت نظرته وكأنه يذكرها بأمر أهملته
وتجاهلته .
غزت هذه الخيالات ذاكرة تامر , ومرَّتْ أمام عينيه كشريط سينمائي .
فتراكمت الأحزان داخل قلبه المجهد . حتى تمكن الإحباط منه فغدا مُسَيَّرًا له .
أنجبت جالا لتامر ابنهما الثاني دانيال . فتعززت مكانة جالا بهذا المولود وغَدَتْ
ركنا أساسيا في الأسرة ليس بمقدرة نوال تجاهله .
بمجيء دانيال انحسرت هموم تامر , وكاد الإحباط إن يغادره دون رجعة . لولا
رياح النكد التي كانت تهب بين جالا ونوال بأغلب الأحيان .
لم ترحم نوال ابنها . كانت تستدعيه وقت تشاء متعللة بمرضها تارة او بمرض احد
افراد الأسرة تارة أخرى .
ولم تكن تعنى بالوقت والزمان الذي تستدعيه فيه . في يوم من الأيام استدعته على
عجل . وكانت الساعة الثانية صباحا حين سقطت بعض قطع بلاط السيراميك في
الحمام من شدة الحر , محدثة ضجة عالية فاعتقد مَنْ بالمنزل حتى زوجها ناصر
وجميل وريما ان البيت يتهاوى فوق رؤوسهم . فنقلت هذا الشعور لتامر . وجاء
راكضا إلى بيت الأسرة .
وحين نقل تامر ما جرى لجالا . صُعقت وجلجلت بضحكة هستيرية جعلت أطفالها
يستيقظون من نومهم فزعين ولم يكفوا عن البكاء إلى أن جاء الصباح .
15
دخل تامر البيت وكانت الساعة السادسة صباحا . كانت نوال قد استدعته في الخامسة
فجرا بسبب الإسهال الذي كانت تعاني منه طيلة المساء حتى الفجر . وعندما اطمئن
عليها , ودَّعَها بحرارة وودع والده ناصر وريما وحضن شقيقه جميل مودعا إياه
وانصرف .
كانت جالا كاشفة عن صدرها ترضع دانيال , بينما ناصر الصغير يتقلب بفراشه .
دخل تامر الحمام . استحم ولبس ملابس العمل . كان تامر بالعادة يخرج من بيته
للعمل في الساعة السادسة والنصف صباحا , دون أن يودع زوجته او طفليه كي
لا يزعجهم بهذا الوقت المبكر . لكنه اليوم قام بتقبيل ناصر وهو في فراشه ثم دانيال
بحضن أمه, وقبل زوجته جالا بحنان لم تعهده طول حياتها معه .
استأذن بالخروج من الاجتماع الصباحي الذي يجمع به مدير الشركة موظفيه كل صباح
بسبب حالة من الإعياء داهمته فجأة . فتعلَلَ بجلب تلفونه الخلوي من غرفته .
جلس خلف مكتبه سارحا بفكره .
ما هذا التدهور بعد الصمود ؟ ألم يحمل أثقاله ويمضي بها ؟ ألم يكفر عنها بالصبر
والألم ؟ ألم يلتزم بالجدية والاستقامة والجلد ؟ كيف جاء التدهور ؟ لقد حدث ذلك
بسبب سقوطه في هاوية الخوف . الخوف أصل البلاء .
تبدى شاحبا , يستنشق الهواء بصعوبة بالغة . ارتعد قلبه مع انه لم يفهم كيف للقلب
غير القادر على النبض أن ينبض . ربما يرتجف . لكنها لغة الموت على اي حال .
ثم تهاوى رأسه فو ق المكتب واستراح .
وهكذا انتهت سيرة تامر وجهاده وحلمه وحياته . مثل صحوة قصيرة مشرقة في يوم
طويل ملبد بالغيوم .
16
بموت تامر صحت جالا من حلمها الوردي . ارتطمت بصخرة الواقع , انطوت
على أحزانها , قبضت على الدفة وأدارتها بإتقان .
صُدِمَ ناصر بموت ابنه تامر ودخل في طور الخرف . ثم مات بين يدي ابنه جميل ,
الذي لم يصحو بعد منذ وفاة شقيقة وخليلة وصديقه الوحيد في هذه الدنيا , تامر .
على أي حال حدست جالا بشفافيتها تحفظ نوال حيالها وتوثبت من أول يوم للدفاع
أو الهجوم إن اقتضى الأمر. لكن الله سلم فحَنَّنَ قلبها على حماتها نوال بعد موت تامر .
فغدت يوميا تزورها كي تلاعب ناصر الصغير ودانيال . هو ليس حنانا بقدر ما هو
استجابة لإلحاح نوال رؤية أطفال ابنها تامر في أي وقت تشاء .
لم يخطر ببال نوال يوما أن تشهد وفاة أحد أولادها . مرَّت فترة ما بعد موت تامر
وهي غير مصدقة الحدث , لا بل كانت تنتظر قدومه بين لحظة وأخرى . وإذا رن
التلفون تقفز نحوه قائلة :
ــ انه تامر
عادت نوال لهواجسها متهمة جالا في التسبب بموت تامر . فضيقت عليها الخناق
الى حد التدخل السافر في أمور حياتها الخاصة , ومنعها من الرجوع للعمل .
لم تجد جالا مَنْ يقف إلى جانبها ويؤازرها سوى جميل . اقترح عليها التريث
بالعودة للعمل لحين إقناع نوال .
غدا جميل متجهم الوجه, وغالبا يحمل طابع المتقزز كأن ليمونة تُعصر في فمه !
وكأنما خُلِقَ ليشمئز من الدنيا ومن عليها , فهو في البيت منفرد بنفسه في حجرته ,
أو يتمشى في الشوارع الصامتة , لم يُعرف له صديق واحد من الجيران أو زملاء
العمل أو حتى الأقارب سوى شقيقه تامر . حين كان يأتي زوارا للبيت كان لا يكاد
ينبس بكلمة . حقد على كل من حوله لأنهم السبب بموت أخيه . ولم يستثني أمه من
هذا الحقد فهي المسبب الأول بوفاة شقيقه تامر لإهمالها في متابعة حالة شقيقه الصحية .
كما كان غضبه عارما على الأهل والأصحاب الذين عادوا لممارسة حياتهم الطبيعية
ولم يمتد الحزن عندهم إلى ما لا نهاية .
أولع بناصر الصغير حتى بات لا يقوى على فراقه ليلة واحدة . كان يأخذه معه للنادي
ويجلسان على نفس الطاولة التي كان يجلس بها مع شقيه تامر ويطلب البيرة والبوظة
لناصر . ويهيم بدنيا الخيال وكأن الجالس أمامه هو تامر .
لم يعد جميل هو جميل الأمس , فالغضب قد صنع منه شبه رجل يفتقر للذوق وللفكر .
ذات يوم . هبط ملاك الرحمة على نوال وخاطبت ابنها جميل قائلة :
ــ ما بدك تتجوز يا جميل وتفتح بيت ؟
لم يكن ملاكَ رحمة الذي هبط . كان شيطاناً . لم تكن نية نوال في زواج جميل تحقيقا
لرغبة سابقة كان جميل قد صرف نظره عنها ونسيها . إنما كي تبعده عن جالا ,
فلربما يميل قلبه لها ويتزوجها .
أدرك جميل ما ترمي إليه نوال فقال عابساً
ــ لسة بدري .
ــ عمرك فوق الخمسة والأربعين . ولسة بدري ؟
ــ رعاية أولاد اخوي أهم من الجواز .
قبض على طرف الخيط وأكمل حديثه قائلا بحزم :
ــ إذا ولا بد . باتجوز جالا امرأة أخي الله يرحمه . عشان يضل بيته مفتوح وأدير
بالي على الأولاد .
وكان صادقاً بهذا الرَّدْ .
أبدت نوال استيائها قائلة لجميل بغضب وانفعال :
ــ جالا قتلت أخوك . وراح تموتك انت كمان .
لم يجبها . نهض غاضبا وخرج من البيت صافقا الباب بقوة .
17
الواقعية............على الحياة أن تستمر............ والحي أبقى من الميت.
هذا كان شعار جالا ولم يزل . رمقته وهي تبتسم قائلة له :
ــ أنا موافقة . لكن لي شروط
وقبل أن يبادرها جميل بالجواب أكملت :
ــ أولا لازم ارجع لشغلي لأن راتبك لا يكفي لفتح بيتين , ولا حتى بيت واحد .
عشان هيك لازم تشوف ملجأ لأمك تحطها فيه . انا ما بكرهها لكن ما باطيق تعيش
معي في بيت واحد . وما تنساش انه أمك كانت منغصة حياة تامر زي ما انت
عارف . والي حصل معه ما بدي يحصل معك . والباب الي بيجيك منه الريح سده
واستريح . انا مش مستعجلة عالجواب فكر , وانأ جاهزة .
لم يمتعض جميل كما كانت تتوقع جالا . بدا موافقا حين قال لها متسائلا
: ــ وريما ؟
لمعت عيناها بنشوة الانتصار . فبدت- كالمتادور- الذي بغرس سهمه بجسد الثور
المنهك والمثخن بالجراح وقالت :
ــ ريما بتعيش معنا , عشان تدير بالها على الأولاد .
تسللت روح سعيدة إلى جسد ريما .
ثمة تغيير عميق أدرك ريما , فقد جف عودها , واشتعل رأسها بالشيب ومع أنها
لم تكد تبلغ الأربعين . إلا أنها بدت اكبر من ذلك بعشر .
أن ما جرى لريما من تدهور وانحلال , كان مما يدعو إلى السخرية أو الرثاء .
ولكن هذه النظرة الخامدة لا توحي بحياة , وهذه البشرة الشاحبة بأي مرض
تنضح ؟ وهذا الوجه الذي نتأت عظامه وغارت فيه العينان والوجنتان أهو امرأة
في الأربعين ؟
لم تكن ريما سعيدة بإقامتها في بيت جالا . ولم تكن جالا أيضا
راضية بتصرفات وحركات ريما الصبيانية . ومع ان عمر ريما قد جاوز الأربعين
سنة . إلا أن تمتعها بقسط ضئيل من الذكاء وانحسار الجاذبية والجمال التي كانت
تتمتع بهما بيوم من الأيام . جعلها تبدو كفتاة بالخامسة عشر من عمرها تقف أمام
المرآة بالساعات . وتلتهم الشيكولاطة والحلويات بنهم . وحين تسير بالشارع تعدو
كالفتيات الصغيرات . وترطم الحجارة والعلب الفارغة بقدمها . وتسير بخط مستقيم
فوق حافة الرصيف وكأنها تسير على حبل . كل هذا جعل جالا تمتلئ غيظا من
أفعالها . وكانت تؤنبها بقسوة . لكن دون فائدة .ومما زاد من حنق جالا على ريما .
الحركة العصبية التي كانت تنتاب ريما حين تنفعل فيرتجف جفنها لا إرادياً فيظن
مَنْ أمامها أنها تغمز له . وكذلك حالة السرحان التي كانت تنتابها بين فينة وأخرى .
كانت تجلس خلف النافذة فتبدو وكأنها تنتظر قدوم أحدهم " ربما شقيقها تامر " ثم
تنهض مفزوعة إلى غرفتها وتنام .
ولكنها لم تستطع أن تغفل عن الحقيقة المرة وهي انها مَنْ أشارت لسعيدة
باللجوء إلى دير السلزيان .
[/align]
انتهى
فوزي سليم بيتروالتعديل الأخير تم بواسطة فوزي سليم بيترو; الساعة 12-11-2009, 15:04.
تعليق
-
-
أشترك بتلك القصة :
ألواح المرمر.. ترفض الذوبان!
الألواح المرمرية المضجعة باستطالةٍ على غرار الموت الأبيض في المبرد الخرساني ترفض الذوبان , تتحيّن ببرودٍ قاتلٍ لحظات المعاناةِ السرمديةِ ليومٍ جديدٍ, تتعافى على أكفِ الضراعة عند فجر الله, وأيادٍ علّمت عليها مطارق الدهرِ الملونةِ..
تتوسل بحنجرةٍ رخيمةٍ: يا رب..! تدججني السماء وألتحف بجمّار خديها الصابح, وتسبيحة طائرٍ صبحي تمر فوق سطحِ الدارِ:
الملك لك.. لك.. لك يا صاحب الملك
يلاحقها صياح الديكةِ؛ رداً على بقبقاتِ أنثى تنتظر الأجنة .. أجذبني, ويشد بعضي بعضاً.. تتسمّر أنفاسي لوقع أقدامه الهابطة من أعلى الدرج وأعدها سلمةً.. سلمةً , يعلو سعاله المتحشرج كصهيلِ خيلٍ متعبةٍ.. أتدججُ أكثرَ وأكثرَ , وألضمُ رأسي في ثقبٍ صغيرٍ كخيطٍ حلزونيٍ .. أكشط الزبد الطافي على وجهه كدسامةِ الحليبِ ؛ لكن لو كف هذا السعال وترك صدره المصبوغ بأدخنةِ التبغ البرجوازي ؛ لطالما منعه عن "صباحِ الخيرِ" .. حتى و إن خرجت تكون غير مسموعةً.. تنزلق خرزات الطهور من لحيتهِ .. يركض في موضع ساقيها على سجادةٍ ما زالت محتفظةً بدفئها, ثم يُنهي كوب الحليب الخالي من السكرِ كما أمره الطبيب .
يرنو من النافذةِ.. يتأكدُ أولاً من صفاءِ السماءِ قبل أن يجنح إلى بابِ اللهِ .. تسبقه إلى الصالةِ الضيقةِ , وتبحث عن الفردةِ المفقودةِ للحذاءِ المتآكلِ .. تفتش تحت السلمِ المستندِ على الحائطِ المائلِ .. تلف حول نفسها : كانت هنا مع زميلتها .. يا فتّاح يا عليم ..! ثم تعود إلى الأرائكِ .. تجثو على ركبتيها .. تمد يدها وتتحسس الظلام.. تخرج بواحدةٍ , تضطرب و سريعاً تسقطها في حمّالةِ الصدرِ, تعود وتخرج بالثانيةِ , فالثالثةِ ..., أخرجت كل الأعقابِ التي خبئتُها أسفل الأريكة , خافت أن يراها, فدسّت كبشة يدها تحت الغطاءِ و تركت لي حفنةً من الأعقابِ الرخيصةِ.. كل الطرقِ كانت مصلصلةً لما استدار وخلف وراءه الجدران تتزلزل, وخرزات المرمر تقرع قفصه الصدري, فيزداد صهيله المشروخ .
دون وعيٍ تعودت سنابكه هذا الوحل الأوليّ, يقلع واحدةً و تنغرس الأخرى.. لا يهتم بضياعِ الحذاءِ؛ فلن يضاهي ضياع العمرِ المتآكلِ وتهلهل الملابس الداخلية؛ من أجل حصولي على البكالوريوس.. لا شيئ يهم و لا حاجة تساوي .. المهم أن ابن العم إبراهيم صار أستاذاً يملأ الدنيا ـ تلك الرخيصة ـ لم تدع له فرصةً لجفافِ عمامتهِ و التحام الشقوق المفحوتة في كفِ اليدِ و كعبِ القدمِ ..
بالكادِ وصل بآخرِ نفسٍ إلى المبرد الخرساني .. ساوى مقعدته بالكيبِ المفرودِ على يمينِ الكاتبِ .. مدد ساقيه وأسند ظهره المبلل إلى الحائطِ الخشبي لكن ترك صرة الزواد للشمسِ كعربونِ وفاءِ.. جاءت قطةٌ هزيلةٌ لم يحن لها الطلق.. سرقتها.. بعثرت كسرات الخبزِ في الوحلِ المعجونِ بعظامِ الأسماكِ الهاربةِ من الشِباكِ .. لم تجد ما يرضي بنانها .. اندفعت عربة الرحيل وفرملت على بطنها المتهدلةِ .. زمّرت مرتين .. انتصب فراؤها و ماءت كالملسوعةِ , ثم تشقلبت في الوحلِ تاركةً صغارها مطبوعةً في العجلاتِ .. لوّح له الكاتب من نافذة القيادة: شد حيلك يا إبراهيم قبل النوّه..! ثم انطلقت تجرف في الوحلِ و تأكل من طمي السكك ..
تكدست السماء بوجوهٍ مكفهرةٍ و جهامةِ أهدابٍ سوداء, بعثت أول إنذار ليوسف , فعافر مع الأمواج ووصل بصعوبةٍ .. سحب نصف دنقله على البرِ.. هاج البحر وماج .. كاد أن ينفلت منه .. ازداد الهطول و نفخت الريح ..استفزت الأمواج بزيادةٍ, وغدا الزبد كتلاً من أطوادٍ شامخةٍ .. تصلّبت يداه .. ماتت على مؤخرةِ الدنقلِ .. حاول أن يرفعه لكن تزمجر.. غزّ بطرف عينه إلى الداخل.. كان منشغلاً بالألواحِ, ناداه: بيدك معي يا إبراهيم.. جاءه رمحاً و لزوجة الطمى تحت أقدامهما كالصابون:
اجمد يا يوسف .
الله يعينك يا إبراهيم .
تكاتفا حتى رفعا النصف المنشود .. طرحاه براً, واختبئا حتى تمر العاصفة ..
ولجت الريح بين ألواح المرمرِ , فبدأ تماسكها يتذبذب .. تفاقمت برودتها في فقراتِ الظهرِ كغازِ الفريونِ .. لن يهدأ حتى ينقل الألواح قبل أن تأكلها الريح .. استلَّ الشوكة المعقوفة كي ينهي المهمة , أحس به يوسف .. نهض من غفوته .. ترك الكيب المجدول, ذكّره أن النوّة مستمرةً ثلاثة أيام متلاحمة .. صهل و لم يكترث: الله كريم يا يوسف.. غرس الشوكة داخل الصندوق, وسحب أول كتلة , طوقها على ظهره بجدائلِ الخوصِ المفتولةِ, وراح يتمايل بها نحو المبرد .. عاد وطوق زميلتها .. تسربت حبات المرمر إلى سرته و بين فخذيه .. احتبس أنفاسه و تحامل بمكابرةٍ .. انتفخت أوداجه .. و ازرورقت العروق .. شعر بفرقعةٍ في مكانٍ ما , و صرخ لما دفق الدم كشلالٍ جنوبي .. انزلقت آخر قطعةً فتناثرت الخرزات كنيزكٍ متفجرٍ .. نهض يوسف على صرخةٍ مدويةٍ : أبو خليل .. أبو خليل!!! وفي لمح البصر خلع قميصه وكتم العرق بجديلةِ الخوصِ, ثم انطلق في الوحلِ يزعق في البراح الخالي .
كان التنين الهائج على الحافة يضرب بذنبه كل الأوتاد المنتصبة كالمماليك .. تدحرج الدنقل و تفصصت جوانبه كالبرتقالةِ البكرِ, فتاهت ألواحه بين الأصداف و خشخشة الفقرات .. تكومت السدود وعمّ السواد في الأرجاءِ الفسيحةِ .. التحم البحر والسماء .. احترقت الأمواج .. تصاعد دخانٌ متكاثفٌ, فاكتست السحب بدكنةٍ .. طالت الأطراف البحرية من القريةِ وطوقت عمم القش الملبوسة فوق الأسطح .. تسرسبت الأقدام من كل فجٍ ؛ يبحثون عن الأطفال في البرك .. كانت بينهم .. تركت النول والمناقيش وراحت تضرب الشوارع غير مكترثة بوسخ المجاري البارزة كالشكمانات , لكن لمحها فحشر نفسه وسط الأولاد و راح يردد معهم: يا مطرة رُخي رُخي..! اشتد غيظها .. هجمت عليه وسحبته من أذنه كأرنبٍ شتوي .. سألته عن فردةِ الحذاءِ, فأخبرها أن تسأل بائع الحلوى .. شهقت و قرعت صدرها .. كادت أن تخلع أذنه .. توعدته أن ترسله البحر مع يوسف .. حاولتُ أن أجرده, لكن جاءت طرقات الباب كالرعدِ .. دخل يوسف منتحباً, عاري الصدر و الأكتاف .. ملطخاً بالطمي حتى مفاصله, أطحتُ بملزمةٍ كانت بيدي وسبقتهما إلى المستشفى .. لم أهتم بخرزاتِ المرمرِ المتساقطةِ, لكن ارتطمت برأسي الألواح و صوت الفرقعة .. اندفع الدم على وجهي .. ملأ ملابسي .. كان صهيله يأكل الصدفية , لعنتُ الجامعة و خواء الجيوب , جربتُ أن أرصده عبر نافذة مستديرة.. كان الزجاج معتماً من الداخل .. ارتضيت بالتصنت.. لم تدعني الألواح .. عدتُ إلى النافذة .. كانت منكشفةً هذه المرة .. رمقته ممدداً .. خارت قواي , و أدرتُ وجهي, تلاهثت أنفاسي .. شعرتُ بغثيانٍ و برودةٍ لسعت وجنتي .. أسندتُ جبهتي إلى الزجاج .. استدارت النافذة أكثر و أكثر .. طافت رأسي في الفضاء الواسع .. كانت الألواح تتطاير مع الدخان القاتم .. دنوتُ من البحر.. اقتربت القاع من رأسي.. جاءت مضيفةٌ ذات ألواح مرمرية.. كانت ترقبني من آخر الصف .. همست كصفصافةٍ حانيةٍ: حمد لله على السلامة ..! , فخفق قلبي و ارتجف بانتزاعةٍ؛ لما أعلن المذيع الداخلي عن وصول الرحلة رقم 80 القادمة من بلاد الله ..
صفحتي على فيس بوك
https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757
تعليق
-
-
واو العطف ( تفسير قصصي لسورة الشمس)
لاح فجر يوم جديد .. سرعان ما هبّت الأمُ من النوم لتوقظ أفراد العائلة .
قرعت باب غرفةِ أحمد و حسين ، و انعطفت إلى غرفة إسراء و رؤى ..
ارتدى الصبيان ملابسهما على عجل .. كانا على موعدٍ مع صلاة الفجرِ في المسجد و الوالدُ ينتظرهما .
أمّا أمُّ أحمد و ابنتاها ، فافترشت كلُّ واحدةٍ منهنَّ زاويتها المعتادة في المنزل ، و شرعن بتأديةِ الصلاة ، ليقمن بعدها بالدعاء و قراءة القرآن .
كانت أعمار الأولاد صغيرة ، فأحمد الابن الكبير لا يتجاوز خمسة عشر عاماً ، تليه إسراء عمرها ثلاثة عشر عاماً ، ورؤى أحد عشرعاماً ، أمّا حسين فعمره تسعة أعوامٍ .. غير أن الجميع كان يشعرُ بالحبور لهذا النهوضِ المبكر من النوم ، فصلاة الفجر عيدٌ يبهج النفس ، و يفرح القلب ، و يملأهما خشوعاً لله .
ها هي الأمُّ و ابنتاها ينتهين من الصلاة و القراءةِ و الدعاء ، و يجتمعن في غرفة الجلوس ليمارسن بعضَ التدريبات الرياضية .فتحت إسراء النافذة ليتجدد الهواء ، و تدخل نسمات الصباح العليلة المنعشة ، و بدأن التمارين الملينة للجسم ، و المنشطة للدورة الدموية .
تجاذبت الأم وبنتاها أطراف الحديث ، فأخبرتاها عن نشاطاتهما في المدرسة ، و ذكرت إسراء لوالدتها أنها حفظت الجزء الثلاثين من القرآن كما وعدت والدها .. كان الأولادُ الأربعة قد وعدوا الوالد ان يحفظوا جزءاً من القرآن كل عدة أسابيع بمساعدة معلم القرآن في القرية .
و لما كان اليوم يوم الجمعة سألت رؤى :متى سنلحق بوالدي و أخويَّ ؟
أجابت الأمُّ : عندما ننتهي من هذه التمرينات ، و نعدَّ شيئاً للفطور نأخذه معنا .
قالت رؤى : لم أستطع حفظ كلِّ شيء ، فهناك الكثير من المعاني التي أحتاج إلى شرح لها .
اقترحت الأم على ابنتيها أن تطلبا مساعدة الوالد في التفسير أوقات الفراغ فيسهل حفظ القرآن .
أمّا الأب وولداه فخرجوا من المسجد ليمارسوا رياضة المشي المعتادة كلَّ صباح بمحاذاة الطريق المؤدية إلى المدينة .
كانت حركة السيارات قليلة .. راح الثلاثة يستنشقون الهواء النقي بعمق ، و هم يرقبون الشمس التي أخذت ترفع رأسها برفق ، لتلقي على السهول و الهضاب و المرتفعات تحية الصباح ، و تغطيها بوشاحها الوردي المموج بالصفرة .
وصلوا إلى التلة الغربية عند طرف القرية ، و جلسوا على صخرة تحت أشجار السنديان و الحور يتابعون مراقبة الشروق ، و ينظرون إلى بحر من الخضرة يمتد قبالتهم دون نهاية .
غير بعيد في أعلى التلة ، كانوا يسمعون صوت خرير الماء المنحدر من نبع صخري .. و خيِّل لأحمد أنّ الأشجار المنتصبة في الأعلى أشبه بأناس طوال القامة ، وقفوا هناك طوال ساعات الليل ينتظرون عودة صديقتهم الغائبة الشمس ..
و ما الأغصان المتمايلة مع نسمات الصباح سوى أيدٍ تلوح لها بلهفة و شوق .. حتى عصافير الدوري التي بنت أعشاشها فوق جذوع تلك الأشجار شاركت في موكب الاستقبال ، فملأت الأرجاء بزقزقاتها شكراً لله .
و أخذ حسين يرمق الشمس باعتزاز ، و هي ترتفع في قبة السماء ، لأنها لم تستطع يوماً أن تسبقه في النهوض من النوم ، لكنها من جهة أخرى صديقته .. يحبها عندما تفتح عينيها ، وتغمر الكون بنظراتها الدافئة .
و هكذا بدأت الطبيعة صباحها الجديد ، و استيقظت الكائنات ، وتتالى وصول الفلاحين إلى حقولهم ، ملقين السلام على أبي أحمد و ولديه .
لم يكن أبو أحمد يملك حقلاً في هذه القرية ، لأنه معلم المدرسة القادم من المدينة ، غير أنّ الجميع يكنُّ له المحبة و الاحترام .
أخيراً أطلت ام أحمد من بعيد مع ابنتيها ، و التئم شملُ العائلة .
وضعت إسراءُ سلة الطعام على الأرض ، و أخرجت منها غطاءً فرشته بمساعدةِ رؤى ، وجلس الجميع يتناولون إفطار الصباح ، ويتأملون بإعجاب جمال الطبيعة و إبداع الخالقِ .
سأل الأب أبناءهُ هل أنجزتم حفظ ما اتفقنا عليه ؟
هتف أحمد و إسراء معاً : حفظت الجزء الثلاثين .
ضحك الأبُ من حماس أبنائه .
قال حسين : أمّا أنا فبقي عليّ أربعُ سور .
قالت رؤى : لا أفهم يا أبي معنى الكثير من الكلمات ، و لا أستطيع حفظ شيء لا أفهمه .
ابتسم الأبُ ابتسامةً رقيقة ، و كأنَّه يتوقع من رؤى ما قالته ، وهزَّ رأسه موافقاً على ضرورة فهم ما يحفظ .. و أيّدت الأمّ كلام ابنتها مقترحةً فهم على الأب معاونة أبنائه على فهم معاني السور .. فرح الجميعُ بهذا الاقتراح ، و قالت رؤى : أحبُّ أن تبدأ يا أبي من سورة الشمس .
هتفت فتاة قادمة من حقل مجاور تحمل بيدها"صينية"عليها إبريق من الشاي و بعض الكؤوس : من يناديني ؟ أنا قادمة .. ضحك أفراد الأسرة مرحبين بها ، و قالت أم أحمد : سبحان الله .. أهلاً بشمس النشيطة .. جاء الشاي في وقته .. تعالي و اجلسي معنا ، و شاركينا طعام الإفطار .
أجابت شمس : نعم سأفعل .. أحب أن أجلس معكم و أشارك في أحاديثكم الشيقة .. سمعتكم و أنا قادمة تذكرون سورة الشمس ..
صبت الأمُّ الشاي ، و مع البخار المتصاعد تصاعدت حرارة حوارٍ ممتع :
قالت رؤى : تبدأ سورة الشمس بواو : " و الشمس وضحاها " .. وأعرف أن الواو واو العطف .. ذكرت لنا المعلمة أن الواو تتوسط بين كلمتين أو جملتين ، و أن ما قبلها يسمى المعطوف عليه ، و ما بعدها يسمى المعطوف . فإذا كانت الواو حرف عطف و الشمس معطوف ، فأين المعطوف عليه ؟ ..
قال حسين : نعم يا أبي .. أنا أيضاً أخذت درس العطف في المدرسة ، و قال لنا الأستاذ : إنّ المعطوف و المعطوف عليه أشبه بشخصين يتصافحان ..
هتف أحمد : ما أجمل هذه الصورة ! .. حقاً ، إنّ الواو كثيرة الشبه بكف تضم الأخرى و تصافحها .
قالت شمس مداعبة : ليت حرف العطف يمارسُ عمله بنشاط في هذا العالم ، فيسود السلام ، و تنتهي الحرب و الخصام .
قال الأب : أحسنتم يا أولاد .. أعطيتم عن العطف و حرف العطف صورة رائعة ، لم أقف عندها من قبل .. لكن الواو هنا ليست واو العطف ..إنها واو القسم ، و الشمس مقسم بها .
تابعت الأمُّ : نعم يا أحبائي ، نلجأ إلى هذا الأسلوب كثيراً في كلامنا اليومي ، فنقول مستخدمين لفظ الجلالة " الله " : " والله " .. و ذلك إذا أردنا أن نؤكد على حصول أمر ما مهم ، لأن الله أعظم و أجل ما في الوجود .
قالت إسراء : لكنّ المقسم به هنا الشمس و ليس لفظ الجلالة ؟
أجاب الأب : نعم يا بنيتي .. إنّ القرآن كلام الله . و الله يقسم فيه بالشمس و القمر ، و غيرهمامن مخلوقاته العظيمة ليذكِّر بعظمة خلقه و إبداعه ، فيأخذ الناس العبرة .. قد يصدق المشككون .. و يزداد المؤمنون إيماناً به و محبة له ، فيجدُّون في طاعته ؛ و ينشطون في عبادته .
أخذ أحمد يردد آيات السورة مجودةً بصوته العذب الشجي ، و كأنّه يتذوق جمالها : " و الشمس و ضحاها . و القمرِ إذا تلاها . و النهار إذا جلاها . و الليل إذا يغشاها . و السماء و ما بناها . و الأرضِ و ما طحاها . و نفسٍ و ما سوّاها . فألهمها فجورها و تقواها " .
كان الجميعُ يصغي بخشوع ، و اغرورقت بعضُ العيونِ بالدموع ..
توقف أحمد عن التجويد ، و بادرت شمس إلى القول : لأول مرة أشعرُ أن الكون أسرةٌ واحدة .. الشمس يعاونها القمر .. و الليل يلحقُ بأخيه النهار .. و السماءُ تظلُّ الأرضَ .. !
هتفت إسراء : نعم .. إنّكِ تعيديننا إلى العطفِ مرةً أخرى .. و كأنّك تريدين القول : إنَّ عناصر الكون تتصافحُ و تسلمُ على بعضها البعض .
تدخل أبو أحمد قائلاً : و لم لا يا بنيتي .. فهذه العناصر جميعها معطوفة على الشمس بواو العطف ، لأنّ الله جلّ جلاله أقسم بها كما أقسم بالشمس ..
و قالت أمُّ أحمد : إنّ واو العطف التي تربط بين عناصر الكون المذكورة تشيرُ إلى التناسق و التكامل القائم بينها في عملها ، فكلٌّ منها يمارسُ دوره الذي يكملُ به دور الآخر دون أن يطغى الواحدُ منها على أخيه .
قال أحمد : تقصدين يا أمي : لكلٍّ اختصاصه ؟! ..
أجاب الأب : أجل يا ولدي .. أحسنت التعبير ! .. لكلٍّ اختصاصه : فالشمس مختصة بالضياء تنشره على الأرض حين تشرق فيكون النهار.. و القمر مختصٌّ بالنور يستمدُّه من الشمس ، وينير به عتمة الليل حين تغيب .. الشمس ترسل ضوءها فتمدنا بالحيوية و النشاط .. والقمر يرسل نورَهُ فيؤنسنا و يمتعنا بجماله ، و يدخل السكينة إلى قلوبنا ، و يلهم أدباءنا و فنانينا إبداعاتٍ جديدةٍ .
قالت أمُّ أحمد : كما أنَّ جاذبية القمرِ تؤثِّرُ على الحياةِ في الأرض ، إذ لها دورٌ كبيرٌ في عمليات المدِّ و الجذر في المحيطات و البحار ، و قرأتُ مرةً أنّ لها تأثيراً مشابهاً على الدورة الدموية في جسد الإنسان .
هتف أحمد : سبحان الله ما أعظم قدرته !
سألت إسراء : و ما معنى ضحاها ؟
قالت شمس : أعرف أنّ الضحى أول ارتفاع الشمس في السماء .
قال أبو أحمد : نعم يا بنيتي هذا صحيح ، إنّه الوقتُ الذي يسبق الظهيرة .. و لكن للضحى معنىً آخر : إنّه حرُّ الشمس ، و كما تعلمين ، أشعة الشمس تصبح ذات حرارةٍ أشدّ كلّما ارتفعت الشمس أكثر إلى الأعلى ، حتى إذا وصلت إلى منتصف السماء حلّ وقت الظهيرة ، و أخذت حرارة الأرضِ ترتفع أكثر فأكثر ، و لا يبرد وهج الضحى إلا حين تميل الشمس إلى المغيب . من هنا أستطيع القول إنّ الضحى يشملُ النّهار .. و لعلك ستتأملين ملياً هذا الضحى الذي يترك أثراً بالغاً على الحياة في الأرض .
قالت أمُّ أحمد : تلفتني كلمة أثر التي ذكرتها إلى أمرٍ مهم .
سأل الأولادُ : ما هو ؟
أجابت أم أحمد : في حياة الناس ، أيها الأعزاء ، الأثر مهم جداً .. كلُّ الناسِ يمرُّون على هذه الحياة و يتركون فيها آثارهم .. آثارهم وحدها الباقية ، لكنها متباينة .. بعضهم مثل الشمس يتركُ إشعاعه المنير .. و بعضهم مثل الورد يترك عطرهُ المنعش ، و بعضهم مثلُ الرياح العاصفة أو الأمواج العاتية لا يتركُ إلا الخراب و الموت ..
فانظروا دائماً و أنتم تتقدمون على طريق الحياة ماذا تتركون ورائكم .
سأل أحمد : و ما معنى " و القمر إذا تلاها " ؟
أجاب الأبُ : تلا الشمس في إشراقه على الأرضِ عند حلول الظلامِ بما استمده من نور الشمس .
قالتِ الأمُّ : لاحظوا أيها الأحبةُ هذا التناسقَ الجميل في أسلوبِ القرآن الكريم ، فكلُّ فكرةٍ استدعت أختها : في البداية ذكرت الشمس و ذكرَ القمرُ ، فاستدعى ذلك ذكر النهارِ الذي يجلي الأرض ، أي يكشفها بإظهارِ ما يقعُ عليه ضوؤهُ ، و ما النهارُ إلاّ ذلك الأثرَ الذي تتركهُ الشمس على الأرضِ .
و استدعى أيضاً ذكر الليل ِ الذي يغشى الأرضَ عندَ غيابِ الشمس ، أي يستر معالمها كثوبٍ رقيقٍ ، فيجلي بعتمته ضوءَ القمرِ ، و يظهره بهياً جميلاً .تابعَ الأبُ كلامَ زوجته قائلاً : ألا تشعرون معي أنّ هناك حوارٌ دائمٌ بين الشمس و القمرِ و الليلِ و النهارِ ؟
هذا الحوار اليومي الصامت على مسرح الكون بين عناصره استدعى التذكير بالمكان الذي يجري فيه الحوار : إنّه السماء التي بناها الخالق فأحكم بناءها ، و الأرضَ التي طحاها أي بسطها و جعلها واسعة لمخلوقاته .
قالت الأم : و لكن كيف نفسر على ضوء هذا التناسق ذكر النفس الإنسانية في سياق الآيات ؟ و ما علاقتها بالآيات الكونية : الشمس و القمر .. الليل و النهار .. الأرض و السماء ؟
قال الأب : أحسنت يا أمّ أحمد .. سؤال جميل !
ألاترون معي أن النفس الإنسانية صورة مصغرة لهذا الكون ؟ ألا تظلم حين يغمرها الجهل ؛ وتشرق حين تضيء ظلماتها شمس المعرفة أو يزيل وحشتها قمر الحب و العاطفة الإنسانية النبيلة ؟
أليس الفجور الذي الذي تتحدث عنه السورة صورة ظلامية ؛ و التقوى صورة مشرقة ؟ أليست تزكية النفس التي تعني تطهيرها من الأفكار و المشاعر الخبيثة من صور الإشراق ، و تدسيتها التي تعني قتلها بتلك المشاعر و الأفكار من صور الظلام ؟
أجابت الأمّ : نعم صحيح ، ولهذا استدعى التناسق القرآني ذكر نبي الله صالح ( عليه السلام ) مع قومه كمثال على ظلامية النفس الإنسانية التي تؤدي بصاحبها إلى الهلاك ، فمن منكم يحفظ القصة ؟
قال حسين : كان عمر النبي صالح ( عليه السلام ) ستة عشرَ عاماً عندما أمره الله بهداية قومه .
تابعت شمس : و استمرَّ في محاولاتِ هدايتهم حتى بلغ مئة وعشرين سنة ، إلاً أنَّ قومه لم ينصتوا إليه ، و لم يؤمنوا بالله الواحد .. كان لهم سبعون صنماً يعبدونها من دون الله .
قالت إسراء : وفي أحد الأيام أراد نبيُّ الله صالح أن يوقع الحجة على قومه بعد أن صبر عليهم طويلاً ، فاتفق معهم أن يسألَ آلهتهم ، فإن أجابته ترك قومه و ما يعبدون و رحل عن البلاد ، أو أن يسألوا إلهه فيجيبهم إلى ما سألوه .
سأل حسين : و ماذا جرى بعد ذلك ؟
قالت إسراء : سأل أصنامهم كلها بأسمائها فلم تجبه ، و هنا دعاهم صالح ( عليه السلام ) إلى أن يسألوا إلهه ، فأجابوه : انطلق معنا إلى الجبل .
وانتخب منهم سبعين رجلاً ، و لما وصلوا إلى الجبل ، قالوا له : سل ربَّك أن يخرج لنا الساعة ناقةً شديدة الحمرة ذات وبرٍ ، تحمل في أحشائها جنيناً ، فسأل صالح ربّه ، فانشقَّ الجبلُ بعد أن اضطرب و أصدر صوتاً عظيماً أحدث الرُّعب و الخوفَ في النفوس ، و ما هوَ إلا قليل حتى خرجت من قلب شقِّ الجبل ، فتعجبوا من سرعةِ إجابة الرَّبِ لصالح ( عليه السلام) ، وقالوا له : اسأل لنا إلهك أن تضع جنينها ، فسألَ اللهَ ذلك ، فإذا بفصيلها يدبُّ على الأرضِ حولها .
و آمنوا بربِّ صالح ( عليه السلام ) ، و لما عادوا إلى قومهم ليخبروهم بالمعجزة ارتدَّوا عن إيمانهم ، و لم يبقَ معه سوى ستة ، و ارتاب من الستة خمسة فلم يبقَ إلا واحد .
سأل حسين بلهفة و شوق : و لكن ماذا حدث للناقة ؟
أجاب أحمد : كانت الناقة تحتاج إلى شرب الكثير من الماء ، لكنّها تدرُّ لبناً يكفي القومَ كلّهم ، فقال لهم نبي الله صالح : لنقسّمَ الماء بينكم و بين الناقة ، فتشربون يوماً ، و تشرب الناقةُ الماء يوماً . و في اليوم الذي لا تشرب فيه الماء تقف في وسط الساحة ، و يأخذ الجميعُ حاجته من لبنها ..
صاح حسين : ما أحسن هذا !
رد أحمد : لكنَّ القوم لم يدركوا هذا الحسن الذي أدركته أنت .. فوسوس الشيطان لتسعة من المفسدين الكافرين أن يذبحوا الناقة ، فذبحوها ..
قالت شمس : و بعد ثلاثة أيامٍ من ذبح الناقة نزل العذاب بقومِ صالح .. و نجا نبي الله .
سألت رؤى : لكنّ الذين ذبحوا الناقة تسعة أشخاص ، فلماذا أنزل الله العذاب بالباقين ؟
أجاب الأبُّ : لأنَّهم لم يكونوا في قرارة أنفسهم مؤمنين بنبي الله و لا بالمعجزات التي أجراها الله على يديه ..و لو كانوا مؤمنين ، لحاولوا ردَّ المفسدين عن إفسادهم و ظلمهم .
قالت الأم : هذا صحيح . ألا تذكرون قول رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، و ذلك أضعف الإيمان ؟
قالت شمس وهي تجمع أكواب الشاي الفارغة : إنَّ الحديث معكم ممتعٌ و شيِّقٌ و مفيدٌ ، و لكن عليَّ أن أعود إلى البستان لمساعدة أسرتي في قطف بعض الخضار و تعبئتها من أجل بيعها .
قالت الأمُّ : ما رأيكم أن نذهب جميعاً لمساعدة أسرة شمس .. و هكذا نتعلم شيئاً جديداً هذا اليوم ؟
سُرَّ الأولادُ و والدهم بالفكرة ، و ما هي إلا لحظات حتى وضعت الأغراض في السلة و تبع الجميع شمساً إلى بستان أسرتها .
تعليق
-
-
يسعدني المشاركة معكم بهذا النص ق ق ج
نظرة جذبته نظرتها الحنون و عيونها الطيبة هوالضائع كالحلم التائه بين الجفون منذ سنين اقترب منها و ملء عينيه ابتسامة لم تردها إليه كانت فاقدة للبصر منذ سنين !!!
نظرة
جذبته نظرتها الحنونة و عيونها الطيبة
وهوالضائع كالحلم التائه بين الجفون منذ سنين
إقترب منها و ملء عينيه إبتسامة لم تردها إليه
كانت فاقدة للبصر منذ سنين !!!
شكرا لكم و أمنياتي للجميع بالخير
تعليق
-
-
افترق بنا الطريق
أول مشاركة بالقصة هنا ارتأيت أن تجرب حظها بالمسابقة وتنال إعجاب القراء
قصة عمرها طويل جدا
قال لي في إحدى رسائله..."احتملي...لم يعد أمامنا الا القليل...تجلدي صبرا...سنهزم معا أهوال الدنيا ونعيش في سعادة.
صدقت كلامه وصبرت على كل أنواع القيل والقال...
وتصلني رسالة أخرى منه ليقول إنني مظلومة معه،ولكنه لا يملك زمام أموره...لم يعد يملك الا كلمة واحدة احتملي"...واحتملت حتى بلغ الصبر مداه.
..ومرة عبر أسلاك رذيئة كان صوته مبحوحا من أثرالبكاء وكلماته أضعف ما عرفته عنه،صرح بالفراق متلعثما...هربت من سماعة الهاتف ودون أن تذرف دموعي أويجش صوتي...
كنت أتساءل ماذا تغير في حياتنا،كنا نعيش في راحة وهناء،حسدتنا عليها كل الناس حثى عيون المارة...ولم تكن في حياتنا رفاهية..تذكر.لكنها تنتعش بروح المودة والرضا والنجاح المطرد والقناعة...ماذا تغير...ألم أحتمل...؟ ألم أحرص على حياة وسلامة حبنا...؟
رمقت ظله من نافدة غرفتي وهويحاول عبورالطريق ،حتى دون أن يلتف ليراني...عدت الى سماعة الهاتف بعد أن دخل بيته و بصوت جاف وحاد،لا تعبيرا عن الغضب والحزن...ولا رجاء في العودة... حدثته
فرحت بعزمي هذا قائلة...لقد قبلت بالفراق...فعش حياتك كما تريد...حاولت أن أبكي...فلم أستطع...أن أصرخ أن أوبخه...أن أعذبه أكثر لكنه كان يبكي مرتجفا حانقا ...لم أسأله السبب...فقد كان يطلب السماح ويواسيني ويخفف عني بأدعية...أول الأمر ظننتها نفاق...عدت الى سريري...حاولت النوم...تستفزني الدموع القاسية...رأسي سينفجر...أفكاري تشردت...ودقات قلبي تتصارع...
قبل أن تنتقل الحافلة إلى المدينة التي كنت أشتغل فيها،لمحته يجري ويحرك رأسه هنا وهناك...حرك السائق رأسه نحوه...إنهاهنا فصعد الحافلة...بدأ يقترب من مقعدي وهو لا يستطيع...تظهر عليه علامات الإرهاق والضعف...مد يديه كالمعتاد ليقول:"طريق السلامة"،وحتى هذه اللحظة مازلت محتملة حتى أجهش بكاء...وهو يبتعد ونزل من الحافلة...
ليتني قلت له احتمل...أكثر
لم تبق غيرساعات ومسافات طوال تعدها دقات قلبي وذرفات دمعي
المرابط سكينةالتعديل الأخير تم بواسطة سكينة المرابط; الساعة 21-11-2009, 02:52.
تعليق
-
ما الذي يحدث
تقليص
الأعضاء المتواجدون الآن 196182. الأعضاء 5 والزوار 196177.
أكبر تواجد بالمنتدى كان 409,257, 10-12-2024 الساعة 06:12.
تعليق