أزمة في السماء..02

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • بلقاسم عفيصه
    أديب وكاتب
    • 16-03-2008
    • 60

    أزمة في السماء..02

    [align=right]
    بشراهة كأنها آخر مرة سأزورها أو أدخرها ليوم لا رجعة فيه إلى هذه البلاد. لم يطل مكوثي بالخارج كثيرا، ووليت راجعا للمطار أنتظر وأسمع صوتا يخبرني قرب موعد الإقلاع. وفي هذا الوقت المتبقي عمدت إلى تسوية آخر الترتيبات والإجراءات لهذه المرحلة، و انتظرت بقاعة الجلوس أو الانتظار. كم هو الوقت بشحيح هنا، لا يكاد يقترب منا حتى يطير بلا رجعة ... مرت نصف ساعة ولم يبقى إلا القليل وجاء من بعيد صوت كالذي عهدته، لكن هذه المرة بلغة مغايرة، صوت يدعونا للتقرب من الشبابيك لاستكمال الإجراءات الأخيرة وقرب موعد الإقلاع ، حينها علمت أن سفري سيبدأ من الآن، فخفق قلبي مجددا وامتلكني برد ساد جسمي، وذهبت ببالي وخاطري وفكري إلى هناك حيث لا أعلم سوى أن قوة ساحرة تدفعني. كنت على مقربة من عائلة مسافرة مثلي يتهامس أفرادها فيما بينهم بلغة لا أكاد أجيدها كثيرا، سعداء هم حقا وبين أيديهم أبنائهم أو ولدان لم يتعديا الرابعة من عمرهما، شدني الانتباه إليهما لجمالهما وشدة التقارب بينهما، وتبين لي بعدها أنهما توأمان التصق بصري لتواصل وتفاهم وتواد بين هذه الأسرة، تساءلت في نفسي:" هل نحن و أبنائنا كذلك؟ هل منا من يقرب أولاده وزوجته ويلعب معهم ويتحدث إليهم؟ " انتبهت لنفسي أخيرا وصرفت نظري عنهم كي لا أزعجهم أو أحرجهم بتصرفي هذا، ولجأت إلى جريدة كانت بالقرب مني على مقعد شاغر أتفحصها مريدا بها اجتياز بعض الوقت... استوقفني صوت ينادي بقوة: أدركوني ......أدركوني ... ابني يموت. صوت امرأة تتقطع لها الأفئدة، صعقت لهذا الصوت الحزين الذي يبعث بداخلي نوعا من القوة و الشجاعة للذهاب إليها وتفقد حالها و المصيبة، انتفضت من مكاني وأسرعت نحوها فقد كانت غير بعيدة مني وعند وصولي هالني المنظر إذ هي المرأة نفسها من تلك العائلة التي كنت بها أحدق ومعجب، و ابنها ملقا على الأرض يتخبط و الروح تكاد تفارقه فقد تغير لونه وهي تبكي وتضرب نفسها، ما حيلتها وهي عاجزة عن إدراك ولدها أو علاجه أو إسعافه وهو بين الحياة و الموت؟ وصلت أخيرا فوجدت حولها جمع من الناس قد التف بها من سائل ومتحير لا يقوى على الكلام و باك. قالت لهم: اطلبوا الإسعاف أو الشرطة انه يموت يا ناس، لقد ابتلع لسانه للتو وهو يلعب مع أخيه ... كان لها ما طلبت فقد أسرعوا للإسعاف و لرجال الشرطة وأمن المطار، لكن الوقت قصير و الموت لا يؤجل عمله أو يتريث.
    دفعت من كان أمامي وقلت لهم صائحا بلغتي المتكسرة: أفسحوا المجال للطفل كي يتهوى، وهويت على الولد وقلبته على جانبه الأيسر ورفعت يده اليمنى ..... وكما تعلمت في عملي السابق فعلت معه، فهذه الإسعافات الأولية البسيطة رسخت في ذهني منذ زمن رغم مرور الوقت و المحن وعدم تكرارها أو معاودتها.
    قمت معه بحركات خفيفة بعدها وأنا أرتجف خوفا من أن يموت بين يدي وتصبح المصيبة مصيبتان و البلية أكبر. بينما أنا في حالتي هذه إذ بي أسمع شخيرا لهذا الولد أو كحشرجة الموت ساعة الاحتضار... لكن الله أرحم مني ومن هذه الأم و الناس أجمعين وربما دعائي وهذا الجمع جاء بنتيجة، أخرجت بعدها لسانه بسهولة، وما كان من صوت أصدره الطفل سوى حشرجة عادية نتيجة عودة التنفس إلى مساره الطبيعي و انتظامه .
    فتح الولد عينيه بعد إغماءة أو غياب عن هذا العالم و الناس وراعه الموقف فبكى محتضنا أمه بقوة والدمع سيد الموقف هنا، ومن لم يبكي خنق دموعه وجمدها كي لا تفضحه، وهلّل الجميع و حمد كل منهم إلههُ أو الله على سلامته، وأما الأم فنظرت إليّ نظرة لم أعهدها أو أرى مثلها قط، بعينين زرقاوين ذابلتين سيل من محاجرها الدمع، وقالت لي: أشكرك من أعماق القلب ولولا وجودك هنا لكان ابني في تعداد الموتى، والله كدت أجن و أنا أنظر إليها دون حيلة مني وأنت ترى هذا الجمع ما من أحد تقرب وعمل ما صنعته، أنا مدينة لك بحياتي و لك كل الاحترام والشرف ... وجاء من بعيد رجل وكله حيرة من هذا المنظر ينظر إلينا ولا يعلم ما الخطب، استفسر زوجه فأخبرته بالحادثة فكاد أن يغمى عليه وجلس مقبلا الطفل، يحمد الله على سلامته وشكر لي صنيعي، وقربوني من مجلسهم بعد أن انصرف كل إلى حاله، بقيت معهم نتجاذب أطراف الحديث الذي لأكاد أفهم نصفه فقط، وعلمت من بعد أن لهم نفس الرحلة و الطائرة معي. بينما نحن نتحدث و نتعرف على بعضنا البعض جاء عبر مكبر الصوت نداء عهدته يخبرني والمسافرين أن موعد الرحلة لم يبقى عليه إلا عشرون دقيقة فقط.
    نهضت مودعا إياهم شاكرا لهم طيبتهم وضيافتهم وحملت متاعي وسرت حيث الشبابيك التي تفصلنا عن هذا المكان لأجري بها آخر الترتيبات وتوقفت عند أحد الشبابيك لأسلم للعون التذكرة والجواز لختمه. أدرت رأسي فرأيت ابتسامة جميلة و رائعة في وجهي مباشرة قابلتني بها تلك المرأة أم التوأم وزوجها لوح بيده مشيرة لابنها عليَّ وما كان منه إلا أن ابتسم هو الأخر. رفعت يدي و أفرجت عن بسمه خفيفة وحمدت الله على أنني حظيت بشأن وقيمة من هذه العائلة التي أكاد لا أعرف عنها شيء، حالها حل المكان المتجه إليه .
    أكملت ما عليا من إجراءات وسرت نحوى غرفة الانتظار وكلي فرحة وسعادة تدخل بيت أفكاري المنهار من ذكر واقعي و بيئتي، التي لم تدع للحبور موضع قدم لكن زال كل شيء مع رحلتي وتعرفي على هذه الأسرة التي جعلتني فرحا وبانت على محياي، وطرت بها كعصفور بعشه خفق لرؤيت أمه فكاد يسقط ...ابتسامة جعلتني أقابل الدقائق المتبقية هنا مفعم بالحيوية و النشاط.
    لم أنسى أني خليق بيئة جافة لا ينقصها من الكدّر و الحرمان شيء ، تتمتع و شاكلتها بمزايا فريدة قد لا تجدها في موطن آخر وزمان آخر بيئة قدرنا أن نحيا ونموت بها كمن سلبت حريته داخلة زنزانة محكمة الإقفال لا يرى و لا يسمع إلا ما يفرض عليه مسلوب الحرية كمن يقطن بيئتي و بلدي أو قريتي ترى أرجائها الشاسعة الواسعة ولا تقدر على الخروج منها أو مغادرتها، وحين تكبر يتملكك رعب و هول من قحطها و قساوة المعيشة فما بالك بقاطنيها، هم مثلها طبعا، إلا البعض منهم الذين لم تلفحهم شمسها المكدرة، فعاشوا بين الحيرة و حب الهروب و الرضا بالواقع؛ فتتصارع القوتان بداخلهم مرة تفوز هذه ومرة أخرى تفوز الثانية وهكذا دواليك، هي الحياة هكذا عندنا، و الأمر كذلك حين تتجه يوما صوب إدارة ما فلا تكترث لما يحصل لك وربما يزج بك كل هذا في بحر من الغم و الحزن و الشكوك و النوايا التي تجعل عيشتك منقصة فتحاول أن تنتفض كي تخرج كصوص من قشرتك الكلسية فلا تستطيع ويذهب بك خيالك إلى متاهات يعلم الله أولها من آخرها وبدايتها من نهايتها، ولا تستفق حتى ترى العمر قد رحل وقاربت الكبر أو الشيخوخة المبكرة فينزع منك الحب نزعا و الغيرة و الحنان كما ينزع السهم من أحشائك أو عضو من الأعضاء بالقوة دون رحمة .
    غليان و هيجان أفكار تزاحمت عليا دونما إشفاق، وما طردها إلا تحية تلقيتها من الزوج و الزوجة حين اقتربا مني ظنا منهما أنها آخر مرة نلتقي فيها حييتهما وودعتهما و الولدان .
    خرجت من المطار إلى الطائرة كعادتي حاملا حقيبة اليد بعدما سلمت متاعي الآخر لتشحن، وكما جرت العادة سلمت قصاصة بها رقم الرحلة و رقم تسلسلي آخر إلى العون، وصعدت السلم، التقيت بمساعد قبطان الطائرة ومضيفة بالباب يحيون المسافرين، حييتهم وسرت نحوى أحد المقاعد الشاغرة المحاذي للنافذة قرب قمرة القيادة أي درجة أولى، جلست مكاني وتفرغت لحالي ولملمت شتات أفكاري، وتقييمي لما حدث وبدأت أجتر الأحداث، وكيف عوملت من طرف الأسرة فضحكت من نفسي، وأنا المسكين الذي يرثي الزمان لحاله أعامل معاملة بشرية لو قارنتها بواقعي لما انطبقت ولو درستها من كل النواحي لأدركت أني مخطئ أو من كان هو شخص آخر وليد بيئة مغايرة لكن هم أناس ليس بمخابرهم أو حقول تجاربهم كلاب وقطط وبشر بل هي فئران بيضاء لطيفة .
    أناس يعطون القيمة للشخص على حساب شهادته أو مستواه الثقافي أو مكانته العلمية و الخلقية، لا على هندامه و مكانته الاجتماعية وخطبه الرنانة. فأين هم و أين نحن، قد يستحي المرء او المقارن من كشف الزلات والعيوب .
    سمعت مناد يقول: سيد "بلقاسم"... لفظ اسمي بلغة رقيقة جميلة عذبة ما عهدتها من قبل، أدرت رأسي نحو الصوت إذ بالمرأة نفسها أم الولدين تقترب مني أكثر مبتسمة كأني أحد أقاربها أو معارفها سابقا سلمت و ألقت التحية و استسمحتني في الجلوس بقربي، قلت في نفسي ما بالها تركت زوجها وولداها وجاءت بجنبي؟ ما خطبها؟ أهكذا عندهم النساء تعمل دون المراعاة لشعور زوجها أو ضوابطها وحدودها الزوجية. ما همها؟ قلت لها طبعا سيدتي تفضلي وبادرتها بسؤال ربما هو ساذج و جريء. أين زوجك و الولدان؟ قالت لي: إنهما بالمطار وقد حضروا لتوديعي فقط، أنا ذاهبة لبيت والدتي المقيمة في أحد القرى بهولندا و أما إقامتي و أسرتي فهي بضواحي باريس .
    فهمت ويا ليتني لم أفهم لقد تراكمت أفكار بدائية بمخيلتي وذهبت إلى حيث لا يجب أن أكون .....قلت لها: سعدت بمعرفتك سيدتي. وهنا استوقفتني وقالت مبتسمة: أتستطيع مناداتي باسمي فقط سيد "بلقاسم" ... و أتت على ذكر اسمي كأنها متعمدة، وراودتني أشياء زادت من قلقي ، جلوسها معي وتحديقها بي حين كنا في المطار و قاعة الانتظار و الآن قولها هذا . ما قصدها؟ .....ربما هي الأمور عندهم تجري على هذا النحو ونحن لا نعي . حسنا يا " ليتيسيا ". قلتها و أنا مثقل بعض الشيء وخرجت بعناء شديد ... ومن هذا الحوار و الكلام أخذنا نقترب من بعضنا البعض ويتعرف الواحد من على الآخر، على عادته وحياته ومساراته في هذه الدنيا، وهذا ما جعل الساعات الثقيلة على متن الطائرة تمر مسرعة .
    حين كنت أتكلم ألحظت عليها تحديقا و تفتيشا بعينيها صوبي كأنها تريد أن تلتهمني، وتتمعن في هذه الخلقة الواهنة، الخشنة التي اصطبغت بلون بيئتي، أما هي فلا ينقصها من الجمال و القد و الإثارة، بيضاء مائلة إلى الحمرة، شقراء الشعر زرقاء العينين لا تظهر عليها علامات الزواج أو الإنجاب، كأني أمام عذراء لم تطمث وحسناء فاتنة. لكن عندما تقاس ببيئتها و موطنها فهذا ليس بالغريب أو النادر فأمثالها كثر هناك .
    دبت رعشة خفيفة ببدني و أخذت لها نفسا عميقا، ولولا أني أدرت رأسي عنها لحدث ما حدث وحصلت أشياء لا طاقت لي بها و لا أعلم مصيرها . تحايلت على هذه المشاعر المتهيجة و أمسكت أوراقا قد وضعتها قبل مجيئها في مكانها على الطاولة وصرت أقلب صفحاتها لأتحاشى نظراتها المحرقة أو التي تبعث أشعتها لتخترق العقل البليد فتعطل محركاته وتصرفه عن حالته الطبيعية وحاولت أن أقرأ فحوى الأوراق وما جاء فيها . لكن العجز أقرب إليّ من إدراك و فهم ما فيها و كأن الأوراق أصبحت مرآة انعكس وجهها محدقا بي، حاولت جاهدا تجاهلها و النظرات، لكن سهامها كانت أقرب وعطرها تسلل وسكن أنفي كل نفس هو "ليتيسيا" الماثلة أمامي . وكل زفير هو أنين جوارح تبكي و تشتكي ظلمها لهذا الكائن البشري الماثل بجنبي، جوارح تحاول الكلام لتبين وتقول: قم من مكانك لا تظلم المسكينة بخشونتك وباديتك الملتصقة بك أنت لم تخلق لمثل هذا الجمال، أين أنت وأين هي؟
    [/align]
    التعديل الأخير تم بواسطة بلقاسم عفيصه; الساعة 05-11-2009, 21:25.
    [frame="11 98"]لتكون الكلمة صخرة لا تزحزحها اعاصير الحضارة الزائفة.[/frame]
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    المشاركة الأصلية بواسطة بلقاسم عفيصه مشاهدة المشاركة
    بشراهة كأنها آخر مرة سأزورها أو أدخرها ليوم لا رجعة فيه إلى هذه البلاد. لم يطل مكوثي بالخارج كثيرا، ووليت راجعا للمطار أنتظر وأسمع صوتا يخبرني قرب موعد الإقلاع. وفي هذا الوقت المتبقي عمدت إلى تسوية آخر الترتيبات والإجراءات لهذه المرحلة، و انتظرت بقاعة الجلوس أو الانتظار. كم هو الوقت بشحيح هنا، لا يكاد يقترب منا حتى يطير بلا رجعة ... مرت نصف ساعة ولم يبقى إلا القليل وجاء من بعيد صوت كالذي عهدته، لكن هذه المرة بلغة مغايرة، صوت يدعونا للتقرب من الشبابيك لاستكمال الإجراءات الأخيرة وقرب موعد الإقلاع ، حينها علمت أن سفري سيبدأ من الآن، فخفق قلبي مجددا وامتلكني برد ساد جسمي، وذهبت ببالي و وخاطري وفكري إلى هناك حيث لا أعلم سوى أن قوة ساحرة تدفعني إلى هناك. كنت على مقربة من عائلة مسافرة مثلي يتهامس أفرادها فيما بينهم بلغة لا أكاد أجيدها كثيرا، سعداء هم حقا وبين أيديهم أبنائهم أو ولدان لم يتعديا الرابعة من عمرهما، شدني الانتباه إليهما لجمالهما وشدة التقارب بينهما ، وتبين لي بعدها أنهما توأمان التصق بصري لتواصل وتفاهم وتواد بين هذه الاسرة ، تساءلت في نفسي:" هل نحن و أبنائنا كذلك؟ هل منا من يقرب أولاده وزوجته ويلعب معهم ويتحدث إليهم؟ " انتبهت لنفسي أخيرا وصرفت نظري عنهم كي لا أزعجهم أو أحرجهم بتصرفي هذا، ولجأت إلى جريدة كانت بالقرب مني على مقعد شاغر أتفحصها مريدا بها اجتياز بعض الوقت...... استوقفني صوت ينادي بقوة: أدركوني ......أدركوني ... ابني يموت. صوت امرأة تتقطع لها الأفئدة، صعقت لهذا الصوت الحزين الذي يبعث بداخلي نوعا من القوة و الشجاعة للذهاب إليها وتفقد حالها و المصيبة، انتفضت من مكاني وأسرعت نحوها فقد كانت غير بعيدة مني وعند وصولي هالني المنظر إذ هي المرأة نفسها من تلك العائلة التي كنت بها أحدق ومعجب، و ابنها ملقيا على الأرض يتخبط و الروح تكاد تفارقه فقد تغير لونه وهي تبكي وتضرب نفسها، ما حيلتها وهي عاجزة عن إدراك ولدها أو علاجه أو إسعافه وهو بين الحياة و الموت وصلت أخيرا فوجدت حولها جمع من الناس قد التف بها من سائل ومتحير لا يقوى على الكلام و باك. قالت لهم: اطلبوا الإسعاف أو الشرطة انه يموت يا ناس، لقد ابتلع لسانه لتو وهو يلعب مع أخيه ... كان لها ما طلبت فقد أسرعوا للإسعاف و لرجال الشرطة وأمن المطار، لكن الوقت قصير و الموت لا يؤجل عمله أو يتريث.
    دفعت من كان أمامي وقلت لهم صائحا بلغتي المتكسرة: أفسحوا المجال للطفل كي يتهوى، وهويت على الولد وقلبته على جانبه الأيسر ورفعت يده اليمنى ..... كما تعلمت في عملي السابق فعلت معه، فهذه الإسعافات الأولية البسيطة رسخت في ذهني منذ زمن رغم مرور الوقت و المحن وعدم تكرارها أو معاودتها.
    قمت معه بحركات خفيفة بعدها وأنا أرتجف خوفا من أن يموت بين يدي وتصبح المصيبة مصيبتان و البلية أكبر. بينما أنا في حالتي هذه إذ بي أسمع شخيرا لهذا الولد أو كحشرجة الموت ساعة الاحتضار... لكن الله أرحم مني ومن هذه الأم و الناس أجمعين وربما دعائي وهذا الجمع جاء بنتيجة، أخرجت بعدها لسانه بسهولة، وما كان من صوت أصدره الطفل سوى حشرجة عادية نتيجة عودة التنفس إلى مساره الطبيعي و انتظامه .
    فتح الولد عينيه بعد إغماءة أو غياب عن هذا العالم و الناس وراعه الموقف فبكى محتضنا أمه بقوة والدمع سيد الموقف هنا، ومن لم يبكي خنق دموعه وجمدها كي لا تفضحه، وهلّل الجميع و حمد كل منهم إلههُ على سلامته، وأما الأم فنظرت إليّ نظرة لم أعهدها أو أرى مثلها قط، بعينين زرقاوين ذابلتين سيل من محاجرها الدمع، وقالت لي: أشكرك من أعماق القلب ولولا وجودك هنا لكان ابني في تعداد الموتى، والله كدت أجن و أنا أنظر إليها دون حيلة مني وأنت ترى هذا الجمع ما من أحد تقرب وعمل ما صنعته، أنا مدينة لك بحياتي و لك كل الاحترام والشرف ... وجاء من بعيد رجل وكله حيرة من هذا المنظر ينظر إلينا ولا يعلم ما الخطب، استفسر زوجه فأخبرته بالحادثة فكاد أن يغمى عليه وجلس مقبلا الطفل، يحمد الله على سلامته وشكر لي صنيعي، وقربوني من مجلسهم بعد أن انصرف كل إلى حاله، بقيت بينهم نتجاذب أطراف الحديث الذي لأكاد أفهم نصفه فقط، وعلمت من بعد أن لهم نفس الرحلة و الطائرة معي. بينما نحن نتحدث و نتعرف على بعضنا البعض جاء عبر مكبر الصوت نداء عهدته يخبرني والمسافرين أن موعد الرحلة لم يبقى عليه إلا عشرون دقيقة فقط.
    نهضت مودعا إياهم شاكرا لهم طيبتهم وضيافتهم وحملت متاعي وسرت حيث الشبابيك التي تفصلنا عن هذا المكان لأجري بها آخر الترتيبات وتوقفت عند أحد الشبابيك لأسلم للعون التذكرة والجواز لختمه. أدرت رأسي فرأيت ابتسامة جميلة و رائعة في وجهي مباشرة قابلتني بها تلك المرأة أم التوأم وزوجها لوح بيده مشيرة لابنها عليَّ وما كان منه إلا أن ابتسم هو الأخر. رفعت يدي و أفرجت عن بسمه خفيفة وحمدت الله على أنني حظيت بشأن وقيمة من هذه العائلة التي أكاد لا أعرف عنها شيء، حالها حل المكان المتجه إليه .
    أكملت ما عليا من إجراءات وسرت نحوى غرفة الانتظار وكلي فرحة وسعادة تدخل بيت أفكاري المنهار من ذكر واقعي و بيئتي، التي لم تدع للحبور موضع قدم لكن زال كل شيء مع رحلتي وتعرفي على هذه الأسرة التي جعلتني فرحا وبانت على محياي، وطرت بها كعصفور بعشه خفق لرأيت أمه فكاد يسقط ...ابتسامة جعلتني أقابل الدقائق المتبقية هنا مفعم بالحيوية و النشاط.
    لم أنسى أني خليق بيئة جافة لا ينقصها من الكدّر و الحرمان شيء ، تتمتع و شاكلتها بمزايا فريدة قد لا تجدها في موطن آخر وزمان آخر بيئة قدرنا أن نحيا ونموت بها كمن سلبت حريته داخلة زنزانة محكمة الإقفال لا يرى و لا يسمع إلا ما يفرض عليه مسلوب الحرية كمن يقطن بيئتي و بلدي أو قريتي ترى أرجائها الشاسعة الواسعة ولا تقدر على الخروج منها أو مغادرتها وحين تكبر يتملكك رعب و هول من قحطها و قساوة المعيشة فما بالك بقاطنيها، هم مثلها طبعا، إلا البعض منهم الذين لم تلفحهم شمسها المكدرة، فعاشوا بين الحيرة و حب الهروب و الرضا بالواقع؛ فتتصارع القوتان بداخلهم مرة تفوز هذه ومرة تفوز الأخرى وهكذا دواليك، هي الحياة هكذا عندنا، و الأمر كذلك حين تتجه يوما صوب إدارة ما فلا تكترث لما يحصل لك وربما يزج بك كل هذا في بحر من الغم و الحزن و الشكوك و النوايا التي تجعل عيشتك منقصة فتحاول أن تنتفض كي تخرج كصوص من قشرتك الكلسية فلا تستطيع ويذهب بك خيالك إلى متاهات يعلم الله أولها من آخرها وبدايتها من نهايتها، ولا تستفق حتى ترى العمر قد رحل وقاربت الكبر أو الشيخوخة المبكرة فينزع منك الحب نزعا و الغيرة و الحنان كما ينزع السهم من أحشائك أو عضو من الأعضاء بالقوة دون رحمة .
    غليان و هيجان، أفكار تزاحمت عليا دونما إشفاق، وما طردها إلا تحية تلقيتها من الزوج و الزوجة حين اقتربا مني ظنا منهما أنها آخر مرة نلتقي فيها حييتهما وودعتهما و الولدان .
    خرجت من المطار إلى الطائرة كعادتي حاملا حقيبة اليد بعدما سلمت متاعي الآخر لتشحن، وكما جرت العادة سلمت قصاصة بها رقم الرحلة و رقم تسلسلي آخر إلى العون، وصعدت السلم، التقيت بمساعد قبطان الطائرة ومضيفة بالباب يحيون المسافرين، حييتهم وسرت نحوى أحد المقاعد الشاغرة المحاذي للنافذة قرب قمرة القيادة أي درجة أولى، جلست مكاني وتفرغت لحالي ولملمت شتات أفكاري، وتقييمي لما حدث وبدأت أجتر الأحداث، وكيف عوملت من طرف الأسرة فضحكت من نفسي، وأنا المسكين الذي يرثي الزمان لحاله أعامل معاملة بشرية لو قارنتها بواقعي لما انطبقت ولو درستها من كل النواحي لأدركت أني مخطئ أو من كان هو شخص آخر وليد بيئة مغايرة لكن هم أناس ليس بمخابرهم أو حقول تجاربهم كلاب وقطط وبشر بل هي فئران بيضاء لطيفة .
    أناس يعطون القيمة للشخص على حساب شهادته أو مستواه الثقافي أو مكانته العلمية و الخلقية، لا على هندامه و مكانته الاجتماعية وخطبه الرنانة. فأين هم و أين نحن، قد يستحي المرء او المقارن من كشف الزلات والعيوب .
    سمعت مناد يقول: سيد "بلقاسم"... لفظ اسمي بلغة رقيقة جميلة عذبة ما عهدتها من قبل، أدرت رأسي نحو الصوت إذ بالمرأة نفسها أم الولدين تقترب مني أكثر مبتسمة كأني أحد أقاربها أو معارفها سابقا سلمت و ألقت التحية و استسمحتني في الجلوس بقربي، قلت في نفسي ما بالها تركت زوجها وولداها وجاءت بجنبي؟ ما خطبها؟ أهكذا عندهم النساء تعمل دون المراعاة لشعور زوجها أو ضوابطها وحدودها الزوجية. ما همها؟ قلت لها طبعا سيدتي تفضلي وبادرتها بسؤال ربما هو ساذج و جريء. أين زوجك و الولدان؟ قالت لي: إنهما بالمطار وقد حضروا لتوديعي فقط، أنا ذاهبة لبيت والدتي المقيمة في أحد القرى بهولندا و أما إقامتي و أسرتي فهي بضواحي باريس .
    فهمت ويا ليتني لم أفهم لقد تراكمت أفكار بدائية بمخيلتي وذهبت إلى حيث لا يجب أن أكون .....قلت لها: سعدت بمعرفتك سيدتي. وهنا استوقفتني وقالت مبتسمة: أتستطيع مناداتي باسمي فقط سيد "بلقاسم" ... و أتت على ذكر اسمي كأنها متعمدة، وراودتني أشياء زادت من قلقي ، جلوسها معي وتحديقها بي حين كنا في المطار و قاعة الانتظار و الآن قولها هذا . ما قصدها؟ .....ربما هي الأمور عندهم تجري على هذا النحو ونحن لا نعي . حسنا يا " ليتيسيا ". قلتها و أنا مثقل بعض الشيء وخرجت بعناء شديد ... ومن هذا الحوار و الكلام أخذنا نقترب من بعضنا البعض ويتعرف الواحد من على الآخر، على عادته وحياته ومساراته في هذه الدنيا، وهذا ما جعل الساعات الثقيلة على متن الطائرة تمر مسرعة .
    حين كنت أتكلم ألحظت عليها تحديقا و تفتيشا بعينيها صوبي كأنها تريد أن تلتهمني، وتتمعن في هذه الخلقة الواهنة، الخشنة التي اصطبغت بلون بيئتي، أما هي فلا ينقصها من الجمال و القد و الإثارة، بيضاء مائلة إلى الحمرة، شقراء الشعر زرقاء العينين لا تظهر عليها علامات الزواج أو الإنجاب، كأني أمام عذراء لم تطمث وحسناء فاتنة. لكن عندما تقاس ببيئتها و موطنها فهذا ليس بالغريب أو النادر فأمثالها كثر هناك .
    دبت رعشة خفيفة ببدني و أخذت لها نفسا عميقا، ولولا أني أدرت رأسي عنها لحدث ما حدث وحصلت أشياء لا طاقت لي بها و لا أعلم مصيرها . تحايلت على هذه المشاعر المتهيجة و أمسكت أوراقا قد وضعتها قبل مجيئها في مكانها على الطاولة وصرت أقلب صفحاتها لأتحاشى نظراتها المحرقة أو التي تبعث أشعتها لتخترق العقل البليد فتعطل محركاته وتصرفه عن حالته الطبيعية وحاولت أن أقرأ فحوى الأوراق وما جاء فيها . لكن العجز أقرب إليّ من إدراك و فهم ما فيها و كأن الأوراق أصبحت مرآة انعكس وجهها محدقا بي، حاولت جاهدا تجاهلها و النظرات، لكن سهامها كانت أقرب وعطرها تسلل وسكن أنفي كل نفس هو "ليتيسيا" الماثلة أمامي . وكل زفير هو أنين جوارح تبكي و تشتكي ظلمها لهذا الكائن البشري الماثل بجنبي، جوارح تحاول الكلام لتبين وتقول: قم من مكانك لا تظلم المسكينة بخشونتك وباديتك الملتصقة بك أنت لم تخلق لمثل هذا الجمال، أين أنت وأين هي؟ .. يتبع


    مشروع رواية جذابة بسردها الممتع ولغتها النقية
    تتضح خيوطها رويدا رويدا
    نتابع استاذنا الكريم بلقاسم
    مودتي





    ملحوظة
    هناك بعض هنات املائية
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • بلقاسم عفيصه
      أديب وكاتب
      • 16-03-2008
      • 60

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
      مشروع رواية جذابة بسردها الممتع ولغتها النقية
      تتضح خيوطها رويدا رويدا
      نتابع استاذنا الكريم بلقاسم
      مودتي





      ملحوظة
      هناك بعض هنات املائية
      جزيل الشكر اختي الفاضلة. واشكرك على المرور الطيب واتمنى ان تنيري دربي وتشيري على الهنات كي اتدارك الاخطاء التي انا احاول ان استخرجها الان. بارك الله فيك
      التعديل الأخير تم بواسطة بلقاسم عفيصه; الساعة 05-11-2009, 21:26.
      [frame="11 98"]لتكون الكلمة صخرة لا تزحزحها اعاصير الحضارة الزائفة.[/frame]

      تعليق

      يعمل...
      X