يُعرف الإسلام بنوع راق من السعادة والطمأنينة وراحة البال والثقة بالنفس يسمّى "السكينة" والله سبحانه يضمنها لمعتنقي الدين الحنيف شرعة و منهاجا: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم"(1) . ولكنّ حال العرب، وهم روّاد التديّن بالإسلام، لا يتّسم اليوم بذلك النوع من الهدوء الذي يفترض أن يكون من شيمهم سواء كأثر أوكمقدّمة للإيمان أو للإثنين معا. فغليان الطباع وهيجان الحمية وتشنّج الأعصاب صارت من علامات مميّزة للمؤمن المعاصر. وإن كان لا بدّ أن تكون هنالك سكينة في الصدور وطمأنينة في القلوب فهي لا تظهر لدى كافة المسلمين، بل عند ميسوري الحال (إخواننا في الخليج العربي مثلا) أو عند المستضعفين من الخلق (في أفغانستان وفي باكستان وغيرها). لأنّ النمط الأوّل اشتراها بالمال، والنمط الثاني يقاوم افتقاره للمال بفضلها.
الرجل رضي إعالة المرأة له ونسي الأمانة
الرجل رضي إعالة المرأة له ونسي الأمانة
وليس من السهولة بمكان أن يرمي المرء، على عاتق ساستنا وحكّامنا، مسؤولية القصور في وظيفة الإسعاد لدى المواطن وما انجرّ عنه من بخل في باب توفير أسباب و مسبّبات السعادة الروحية والمعنوية والمادية، بدعوى أنّهم لا يحرصون على تطبيق الإسلام شرعة ومنهاجا في أوطانهم. لقد وقع قبل عقود اعتماد هذا الطرح ضمن شمّاعة "دولة الخلافة" من طرف الأصولية الإخوانية بالخصوص، وقد ثبتت عدم ملاءمته للواقع المعاصر، الذي يتّسم بكثير من التعقيد وبتشابك المصالح والأهداف والغايات.
وليس من السهل أيضا تناول المسألة في المجال السياسي، لا الإسلامي ولا العلماني، قبل أن يتمّ وضعها في إطارها الطبيعي والأصلي: إنّ السعادة لا تعالج بالسياسي وإنّما بما هو تحت السياسي من تربية وصحافة وأدب وفنّ. وفي ضوء هذه المسلّمة نتساءل: ما هي الصورة التي ترسمها لنا مناهج التعليم والصحف وبرامج الإذاعة والتلفزيون والروايات والمسرحيات والأفلام وسائر الإنتاج الرمزي، عن واقع الإنسان العربي وعن أحلامه وعن تطلّعاته وعن آفاقه؟
إنّ صورة الإنسان العربي قاتمة في عديد الأوجه ومختلف الأبعاد التي يطول شرحها. إلاّ أنه يمكن حصر هذه الصورة في حيّز تظهر فيه القتامة بامتياز، وهو الحيّز من الحياة الذي تجرّأت المرأة على اقتحامه وتقاسمه مع الرجل بنيّة مشاركته فيه بنفس الحظوظ. فالأنثى صارت تشارك الذكر في كثير من المهن وفي عدد لا يستهان به من المراتب في الوظيفة وفي بعض مسؤوليات السياسة، ونضال المجتمع بهذا الاتجاه ساري المفعول بلا رجعة، إلاّ أنّي لا أخال قوانين الأسرة ( أولاها "مجلة الأحوال الشخصية في تونس لسنة 1956، وآخرها قانون الأسرة في البحرين في شهر حزيران 2009) جاءت لتصدّ الرجل عن واجباته في شؤون الحياة العامة بأيّ عنوان كان، لا بعنوان ترك المجال للمرأة، ولا بعنوان التفرّغ لمهام أخرى غير التي كانت بعهدتة منذ الأزل.
والغريب في الأمر أنّ واقع الرجل العربي يتشكّل على نحو لا يتخيّله عاقل. لقد استسلم بمجرّد أن أعلنت المرأة عن اقتحامها للمجال العمومي، واتّخذ ذلك ذريعة للتخلّي عن دوره في قيادة الرأي في الشأن الحضاري إلى أن انتهى به الأمر إلى الخنوع أمام قرارات كونية مصيرية (في نطاق العولمة مثلا) تصدر عن جماعات وجمعيات ومجتمعات لا يزال الرجل سيد الموقف فيها من حيث أحقّيته التاريخية والطبيعية والمهاراتية، وهي كتل ومجموعات لا تنفي تواجد المرأة فيها أو حولها، لما للمرأة من قدرات فضّلها الله بها على الرجل في أوجه من الحياة مثلما فضّله هو عليها في أوجه أخرى:"الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض" (2).
والغريب في الأمر أنّ واقع الرجل العربي يتشكّل على نحو لا يتخيّله عاقل. لقد استسلم بمجرّد أن أعلنت المرأة عن اقتحامها للمجال العمومي، واتّخذ ذلك ذريعة للتخلّي عن دوره في قيادة الرأي في الشأن الحضاري إلى أن انتهى به الأمر إلى الخنوع أمام قرارات كونية مصيرية (في نطاق العولمة مثلا) تصدر عن جماعات وجمعيات ومجتمعات لا يزال الرجل سيد الموقف فيها من حيث أحقّيته التاريخية والطبيعية والمهاراتية، وهي كتل ومجموعات لا تنفي تواجد المرأة فيها أو حولها، لما للمرأة من قدرات فضّلها الله بها على الرجل في أوجه من الحياة مثلما فضّله هو عليها في أوجه أخرى:"الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض" (2).
و لتفادي ذلك، كان على مجتمعاتنا أن لا تخطأ فتميل إلى الاعتقاد أنّ المجتمعات التي سبقتنا في مجال تحرّر المرأة أهل بالاقتداء والإتباع، فقط لأنّ الأنثى فيها اعتلت مناصب الريادة في كافة المجالات وساهمت بذلك في اطّراد النموّ والازدهار.هذا السبب وجيه ولا غبار على شرعيته، ولكنّ السبب الثاني والذي لم تعره مجتمعاتنا اهتماما هو أنّ،بالإضافة إلى ذلك الوجه المشرف للأنثى في بلدان مثل الولايات المتحدة وأوروبا وجنوب شرق آسيا وكثير من بلاد أمريكا اللاّتينية، فإنّ الجنس الرجالي في تلكم المجتمعات لم يستقيل عن دوره الريادي في ما تكوّنت لديه فيه عادة الريادة، مثل السياسة والتربية العامة واستراتيجيات التقدّم.
ففي تونس أو في مصر أو في البحرين أو في ليبيا أو في غيرها، ترى الرجل يعمل ويكدّ وربما يكدّس المال تبعا لذلك، ونرى المرأة ماضية قدما في توجيه جهود وأموال زوجها، بالإضافة إلى جهودها ومالها، وجهة تقليدية ونسائية صرفة، لا بخصوص تدبير شؤون البيت من تنميق وتزيين واقتناء اللوازم وإعداد المأكل والمشرب وتوفير اللباس والادّخار من أجل شراء العربة وتنظيم السياحة فحسب(وهذا أمر عادي) ولكن أيضا، وهنا يكمن الخطر، بخصوص كافة مجالات التربية العامة، والتي تشمل حتى تربية الصغار،خاصة في ما يتعلّق بالتّأقلم مع البيئة الثالثة (الشارع)، أي في مجالات للرجل سبق تاريخي في الإلمام بأسرارها تهدف إلى الإرشاد العام و أخذ القرارات الحاسمة التي من شأنها أن تتحوّل إلى مشاريع وبرامج وخطط سياسية، ونعني بذلك مجالات التعليم والإعلام و الخدمات العمومية والجمعياتية والسياسية. ولمّا رضي الرّجل، بعنوان الكسل أو الاعتداد بالنفس إلى حد نكران قيمة الجهد أو الإفراط في التّأنسن،بتوجيه المرأة له حتى في ميادين يحذق التعامل فيها، بحكم الفطرة، بطريقة أفضل منها،وبالتوازي مع اكتساح المرأة الشرعي والمشروع للحياة العامة، لم يمدّ لها يد المساعدة بحرصه على الاستدامة في حذق أدواره المألوفة مع نفس الحرص على أن يسود الحياة العامة توازن جديد بحكم إعادة توزيع الأدوار بينه وبينها،بل ترك لها المجال واستقال.
وانعدام التوازن صار سيّد الموقف طالما أنّ، باضطلاعها بدورها الجديد، لم تفرّط المرأة في دورها في البيت، بينما باستقالته، فرّط الرجل في دوره الأساسي كمرشد في عموميات الأمور وفي فلسفات السلوك . فلا هو غيّر نظرته للبيت (المشترك) وبقي فيه معلنا مشاركته التلقائية وملتزما بها، ولا هو مكث بـ"بيته" الريادي ليتفرّغ لما هو أشمل من الشأن اليومي والمادي البحت، وكذلك ليشعّ بذلك طبعا على بيته بما فيه الخير والصلاح. وكانت النتيجة أن هزم نفسه في عقر داره فانتشلته، بنهم غير مسبق، المقاهي والملاهي والنوادي وملاعب الكرة.
أمّا المرأة فوجدت نفسها في عالم جديد يموّه فيه الرجل بترحابه لها والحال أنّها ستقتحمه بمهارات جديدة يدرّبها على اكتسابها"شريكها" الرجل، فيفعل هذا الأخير صنيعه ولكن بامتعاض وبروح لا تخلو من الطمع. وما كان لها، والحالة تلك، إلاّ أن تقتحم مجالات مستحدثة (بالنسبة لها) لا فقط بتلك المهارات المكتسبة والتكنوقراطية، ولكن أيضا - وهذا خطير - بمهاراتها الفطرية والأزلية في جوانب تركها الرجل،بحكم استقالته، مهملة ومستحقّة دوما لمهارات ذكورية. وإن دلّت مؤشرات النموّ والتقدّم على شيء في ميادين مثل التعلّم والتعليم والتمريض والطب والصيدلة وغيرها من الميادين الحيوية التي اقتحمتها المرأة بكلّ حماسة، فتدلّ على أنّ خصوصيات الأنوثة قد لعبت، إلى جانب القدرات التقنية المكتسبة حديثا من لدن الأنثى، دورا أساسيا كان بالأمس مقصورا على البيت، وساهمت بذلك، إلى جانب الرجل، في ذلك النموّ والتقدّم.
إلاّ أنّ الفشل الذريع،على الصعيد الأعلى والأرقى والأشمل، صعيد الفلسفة والتخطيط العام، لا للسياسة (فهذا موجود وهو تخطيط ضروري ولكنه غير كاف)، وإنّما للوجود وللحياة، فيدلّ على أنّ خصوصيات الأنوثة، لئن كانت كافية في تغطية حاجيات البيت (رغم تخلّي الرجل عن مساعدة زوجته في شؤون المنزل)، ولئن كانت كافية لإعطاء الإضافة في الميادين العمومية، فلقد وقع الزجّ بها في تغطّية يائسة لعين الشمس بالغربال (3) لمّا أراد المجتمع من المرأة،بعنوان أحقّيتها لامتلاك ذلك، أن تضطلع بمهمّة العضو في الأحزاب السياسية والنائبة في البرلمان والمسئول السامي وغيرها من المناصب الهامة. فهي لم تكن قادرة على الإتيان بالإضافة المرجوّة في هذا المضمار. ولم لا ؟ لا لأنّ عدم القدرة من نصيبها أو من قدرها أو في تكوينها، بل لأنّ الرجل(ومن ورائه المجتمع ككلّ طبعا) أجبرها، باستقالته، على أن تلعب في الوقت نفسه دورها الجديد وكذلك دوره، نيابة عنه. مثلما كان قد أجبرها على القيام بالشؤون المنزلية بمفردها. وكان هذا وما يزال أمرا مستحيلا. وسبب الاستحالة واضح: فاقد الشيء لا يعطيه،واليد الواحدة لا تصفّق، وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقال.
فشل المرأة من صنع العقلية التواكلية
فشل المرأة من صنع العقلية التواكلية
فلم يكن بإمكان المرأة أن تفعل شيئا يذكر في مضمار العلاقات و القرارات الكبرى من دون أن يكون الرجل ممارسا فعليّا لحقوقه وواجباته في الإرشاد العام، ومن دون أن يتمسّك فقط (كما هو الحال منذ اقتحمت المرأة الحياة العامة) بدور الـ "كومبارس"، لا يبدي من الحضور الذهني والعقلي سوى ما نجحت المرأة في تدريبه عليه، ألا وهو الارتياح لقراراتها في التدبير المنزلي. ورضاء الرجل مفيد لو اقتصر أمر الارتياح على المجال المنزلي. لكن لنتصوّر البعد الكارثي الذي أخذته المسألة لمّا نعلم أنّ ارتياح "ربّ البيت" لتدابير ربّة البيت أخذ في التوسّع انطلاقا من المنزل حتى صار انصياعا واستسلاما في كلّ أرجاء الحياة العامة. فلأن التّدابير التي تحذق اتخاذها المرأة والتي يرتاح لها الرجل تنظيمية وتفصيلية وترتيبية بالأساس، فهي جدّ هامّة لسير الحياة اليومية ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة. ولكن بسبب غياب تدابير عادة ما يحذق اتخاذها الرجل وترتاح لها المرأة،لا تستوي كفّتا المجتمع. ويمكن إدراك مدى خطورة هذا الانخرام في التوازن لمّا نفهم طبيعة التدابير الرجولية الغائبة. ما من شك أنّها جدّ هامة لسير الحياة في أبعادها الأعمق ممّا هو يومي، لأنّها تخطيطية ومنهجية ومعرفية وتكتسي من الوحدة والشمولية ما يضمن الحياة الكريمة للأجيال على امتداد العقود. وما من شك أنّها مكمّلة للبعد اليومي الذي تبدع فيه الأنثى دون سواها.
و في البعض الآخر من المجتمعات العربية أين ما زال تحرير المرأة في بدايته وأين ما زالت سياسات وإجراءات التنمية تخضع في معظمها لقرارات الرجل، لئن ليست المرأة،بالتالي،هي التي تسبّبت في أن يغمض "شريكها" عينيه عن مسائل التقدّم الكبرى(مثلما جرى في بلاد عربية أخرى تحتلّ صدارة الحركة النسوائية)،فإنّ العولمة هي التي قد تكون فعلت لديه نفس المفعول. ويبرز هذا في انسياق الرجل غير المسبوق إلى فلسفة اللذائذ والمتعة. وليس ذلك بعزيز على تيّار عالمي جارف طالما أنّه وضع النساء (والأطفال) تحت طائلته في ما هو دعم لما يسمّى بـ"تجارة الجنس"(4) أو عل الأقل، وجه من وجوهها الخفية . فكيف لا ينجح أيضا في ضمّ الرجال إلى امبراطوريته خاصة أنّ جنس الذكور فرّط لهذا التيار في أفضل شريكين له :النساء والأطفال؟ لقد صار للرّجل العربي من هنا فصاعدا،و بصنع "يديه"، اثنان من الجلادين : المرأة وما يفسد المرأة. ولم يكن ذلك ممكنا لو لولا تمادي بذرة العقلية التواكلية في توليد ألاف السلوكيات السالبة لدى الرجل ولدى المرأة معًا.
هكذا صار المجتمع العربي، كلّ المجتمع، بيتا موسّعا، المرأة ربّته والرجل شريك لها في كونه فقط عون تنفيذ لبرنامج عام للخدمات قد يكون مجيء العولمة تزكّية له وقد تكون هي راعية له من أساسه. وما من شك أنّ سكوت الذكر على وضعه الجديد،وعدم التشهير بعيوب المعادلة الجديدة، مأتاه التعويض المادّي والرفاهي الذي يتحصّل عليه مقابل سكوته. و لكن في الحقيقة، من أين للإنسان العربي اليوم أن يكون مغتبطا ومطمئنّا لمّا يكون الشطر الرجالي (والرجولي) لشخصيته،هكذا، في حالة انفصام عن الجسم الكامل؟ وكيف يكون الرجل الواعي بهذا المأزق قادرا على توليد سلوك يكون أبلغ من التشنّج والتوتّر والنرفزة والغيظ وحتّى التّهوّر؟ لا ليأخذ حقّ غيره كما يخطط لذلك غير الواعين والماديين من الرجال، وإنما ليمنع الآخرين، رجالا ونساء، من التمادي في اغتصاب وحدة وجوده الطبيعية والتي يزكّيها أيضا جانب هام من التاريخ.
الإنسان الخام صانع الحرية
الإنسان الخام صانع الحرية
وفي باب الحلول لا بدّ بادئ ذي بدء أن نحذّر المواطن العربي من تلك السعادة المزيفة التي تسوّقها له أبواق الدعاية وفضائياتها. فهي دعاية تقدّم نفسها للسامعين وللمشاهدين على أنها وعظ ديني وإرشاد موفّر للسكينة (والطمأنينة) ومنمّق لصورتها،و تتعاطى أسلوب التمويه لإقناعهم أنّها محصول حاصل وجب أن يحظى لديهم بمرتبة المفخرة. في حين أنّ السكينة ليست كذلك، بل هي مكافأة سيحظى بها كلّ مسلم عمل وكدّ وكدح حسب ما أوصاه به القرآن والسنّة، ويحبذا لو بادرت هيئات التنشيط الديني في المجال السمعي والبصري باستدراج المؤمنين لوضع الأصبع على مكمن الدّاء في ثقافتهم، عوضا عن الاستمرار، هكذا في تسويق نوع من الاعتداد (بالسكينة والطمأنينة) الذي لا يطعم من جوع ولا يؤمّن من خوف. يحبذا لو كفّت تلك الدعاية على أن تكون حجابا المراد منه تكبيل العقل العربي، ونقابا يوجّه نظر المؤمن إلى حيث لا يرى أمّ المشكلات بأمّ عينه ويكمّم فاه عن النطق بكلام في الرأي السديد.
وهنا يكمن الكبح لدى المواطن العربي بخصوص حريات التفكير والتعبير والصحافة. وهو كبح ذاتي لدى الإنسان قبل أن يكون كبحا مؤسساتيا، أخطر وأدهى وأمرّ ممّا يعبّر عنه بالـ"الصنصرة" الذاتية ( الحجب الذاتي في الصحافة). وقد يخفى على القارئ الكريم أنّ هذا التشخيص الأخير للوباء الذي ينخر مؤسسات الفكر والرّأي لا يكفي، في حدّ ذاته، للتعبيرعن أصل مشكلة الحرية. وقد رأينا أنفا أنّ الخلل موجود في الإنسان الخام (بذكره وأنثاه ومن خلال العلاقة بينهما) وليس في الإنسان المحترف (المعلّم أو الصحفي). وما بالك لمّا تعلن بعض الأنظمة العربية الحاكمة الحجب الذاتي مشكلة، فيغمض رموز الصحافة والإعلام أعينهم عن العلامة،في المقابل، ويديرون ظهورهم للمشكل الأصلي عوضا عن محاولتهم معالجته مباشرة مع الرأي العام، باتجاه تشخيص العلل لدى ذلك الإنسان الخام. إنهم يتّكلون، مثلما هم فاعلون منذ عقود، على السلطة الحاكمة إمّا كوسيط (ليس بيده الحل) وإمّا ككبش فداء، وهذه خيانة للضمير العربي وتملّق له، قبل أن تكون مساندة فعلية له في سعيه نحو اكتساب حريتي التفكير والتعبير، الضامنتين لحرية الصحافة وما شابهها من مؤسسات التعبير.
وبغية التخلّص إلى بعض المسالك التي قد توصل المواطن العربي والمسلم إلى الترقّي إلى مستوى السعادة، وهو الذي استهلّينا به هذه الورقة،نتساءل: ماذا عسى أن يكون الحلّ الذي سيراه العربيّ لو أزيح الحجاب وأميط اللثام وكشف النقاب؟ وكيف ستتراءى له جزئيات الحلّ بعد أن تخلّص من رؤية جزئيات المشكلات؟ بالتأكيد سيرى "الآخر" (5) في كافة أبعاده، الفردية منها والعائلية، الأهلية منها والمحلية،الإنسانية منها والكونية. سيرى أنّ في المجتمعات المتقدّمة لم تعد السعادة مأتاها صرف الجنيه أو الدولار أو اليورو في اقتناء الأغراض أثناء التسوّق، أو في لعب القمار في الملاهي، وإنما في صرف المال على الآخر لمساعدة فقير أو لمؤازرة معوز أو لاشتراء ما يمكن أن يقوّي أواصر الصداقة أو الأخوّة أو الرّحم. تقول الكاتبة الأمريكية جرتشن روبن صاحبة كتاب "خمسة طرق لمعرفة ونستن تشرتشل" وهي التي تعتزم نشر كتاب ينتظره الكثيرون("مشروع السعادة") : "كان أوّل ما اكتشفت من الحقائق أنّ من أجل التفكير في السعادة، وجب عليك التفكير في الشعور بالراحة،و في الشعور بالقلق، وفي الشعور بالحقّ، في جوّ من النماء. نحن نزداد سعادة بفضل الإحساس بأننا نتعلّم، ننمو،ونرى التغيير نحو الأفضل."(6).
في الحقيقة لفت انتباهي عنصران اثنان في ذلك التمشّي الغربي الجديد، لأهميتهما في موضوعنا.أوّلا،فكرة تحويل وجهة المال من البوتقة المادية إلى عالم المعنى والقلب والإحساس والروح.ثانيا، فكرة أنّ السعادة لا تنفي القلق والحرمان، فضلا عن كونها إحساس بالنموّ نحو الأفضل.والمغزى،بالنسبة لنا كعرب ومسلمين، من الرؤيا الجديدة للسعادة عند هؤلاء الغربيين هي: لئن اعتبرنا تلك الرؤيا (تحويل وجهة المال إلى مسلك التعايش مع الآخر) جديرة بأن نقتدي بها رغم الفلسفة المادية التي يعرف بها منظروها ومتّبعوها، فما بالك لو عدنا إلى تفكيرنا العربي الأصيل الذي لم يقتصر أبدا على المادة، و أبدعنا سبلا كفيلة بتقوية الروابط بين الذكر والأنثى، بين الصغير والكبير، وبين الغني والفقير؟ ما من شك أننا لو ارتقينا بأنفسنا،هكذا، إلى مستوى من الغنى الحضاري يليق بنا، لأدركنا أوّلا أنّ بحكم ثقافتنا المتوازنة بين الروحي والمادي، نحن مطالبون بالتوقّف عن اعتبار المرأة بضاعة تشترى(بذلك المال الذي لم يوجّه وجهة صحيحة،أيضا اقتداء بالغرب). وإن تحقّق هذا فسوف يتحرّر الرجل والمرأة معا. ثم لأدركنا ثانيا أننا مطالبون بالتحويل نحو الآخر وليس نحو وسائل الترفيه والرفاهة (كما هو معمول به اليوم)، لا المال فقط بل الجهد أيضا. وما الجهد إلاّ عنوان لا بدّ من دعمه بما تشتمل عليه ثقافتنا المعاصرة من قيم ومفاهيم ذات المناهل الغنية والمتعددة، يقوم من خلالها الدين الحنيف بالدور المناط بعهدة معتنقيه، و يضطلع من خلالها العلم بمهام خاصة به، ويستنير منها العقل وينير، وتتغذّى منها الروح وتستديم.
في الختام أعني أن ليست السكينة، التي يريدها لنا الدين الحقّ، هبة لمن لا يستحقّها ولا يعمل من أجلها بالدرهم والجهد. إنما هي، مثل معظم القيم والمفاهيم من صدقة وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان وما يضاهيها أو يكمّلها من عبادات وفرائض، وكذلك ما يضاهيها أو يكمّلها من حريات أساسية وحقوق الإنسان وحقوق مدنية،وأيضا ما تستند إليه ويستند إليها من علوم ومعارف وتجارب، لا يمكن تحويلها وجهة الذات ووجهة الآخر(المكمّل للذات)، ولا يمكن تصريفها، هكذا، إلى واقع وحقّ، إلاّ بالسهر والحمّى والعرق. إذ ليس ديننا مادة للعبادة على الورق. والله أعلم.
محمد الحمّار
المراجع:
(1) سورة الفتح 48.
(2) سورة النساء 34.
(3) مثل شعبي عربي.
(4) مقال "عولمة صناعات الجنس" واحد من المآثرالتي تفضح تورّط العولمة في شيوع الفساد.
« La mondialisation des industries du sexe » de Pascale
Gamirand ; http://sisyphe.org/spip.php?article1354
(5) أطلقنا إسما على داء عدم احترام الآخر التي تتسم به النسخة المعاصرة لثقافتنا. وهو بالعربية " مرض رفض الآخر"(م.ر.ا)
Refusing Alter (SRA)
تعليق