السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مَنْ حَركَ قطعة الجُبنْ بقلم : أ. حسام شحادة
هذا وتَحدّث في تلك القضية العالم الأمريكي الشهير أ.د. جون كوتر، في كتابه المعروف [Leading Change]،
وكذلك سنسر جونسون في كتابة الشهير [ Who Moved My Cheese] ،
وقد عالج جونسون:
في كتابه مَنْ حَرَك قطعة الجُبن، فكرة التغيير من خلال قصةٍ من الطريف والمُفيد معاً أن نتأمّل فيها ملياً: حيثُ تَسردُ القصة، حكاية قزمان وفأران، كانوا موجودين في متاهةٍ، يَحلُمون بالعثور على قطعة من الجبن لينعموا بها، فاتّخذ كلُّ زوجٍ منهم طريقًهُ في البحث داخلَ المتاهة عن حُلمِه، فاتّبع كلٌّ منهم منهجيته في البحث، وبالرغمِ من اختلاف منهج كل فريق، وصلوا جميعاً إلى قطعة الجبن فكان ذلك بِمثابِة انتصار عظيم لهم.
بدأ كلُّ فردٍ منهم يضع خِطَطَهُ وأحلامه للمُستقبل، في بادئ الأمر كان الجميع ينهضوا مُبَكرين سالكين الطريق ذاته إلى الجُبن في روتين دوري مُمل، وبعد فترة لاحظ الفأران أن الجبن يتناقص فقررا ترك المكان؛! ....
بينما واصل القزمان سلوكهم اليومي بتثاقلٍ وتَكاسلٍ يزدادُ يوماً بعد يوم، وذات يوم نهض القزمان مُتكاسلان من نومهما وتَوجها إلى قطعةِ الجبن فلم يَجدَاها في المكان، وبدءا يَصرخان ويولولان [ مَنْ حَرك قطعة الجبن]،
وقررا أن يبدءا بالحفرِ والبحث عنها لكنهما لم يَعثرا على شيء؛ فزاد صراخهما [ مَنْ حرك قطعة الجبن]، وبقيا على هذه الحال إلى أن شعرا بالإعياء الشديد، فاقترح أحدهم:
أن يغادرا المكان والبدء في البحث عن قطعة جُبن أخرى، فلم يتفق معه القزم الأخر، كونه ألِفَ المكان وعرفه وكان من الصعب عليه أن يُغيِّرَهُ، فَقرَّر القزمُ الأولُ أن يُغادر، وأخذ طريقه في المتاهةِ وبينما هو سائر في دهاليز المتاهة كان رأسه مشغولاً في التفكير كيف أنه لم يستطيع ملاحظة تناقص الجبن يوم بعد يوم؟!،
وكيف لم يلاحظ ذلك العفن الذي طرأ عليها شيئاً فشيء؟!.
كان القزم قد اجتاز مسافةً في عتمةِ المتاهة حيث خيّمتْ الظلمةُ والصمتُ المُطبقُ على المكان؛ فانتابه بعضُ الخوفِ في بادئ الأمر؛ لكنه قرر أن يُكمل طريقه عبر المتاهة وأخذ يَحلم بأنه وجد قطعة جبن، شعر بالسعادة لممارسة لعبة الحلم وتصور الهدف قبل بلوغه بالرغم من أنه لم يكن يملك قطعة جبن واحدة، وبعد عدة محاولات وصل إلى قطعة جُبن فأكل منها فرحاً، وأخذ قِسطاً قليلاً من الراحة، ثم تركها ومضى في البحث عن قطعة أخرى.
وفي طريقه تذكّر صديقه القزم الآخر فقرّرَ أن يكتب له إرشادات على جدرانِ المتاهةِ لعلَّ صديقه إذا ما قرَّرَ خوض المغامرة أن يَهتدي بها، فكتب: لكي لا تفنى ابحث عن قطعة جبن جديدة. وفي مَوضِعٍ ثانٍِ كتب: لكي تعثر على قطعة جبن جديدة لابدّ أن تتخلص من جُبنك القديم. وفي مَوضِعٍ ثالثٍ كتب: اكسر حاجز الخوف واستمتع بالمغامرة لأنك حتماً ستجد ما هو أفضل مما أنت عليه الآن. وفي موضعٍ رابعٍ كتب: توقع التَغيير فإن الجبن يتحرك باستمرار. كان في كلِّ مرّة يشعرُ بسعادةٍ أكبر فهو يترك قيمة خلفه ويمضي للأمام باحثاً عن هدفِهِ. وظلّ هكذا إلى أن وصلَ في نهايةِ المطاف إلى جَبَلٍ من الجُبنِ المتنوع ففرح كثيراً به، لكنه تفاجأ عندما شاهد الفأران جالسان يأكلان من الجبن وينعما به، حينها تذكّر صديقه الذي قاوم التغيير.
إن القصة أعلاه بقدر ما تؤسس لفكرةِ المغامرة والبحث عن التغيير الدائم والمستمر في حياة الفرد والمؤسسة وبالتالي المجتمع والدولة، لأن الحياة لا تعود القهقرى، بقدر ما تُحذّر من فكرةِ مقاومةِ التغيير وهنا مربط الفرس في هذه المقالة. حيثُ أن القصة أعلاه انتهت لفكرة مفادها: لا تجبر الناس على التَغَيُرْ فَمََّنْ لم يَتغير من تلقاءِ نفسهِ؛ فلن يتغير أبداً، كونه سَّيظل رهين الخوف والقلق والتوتر.
ومن هنا كان لابدّ من قراءةِ سسيوكولجية لواقع ميكانزمات الدفاع التي تجعل الناس تُقاوم عملية التغيير. وقبل الخوض في مغامرة التحليل السسيوكولجي لميكانزمات الدفاع، علينا أن نتذكر حكمةَ التغيير، حيث تكمن الحكمة ونفاذ البصيرة في قرار التغيير، من زاوية الإدراك الواعي للتغَيُرات الثقافية، الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية في محيط المجتمع، كما أنّه يستمد حكمته في فهم التغيرات المختلفة في الأدوار والمُستجدات المتنوعة التي تطرأ على البناء المؤسسي، ولهذا نُسمي قرار التغيير في علم الإدارة المُبدعة بقرار الحماية من الشيخوخة وإعادة تجديد مرحلة الشباب في مؤسسات المجتمع. إن عمليات التغيير بقدر ما تأخذ وقتاً في التفكير والتحضير، بقدر ما تعاني من فترة ما بعد التغيير، نظراً لعدم رؤية الحكمة وإدراكها الواعي. ومن هنا تبرز على السطح العديد من ردود الأفعال المُقاومة للتغيير والتي تتجلّى في ردود أفعال لها دوافعها النفسية والاجتماعية، حيثُ سوف أركّز الجزء الأخير من مقالي هذا عليها. مُستعيناً بخبراتي في المجال النفس اجتماعي، وكذلك الإداري، وذلك بقصد تسليط الضوء على فكرة التغيير ومُقاومته في مؤسسات المجتمع على اختلاف أنماطها وأنواعها، بدون اللجوء لمُقارنات مع الدول المُتقدمة، فعلى ما يبدو أننا مجتمعات لا تتعلم من خلال تجارب الآخرين بقدر ما يمكن أن نتعلم من رؤية صورتنا في المرآة.
فلا يخفى على أحد الكم الهائل لِتَجارب التغيير المَطروحة في سوق الفكر، كقصص نجاح لقطاعات متنوعة سواء في شركات أو مؤسسات أو دول، وعلى الرغم من هذا ما زال نظامنا العربي بكلِّ أجزائه يعاني فكرة فهم وهضم عمليات التغيير الجوهرية، بينما فيما يتعلق بفكرة التغيير في الشكل أو ما أُسميه الأدوات المادية المساندة للشخصية نجد أن التغيير يصل إلى حد المسخ في تغيير صورة الذات الخارجية من فأر إلى أسد. لذلك سوف أركز على فكرة المرآة أو العاكس الذي يعكس صورة ردود الأفعال المُقاومة للتغيير؛ لعلّ هذه المرآة تجعلُ الجيش المُقاوم للتغيير يفهم ذاته بشكلٍ أكثر وضوحاً وأكثر عبقرية كي يصفو، فبدون الصفاء الداخلي والتأمل في الذات سوف نضطر نحن العرب إلى تأسيس علم جديد وهو علم إدارة الصراع بين أنصار التغيير وأنصار مقاومة التغيير وفي نهاية المطاف لن نُنتج سوى شيء ممسوخ كونه مُنتج يسير ضد سيرورة الحياة كما أبدعها الله : مُتغيرة مُتَجَدِّدة. وهنا أتذكّر المثل الصيني القائل [ إنك لا تنزل النهر ذاته مرتين]، حيث مياه النهر متجدِّدة، وفي هذا إشارة واضحة للتغيير الدائم من حولنا، حتى ما نظنُّه ثابت فهو مُتغيّر، لكننا بمعرفتِنا المدرسيّة لن نستطيع إدراك ذلك.
عند الغوص عميقاً في ثقافةِ مُقاومةِ التغيير، نتأمّلها جيِّداً، ندركُ أنَّ ثمّة طاقة سلبية تُحرِّكها، فهي لا تتعدَّى أنَّها مجرَّد ردود أفعال الهدف الإستراتيجي منها الحفاظ على الأنا، وإطفاء القلق والخوف من المستقبل، حيث تُشير نظريات علم النفس إلى أنّ القلق والخوف الشديدان من المستقبل أو المجهول يولِّد ردود أفعال غريبة في شكلِها النفسيِّ تتجلَّى في التوتُّر وعدم القدرة على اتخاذ القرار وفي شكلِها الاجتماعي تظلُّ رهينة الإحجام والإقدام تتأرجحُ فيما بينهما. وثقافة مُقاومة التغيير تأخذ نفس الأشكال فهي لها ردود أفعال هدفها الإستراتيجي الدائم هو الحفاظ على الأنا والخوف من التجريب.
ويمكنْ تلخيص ردود الأفعال في مجموعتين ردود أفعال طبيعية وأخرى مرَضِيّة، أمّا ردود الأفعال الطبيعية فهي تنقسم إلى ثلاث أنواع؛
الأول: ردّ الفعل الطبيعي: وفيه نجد العديد من الناس يرفضون هذا التغيير، فهو مصدر قلق لهم، ويعبرون عنه بشكل واضح وعَلني وصريح، ولكن بعد فترة وجيزة تتحول ردود أفعالهم إلى طاقة إنتاجيّة يكون مصدرها إثبات الذات في ظلّ التغيُّرات الجديدة، وهؤلاء قد يُشكِّلون مصدر طاقة حيوية في جسم مؤسسات المجتمع الساعية إلى التغيير. أما النوع الثاني: فهو ما أُطلق عليه ردّ الفعل المُساند: ويرون أصحاب هذا التوجه أنهم جزء من عملية التغيير بشكليها المادي والمعنوي، فهم يرون أنها ضرورة هامة كي تكتمل الصورة الجميلة للحلم والرؤيا، كما أنها سوف تأتي بالنفع لهم وللآخرين. والنوع الثالث: وهو رد فعل يتعامل مع التغيير بحذرٍ شديد فهو لا يمتلك توجه بعينه حول العملية وعادة ما ينتظر نتائج التغيير وبناءً عليها يَحكم.
أما المجموعة الثانية: فهي ردود الأفعال المَرضية، حيث تتكون من أربعة أنواع أما النوع الأول فهو رد الفعل التصاعدي: وهو أحد ردود الفعل التي تُظهر بشكلٍ عام في بدايتها نوع من الاعتراض المُستند للذات ورفض التغيير نتيجة لأسباب متعلِّقة بالأنا، فأصحاب هذا المبدأ هُمْ من الناس السطحين غير القادرين على التكيف مع المعطيات الجديدة بأيِّ اتجاه، فهم يبدؤون بالكلام ثم بالأفعال المُتَخَبِطَة، وعادة أصحاب هذه التوجه يَفشلون في مُبْتَغاهم كونهم لا يحملون بداخلِهم إلا ناراً لن تطال غيرهم فهم يحترقون من الداخل بينما الحياة تسير، فالحقد والكراهية والبغضاء لا تحرق إلا حاملها وخاصة إن لم يَستطيع جر طرف المعادلة لمربع الصراع.
أما النوع الثاني: رد الفعل التنازلي: وهو رد فعل يبدأ عالياً صريحاً واضحاً، ومن ثم يأخذ في التنازل التدريجي، وأصحاب هؤلاء الردود يَكونون من الأشخاص الذين يرجعون إلى عقولهم بين الفِنية والأخرى، لكنهم عُرضةً لتطوير شكل مرضي أو شكل طبيعي، وهذا رهين مجموعة من الأشياء المُتعلقة بالذات والمكانة والمكاسب المُحققة على المستوي الشخصي.
والنوع الثالث: رد الفعل الخفي: وهو أخطر أنواع ردود الأفعال حيث انه يظهر على شكل مؤامرة، أو دفع آخرين من خلال تحالفات مختلفة لمقاومة هذا التغيير، وهنا لابدّ من القول أن أصحاب هذا التوجُّه يمتلكون نزعات نحو الذات وفكرة قميئة جداً تتمحور في ما أُطلق عليه الدكتاتورية الخفية، كأن تحكم قِطاع معين تَحل قضاياه الخلافية علناً، وتقتل مَنْ يُعارضك في الخفاء، وهذه الردود تكون نابعة من أمراض اجتماعية ونفسية متعلقة باضطراب الدور والمكانة، أو رغبة في تحطيم الآخر من أجل الانتصار للأنا، حيث الخوف الواضح من عمليات التغيير قد يَجُرهم إلى صراع ما في منطقة تهزُّ صورة الذات، إن هذه الثقافة النفسية والاجتماعية لا تَهدم المُنشأة أو المجتمع كبُنيان أو شكل لكنها تهدم القيم بداخلها.
أما ردّ الفعل الرابع فهو رد الفعل الثعلبي: والذي يأخذ صفة الثعلبي كون أصحاب هذا التوجه لا يكون لديهم أي نوع من أنواع الاعتراض الفعلي على عمليات التغيير، ولكنهم يَعملون وفق المَصلحة الذاتية وتقلُبات مراكز القوى، فهم يَميلون إلى طرفي المعادلة بنفس القدر، ولكنهم نفسياً واجتماعياً يَميلون للطرف المُقاوم، فهم يحملون درعاً وسيف، يستخدمون الدرع حين تنتج عمليات التغيير آثاراً إيجابية، ويستخدمون السيف حين تفشل هذه العمليات. فهم الرابح الأكبر بالفعل على نَقيض البرنامج التلفزيوني الشهير الخاسر الأكبر. نقيضه ليس في الاسم بل في القيمة.
إن ردود الأفعال هذه قد تكون مُجتمعة معاً، وتظهر أحياناً منفردة، أو يظهر جزء منها، لكنها في نهاية المطاف ستبقى تثير حالة من الفوضى والطاقة السلبية، ولن نستطيع تغييرها إلا إذا قرر أصحابها بالدخول للمتاهة مرتين، المرة الأولي: كي يتعلمون من التجربة، والمرة الثانية كي يتأكدون أنّه يتوجب عليهم توقع التغيير لأن الجُبن يتحرك باستمرار، وقد تكون النصائح في هذا الصدد كثيرة لكني لا أمتلك لمجتمعنا العربي ومؤسساته عامة إلا أن تعيش لحظات ساحرة مع كتاب Who Moved My Cheese أو مَنْ حَرَك قطعة الجُبن خاصتي.
انتهى
مَنْ حَركَ قطعة الجُبنْ بقلم : أ. حسام شحادة
تاريخ النشر : 2009-11-07
التغييرُ في المُجتمع أحد أهم القضايا التي تطرقت لها العديد من العلوم، فقد ركّز الأنيق بأفكاره؛ العالم الإنساني: ابن خالدون في مقدمته الشهيرة على تحليلٍ كاملٍ للمجتمع، وحدَّدَ من خلالها أطوار نمو الدولة من مرحلةِ الطفولةِ إلى الشيخوخة، وهو هنا لم يكن يطرح هذه الفلسفة بقصد التوصيف في حدِّ ذاته، بل طرحها بقصد استثمار الفهم الناجم عنها في التطوير والتغيير.
التغييرُ في المُجتمع أحد أهم القضايا التي تطرقت لها العديد من العلوم، فقد ركّز الأنيق بأفكاره؛ العالم الإنساني: ابن خالدون في مقدمته الشهيرة على تحليلٍ كاملٍ للمجتمع، وحدَّدَ من خلالها أطوار نمو الدولة من مرحلةِ الطفولةِ إلى الشيخوخة، وهو هنا لم يكن يطرح هذه الفلسفة بقصد التوصيف في حدِّ ذاته، بل طرحها بقصد استثمار الفهم الناجم عنها في التطوير والتغيير.
هذا وتَحدّث في تلك القضية العالم الأمريكي الشهير أ.د. جون كوتر، في كتابه المعروف [Leading Change]،
وكذلك سنسر جونسون في كتابة الشهير [ Who Moved My Cheese] ،
وقد عالج جونسون:
في كتابه مَنْ حَرَك قطعة الجُبن، فكرة التغيير من خلال قصةٍ من الطريف والمُفيد معاً أن نتأمّل فيها ملياً: حيثُ تَسردُ القصة، حكاية قزمان وفأران، كانوا موجودين في متاهةٍ، يَحلُمون بالعثور على قطعة من الجبن لينعموا بها، فاتّخذ كلُّ زوجٍ منهم طريقًهُ في البحث داخلَ المتاهة عن حُلمِه، فاتّبع كلٌّ منهم منهجيته في البحث، وبالرغمِ من اختلاف منهج كل فريق، وصلوا جميعاً إلى قطعة الجبن فكان ذلك بِمثابِة انتصار عظيم لهم.
بدأ كلُّ فردٍ منهم يضع خِطَطَهُ وأحلامه للمُستقبل، في بادئ الأمر كان الجميع ينهضوا مُبَكرين سالكين الطريق ذاته إلى الجُبن في روتين دوري مُمل، وبعد فترة لاحظ الفأران أن الجبن يتناقص فقررا ترك المكان؛! ....
بينما واصل القزمان سلوكهم اليومي بتثاقلٍ وتَكاسلٍ يزدادُ يوماً بعد يوم، وذات يوم نهض القزمان مُتكاسلان من نومهما وتَوجها إلى قطعةِ الجبن فلم يَجدَاها في المكان، وبدءا يَصرخان ويولولان [ مَنْ حَرك قطعة الجبن]،
وقررا أن يبدءا بالحفرِ والبحث عنها لكنهما لم يَعثرا على شيء؛ فزاد صراخهما [ مَنْ حرك قطعة الجبن]، وبقيا على هذه الحال إلى أن شعرا بالإعياء الشديد، فاقترح أحدهم:
أن يغادرا المكان والبدء في البحث عن قطعة جُبن أخرى، فلم يتفق معه القزم الأخر، كونه ألِفَ المكان وعرفه وكان من الصعب عليه أن يُغيِّرَهُ، فَقرَّر القزمُ الأولُ أن يُغادر، وأخذ طريقه في المتاهةِ وبينما هو سائر في دهاليز المتاهة كان رأسه مشغولاً في التفكير كيف أنه لم يستطيع ملاحظة تناقص الجبن يوم بعد يوم؟!،
وكيف لم يلاحظ ذلك العفن الذي طرأ عليها شيئاً فشيء؟!.
كان القزم قد اجتاز مسافةً في عتمةِ المتاهة حيث خيّمتْ الظلمةُ والصمتُ المُطبقُ على المكان؛ فانتابه بعضُ الخوفِ في بادئ الأمر؛ لكنه قرر أن يُكمل طريقه عبر المتاهة وأخذ يَحلم بأنه وجد قطعة جبن، شعر بالسعادة لممارسة لعبة الحلم وتصور الهدف قبل بلوغه بالرغم من أنه لم يكن يملك قطعة جبن واحدة، وبعد عدة محاولات وصل إلى قطعة جُبن فأكل منها فرحاً، وأخذ قِسطاً قليلاً من الراحة، ثم تركها ومضى في البحث عن قطعة أخرى.
وفي طريقه تذكّر صديقه القزم الآخر فقرّرَ أن يكتب له إرشادات على جدرانِ المتاهةِ لعلَّ صديقه إذا ما قرَّرَ خوض المغامرة أن يَهتدي بها، فكتب: لكي لا تفنى ابحث عن قطعة جبن جديدة. وفي مَوضِعٍ ثانٍِ كتب: لكي تعثر على قطعة جبن جديدة لابدّ أن تتخلص من جُبنك القديم. وفي مَوضِعٍ ثالثٍ كتب: اكسر حاجز الخوف واستمتع بالمغامرة لأنك حتماً ستجد ما هو أفضل مما أنت عليه الآن. وفي موضعٍ رابعٍ كتب: توقع التَغيير فإن الجبن يتحرك باستمرار. كان في كلِّ مرّة يشعرُ بسعادةٍ أكبر فهو يترك قيمة خلفه ويمضي للأمام باحثاً عن هدفِهِ. وظلّ هكذا إلى أن وصلَ في نهايةِ المطاف إلى جَبَلٍ من الجُبنِ المتنوع ففرح كثيراً به، لكنه تفاجأ عندما شاهد الفأران جالسان يأكلان من الجبن وينعما به، حينها تذكّر صديقه الذي قاوم التغيير.
إن القصة أعلاه بقدر ما تؤسس لفكرةِ المغامرة والبحث عن التغيير الدائم والمستمر في حياة الفرد والمؤسسة وبالتالي المجتمع والدولة، لأن الحياة لا تعود القهقرى، بقدر ما تُحذّر من فكرةِ مقاومةِ التغيير وهنا مربط الفرس في هذه المقالة. حيثُ أن القصة أعلاه انتهت لفكرة مفادها: لا تجبر الناس على التَغَيُرْ فَمََّنْ لم يَتغير من تلقاءِ نفسهِ؛ فلن يتغير أبداً، كونه سَّيظل رهين الخوف والقلق والتوتر.
ومن هنا كان لابدّ من قراءةِ سسيوكولجية لواقع ميكانزمات الدفاع التي تجعل الناس تُقاوم عملية التغيير. وقبل الخوض في مغامرة التحليل السسيوكولجي لميكانزمات الدفاع، علينا أن نتذكر حكمةَ التغيير، حيث تكمن الحكمة ونفاذ البصيرة في قرار التغيير، من زاوية الإدراك الواعي للتغَيُرات الثقافية، الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية في محيط المجتمع، كما أنّه يستمد حكمته في فهم التغيرات المختلفة في الأدوار والمُستجدات المتنوعة التي تطرأ على البناء المؤسسي، ولهذا نُسمي قرار التغيير في علم الإدارة المُبدعة بقرار الحماية من الشيخوخة وإعادة تجديد مرحلة الشباب في مؤسسات المجتمع. إن عمليات التغيير بقدر ما تأخذ وقتاً في التفكير والتحضير، بقدر ما تعاني من فترة ما بعد التغيير، نظراً لعدم رؤية الحكمة وإدراكها الواعي. ومن هنا تبرز على السطح العديد من ردود الأفعال المُقاومة للتغيير والتي تتجلّى في ردود أفعال لها دوافعها النفسية والاجتماعية، حيثُ سوف أركّز الجزء الأخير من مقالي هذا عليها. مُستعيناً بخبراتي في المجال النفس اجتماعي، وكذلك الإداري، وذلك بقصد تسليط الضوء على فكرة التغيير ومُقاومته في مؤسسات المجتمع على اختلاف أنماطها وأنواعها، بدون اللجوء لمُقارنات مع الدول المُتقدمة، فعلى ما يبدو أننا مجتمعات لا تتعلم من خلال تجارب الآخرين بقدر ما يمكن أن نتعلم من رؤية صورتنا في المرآة.
فلا يخفى على أحد الكم الهائل لِتَجارب التغيير المَطروحة في سوق الفكر، كقصص نجاح لقطاعات متنوعة سواء في شركات أو مؤسسات أو دول، وعلى الرغم من هذا ما زال نظامنا العربي بكلِّ أجزائه يعاني فكرة فهم وهضم عمليات التغيير الجوهرية، بينما فيما يتعلق بفكرة التغيير في الشكل أو ما أُسميه الأدوات المادية المساندة للشخصية نجد أن التغيير يصل إلى حد المسخ في تغيير صورة الذات الخارجية من فأر إلى أسد. لذلك سوف أركز على فكرة المرآة أو العاكس الذي يعكس صورة ردود الأفعال المُقاومة للتغيير؛ لعلّ هذه المرآة تجعلُ الجيش المُقاوم للتغيير يفهم ذاته بشكلٍ أكثر وضوحاً وأكثر عبقرية كي يصفو، فبدون الصفاء الداخلي والتأمل في الذات سوف نضطر نحن العرب إلى تأسيس علم جديد وهو علم إدارة الصراع بين أنصار التغيير وأنصار مقاومة التغيير وفي نهاية المطاف لن نُنتج سوى شيء ممسوخ كونه مُنتج يسير ضد سيرورة الحياة كما أبدعها الله : مُتغيرة مُتَجَدِّدة. وهنا أتذكّر المثل الصيني القائل [ إنك لا تنزل النهر ذاته مرتين]، حيث مياه النهر متجدِّدة، وفي هذا إشارة واضحة للتغيير الدائم من حولنا، حتى ما نظنُّه ثابت فهو مُتغيّر، لكننا بمعرفتِنا المدرسيّة لن نستطيع إدراك ذلك.
عند الغوص عميقاً في ثقافةِ مُقاومةِ التغيير، نتأمّلها جيِّداً، ندركُ أنَّ ثمّة طاقة سلبية تُحرِّكها، فهي لا تتعدَّى أنَّها مجرَّد ردود أفعال الهدف الإستراتيجي منها الحفاظ على الأنا، وإطفاء القلق والخوف من المستقبل، حيث تُشير نظريات علم النفس إلى أنّ القلق والخوف الشديدان من المستقبل أو المجهول يولِّد ردود أفعال غريبة في شكلِها النفسيِّ تتجلَّى في التوتُّر وعدم القدرة على اتخاذ القرار وفي شكلِها الاجتماعي تظلُّ رهينة الإحجام والإقدام تتأرجحُ فيما بينهما. وثقافة مُقاومة التغيير تأخذ نفس الأشكال فهي لها ردود أفعال هدفها الإستراتيجي الدائم هو الحفاظ على الأنا والخوف من التجريب.
ويمكنْ تلخيص ردود الأفعال في مجموعتين ردود أفعال طبيعية وأخرى مرَضِيّة، أمّا ردود الأفعال الطبيعية فهي تنقسم إلى ثلاث أنواع؛
الأول: ردّ الفعل الطبيعي: وفيه نجد العديد من الناس يرفضون هذا التغيير، فهو مصدر قلق لهم، ويعبرون عنه بشكل واضح وعَلني وصريح، ولكن بعد فترة وجيزة تتحول ردود أفعالهم إلى طاقة إنتاجيّة يكون مصدرها إثبات الذات في ظلّ التغيُّرات الجديدة، وهؤلاء قد يُشكِّلون مصدر طاقة حيوية في جسم مؤسسات المجتمع الساعية إلى التغيير. أما النوع الثاني: فهو ما أُطلق عليه ردّ الفعل المُساند: ويرون أصحاب هذا التوجه أنهم جزء من عملية التغيير بشكليها المادي والمعنوي، فهم يرون أنها ضرورة هامة كي تكتمل الصورة الجميلة للحلم والرؤيا، كما أنها سوف تأتي بالنفع لهم وللآخرين. والنوع الثالث: وهو رد فعل يتعامل مع التغيير بحذرٍ شديد فهو لا يمتلك توجه بعينه حول العملية وعادة ما ينتظر نتائج التغيير وبناءً عليها يَحكم.
أما المجموعة الثانية: فهي ردود الأفعال المَرضية، حيث تتكون من أربعة أنواع أما النوع الأول فهو رد الفعل التصاعدي: وهو أحد ردود الفعل التي تُظهر بشكلٍ عام في بدايتها نوع من الاعتراض المُستند للذات ورفض التغيير نتيجة لأسباب متعلِّقة بالأنا، فأصحاب هذا المبدأ هُمْ من الناس السطحين غير القادرين على التكيف مع المعطيات الجديدة بأيِّ اتجاه، فهم يبدؤون بالكلام ثم بالأفعال المُتَخَبِطَة، وعادة أصحاب هذه التوجه يَفشلون في مُبْتَغاهم كونهم لا يحملون بداخلِهم إلا ناراً لن تطال غيرهم فهم يحترقون من الداخل بينما الحياة تسير، فالحقد والكراهية والبغضاء لا تحرق إلا حاملها وخاصة إن لم يَستطيع جر طرف المعادلة لمربع الصراع.
أما النوع الثاني: رد الفعل التنازلي: وهو رد فعل يبدأ عالياً صريحاً واضحاً، ومن ثم يأخذ في التنازل التدريجي، وأصحاب هؤلاء الردود يَكونون من الأشخاص الذين يرجعون إلى عقولهم بين الفِنية والأخرى، لكنهم عُرضةً لتطوير شكل مرضي أو شكل طبيعي، وهذا رهين مجموعة من الأشياء المُتعلقة بالذات والمكانة والمكاسب المُحققة على المستوي الشخصي.
والنوع الثالث: رد الفعل الخفي: وهو أخطر أنواع ردود الأفعال حيث انه يظهر على شكل مؤامرة، أو دفع آخرين من خلال تحالفات مختلفة لمقاومة هذا التغيير، وهنا لابدّ من القول أن أصحاب هذا التوجُّه يمتلكون نزعات نحو الذات وفكرة قميئة جداً تتمحور في ما أُطلق عليه الدكتاتورية الخفية، كأن تحكم قِطاع معين تَحل قضاياه الخلافية علناً، وتقتل مَنْ يُعارضك في الخفاء، وهذه الردود تكون نابعة من أمراض اجتماعية ونفسية متعلقة باضطراب الدور والمكانة، أو رغبة في تحطيم الآخر من أجل الانتصار للأنا، حيث الخوف الواضح من عمليات التغيير قد يَجُرهم إلى صراع ما في منطقة تهزُّ صورة الذات، إن هذه الثقافة النفسية والاجتماعية لا تَهدم المُنشأة أو المجتمع كبُنيان أو شكل لكنها تهدم القيم بداخلها.
أما ردّ الفعل الرابع فهو رد الفعل الثعلبي: والذي يأخذ صفة الثعلبي كون أصحاب هذا التوجه لا يكون لديهم أي نوع من أنواع الاعتراض الفعلي على عمليات التغيير، ولكنهم يَعملون وفق المَصلحة الذاتية وتقلُبات مراكز القوى، فهم يَميلون إلى طرفي المعادلة بنفس القدر، ولكنهم نفسياً واجتماعياً يَميلون للطرف المُقاوم، فهم يحملون درعاً وسيف، يستخدمون الدرع حين تنتج عمليات التغيير آثاراً إيجابية، ويستخدمون السيف حين تفشل هذه العمليات. فهم الرابح الأكبر بالفعل على نَقيض البرنامج التلفزيوني الشهير الخاسر الأكبر. نقيضه ليس في الاسم بل في القيمة.
إن ردود الأفعال هذه قد تكون مُجتمعة معاً، وتظهر أحياناً منفردة، أو يظهر جزء منها، لكنها في نهاية المطاف ستبقى تثير حالة من الفوضى والطاقة السلبية، ولن نستطيع تغييرها إلا إذا قرر أصحابها بالدخول للمتاهة مرتين، المرة الأولي: كي يتعلمون من التجربة، والمرة الثانية كي يتأكدون أنّه يتوجب عليهم توقع التغيير لأن الجُبن يتحرك باستمرار، وقد تكون النصائح في هذا الصدد كثيرة لكني لا أمتلك لمجتمعنا العربي ومؤسساته عامة إلا أن تعيش لحظات ساحرة مع كتاب Who Moved My Cheese أو مَنْ حَرَك قطعة الجُبن خاصتي.
انتهى
تعليق