اكبـر مجموعة روايات جابـريل جارســيا ماركيـز

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد سلطان
    أديب وكاتب
    • 18-01-2009
    • 4442

    اكبـر مجموعة روايات جابـريل جارســيا ماركيـز

    [frame="13 98"]
    بسم الله الرحمن الرحيم

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



    اكبـــر مجموعة روايات
    ((جابريل جارسيا ماركيز))

    الحب في زمن الكوليرا

    http://www.4shared.com/file/38793603/73be1bde/___.html?s=1

    ،
    بائعة الورد

    http://www.4shared.com/file/33320808/1201674f/__-__.html?s=1
    ،
    الحب وشياطين اخرى

    http://www.4shared.com/file/38981846/c0458714/___online.html?s=1
    ،

    خطبة لاذعة ضد رجل جالس(مسرحية)

    http://www.4shared.com/file/20198290/c2617314/_____-__.html?s=1
    ،

    مائة عام من العزلة

    http://www.4shared.com/file/38882920/a75793db/___.html?s=1
    ،

    غريق على أرض صلبه

    http://www.4shared.com/file/38872740/79c38e86/___.html?s=1
    ،

    الجنرال في المتاهة

    http://www.4shared.com/file/39352082/88471e34/___online.html?s=1
    ،

    مختارات قصصية

    http://www.4shared.com/file/30615083/524264bb/_2____________________.html?s=1
    ،

    كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى

    http://www.4shared.com/file/38822645/c08b9f4e/____.html?s=1
    ،

    لا يوجد لصوص فى هذه المدينة

    http://www.4shared.com/file/38823163/a62d2919/_____.html?s=1
    ،

    مختارات قصصية(2)

    http://www.4shared.com/file/38897061/b1538444/__online.html?s=1
    ،

    الموت أقوى من الحبّ

    http://www.4shared.com/file/43890096/3dba6872/____-___.html?s=1
    ،

    أثنا عشر رواية تائهة

    http://www.4shared.com/file/65683077/e014a003/_____.html?s=1
    ،

    عشت لأروي

    http://www.4shared.com/file/39321554/72d47459/__online.html?s=1
    ،

    ذاكرة غانياتي الحزينات

    http://www.4shared.com/file/21643806/63b49002/___-___.html?s=1
    ،

    في ساعة نحس

    http://www.4shared.com/file/30452960/7f861c72/_______.html?s=1
    ،

    الأم الكبيرة

    http://www.4shared.com/file/39350357/e5cce224/__online.html?s=1
    ،

    ارنيديرا البريئة

    http://www.4shared.com/file/65683968/6661b75c/____.html?s=1
    ،

    أجمل غريق في العالم

    http://www.4shared.com/file/55028260/a188abd1/___.html?s=1
    ،

    عينا كلب أزرق

    http://www.4shared.com/file/50453300/5a9850c0/___-___.html?s=1
    ،

    زينات

    http://www.4shared.com/file/32088165/9adcceaf/D_-___.html?s=1
    ،

    ثمن عشرين قتيلا

    http://www.4shared.com/file/50452994/391ccd23/___-___.html?s=1
    ،

    قصة موت معلن

    http://www.4shared.com/file/55928176/74b9d034/___online.html?s=1
    ،

    في يوم من الإيام

    http://www.4shared.com/file/55028711/9f05cf6b/___.html?s=1
    ،

    الجمال النائم والطائرة

    http://www.4shared.com/file/55028355/fb0d66aa/___online.html?s=1
    ،

    عذرا على التاخير

    http://www.4shared.com/file/55028688/36d9a6b1/___online.html?s=1
    ،

    أشباح أغسطس

    http://www.4shared.com/file/50452327/4e76c084/__-___.html?s=1
    ،

    ليس لدي الكولونيل من يكاتبه

    http://www.4shared.com/file/55028832/3f66bb6e/____.html?s=1
    ،

    رجل عجوز بجناحين كبيرين

    http://www.4shared.com/file/55028666/4fe2a638/___.html?s=1
    ،

    ضوء مثل الماء

    http://www.4shared.com/file/55928140/b6f726c2/__d.html?s=1
    ،

    قصص ضائعة

    http://www.4shared.com/file/65707512/b4a13ed2/___.html?s=1
    ،

    خريف البطريرك..الجزء الاول

    http://www.4shared.com/file/38984345/62c7c97d/___online.html?s=1
    ،

    خريف البطريرك..الجزء الثانى

    http://www.4shared.com/file/38986609/a3df4a32/___online.html?s=1
    ،

    خريف البطريرك..الجزء الثالث

    http://www.4shared.com/file/38985408/c5e90124/___online.html?s=1




    [/frame]
    صفحتي على فيس بوك
    https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757
  • محمد سلطان
    أديب وكاتب
    • 18-01-2009
    • 4442

    #2
    بائعة الورد


    تحسست مينا طريقها في عتمة الفجر, و لبست ثوبها القصير الأكمام الذي كانت قد علقته في الليلة الماضية قرب الفراش, و جعلت تفتش في الصندوق الكبير عن الكمين المنفصلين الذين يكسوان الذراعين امتثالاً للواجب قبل الذهاب إلى الكنيسة ... ثم بحثت عنهما فوق المسامير المعلقة على الحائط و خلف الأبواب, حريصة في كل ذلك ألا تحدث أقل جلبة لكيلا توقظ جدتهما العمياء, التي كانت نائمة في نفس الغرفة ... و لكن ما أن اعتادت عيناها العتمة, حتى لاحظت أن جدتها قد نهضت من الفراش, فذهبت إليها في المطبخ لكي تسألها عن الكمين .. فقالت الجدة العمياء :
    - هما في الحمام .. إنني غسلتهما أمس بعض الظهر ..

    و فعلاً وجدتهما في المطبخ, معلقين من سلك ممدود بمشبكين .. و لكنهما كانا لا يزالان مبتلين .. فعادت مينا بهما إلى المطبخ و بسطتهما فوق أحجار الموقد .. و كانت الجدة العمياء تقلب القهوة و قد سمرت حدقتي عينيها الجامدتين على جدار الشرفة التي رصت فيها أصص الزهور مليئة بأعشاب طيبة ..

    قالت لها مينا : لا تأخذي أشيائي مرة ثانية .. لا يمكنك هذه الأيام أن تتأكدي من طلوع الشمس ..
    حركت المرأة العمياء وجهها نحو الصوت و قالت :
    - إنني نسيت أن هذا يوم الجمعة الأول من أسبوع الفصح, موعد القداس ..
    و بعد أن تأكدت الجدة بنفس قوي من فمها أن القهوة نضجت, رفعت الإناء عن الموقد, ثم قالت :
    - ضعي قطعة من الورق تحت الكمين, لأن أحجار الموقد متسخة .
    أجرت مينا أصابعها على أحجار الموقد .. فوجدها متسخة فعلاً, و لكن بطبقة من السناج المتحجر الذي لا يمكن أن يلوث الكمين إذا لم يحتكا بالأحجار .. على أنها قالت لجدتها :
    - إذا اتسختا فستكونين أنت المسؤولة !..
    و ما لبثت الجدة العمياء أن صبت لنفسها قدحاً من القهوة, و قالت و هي تجذب مقعداً شطر الشرفة :
    - أنت غاضبة .. و من المحرم أن يذهب الانسان للقداس و هو غاضب ...

    و جلست لشرب القهوة عن كثب من الزهور في الحوش .. و عندما انبعث رنين دقات الناقوس الأولى إيذاناً بموعد القداس رفعت مينا الكمين عن الموقد, فكانا لا يزالان مبتلين .. بيد أنها لبستهما .. فإن القس لا يرضى دخول أحد إلى الكنيسة بثوب عاري الذراعين .. ثم مسحت آثار الأحمر من وجهها بمنشفة, و أخذت كتاب الصلاة و الشال من غرفتها, و خرجت للشارع ...

    و بعد ربع ساعة عادت أدراجها ...
    فقالت الجدة العمياء و هي جالسة في مواجهة الزهور في الحوش :
    - سوف تصلين إلى هناك بعد القراءة الأولى ..
    أما مينا فقالت و هي تتجه إلى دورة المياه :
    - لن أتمكن من الذهاب إلى القداس اليوم .. الأكمام مبتلة, و الثوب كله " مكركش " ..
    و على الأثر شعرت بعينين فاهمتين تتبعانها ..
    و ما لبثت العجوز أن هتفت : يوم الجمعة الأول و لا تذهبين للقداس !..

    و لما عادت مينا من دورة المياه صبت لنفسها قدحاً من القهوة و جلست في المدخل المطلي بالمصيص الأبيض عن قرب من العجوز العمياء .. بيد أنها لم تستطع أن تشرب القهوة .. و غمغمت في سخط كامن و هي تشعر بأنها توشك على الغرق في دموعها الحبيسة :
    - أنت السبب !..
    فهتفت العجوز العمياء : أنت تبكين !..
    و أضافت و هي تمر قرب جدتها بعد أن وضعت قدح القهوة على الأرضية : يجب أن تذهبي للاعتراف لأنك جعلتني أضيع قداس يوم الجمعة الأول !..

    أما الجدة العجوز فقد لزمت مكانها جامدة تنتظر أن تغلق باب غرفة النوم .. و ما لبثت أن اتجهت إلى آخر الشرفة ثم انحنت تتحسس حتى عثرت على قدح القهوة على الأرض غير مشروب .. فقالت و هي تسكب القهوة في الإناء الخزفي :
    - الله يعلم أن ضميري مستريح ..
    و في هذه اللحظة خرجت أم مينا من غرفة النوم, و قالت للعجوز :
    - مع من تتكلمين ؟..
    فأجابت : مع نفسي !.. قلت لك قبل الآن انني في طريقي إلى الجنون !..

    و عندما احتجبت مينا في غرفتها فكت أزرار " المشد " و أخرجت ثلاثة مفاتيح صغيرة معلقة في مشبك .. ففتحت بأحدها الدرج السفلي في " التواليت " و أجرت منه علبة متوسطة فتحتها بمفتاح آخر .. و من داخلها أخرجت مجموعة خطابات مكتوبة على ورق ملون و مربوطة بحزام من المطاط .. فأخفت الخطابات داخل مشدها ثم أعادت العلبة إلى مكانها و أغلقت الدرج .. و أخيراً ذهبت إلى دورة المياه و ألقت بالرسائل في المرحاض ..


    و لما رجعت مينا إلى المطبخ قالت لها أمها :
    - حسبتك في الكنيسة ..
    فتولت الجدة العمياء الرد قائلة : لم تتمكن من الذهاب .. أنا نسيت أن هذا يوم الجمعة الأول, و غسلت الأكمام بعد ظهر أمس ..
    فغمغمت مينا : انها لا تزال مبتلة ..
    فقالت العجوز العمياء : انني أقوم بأعمال كثيرة هذه الأيام ..
    و قالت مينا : و أنا مطالبة بتسليم مائة و خمسين " دستة " ورد لمناسبة عيد الفصح ..

    و لم تلبث حرارة الشمس أن تزايدت مبكراً .. و قبل الساعة السابعة كانت مينا قد أعدت " مشغل الورد الصناعي " في غرفة المعيشة : سلة مليئة بأوراق الورد, و لفافة سلك, و علبة من ورق الكريب, و مقصان, و بكرة خيط, و إناء به غراء.. و بعد برهة جاءت ترينيداد التلميذة المترهبة في الكنيسة تحمل علبة كرتون تحت إبطها, و سألتها على الفور لم لمْ تذهب لحضور القداس .. فأجابت مينا :
    - لم تكن الأكمام جاهزة ..
    فقالت ترينيداد : كان يمكن استعارة كمين من أي أحد ..
    و جذبت كرسياً و جلست قرب سلة أوراق الورد .. فقالت مينا :
    - وجدتني متأخرة كثيراً ..
    و فرغت من صنع وردة .. فوضعت ترينيداد علبة الكرتون على الأرض و اشتركت في العمل .. فنظرت مينا إلى العلبة قائلة :
    - هل اشتريتِ حذاءً جديداً ؟
    فأجابت ترينيداد : هي فئران ميتة ..

    و لما كانت ترينيداد ماهرة في تركيب أوراق الورد, فقد تفرغت مينا لعمل سيقان من السلك مغلفة بورق أخضر .. و ظلت كلتاهما تعمل في صمت دون أن تلاحظا تقدم الشمس في غرفة المعيشة, التي كانت مزخرفة بصور تزينية و عائلية .. و عندما تفرغت مينا من صنع السيقان تحولت إلى ترينيداد بنظرة تفيض أسى, فكفت هذه عن العمل و قالت لها :
    - ماذا جرى ؟
    فمالت مينا نحوها و قالت : إنه رحل !..
    فألقت ترينيداد المقص في حجرها قائلة : لا ... لا تقولي هذا !؟؟
    فكررت مينا كلماتها قائلة : إنه رحل !..
    فحدقت ترينيداد فيها طويلاً, و قالت مقطبة : و الآن ؟..
    فأجابت مينا بصوت ثابت : الآن لا شيء ..

    و قبيل الساعة العاشرة تأهبت ترينيداد للانصراف, فاستمهلتها مينا لكي تلقي الفئران في المرحاض, و في طريقها مرت بالعجوز العمياء التي كانت تستقي الزهور في الأصص, فقالت لها مينا :
    - أراهن أنك لن تعرفي ما بداخل هذه العلبة ..
    و هزت العلبة بالفئران ... فأرهفت العجوز حواسها, قائلة :
    - هزيها مرة ثانية ...
    فكررت مينا العملية, بيد أن العجوز لم تستطع أن تتعرف على ما بداخل العلبة رغم هزها مرة ثالثة, فقالت مينا :
    - هي الفئران التي وقعت في المصيدة في الكنيسة الليلة الفائتة .

    و عندما عادت أدراجها مرت بجانب الجدة العمياء دون أن تكلمها .. بيد أن العجوز تبعتها إلى غرفة المعيشة لكي تستكمل مينا عملية الورد الصناعي, و قالت لها :
    - يا مينا .. إذا أردت أن تكوني سعيدة, فلا تعترفي بشيء لشخص غريب عنك ..
    تطلعت إليها مينا دون أن تتكلم .. فجلست الجدة العجوز في المقعد المواجه لها محاولة أن تساعدها في العمل . بيد أن مينا استوقفتها ..
    فقالت الجدة العمياء : أنت عصبية .. لماذا لم تذهبي إلى القداس ؟..
    - أنت تعرفين السبب أكثر من غيرك ..
    فقالت العجوز العمياء : لو كان السبب الأكمام, لما فكرت في الخروج من البيت .. هناك شخص كان ينتظرك في الطريق, و هو الذي سبب لك الشعور بخيبة الأمل ..

    مرت مينا بيديها أمام عيني جدتها, كأنما تمسح لوحاً غير مرئي من الزجاج, و قالت :
    - أنت ساحرة !..
    فقالت المرأة العمياء : إنك ذهبت إلى دورة المياه مرتين هذا الصباح .. و أنت لا تذهبين دائماً أكثر من مرة ..

    استمرت مينا في استكمال الورد الصناعي, بينما عادت العجوز تقول :
    - هل تجسرين على أن تريني ما تخفينه في درج "التواليت" ؟..
    فتركت مينا الوردة التي بيدها متمهلة و أخرجت المفاتيح الثلاثة الصغيرة من مشدها و وضعتها في يد العجوز قائلة :
    - اذهبي و انظري بعينيك ...
    فجعلت العجوز تفحص المفاتيح بأناملها, و قالت :
    - إن عيني لا يمكنها الرؤية في قاع المرحاض !..
    رفعت مينا رأسها, و عندئذ اعتراها إحساس مختلف .. فقد شعرت أن الجدة العمياء عرفت انها تتطلع إليها .. و لهذا قالت لها :
    - انزلي في المرحاض إذا كان ما افعله يهمك إلى هذه الدرجة !..
    تجاهلت الجدة العجوز هذا الرد اللاذع, و قالت :
    - أنت دائماً تجلسين في الفراش و تكتبين حتى الصباح المبكر ..
    فقالت مينا : أنت نفسك تطفئين النور قبل النوم ..
    فعاجلتها العمياء قائلة : و في الحال تنيرين أنت بطاريتك .. و بإمكاني أن أعرف أنك تكتبين, من صوت انفاسك ..

    بذلت مينا جهداً للاحتفاظ بهدوئها, و قالت دون أن ترفع رأسها :
    - جميل .. و لنفرض أن هذا هو ما يحدث, فما هو الغريب في ذلك ؟..
    فردت العجوز قائلة : لا شيء .. إلا أن هذا أضاع منك حضور قداس يوم الجمعة الأول ..

    و عند هذا الحد حملت مينا بكلتي يديها بكرة الخيط و المقصين و كومة من الورود التي لم تتم, و ألقت بها جميعاً في السلة, ثم واجهت الجدة العمياء قائلة :
    - هل تحبين أن أقول لك مالذي ذهبت لكي أفعله في المرحاض ؟
    و ظلت الإثنتان متحفزتين إلى أن تولت مينا الرد بنفسها, قائلة :
    - ذهبت لكي آتي ببعض المخلفات !..
    و عندئذ طوحت الجدة العمياء بالمفاتيح الصغيرة في السلة, و غمغمت قائلة و هي تتجه إلى المطبخ :
    - كان يمكن أن يكون سبباً لا بأس به, و كان يمكن أن تقنعيني لولا أنها المرة الأولى في حياتك التي سمعتك فيها تشتمين !..
    و في هذه اللحظة كانت أم مينا آتية في الممشى من الناحية المقابلة محتضنة كومة من الورود الشائكة , و قالت :
    - ماذا جرى ؟..
    فتولت الجدة العمياء الرد قائلة :
    - إنني جننت .. لكن الظاهر أنكم لا تفكرون في إرسالي إلى مستشفى المجانين طالما لا أرمي أحداً بالحجارة !..





    صفحتي على فيس بوك
    https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

    تعليق

    • محمد سلطان
      أديب وكاتب
      • 18-01-2009
      • 4442

      #3
      الموت أقوى من الحبّ


      ترجمة: خالد الجبيلي
      عندما وجد السيناتور أونيسمو سانشيز امرأة التي انتظرها طوال عمره، كان لا يزال أمامه ستة أشهر وأحد عشر يوماً قبل أن توافيه المنية. وكان قد التقاها في روزال دل فيري، وهي قرية متخيّلة، كانت تستخدم كرصيف ميناء سري لسفن المهربين في الليل، أما في وضح النهار، فكانت أشبه بمنفذ لا فائدة منه يفضي إلى الصحراء، وتواجه بحراً قاحلاً لا اتجاه له، وكانت قرية نائية وبعيدة عن أي شيء، إلى درجة أن أحداً لم يكن يتوقع أن يكون بوسع أي انسان أن يغيّر مصير أي فرد من سكانها.

      حتى أن اسمها كان يثير الضحك نوعا ما، وذلك لأن الوردة الوحيدة الموجودة في تلك القرية كان يضعها السيناتور أونيسمو سانشيز في سترته عصر ذلك اليوم الذي التقى فيه لورا فارينا.
      وكانت كذلك محطة إجبارية في الحملة الانتخابية التي كان يقوم بها السيناتور كلّ أربع سنوات. فقد كانت عربات الكرنفال قد وصلت في الصباح الباكر، ثم تبعتها الشاحنات التي تقل الهنود الذين كانوا يُستأجرون ويُنقلون إلى المدن الصغيرة لزيادة عدد الحشود في الاحتفالات العامة وتضخيمها. وقبل الساعة الحادية عشرة بقليل، وصلت السيارة التابعة للوزارة التي يشبه لونها لون مشروب الفراولة الغازي، بالإضافة إلى السيارات التي تقل الموسيقيين، والألعاب النارية، وسيارات الجيب التي تقل أفراد الحاشية. أما السيناتور أونيسمو سانشيز، فكان يجلس مسترخياً في سيارته المكيّفة، لكنه ما أن فتح باب السيارة، حتى هبّت عليه نفحة قوية من اللهب، وعلى الفور تبلل قميصه المصنوع من الحرير الصافي، وأصبح وكأنه قد غمس في حساء فاتح اللون، واعتراه شعور بأنه كبر عدة سنوات، وأحس بالوحدة على نحو لم يشعر به من قبل. في الحياة الحقيقية، كان قد بلغ الثانية والأربعين من العمر، وكان قد تخرّج من جامعة غوتينجين بدرجة شرف كمهندس في استخراج المعادن. كان قارئاً نهماً للأعمال الكلاسيكية اللاتينية المترجمة ترجمة ركيكة. وكان السيناتور زوج امرأة ألمانية متألقة أنجبت له خمسة أطفال، وكانوا جميعهم يعيشون بسعادة في بيتهم، وكان هو أكثرهم سعادة إلى أن أخبروه، منذ ثلاثة أشهر، بأنه سيموت ميتة أبدية قبل أن يحل عيد الميلاد القادم.
      وفيما كانت التحضيرات للاجتماع الحاشد على وشك أن تُستكمل، تمكّن السيناتور من الاختلاء بنفسه لمدة ساعة في البيت الذي كانوا قد أعدّوه له ليرتاح فيه. وقبل أن يتمدد على الفراش، وضع الوردة التي حافظ عليها طوال رحلته عبر الصحراء في كأس مليء بمياه الشرب، وابتلع الحبوب التي أخذها معه ليتحاشى تناول قطع لحم العنز المقلّي التي كانت تنتظره أثناء النهار، وتناول عدّة حبوب مسكّنة قبل وقتها المحدد خشية أن يعتريه الألم. ثم وضع المروحة الكهربائية قرب الأرجوحة واستلقى عارياً لمدة خمس عشرة دقيقة في ظلّ الوردة، وبذل جهداً كبيراً كي يبعد فكرة الموت عنه كي يغفو قليلاً. وفيما عدا الأطباء، لم يكن أحد يعرف أن أمامه أياماً معدودات سيعيشها، لأنه قرّر أن يبقي سرّه طي الكتمان، وأن لا يغيّر شيئاً في حياته، لا بدافع من الكبرياء، بل بسبب الخجل والخزي.
      أحسّ أنه يمتلك زمام أموره عندما خرج للقاء الجمهور للمرة الثانية في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم، مرتاحاً ونظيفاً، وهو يرتدي بنطالاً من الكتّان الخشن، وقميصاً مزّهراً، وكانت الحبوب المضادة للألم قد ساعدته في إضفاء شيء من السكينة على روحه. غير أن التآكل الذي كان الموت يحدثه فيه أكثر خبثاً مما كان يظن، لأنه ما أن صعد إلى المنصة، حتى اعتراه شعور غريب بالازدراء للذين كانوا يسعون جاهدين لأن يحظوا بشرف مصافحته، ولم يشعر بالأسف، كما في السابق، على جموع الهنود الذين قلما كان بوسعهم تحمّل جمرات نترات البوتاسيوم الملتهبة تحت أقدامهم الحافية في الساحة الصغيرة المجدبة. وبحركة من يده أوقف التصفيق، بغضب تقريباً، وبدأ يتكلم دون أن تبدو على وجهه أية تعابير محددة. وكانت عيناه مثبتتين على البحر الذي كان يئن تحت وطأة لهيب الحرارة. وكان صوته العميق الموزون يشبه المياه الراكدة، لكنه كان يعرف أنه لم يكن يقول الصدق في الخطاب الذي كان قد حفظه عن ظهر قلب، والذي كان قد ألقاه أمام الجموع مرات كثيرة، بل كان يناقض أقوال ماركوس أوريليوس صاحب النزعة الجبرية في كتاب تأملاته الرابع.
      "إننا هنا لكي نلحق الهزيمة بالطبيعة"، بدأ خطابه بخلاف كلّ قناعاته. " لن نصبح لقطاء في بلدنا بعد الآن، أيتام الله في عالم العطش والمناخ الرديء، منفيين في أرض آبائنا وأجدادنا. بل سنكون أناساً مختلفين، أيها السيدات والسادة، سنكون أناساً عظماء وسعداء".
      كان ثمة نمط معين في هذا السيرك الذي يقوم به. ففيما كان يلقي كلمته، كان مساعدوه يلقون بمجموعات من الطيور الورقية في الهواء، فتدّب الحياة في هذه المخلوقات الاصطناعية، وتحلّق حول المنصة المنتصبة من ألواح خشبية، وتطير باتجاه البحر. وفي الوقت نفسه، كان رجال آخرون يفرغون بعض جذوع الأشجار من الشاحنات، ويغرسونها في تربة نترات البوتاسيوم وراء الجموع الحاشدة. وكانوا قد أقاموا واجهة كرتونية من بيوت خيالية من الآجر الأحمر ذات نوافذ زجاجية، وأخفوا وراءها الأكواخ الحقيقية البائسة.
      أطال السيناتور خطابه مستشهداً باقتباسين اثنين باللغة اللاتينية ليطيل أمد المهزلة. ووعد الحشد بآلات تصنع المطر، وبأجهزة نقّالة لتربية حيوانات المائدة، وبزيوت السعادة التي تجعل الخضراوات تنمو في تربة نترات البوتاسيوم، وبشتلات من أزهار الثالوث المزروعة في أصص. وعندما رأى أنه استطاع أن يخلق عالمه الخيالي، أشار إليه بيده، وصاح بأعلى صوته: "ذاك الدرب سيكون دربنا، أيها السيدات والسادة. انظروا! ذاك الدرب سيكون لنا".
      التفت الحشد. كانت سفينة مصنوعة من الورق الملّون تعبر وراء البيوت، وكانت أطول من أعلى بيت في المدينة الاصطناعية. وعندها لاحظ السيناتور، أنها بعد أن شُيدت وأُنزلت وحُملت من مكان إلى مكان آخر، التهم الطقس الشنيع البلدة الكرتونية المتداخلة، وكادت تصبح سيئة كما هو حال قرية روزال دل فيري.
      وللمرة الأولى منذ اثتني عشرة سنة، لم يتوجه نلسن فارينا ليرحب بالسيناتور. بل كان يستمع إلى خطاب السيناتور وهو مستلق على أرجوحته في ما تبقى من قيلولته، تحت ظلال عريشة البيت ذي الألواح غير المستوية، الذي بناه بيديّ الصيدلي اللتين جرّ فيهما زوجته الأولى والتي قطعّها إلى أشلاء. ثم هرب من جزيرة الشيطان، وظهر في روزال ديل فيري على متن سفينة محمّلة بببغاوات بريئة من نوع المقو، برفقة امرأة سوداء جميلة كافرة، كان قد التقى بها في باراماريبو وأنجب منها فتاة. لكن المرأة ماتت لأسباب طبيعية بعد فترة قصيرة، ولم تلق مصير المرأة الأخرى، التي ساهمت أعضاؤها المقطعّة إرباً في تسميد قطعة الأرض المزروعة بالقنبيط، بل ووريت التراب بكامل جسدها، محتفظة باسمها الهولندي، في المقبرة المحلية. وقد ورثت الابنة لون أمها وقوامها الجميل، فضلاً عن عينيّ أبيها الصفراوين المندهشتين، وكان يحق له أن يعتقد أنه كان يربّي أجمل امرأة في العالم.
      ومنذ أن اجتمع بالسيناتور أونيسمو سانشيز خلال حملته الانتخابية الأولى، طلب منه نلسن فارينا أن يساعده في الحصول على بطاقة هوية مزورة تجعله في منأى عن قبضة القانون. إلا أن السيناتور رفض بطريقة ودّية، ولكن حازمة. غير أن نلسن فارينا لم يستسلم، بل ظل ولسنوات عديدة، وكلما أتيحت له الفرصة، يكرّر طلبه بأساليب مختلفة. أما هذه المرة، فقد بقي في أرجوحته، وقد كتب عليه أن يتعفّن حياً في عرين القراصنة اللاهب ذاك. وعندما سمع التصفيق الأخير، رفع رأسه، وأخذ يتطلع من فوق ألواح السياج، ورأى الجانب الخلفي من المهزلة: الدعائم التي أُحضرت للمباني، جذوع الأشجار، والمخادعين المتوارين الذين يدفعون السفينة فوق المحيط. ثم بصق بإحساس مفعم بالحقد والازدراء.
      وبعد أن ألقى كلمته، أخذ السيناتور كدأبه يجوب شوارع القرية وسط أنغام الموسيقى والأسهم النارية، وقد تحلّق حوله سكان القرية، الذين راحوا يبثون له شكاويهم ومشاكلهم. وكان السيناتور يصغي إليهم باهتمام وود شديدين ولم يكن يتورع عن مواساة كلّ فرد منهم، دون أن يقدم لأي منهم أي خدمات هامة. وتمكنت امرأة تقف على سطح أحد المنازل مع أطفالها الستة الصغار من أن تُسمعه صوتها وسط الضجيج وأصوات الأسهم النارية.
      "إني لا أطلب الكثير، أيها السيناتور"، قالت"، "حمار واحد فقط لأتمكن من سحب الماء من بئر الرجل المشنوق".
      لاحظ السيناتور الأطفال النحاف الستة وسألها: "ماذا حدث لزوجك؟"
      "ذهب يبحث عن الثروة في جزيرة أروبا"، أجابت المرأة بروح دمثة، "وعثر على امرأة أجنبية، من النوع الذي يضع الماس في أسنانهن".
      أحدث الجواب عاصفة من الضحك.
      "حسناً، قرّر السيناتور، " ستحصلين على حمارك".
      وما هي إلا لحظات، حتى أحضر أحد مساعديه حماراً مزوداً بسرج جيد إلى بيت المرأة، وقد دُوِّن على كفله شعار من شعارات الحملة الانتخابية بطلاء لا يمكن إزالته لكي لا ينسى أحد أبداً أنه هدية من السيناتور.
      وعلى امتداد الشارع القصير، قام ببعض الأعمال الصغيرة الأخرى، بل وحتى قدم ملعقة دواء للرجل المريض الذي أمر بإخراج سريره ووضعه عند باب بيته كي يتمكن من رؤية السيناتور عندما يمرّ.
      في الزاوية الأخيرة تلك، ومن خلال ألواح السياج، رأى نلسن فارينا وهو مستلق في أرجوحته، وقد بدا شاحباً وكئيباً، لكن ومع ذلك، حيّاه السيناتور دون أن يبدي له أية مشاعر بالمودّة.
      "مرحباً، كيف حالك؟"
      التفت نلسن فارينا من فوق أرجوحته ورمقه بنظرته المفعمة بالارتياب والغّل.
      "أنا، كما تعرف"، قال.
      خرجت ابنته إلى الباحة عندما سمعت التحية.
      كانت ترتدي فستاناً هندياً رخيصاً من نوع غواجيرو، وكانت تزّين رأسها أقواس ملوّنة، وكانت قد دهنت وجهها بأصباغ لتقيه من أشعة الشمس. إلا أنه، حتى في وضعها السيئ ذاك، يستطيع المرء أن يتصور أنه لا توجد امرأة أخرى في جمالها على وجه البسيطة كلها. وقف السيناتور منقطع الأنفاس وقال بدهشة: "اللعنة. يفعل الله أكثر الأشياء جنوناً".
      في تلك الليلة، جعل نلسن فارينا ابنته ترتدي أجمل ثيابها، وبعث بها إلى السيناتور. وطلب منها الحارسان المسلحان بالبنادق اللذان كانا يهزان رأسيهما من شدة الحرارة في البيت المستعار، أن تنتظر على الكرسي الوحيد في الردهة.
      كان السيناتور يعقد في الغرفة المجاورة اجتماعاً مع أناس على قدر من الأهمية في روزال دل فالي، الذين كان قد جمعهم لينشد على مسامعهم الحقائق التي لم يكن قد ذكرها في خطابه، والذين كانوا يشبهون إلى درجة كبيرة جميع من كان يلتقي بهم في البلدات الصحراوية كلها. وكان قد بدأ يعتري السيناتور الملل ويشعر بالتعب من تلك الجلسات الليلية التي لم تكن تتوقف. كان قميصه مبللاً بالعرق، وكان يحاول أن يجففه على جسده من التيار الحار المنبعث من المروحة الكهربائية التي كانت تصدر طنيناً كطنين ذبابة الفرس في وسط الحرارة اللاهبة التي تغمر الغرفة.
      قال: "بالطبع لا نستطيع أن نأكل طيوراً ورقية" ثم أضاف: "إنكم تعرفون، وأنا أعرف أن اليوم الذي ستنمو فيه الأشجار والأزهار في كومة روث العنزات هذه، وفي اليوم الذي سيحل سمك الشابل محل الديدان في برك الماء، عندها، لن يعود لكم، ولن يعود لي شيء هنا، هل تفهمون ما أقوله لكم؟"
      لم يحر أحد جواباً. وفيما كان السيناتور يتكلم، مزّق صفحة من التقويم، وشكّل منها بيديه فراشة ورقية، ثم ألقاها نحو تيار الهواء المنبعث من المروحة، فراحت الفراشة تتطاير حول الغرفة، ثم خرجت وانسلت عبر شق الباب الموارب. وتابع السيناتور كلامه، بعد أن تمالك نفسه، يساعده في ذلك الموت المتواطئ معه.
      وأضاف: "لذلك، لا يتعين عليّ أن أكرّر على أسماعكم ما تعرفونه جيداً: بأن انتخابي مرة أخرى هو لمصلحتكم أنتم أكثر مما هو لمصلحتي أنا، لأني سئمت المياه الراكدة وعرق الهنود، في الوقت الذي تكسبون فيه أنتم، أيها الناس، رزقكم منه".
      رأت لورا فارينا الفراشة الورقية وهي تنسرب من باب الغرفة. رأتها فقط لأن الحارسين في البهو كانا يغطان في النوم وهما جالسين على الدرج، يعانق كل منهما بندقيته. وبعد أن دارت عدة دورات، انفتحت الفراشة المثنية بكاملها، وارتطمت بالحائط، والتصقت به. حاولت لورا فارينا أن تقتلعها بأظافرها. إلا أن أحد الحارسين، الذي استيقظ على صوت تصفيق منبعث من الغرفة المجاورة، لاحظ محاولتها العقيمة.
      "لا يمكنك اقتلاعها"، قال بفتور، "إنها مرسومة على الحائط". عادت لورا فارينا وجلست عندما بدأ الرجال يخرجون من الاجتماع. وقف السيناتور عند مدخل الغرفة ويده على المزلاج. ولم يلحظ لورا فارينا إلا عندما أضحت الردهة خاوية.
      "ماذا تفعلين هنا؟"
      قالت: "لقد أرسلني أبي".
      فهم السيناتور . أمعن النظر في الحارسين النائمين، ثم تمعّن في لورا فارينا، التي كان جمالها الفائق يفوق ألمه، وهنا عرف أن الموت هو الذي اتخذ قراره نيابة عنه.
      "ادخلي" قال لها.
      وقفت لورا فارينا والدهشة تعتريها عند مدخل الغرفة: كانت آلاف من الأوراق النقدية تتطاير في الهواء، تخفق كالفراشات. لكن السيناتور أطفأ المروحة، فتوقفت عن السباحة في الهواء وأخذت تتهاوى وتتساقط فوق قطع الأثاث في الغرفة.
      "كما ترين"، قال مبتسماً، " حتى الخراء يمكن أن يطير".
      جلست لورا فارينا على المقعد المدرسي. كانت بشرتها ناعمة ومشدودة، وبلون النفط الخام وكثافته، وكان شعرها مثل عرف فرس صغيرة، وكانت عيناها الواسعتان تمنحان بريقاً أكثر لمعاناً من وهج الضوء. وتبع السيناتور مسار نظرتها ووجد أخيراً الوردة التي تلوثت بنترات البوتاسيوم.
      قال: "إنها وردة".
      "نعم" قالت وفي صوتها نبرة ارتباك. "لقد شاهدتها عندما كنت في ريوهاتشا".
      جلس السيناتور على السرير العسكري، وراح يتحدث عن الورود فيما بدأ يفك أزرار قميصه. وعلى الجانب الذي كان يخيّل إليه أن قلبه موجود فيه داخل صدره، كان قد رُسم وشم في شكل قلب يخترقه سهم. ألقى القميص المبلل على الأرض وطلب من لورا فارينا أن تساعده في خلع حذائه الطويل.
      جثت أمام السرير. لم يبعد السيناتور عينيه عنها وهو يتمعن فيها بدقّة، وفيما كانت تفكّ رباط حذائه، كان يتساءل من منهما سيكون سيء الحظ من لقائهما هذا.
      قال: "إنك مجرد طفلة".
      قالت: "قد لا تصدق. سأبلغ التاسعة عشرة من عمري في شهر نيسان القادم". أبدى السيناتور مزيداً من الاهتمام.
      "في أيّ يوم؟"
      قالت: "في اليوم الحادي عشر".
      أحس السيناتور بأنه أصبح أفضل حالاً، ثم قال: " ننتمي كلانا إلى برج الحمل"، ثم أضاف مبتسماً:
      "إنه برج العزلة".
      لم تكن لورا فارينا تبدي اهتماماً بما كان يقوله لأنها لم تكن تعرف ماذا تفعل بالحذاء. أما السيناتور، فلم يكن يعرف ماذا يفعل بلورا فارينا، لأنه لم يكن قد اعتاد مثل علاقات الحبّ المفاجئة هذه، كما أنه كان يعرف أن أصل هذه العلاقة يعود إلى الذل والمهانة. ولكي يتاح له قليل من الوقت للتفكير، أمسك لورا فارينا بإحكام بين ركبتيه، وضمها حول خصرها، واستلقى على ظهره فوق السرير. ثم أدرك أنها كانت عارية تحت ثيابها، بعد أن انبعثت من جسدها رائحة قوية من عطر حيوان الغابة، لكن قلبها كان واجفاً، وكسا جلدها عرق جليدي.
      "لا أحد يحبّنا"، قال متنهداً.
      حاولت لورا فارينا أن تقول شيئاً، لكن لم يكن لديها من الهواء سوى قدر يكفيها كي تتنفس. جعلها تستلقي بجانبه ليساعدها، وأطفأ الضوء وأصبحت الغرفة في ظلّ الوردة. استسلمت إلى رحمة قدرها. وراح السيناتور يداعبها ببطء، يسعى إليها بيده، يلمسها لمساً خفيفاً، لكنه صادف شيئاً حديدياً يعوق طريقه في البقعة التي كان يسعى إليها.
      "ماذا تضعين هناك؟"
      قالت: "قفل".
      "لماذا بحق السماء!" قال السيناتور غاضباً وسأل عن الشيء الذي يعرفه جيداً. "أين المفتاح؟"
      تنفست لورا فارينا الصعداء.
      أجابت: "إنه موجود عند أبي"، وأضافت: "لقد طلب مني أن أخبرك بأن ترسل أحداً من رجالك للحصول عليه، وأن ترسل معه وعداً خطياً بأنك ستحلّ مشكلته".
      ازداد السيناتور توتراً. ودمدم ساخطاً: "يا له من ضفدع ابن زنى". ثم أغمض عينيه ليسترخي وألقى بنفسه في الظلام. تذكّر، تذكّر، سواء كنت أنت أو شخصاً آخر، فلن تمضي في هذه الحياة فترة طويلة وستموت حتى لن يبقى أحد يلهج باسمك.
      انتظر حتى تلاشت القشعريرة التي اعترته.
      سألها: "قولي لي شيئاً واحداً: ماذا سمعت عني؟"
      "هل تريد أن أقول الحق؟"
      "الحق".
      قالت لورا فارينا: "حسناً، إنهم يقولون إنك أسوأ من الآخرين لأنك مختلف".
      لم ينزعج السيناتور. لاذ بالصمت لفترة طويلة وهو مغمض العينين. وعندما فتحهما ثانية، بدا أنه أفاق من أكثر غرائزه المثيرة للخوف.
      ثم قرّر: "أوه، بحقّ السماء، قولي لأبيك ابن العاهرة بأنني سأحلّ مشكلته".
      "إذا أردت، يمكنني أن أذهب وأجلب المفتاح بنفسي"، قالت لورا فارينا، لكن السيناتور أوقفها.
      قال: "انسِ أمر المفتاح، ونامي قليلاً معي. جميل أن يكون بصحبة المرء أحد عندما يكون وحيداً تماماً".
      ثم وضعت رأسه على كتفها، وعيناها مثبتتان على الوردة. طوّق السيناتور خصرها بذراعيه، ودفن وجهه في إبطها الذي تفوح منه رائحة حيوان الغابة، واستسلم للرعب. وبعد ستة أشهر وأحد عشر يوماً مات وهو في تلك الوضعية ذاتها، مُحتقراً ومُهاناً بسبب الفضيحة التي شاعت بأنه كان مع لورا فارينا وكان يبكي بحرقة لأنه مات بدونها.

      صفحتي على فيس بوك
      https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

      تعليق

      • محمد سلطان
        أديب وكاتب
        • 18-01-2009
        • 4442

        #4
        أجمل غريق في العالم
        [align=right]ترجمة الدكتور محمد قصيبات[/align]


        ظنّه الأطفال لمّارأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقتربمنهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌكبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطيء وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوزو الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق. شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثةيوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلوننَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث. أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَإلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَحصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :
        "ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحتالبحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه." عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدواأنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربتقدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعضالغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت. كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌمن الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس منقريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانتالقرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلكالرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًالدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..
        كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا وكريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي فيحوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقصمنهم أحد.. في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًايبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق ...أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن مالصق بجلده بالسكاكين..
        لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتميإلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح فيمتاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ فيفخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهتالنسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثلهذا الجمال و الهيبة..
        لم تجد نساء القرية للجثة ، بسبب الطولِ المفرطِ ،سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِالسراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميهبعد أن جربوا أكبر الأحذية. فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن فيتفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من "الأورغندي" الشفاف فذلك يليقبميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال.. جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بينأصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بينالحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولالبحر "الكاراييب" أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن " أن لذلك علاقةبالميّت" ، وقالت أخرى " لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوتوأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشكأنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أنينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج منالصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف".. أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..
        دخلتالنسوة في متاهات الخيال. قالت أكبرهن:" للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان". كانهذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّاالأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهاروذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل "لوتارو". في الواقع ماقالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيدالتفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعتوكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..
        بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكتالبحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسمإستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعرهواللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثةممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكمظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخلفيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أنتجد ربة البيت له كرسيا يتحمله...ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرةألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضالبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوايقولون له "ابق وأشرب القهوة معنا" ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: "حمدا لله لقدذهب هذا الأبله". هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..
        فيالفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف علىوجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعتأصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..
        وزادالبكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض.. عندما عاد الرجال بعد أنتأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوهالنسوة. قالت النسوة: "الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!".. أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هوالتخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجالنقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقلالغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلىالأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لاتتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتىالآخرين. ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقتحيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت "الكتفيّة" حولكتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراعلغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :" مالهذه الوشاياتوالفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذهالفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟"..
        بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّتفانقطعت أنفاس الرجال دهشة: "إنه إستبان!" لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. منيكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفهوبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..
        لكن الجثة التيأمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد! إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافيالقدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بداالخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر منالجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحدالرجال: "لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكونقد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه."
        أعد سكان القرية أكبرجنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضارالزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.
        عندما تأكدتنساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحمالمكان بالزهور وبالنساء.. في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريقإلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرونأنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب ، وبينما كانالناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرفلاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذاالغريق. ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكواأنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحدسكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير فيقريتهم..
        عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكنشبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقفودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..
        منذ ذلك اليوم قرر سكّان القريةدهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبارفي الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِالسنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِحاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَهالورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم: "أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيثضوء الشمس. هناك هي قرية إستبان!".
        صفحتي على فيس بوك
        https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

        تعليق

        • محمد سلطان
          أديب وكاتب
          • 18-01-2009
          • 4442

          #5
          الجمال النائم والطائرة
          [align=right]ترجمة : بن سويعد عبد الحليم[/align]


          كانت جميلة فاتنة ، رشيقةالقوام ، وبشرتها ناعمة بلون الخبز ؛ عيناها مثل اللوز الأخضر و شعرها الأسود مسدولعلى كتفيها ؛ ذات هيئة أندونيسية ، كما قد تكون قادمة من بلاد الأنديز .
          كانت ترتدي لباسا ذا نسق خلاق ينم عن ذوق رفيع ؛
          سترة مصنوعة من فراءاللينكس ، قميصا من الحرير الخالص بأزهار متناسقة ، سروالا ذا قماش طبيعي مع حذاءذي حزام ضيق بلون نبات البوغنفيليا (bougainvillea ).
          "هذه أجمل امرأة علىالإطلاق شاهدتها في حياتي "؛ قلت في نفسي عندما لمحتها عيناي
          وهي تمر أماميبخطوات رهيفة حذرة كخطوات اللبؤة ، و أنا واقف في الصف أمام مكتب التسجيل لدفعالأمتعة بمطار شارل ديغول بباريس ، إستعدادا لرحلتي إلى نيويورك . لقد كان ظهوراخارقا لملاك فائق الجمال وللحظات فقط بحيث سرعان ما اختفى في زحمة بهو المطار .
          كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا ، و كان الثلج يتساقط منذ الليلةالمنقضية . كانت حركة المرور أبطأ من العادي في شوارع باريس ، و أكثر بطئا علىالطرق السريعة أين اصطفت الشاحنات الكبيرة على جانب الطريق ، بينما تزاحمت السياراتو اختلط دخانها بالثلج ؛ أمّا بداخل بهو المطار فكان الجو لايزال ربيعيا .
          وقفت في الطابور أنتظر دوري ، خلف مسنّة هولندية أمضت ساعة كاملة فيالحديث عن حقائبها الإحدى عشر ؛ و بدأت أشعر بقليل من الملل عندما وقعت عيناي علىالجمال الفاتن الذي قطع عليّ أنفاسي وأنقذني من تلك الضوضاء ، و لم أدر بعدها كيفانتهى مسلسل المرأة الهولندية وحقائبها ؛ ولم أنزل من تحليقي في السحاب إلاّ علىصوت مضيفة المكتب وهي تعاتبني عن شرود ذهني ؛ وبادرتها ملتمسا عذرها إن كانت تؤمنبالحب من أوّل نظرة . " طبعا ، أمّا بقية الأصناف فهي مستحيلة " ردّت عليّ دون أنتحوّل عينيها من شاشة الكمبيوتر ، ثمّ سألتني إن كنت أفضّل مقعدا في مساحة التدخينأو عكس ذلك . رددت عليها بلهجة تهجّم قصدت بها السيّدة الهولندية " لا يهم ، ما دامأنّني لن أجاور الإحدى عشر حقيبة ."
          أبدت قبولها للتعليق ببسمة تجارية ، ثمّقالت لي دون أن تفارق عيناها الشاشة لحظة : " اختر أحد الأرقام التالية ؛ ثلاثة ،أربعة أو سبعة "
          قلت : " أربعة " .
          ردّت ، و قد كشفت ابتسامتها عننشوة وسعادة : " منذ خمسة عشر عاما و أنا أشغل هذا المكان ، ما رأيت أحدا قبلكاختار غير الرقم سبعة " .
          كتبت رقم المقعد على بطاقة الركوب ، ثم أرجعتهاإليّ مع بقية الوثائق . نظرت إليّ لأوّل مرة بعينين بلون العنب أغدقتا عليّ عزاء ،و خفّفتا من حرقتي ريثما يظهر الجمال الفاتن من جديد . و في هذه اللحظة بالذات ،أخبرتني أنّ المطار قد أغلق للتو في وجه الملاحة ، و أنّ كلّ الرحلات قد أجّلت إلىمواعيد لاحقة .
          "إلى متى يدوم هذا التأجيل ؟ "
          "علم ذلك عند الله " ، ردّت عليّ بابتسامة ، وواصلت : " لقد أذيع هذا الصباح بأنّ هذه العاصفة هي الأعنفخلال العام كلّه " .
          لقد كانت على خطأ ؛ لقد كانت عاصفة القرن كلّه ؛ إلاّأنّ الجو ظلّ ربيعيا في قاعة الإنتظار ذات الدرجة الأولى ، و يمكنك ملاحظة ورودحقيقية لازالت حيّة في إصّيصاتها ، وحتى الموسيقى المنبعثة تضفي سحرا وهدوءا تماماكما تصوّرها مبدعوها ؛ ثمّ فجأة قرّرت في نفسي أنّ هذه الظروف تمثّل ملجأ مناسباللجمال الفاتن ، و كذلك رحت أبحث عنها في قاعات الإنتظار الأخرى تائها ولهانا و غيرآبه بما قد أسبّبه من لفت أنظار الجمهور إليّ .
          كان معظم المنتظرين رجالا منالحياة الواقعية ، يقرؤون صحفا بالإنجليزية ، بينما كانت زوجاتهم يفكرن في أشخاصآخرين وهن ينظرن من خلال النوافذ إلى الطائرات الجامدة في الثلج وإلى المصانعالخامدة المتجمّدة وحقول " رواسي " الواسعة التي حطّمتها أسود جائعة .
          وماأن حلّ منتصف النهار حتى شغلت كل أماكن الجلوس وارتفعت درجة حرارة القاعة ، و باتتلا تحتمل إلى درجة أنّني غادرت لآخذ جرعة هواء منعشـة . وبالخارج شاهدت منظرا غيرعادي ؛ لقد تجمهر كل أصناف البشر داخل قاعات الإنتظار ، و منهم من قبع في الأروقةوعلى المدرّجات منقوصة الهواء ، ومنهم من ألقى بنفسه على الأرض رفقة الحيواناتالأليفة والأمتعة والأبناء . وانقطعت الإتصالات مع المدينة وأضحى القصر البلاستيكيالشفاف أشبه بكبسولة فضائية عملاقة تركت قابعة على الأرض في وجه العاصفة . ولميفارق ذهني التفكير في أن الجمال الفاتن يقبع في مكان ما وسط هذا الحشد المدجّن ( المروّض ) ، و ألهمني ذلك شجاعة و صبرا لأظلّ منتظرا ظهوره .
          ما أن حلّ وقتالغذاء حتى أدركنا أنّ حالنا أضحى شبيها بمن تحطّمت سفينتهم في البحر ، وأضحتالطوابير غير منتهيّة خارج مطاعم المطار السبعة ، و خارج المقاهي و الحانات ؛ وفيأقلّ من ثلاث ساعات أوصدت أبوابها لأنّه لم يبق بها شيء للإستهلاك . و حتى الأطفال، الذين ظهروا في لحظة ما و كأنّهم كل أطفال العالم قد اجتمعوا هنا ، شرعوا فيالبكاء دفعة واحدة . ثمّ ما لبثت أن انبعثت رائحة القطيع من الجمهور الغفير ؛ لقدكان نداء الفطرة .
          وفي تلك الزحمة ، لم أستطع الحصول سوى على كأسين منمثلّجات الفانيلا من محلّ بيع للأطفال . لقد كان الناذلون يضعون الكراسي علىالطاولات عندما غادر أصحاب المحل ، في حين كنت أتناول وجبتي ببطء عند الكونتواروأنا أتأمّل نفسي في المرآة المقابلة مع آخر كأس وآخر ملعقة صغيرة ، ولكن دائمالتفكير في الجمال الفاتن .
          في الثامنة ليلاّ ، غادرت رحلة نيويورك المبرمجةأصلاّ على الساعة الحادية عشر صباحاّ . وما أن امتطيت الطائرة حتى كان مسافروالدرجة الأولى قد أخذوا أماكنهم ؛ واصطحبتني المضيفة إلى مقعدي ؛ وفجأة كاد قلبييتوقّف عن النبض . يا لغريب الصدف ! رأيت الجمال الفاتن جالسا على المقعد المجاورأمام النافذة . لقد كانت مستغرقة في ترتيب مجالها الحيوي بأستاذية المسافر الخبير ؛و قلت في نفسي : " لو قدّر لي أن أكتب هذا ، فلن يصدّقني أحد ". ثمّ نجحت في إلقاءتحية متردّدة بعد تلعثم لم تسمعها و لم تنتبه لها .

          لقد شغلت مقعدها كما لوكانت تنوي أن تعمّر هنالك لأعوام ؛ وضعت كلّ شيء في مكانه المناسب و في متناول يدهاحتى أنّ محيط مقعدها أصبح مصفّفا كالبيت المثالي . و في أثناء ذلك ، أحضر لناالمضيف شامبانيا الضيافة . أخذت كأسا لأناولها إياه ، لكنّني تمهلت قليلا و فكّرتفي ذلك ثمّ عدلت عن رأيي في الوقت المناسب . لم تكن تريد سوى كأس ماء ، ثمّ أوعزتإلى المضيف ، أوّل الأمر بلغة فرنسية غير مفهومة ثمّ بلغة إنجليزية لم تكن أوضح منسابقتها إلاّ بقليل، بأن لا يوقظها خلال الرحلة، و لأيّ سبب كان. لقد كان يشوبصوتها الدافىء بعض الحزن الشرقي .
          وعندما أحضر المضيف الماء ، كانت تضع فيحجرها محفظة تجميل ذات زوايا نحاسيّة ؛ أخذت قرصين ذهبيين من علبة تحتوي على أقراصأخرى ذات ألوان مختلفة . كانت تفعل كلّ شيء بطريقة منهجيّة و بثقة كبيرة وكأن لاشيء غير متوقع قد حدث لها منذ ولادتها . وما إن انتهت حتى أسدلت الستار على النافذة، سحبت مقعدها إلى الخلف في اتجاه عمودي ومدّدته إلى أقصى ما يمكن ، غطّت جسمهاببطانية إلى الخصر دون أن تنزع حذاءها ، وضعت قناع النوم على رأسها ، استدارتوولّتني ظهرها ثمّ سرعان ما غرقت في نوم عميق . لم تصدر عنها تنهيدة واحدة ، ولاأدنى حركة طيلة الساعات الثمانية الأبدية ودقائقها الإثني عشر الإضافية ، زمنالرحلة إلى نيويورك .
          لقد كانت الرحلة خارقة واستثنائية بالنسبة إليّ . لقدآمنت دائما ولازلت أؤمن بأن لا شيء أجمل في الوجود من امرأة جميلة ؛ وكان يستحيلعليّ أن أهرب للحظة واحدة من أسر ذلك المخلوق الفاتن الذي ينام بجانبي ، والذيكثيرا ما تردّده الروايات والقصص .
          ما إن أقلعت الطائرة حتى اختفى المضيفوخلفته مضيفة شابة ، حاولت أن توقظ الملاك النائم لتناولها محفظة النظافة وسماعاتالموسيقى . ردّدت عليها التعليمات التي أملاها الملاك على زميلها ، غير أنها أصرّتعلى السماع منه شخصيا ممّا اضطر المضيف أن يؤكد أوامرها مع أنّه ألقى ببعض اللومعليّ لأنّ الملاك لم يعلّق إشارة " أرجو عدم الإزعاج " حول رقبتـه .
          تناولتوجبة العشاء بمفردي ، محدّثا نفسي في سكون بكلّ ما كنت سأقوله لها لو شاركتني عشائي . كان نومها هادئا منتظما إلى درجة أنّ نفسي حدّثتني في إحراج بأنّ الأقراصالمنوّمة التي تناولتها لم تكن للنوم بل كانت للموت . و مع كلّ شراب كنت أرفع كأسيلأشرب نخب صحّتها .
          خفتت الأضواء ، و كان يعرض على الشاشة فيلم لم يكنلينتبـه إليه أحد ، و كنّا ولا أحد معنا في ظلمة هذا العالم . لقد ولّت عاصفة القرنوكان ليل الأطلسي صافيا ورهيبا ، وكانت الطائرة تبدو جاثمة غير متحرّكة بين النجوم . ثمّ رحت أتأمّلها بتمعّن لعدّة ساعات ، وأدقّق في جسمها شبرا بشبر، ولم أكنألاحظ أية إشارة تدلّ على الحياة سوى ظلال الأحلام التي كانت تعبر من خلال جبهتهاعبور السحب فوق الماء . كانت تضع حول رقبتها سلسلة رقيقة تكاد لا ترى نظرا للونبشرتها الذهبي . لم تكن أذناها المكتملتان مثقوبتين ، وأظافرها الوردية تعكس صحتهاالجيدة . وكان يزيّن يدها اليسرى خاتم بسيط ؛ ولأنّها لا تبدو أكبر من العشرين عاما، كان عزائي أنّه لا يمثّل خاتم زفاف بل لا يعدو أن يكون علامة خطبة عابرة أوارتباط آني. ورحت على وقع تأثير الشامبانيا أردّد في سرّي روائع جيراردو دييغو حولالمرأة والحب والجمال . خفّضت ظهر مقعدي ليصل إلى نفس مستوى مقعدها ، وألقيت بجسميعليه ، فكنّا أقرب إلى بعضنا البعض من لو كنّا ممدّدين على سرير الزوجية .
          كانت بشرتها تحرّر عبيرا منعشا ، محاكيا صورتها ، لم يكن سوى رائحة جمالها . لقد كان شيئا مدهشا حقا . لقد قرأت في الربيع الماضي قصّة جميلة للكاتب ياسوناريكاواباتا عن أثرياء كيوتو القدامى الذين كانوا يدفعون مبالغ ضخمة من المال مقابلقضاء ليلة في التفرج على أجمل فتيات المدينة وهنّ مخدرات و مستلقيات عرايا على نفسالسرير ، يتعذبون من حرقة الشغف والحب ولا يستطيعون ايقاظهن أو لمسهن ، بل ولايجرؤون حتى على المحاولة لأنّ مبعث لذّتهم و تلذذهم هو رؤية الفتيات العاريات وهنّنائمات .
          في تلك الليلة ، وأنا أراقب الجمال النائم ، لم أصل فقط إلى إدراكمعنى التألم الناجم عن الضعف النفسي والحسّي ، بل مارسته وجرّبته وتذوّقت مرارتهإلى أبعد الحدود ؛ وقلت في نفسي وقد ازدادت آلامي واتقدت أحاسيسي بفعل الشمبانيا : " ما فكّرت يوما في أن أصبح من قدماء اليابانيين عند هذا العمر المتأخّر ".
          أعتقد أنّني نمت لعدة ساعات تحت تأثير الشامبانيا وتفجيرات الفيلمالصامتة ؛ وعندما استيقضت كانت رأسي تؤلمني بشدّة . ذهبت إلى الحمّام ، وألفيتالمرأة المسنّة مستلقيّة على مقعدها تماما كالجثّة الهامدة في ساحة المعركة . كانتنظاراتها متساقطة على الأرض في وسط الرواق ، و للحظة ، إنتابني شعور عدواني ممتع فيعدم التقاطها . ما إن تخلّصت من الشمبانيا الزائد في دمي ، حتى رحت أتأمّل نفسي فيالمرآة ، فوجدتني قبيح المنظر وتعجّبت كيف يحطّم الحب صاحبه إلى هذا الحد .
          فقدت الطائرة علوّها من دون سابق إنذار ، ثمّ عادت واستوت وواصلت تسابقالأجواء بسرعة كاملة إلى الأمام . ظهرت فجأة إشارة " ألتزموا أماكنكم " ، فأسرعتإلى مقعدي على أمل أن أجد الجمال النائم قد استيقظ بفعل الإضطراب ، لعلّه يلجأ إلىحضني ليحتمي به ويدفن فيه خوفه وذعره . وخلال حركتي الخاطفة، كدت أن أدوس علىنظارات المرأة الهولندية وكنت سأسعد لو أنّني فعلت ؛ غير أنّتي غيرت موضع قدمي فيآخر لحظة ، ثمّ التقطتها ووضعتها في حجرها شكرا لها وامتنانا لعدم اختيارها للمقعدذي الرقم أربعة.
          كان نوم الملاك الجميل أعمق من أن تعكره حركة الطائرة . وعندما استوت الطائرة في مسارها من جديد ، كان عليّ أن أقاوم رغبتي الجامحة فيايقاظها بافتعال عذر ما ، لأنّ كل ما كنت أرغب فيه خلال الساعة الأخيرة من الرحلةهو فقط رؤيتها يقظة ، حتى ولو كانت غاضبة ، لأستردّ حريّتي المسلوبة وربما لأستعيدشبابي كذلك ؛ غير أنّني افتقدت الشجاعة الكافية لذلك ، و قلت لنفسي باحتقار شديد : " إذهب إلى الجحيم ! لماذا لم أولد ثورا ؟ "
          استفاقت من نومها ، ومن تلقاءنفسها ، عند اللحظة التي اشتعلت فيها أضواء الهبوط . كانت جميلة ناعمة و مرتاحة كمالو أنها نامت في حديقة للورود ؛ وحينها أدركت أنّ الأشخاص الذين يتجاورون في مقاعدالطائرة لا يبادرون بتحية الصباح تماما كما هو شأن الأزواج القدامى ؛ و كذلك هي لمتفعل .
          خلعت قناعها ، فتحت عيناها المشعّتين ، أرجعت ظهر المقعد إلى وضعيتهالعاديّة ، وضعت البطانية جانبا ، حرّكت شعرها ليعود إلى نسقه بفعل وزنه ، وضعتمحفظة التجميل على ركبتيها ، عالجت وجهها ببعض المساحيق غير الضرورية لتستهلك وقتاكافيا يعفيها من النظر إليّ ريثما تفتح أبواب الطائرة ، ثمّ لبست سترتها اللينكسيـة . تخطّتنـي مع عبارة عفو تقليدية بلغة اسبانية لاتينوأمريكية نقيّة ، وغادرت من غيركلمة وداع ، أو على الأقل كلمة شكر على ما بذلته من أجل أن أجعل ليلتنا سعيدة ، ثمّسرعان ما اختفت في شمس يومنا الجديد في غابة نيويورك الأمازونية .
          صفحتي على فيس بوك
          https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

          تعليق

          • محمد سلطان
            أديب وكاتب
            • 18-01-2009
            • 4442

            #6
            الموت أقوى من الحبّ












            ترجمة: خالد الجبيلي


            عندما وجد السيناتور أونيسمو سانشيز امرأة التي انتظرها طوال عمره، كان لا يزال أمامه ستة أشهر وأحد عشر يوماً قبل أن توافيه المنية. وكان قد التقاها في روزال دل فيري، وهي قرية متخيّلة، كانت تستخدم كرصيف ميناء سري لسفن المهربين في الليل، أما في وضح النهار، فكانت أشبه بمنفذ لا فائدة منه يفضي إلى الصحراء، وتواجه بحراً قاحلاً لا اتجاه له، وكانت قرية نائية وبعيدة عن أي شيء، إلى درجة أن أحداً لم يكن يتوقع أن يكون بوسع أي انسان أن يغيّر مصير أي فرد من سكانها.

            حتى أن اسمها كان يثير الضحك نوعا ما، وذلك لأن الوردة الوحيدة الموجودة في تلك القرية كان يضعها السيناتور أونيسمو سانشيز في سترته عصر ذلك اليوم الذي التقى فيه لورا فارينا.
            وكانت كذلك محطة إجبارية في الحملة الانتخابية التي كان يقوم بها السيناتور كلّ أربع سنوات. فقد كانت عربات الكرنفال قد وصلت في الصباح الباكر، ثم تبعتها الشاحنات التي تقل الهنود الذين كانوا يُستأجرون ويُنقلون إلى المدن الصغيرة لزيادة عدد الحشود في الاحتفالات العامة وتضخيمها. وقبل الساعة الحادية عشرة بقليل، وصلت السيارة التابعة للوزارة التي يشبه لونها لون مشروب الفراولة الغازي، بالإضافة إلى السيارات التي تقل الموسيقيين، والألعاب النارية، وسيارات الجيب التي تقل أفراد الحاشية. أما السيناتور أونيسمو سانشيز، فكان يجلس مسترخياً في سيارته المكيّفة، لكنه ما أن فتح باب السيارة، حتى هبّت عليه نفحة قوية من اللهب، وعلى الفور تبلل قميصه المصنوع من الحرير الصافي، وأصبح وكأنه قد غمس في حساء فاتح اللون، واعتراه شعور بأنه كبر عدة سنوات، وأحس بالوحدة على نحو لم يشعر به من قبل. في الحياة الحقيقية، كان قد بلغ الثانية والأربعين من العمر، وكان قد تخرّج من جامعة غوتينجين بدرجة شرف كمهندس في استخراج المعادن. كان قارئاً نهماً للأعمال الكلاسيكية اللاتينية المترجمة ترجمة ركيكة. وكان السيناتور زوج امرأة ألمانية متألقة أنجبت له خمسة أطفال، وكانوا جميعهم يعيشون بسعادة في بيتهم، وكان هو أكثرهم سعادة إلى أن أخبروه، منذ ثلاثة أشهر، بأنه سيموت ميتة أبدية قبل أن يحل عيد الميلاد القادم.
            وفيما كانت التحضيرات للاجتماع الحاشد على وشك أن تُستكمل، تمكّن السيناتور من الاختلاء بنفسه لمدة ساعة في البيت الذي كانوا قد أعدّوه له ليرتاح فيه. وقبل أن يتمدد على الفراش، وضع الوردة التي حافظ عليها طوال رحلته عبر الصحراء في كأس مليء بمياه الشرب، وابتلع الحبوب التي أخذها معه ليتحاشى تناول قطع لحم العنز المقلّي التي كانت تنتظره أثناء النهار، وتناول عدّة حبوب مسكّنة قبل وقتها المحدد خشية أن يعتريه الألم. ثم وضع المروحة الكهربائية قرب الأرجوحة واستلقى عارياً لمدة خمس عشرة دقيقة في ظلّ الوردة، وبذل جهداً كبيراً كي يبعد فكرة الموت عنه كي يغفو قليلاً. وفيما عدا الأطباء، لم يكن أحد يعرف أن أمامه أياماً معدودات سيعيشها، لأنه قرّر أن يبقي سرّه طي الكتمان، وأن لا يغيّر شيئاً في حياته، لا بدافع من الكبرياء، بل بسبب الخجل والخزي.
            أحسّ أنه يمتلك زمام أموره عندما خرج للقاء الجمهور للمرة الثانية في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم، مرتاحاً ونظيفاً، وهو يرتدي بنطالاً من الكتّان الخشن، وقميصاً مزّهراً، وكانت الحبوب المضادة للألم قد ساعدته في إضفاء شيء من السكينة على روحه. غير أن التآكل الذي كان الموت يحدثه فيه أكثر خبثاً مما كان يظن، لأنه ما أن صعد إلى المنصة، حتى اعتراه شعور غريب بالازدراء للذين كانوا يسعون جاهدين لأن يحظوا بشرف مصافحته، ولم يشعر بالأسف، كما في السابق، على جموع الهنود الذين قلما كان بوسعهم تحمّل جمرات نترات البوتاسيوم الملتهبة تحت أقدامهم الحافية في الساحة الصغيرة المجدبة. وبحركة من يده أوقف التصفيق، بغضب تقريباً، وبدأ يتكلم دون أن تبدو على وجهه أية تعابير محددة. وكانت عيناه مثبتتين على البحر الذي كان يئن تحت وطأة لهيب الحرارة. وكان صوته العميق الموزون يشبه المياه الراكدة، لكنه كان يعرف أنه لم يكن يقول الصدق في الخطاب الذي كان قد حفظه عن ظهر قلب، والذي كان قد ألقاه أمام الجموع مرات كثيرة، بل كان يناقض أقوال ماركوس أوريليوس صاحب النزعة الجبرية في كتاب تأملاته الرابع.
            "إننا هنا لكي نلحق الهزيمة بالطبيعة"، بدأ خطابه بخلاف كلّ قناعاته. " لن نصبح لقطاء في بلدنا بعد الآن، أيتام الله في عالم العطش والمناخ الرديء، منفيين في أرض آبائنا وأجدادنا. بل سنكون أناساً مختلفين، أيها السيدات والسادة، سنكون أناساً عظماء وسعداء".
            كان ثمة نمط معين في هذا السيرك الذي يقوم به. ففيما كان يلقي كلمته، كان مساعدوه يلقون بمجموعات من الطيور الورقية في الهواء، فتدّب الحياة في هذه المخلوقات الاصطناعية، وتحلّق حول المنصة المنتصبة من ألواح خشبية، وتطير باتجاه البحر. وفي الوقت نفسه، كان رجال آخرون يفرغون بعض جذوع الأشجار من الشاحنات، ويغرسونها في تربة نترات البوتاسيوم وراء الجموع الحاشدة. وكانوا قد أقاموا واجهة كرتونية من بيوت خيالية من الآجر الأحمر ذات نوافذ زجاجية، وأخفوا وراءها الأكواخ الحقيقية البائسة.
            أطال السيناتور خطابه مستشهداً باقتباسين اثنين باللغة اللاتينية ليطيل أمد المهزلة. ووعد الحشد بآلات تصنع المطر، وبأجهزة نقّالة لتربية حيوانات المائدة، وبزيوت السعادة التي تجعل الخضراوات تنمو في تربة نترات البوتاسيوم، وبشتلات من أزهار الثالوث المزروعة في أصص. وعندما رأى أنه استطاع أن يخلق عالمه الخيالي، أشار إليه بيده، وصاح بأعلى صوته: "ذاك الدرب سيكون دربنا، أيها السيدات والسادة. انظروا! ذاك الدرب سيكون لنا".
            التفت الحشد. كانت سفينة مصنوعة من الورق الملّون تعبر وراء البيوت، وكانت أطول من أعلى بيت في المدينة الاصطناعية. وعندها لاحظ السيناتور، أنها بعد أن شُيدت وأُنزلت وحُملت من مكان إلى مكان آخر، التهم الطقس الشنيع البلدة الكرتونية المتداخلة، وكادت تصبح سيئة كما هو حال قرية روزال دل فيري.
            وللمرة الأولى منذ اثتني عشرة سنة، لم يتوجه نلسن فارينا ليرحب بالسيناتور. بل كان يستمع إلى خطاب السيناتور وهو مستلق على أرجوحته في ما تبقى من قيلولته، تحت ظلال عريشة البيت ذي الألواح غير المستوية، الذي بناه بيديّ الصيدلي اللتين جرّ فيهما زوجته الأولى والتي قطعّها إلى أشلاء. ثم هرب من جزيرة الشيطان، وظهر في روزال ديل فيري على متن سفينة محمّلة بببغاوات بريئة من نوع المقو، برفقة امرأة سوداء جميلة كافرة، كان قد التقى بها في باراماريبو وأنجب منها فتاة. لكن المرأة ماتت لأسباب طبيعية بعد فترة قصيرة، ولم تلق مصير المرأة الأخرى، التي ساهمت أعضاؤها المقطعّة إرباً في تسميد قطعة الأرض المزروعة بالقنبيط، بل ووريت التراب بكامل جسدها، محتفظة باسمها الهولندي، في المقبرة المحلية. وقد ورثت الابنة لون أمها وقوامها الجميل، فضلاً عن عينيّ أبيها الصفراوين المندهشتين، وكان يحق له أن يعتقد أنه كان يربّي أجمل امرأة في العالم.
            ومنذ أن اجتمع بالسيناتور أونيسمو سانشيز خلال حملته الانتخابية الأولى، طلب منه نلسن فارينا أن يساعده في الحصول على بطاقة هوية مزورة تجعله في منأى عن قبضة القانون. إلا أن السيناتور رفض بطريقة ودّية، ولكن حازمة. غير أن نلسن فارينا لم يستسلم، بل ظل ولسنوات عديدة، وكلما أتيحت له الفرصة، يكرّر طلبه بأساليب مختلفة. أما هذه المرة، فقد بقي في أرجوحته، وقد كتب عليه أن يتعفّن حياً في عرين القراصنة اللاهب ذاك. وعندما سمع التصفيق الأخير، رفع رأسه، وأخذ يتطلع من فوق ألواح السياج، ورأى الجانب الخلفي من المهزلة: الدعائم التي أُحضرت للمباني، جذوع الأشجار، والمخادعين المتوارين الذين يدفعون السفينة فوق المحيط. ثم بصق بإحساس مفعم بالحقد والازدراء.
            وبعد أن ألقى كلمته، أخذ السيناتور كدأبه يجوب شوارع القرية وسط أنغام الموسيقى والأسهم النارية، وقد تحلّق حوله سكان القرية، الذين راحوا يبثون له شكاويهم ومشاكلهم. وكان السيناتور يصغي إليهم باهتمام وود شديدين ولم يكن يتورع عن مواساة كلّ فرد منهم، دون أن يقدم لأي منهم أي خدمات هامة. وتمكنت امرأة تقف على سطح أحد المنازل مع أطفالها الستة الصغار من أن تُسمعه صوتها وسط الضجيج وأصوات الأسهم النارية.
            "إني لا أطلب الكثير، أيها السيناتور"، قالت"، "حمار واحد فقط لأتمكن من سحب الماء من بئر الرجل المشنوق".
            لاحظ السيناتور الأطفال النحاف الستة وسألها: "ماذا حدث لزوجك؟"
            "ذهب يبحث عن الثروة في جزيرة أروبا"، أجابت المرأة بروح دمثة، "وعثر على امرأة أجنبية، من النوع الذي يضع الماس في أسنانهن".
            أحدث الجواب عاصفة من الضحك.
            "حسناً، قرّر السيناتور، " ستحصلين على حمارك".
            وما هي إلا لحظات، حتى أحضر أحد مساعديه حماراً مزوداً بسرج جيد إلى بيت المرأة، وقد دُوِّن على كفله شعار من شعارات الحملة الانتخابية بطلاء لا يمكن إزالته لكي لا ينسى أحد أبداً أنه هدية من السيناتور.
            وعلى امتداد الشارع القصير، قام ببعض الأعمال الصغيرة الأخرى، بل وحتى قدم ملعقة دواء للرجل المريض الذي أمر بإخراج سريره ووضعه عند باب بيته كي يتمكن من رؤية السيناتور عندما يمرّ.
            في الزاوية الأخيرة تلك، ومن خلال ألواح السياج، رأى نلسن فارينا وهو مستلق في أرجوحته، وقد بدا شاحباً وكئيباً، لكن ومع ذلك، حيّاه السيناتور دون أن يبدي له أية مشاعر بالمودّة.
            "مرحباً، كيف حالك؟"
            التفت نلسن فارينا من فوق أرجوحته ورمقه بنظرته المفعمة بالارتياب والغّل.
            "أنا، كما تعرف"، قال.
            خرجت ابنته إلى الباحة عندما سمعت التحية.
            كانت ترتدي فستاناً هندياً رخيصاً من نوع غواجيرو، وكانت تزّين رأسها أقواس ملوّنة، وكانت قد دهنت وجهها بأصباغ لتقيه من أشعة الشمس. إلا أنه، حتى في وضعها السيئ ذاك، يستطيع المرء أن يتصور أنه لا توجد امرأة أخرى في جمالها على وجه البسيطة كلها. وقف السيناتور منقطع الأنفاس وقال بدهشة: "اللعنة. يفعل الله أكثر الأشياء جنوناً".
            في تلك الليلة، جعل نلسن فارينا ابنته ترتدي أجمل ثيابها، وبعث بها إلى السيناتور. وطلب منها الحارسان المسلحان بالبنادق اللذان كانا يهزان رأسيهما من شدة الحرارة في البيت المستعار، أن تنتظر على الكرسي الوحيد في الردهة.
            كان السيناتور يعقد في الغرفة المجاورة اجتماعاً مع أناس على قدر من الأهمية في روزال دل فالي، الذين كان قد جمعهم لينشد على مسامعهم الحقائق التي لم يكن قد ذكرها في خطابه، والذين كانوا يشبهون إلى درجة كبيرة جميع من كان يلتقي بهم في البلدات الصحراوية كلها. وكان قد بدأ يعتري السيناتور الملل ويشعر بالتعب من تلك الجلسات الليلية التي لم تكن تتوقف. كان قميصه مبللاً بالعرق، وكان يحاول أن يجففه على جسده من التيار الحار المنبعث من المروحة الكهربائية التي كانت تصدر طنيناً كطنين ذبابة الفرس في وسط الحرارة اللاهبة التي تغمر الغرفة.
            قال: "بالطبع لا نستطيع أن نأكل طيوراً ورقية" ثم أضاف: "إنكم تعرفون، وأنا أعرف أن اليوم الذي ستنمو فيه الأشجار والأزهار في كومة روث العنزات هذه، وفي اليوم الذي سيحل سمك الشابل محل الديدان في برك الماء، عندها، لن يعود لكم، ولن يعود لي شيء هنا، هل تفهمون ما أقوله لكم؟"
            لم يحر أحد جواباً. وفيما كان السيناتور يتكلم، مزّق صفحة من التقويم، وشكّل منها بيديه فراشة ورقية، ثم ألقاها نحو تيار الهواء المنبعث من المروحة، فراحت الفراشة تتطاير حول الغرفة، ثم خرجت وانسلت عبر شق الباب الموارب. وتابع السيناتور كلامه، بعد أن تمالك نفسه، يساعده في ذلك الموت المتواطئ معه.
            وأضاف: "لذلك، لا يتعين عليّ أن أكرّر على أسماعكم ما تعرفونه جيداً: بأن انتخابي مرة أخرى هو لمصلحتكم أنتم أكثر مما هو لمصلحتي أنا، لأني سئمت المياه الراكدة وعرق الهنود، في الوقت الذي تكسبون فيه أنتم، أيها الناس، رزقكم منه".
            رأت لورا فارينا الفراشة الورقية وهي تنسرب من باب الغرفة. رأتها فقط لأن الحارسين في البهو كانا يغطان في النوم وهما جالسين على الدرج، يعانق كل منهما بندقيته. وبعد أن دارت عدة دورات، انفتحت الفراشة المثنية بكاملها، وارتطمت بالحائط، والتصقت به. حاولت لورا فارينا أن تقتلعها بأظافرها. إلا أن أحد الحارسين، الذي استيقظ على صوت تصفيق منبعث من الغرفة المجاورة، لاحظ محاولتها العقيمة.
            "لا يمكنك اقتلاعها"، قال بفتور، "إنها مرسومة على الحائط". عادت لورا فارينا وجلست عندما بدأ الرجال يخرجون من الاجتماع. وقف السيناتور عند مدخل الغرفة ويده على المزلاج. ولم يلحظ لورا فارينا إلا عندما أضحت الردهة خاوية.
            "ماذا تفعلين هنا؟"
            قالت: "لقد أرسلني أبي".
            فهم السيناتور . أمعن النظر في الحارسين النائمين، ثم تمعّن في لورا فارينا، التي كان جمالها الفائق يفوق ألمه، وهنا عرف أن الموت هو الذي اتخذ قراره نيابة عنه.
            "ادخلي" قال لها.
            وقفت لورا فارينا والدهشة تعتريها عند مدخل الغرفة: كانت آلاف من الأوراق النقدية تتطاير في الهواء، تخفق كالفراشات. لكن السيناتور أطفأ المروحة، فتوقفت عن السباحة في الهواء وأخذت تتهاوى وتتساقط فوق قطع الأثاث في الغرفة.
            "كما ترين"، قال مبتسماً، " حتى الخراء يمكن أن يطير".
            جلست لورا فارينا على المقعد المدرسي. كانت بشرتها ناعمة ومشدودة، وبلون النفط الخام وكثافته، وكان شعرها مثل عرف فرس صغيرة، وكانت عيناها الواسعتان تمنحان بريقاً أكثر لمعاناً من وهج الضوء. وتبع السيناتور مسار نظرتها ووجد أخيراً الوردة التي تلوثت بنترات البوتاسيوم.
            قال: "إنها وردة".
            "نعم" قالت وفي صوتها نبرة ارتباك. "لقد شاهدتها عندما كنت في ريوهاتشا".
            جلس السيناتور على السرير العسكري، وراح يتحدث عن الورود فيما بدأ يفك أزرار قميصه. وعلى الجانب الذي كان يخيّل إليه أن قلبه موجود فيه داخل صدره، كان قد رُسم وشم في شكل قلب يخترقه سهم. ألقى القميص المبلل على الأرض وطلب من لورا فارينا أن تساعده في خلع حذائه الطويل.
            جثت أمام السرير. لم يبعد السيناتور عينيه عنها وهو يتمعن فيها بدقّة، وفيما كانت تفكّ رباط حذائه، كان يتساءل من منهما سيكون سيء الحظ من لقائهما هذا.
            قال: "إنك مجرد طفلة".
            قالت: "قد لا تصدق. سأبلغ التاسعة عشرة من عمري في شهر نيسان القادم". أبدى السيناتور مزيداً من الاهتمام.
            "في أيّ يوم؟"
            قالت: "في اليوم الحادي عشر".
            أحس السيناتور بأنه أصبح أفضل حالاً، ثم قال: " ننتمي كلانا إلى برج الحمل"، ثم أضاف مبتسماً:
            "إنه برج العزلة".
            لم تكن لورا فارينا تبدي اهتماماً بما كان يقوله لأنها لم تكن تعرف ماذا تفعل بالحذاء. أما السيناتور، فلم يكن يعرف ماذا يفعل بلورا فارينا، لأنه لم يكن قد اعتاد مثل علاقات الحبّ المفاجئة هذه، كما أنه كان يعرف أن أصل هذه العلاقة يعود إلى الذل والمهانة. ولكي يتاح له قليل من الوقت للتفكير، أمسك لورا فارينا بإحكام بين ركبتيه، وضمها حول خصرها، واستلقى على ظهره فوق السرير. ثم أدرك أنها كانت عارية تحت ثيابها، بعد أن انبعثت من جسدها رائحة قوية من عطر حيوان الغابة، لكن قلبها كان واجفاً، وكسا جلدها عرق جليدي.
            "لا أحد يحبّنا"، قال متنهداً.
            حاولت لورا فارينا أن تقول شيئاً، لكن لم يكن لديها من الهواء سوى قدر يكفيها كي تتنفس. جعلها تستلقي بجانبه ليساعدها، وأطفأ الضوء وأصبحت الغرفة في ظلّ الوردة. استسلمت إلى رحمة قدرها. وراح السيناتور يداعبها ببطء، يسعى إليها بيده، يلمسها لمساً خفيفاً، لكنه صادف شيئاً حديدياً يعوق طريقه في البقعة التي كان يسعى إليها.
            "ماذا تضعين هناك؟"
            قالت: "قفل".
            "لماذا بحق السماء!" قال السيناتور غاضباً وسأل عن الشيء الذي يعرفه جيداً. "أين المفتاح؟"
            تنفست لورا فارينا الصعداء.
            أجابت: "إنه موجود عند أبي"، وأضافت: "لقد طلب مني أن أخبرك بأن ترسل أحداً من رجالك للحصول عليه، وأن ترسل معه وعداً خطياً بأنك ستحلّ مشكلته".
            ازداد السيناتور توتراً. ودمدم ساخطاً: "يا له من ضفدع ابن زنى". ثم أغمض عينيه ليسترخي وألقى بنفسه في الظلام. تذكّر، تذكّر، سواء كنت أنت أو شخصاً آخر، فلن تمضي في هذه الحياة فترة طويلة وستموت حتى لن يبقى أحد يلهج باسمك.
            انتظر حتى تلاشت القشعريرة التي اعترته.
            سألها: "قولي لي شيئاً واحداً: ماذا سمعت عني؟"
            "هل تريد أن أقول الحق؟"
            "الحق".
            قالت لورا فارينا: "حسناً، إنهم يقولون إنك أسوأ من الآخرين لأنك مختلف".
            لم ينزعج السيناتور. لاذ بالصمت لفترة طويلة وهو مغمض العينين. وعندما فتحهما ثانية، بدا أنه أفاق من أكثر غرائزه المثيرة للخوف.
            ثم قرّر: "أوه، بحقّ السماء، قولي لأبيك ابن العاهرة بأنني سأحلّ مشكلته".
            "إذا أردت، يمكنني أن أذهب وأجلب المفتاح بنفسي"، قالت لورا فارينا، لكن السيناتور أوقفها.
            قال: "انسِ أمر المفتاح، ونامي قليلاً معي. جميل أن يكون بصحبة المرء أحد عندما يكون وحيداً تماماً".
            ثم وضعت رأسه على كتفها، وعيناها مثبتتان على الوردة. طوّق السيناتور خصرها بذراعيه، ودفن وجهه في إبطها الذي تفوح منه رائحة حيوان الغابة، واستسلم للرعب. وبعد ستة أشهر وأحد عشر يوماً مات وهو في تلك الوضعية ذاتها، مُحتقراً ومُهاناً بسبب الفضيحة التي شاعت بأنه كان مع لورا فارينا وكان يبكي بحرقة لأنه مات بدونها.

            مترجم سوري يقيم في الولايات المتحدة الامريكية
            صفحتي على فيس بوك
            https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

            تعليق

            يعمل...
            X