ماركيز.. قصص مختارة من ماركيز.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد سلطان
    أديب وكاتب
    • 18-01-2009
    • 4442

    ماركيز.. قصص مختارة من ماركيز.

    قصص
    من غابرييل غارسيا ماركيز



    جدول المحتويات


    رجل عجوز بجناحين كبيرين.
    ضوء مثل الماء
    الموت أقوى من الحب.
    في يوم من الإيام
    عينا كلبٍ أزرق.
    أشباح أغسطس..






    رجل عجوز بجناحين كبيرين


    ترجمة : سهيل نجم


    بعد اليوم الثالث للمطركانوا قد قتلوا الكثير جداً من السرطانات داخل البيت مما اضطر بيلايو أن يعبر باحتهالموحلة ليرميها في البحر، ذلك لأن الوليدة الجديدة قد أصيبت بالحمى طوال الليلواعتقدوا أن ذلك بسبب الرائحة النتنة.
    العالم حزيناً منذ الثلاثاء. صار البحروالسماء قطعة واحدة من الرماد ورمال الشاطئ التي تلمع في ليالي آذار مثل ضوء مطحون،وقد أمست مزيجاً من الطين والمحار. وهن الضوء جداً في وقت الظهيرة حتى أن بيلايوعندما عاد إلى بيته بعد أن رمى السرطانات، كان من الصعب عليه أن يرى ذلك الذي يتحركويئن في آخر الباحة. تحتم عليه أن يقترب جداً ليرى أنه رجل عجوز، عجوز جداً، منكبعلى وجهه في الطين، وهو على الرغم من كل الجهود المضنية التي يبذلها، لا يستطيعالنهوض، إذ أن جناحين هائلين كانا يعيقانه.أرعبه هذا الكابوس فهرع ليأتيبأليسندا زوجته، التي تضع الكمادات على الطفلة المريضة، وأخذها إلى آخر الباحة.
    نظرا إلى الجسد الملقى بذهول أخرس. كان يرتدى أسمال جامعي الخرق. لم تكن هناك سوىبضعة شعيرات على صلعته وبضعة اسنان في فمه، وحالته المثيرة للشفقة لجد كبير واقع فيالوحل أزالت أي شعور بالمهابة كان من الممكن أن يحمله. جناحاه الصقريان الضخمان،الوسخان والنصف منتوفان، عالقان أبداً في الطين. كان بيلايو وأليساندا قد نظرا إليهطويلاً وعن قرب حتى تغلبا على ذهولهما فوجداه في الأخير أليفاً. ثم تجرأا للكلاممعه وأجابهما بصوت قوي غير مفهوم لبحار. هكذا تخطيا غرابة الجناحين واستخلصا بذكاءأنه قد قذف بمفرده من سفينة أجنبية غارقة بفعل عاصفة. ولذلك استدعيا جارتهما، التيكانت تعرف كل شيء عن الحياة والموت، لتراه. كلما كانت تحتاج إليه هي نظرة واحدةلتبين لهما خطأهما.
    قالت لهما،"إنه ملاك. لابد أنه قد جاء من أجل الطفلة،لكن المسكين هرم جداً مما جعل المطر يطيح به."
    في اليوم التالي عرف الجميعقد أن ملاكاً بدمه ولحمه قد وقع أسيراً في منزل بيلايو. وإزاء الرأي الحكيم الذيطرحته الجارة، التي كانت ترى أن الملائكة في تلك الأزمنة لاجئون انقذوا من مؤامرةروحية، لم تطاوعهم قلوبهم على ضربه بالهراوات حتى الموت. كان بيلايو يراقبه طوالوقت العصر من نافذة المطبخ، متسلحاً بهراوته البوليسية، وقبل أن يأوي إلى فراشهأخرجه من الطين وحشره في القن مع الدجاجات. وعند منتصف الليل، عندما توقف المطر،كان بيلايو وأليساندا لايزالان يقتلان السرطانات. بعد ذلك بوقت قصير أفاقت الطفلةمن الحمى وصارت لديها رغبة في تناول الطعام. فشعرا بشهامة دفعتهما إلى أن يقررا أنيضعا الملاك على طوف مع ماء عذب وزوادة لثلاثة أيام ويتركانه لمصيره في أعاليالبحار. لكنهما حين ذهبا إلى الباحة مع ظهور أول خيط للفجر، شاهدا أن الجيران كلهمهناك أمام قن الدجاج ويتسلون بالملاك، ومن دونما وازع، يرمونه عبر الفتحات بمختلفالأشياء ليأكلها كأنه لم يكن كائناً سماوياً بل مجرد حيوان سيرك.
    وصل الأبغونزاكا قبل السابعة، بعد أن ذعرته الأخبار الغريبة. خلال ذلك الوقت كان قد وصلمتفرجون أقل طيشاً من أولئك الذين جاؤوا مع الفجر وكانوا يقومون بكل انواع الحدوسالتي تتعلق بمستقبل الأسير. وأبسطها فكرة أن من الأحرى تعيينه عمدة للعالم. آخرونمن امتلكوا عقلاً صارماً شعروا أنه من الأحرى أن يرقى مرتبة جنرال بخمس نجوم من أجلكسب جميع الحروب. البعض من الحالمين تأملوا أنه من الممكن أن يوضع للاستيلاد من أجلأن تنتشر في الأرض سلالة من البشر المجنحين الحكماء الذين من الممكن أن يتولوامسؤولية الكون. لكن الأب قبل أن يكون كاهناً، كان يعمل في تقطيع الأخشاب. فراجعثقافته الشفاهية بلحظة وطلب منهم فتح الباب كي يلقي نظرة فاحصة على ذلك الرجلالمسكين الذي كان يبدو أشبه بدجاجة ضخمة عاجزة بين الدجاجات الرائعات. كان يضطجع فيالزاوية يجفف جناحيه المفتوحين تحت ضوء الشمس بين قشور الفواكه وبقايا طعام الإفطارالتي رماها عليه من جاؤوه مبكرا.وعندما دخل الأب غونزاكا القن وقال له صباح الخيرباللاتينية. وشعر بالغربة إزاء وقاحة العالم فلم يستطع الملاك إلا أن يرفع عينيهالأثريتين ويتمتم بشيء ما بلغته الخاصة. عندما لم يفهم لغة الرب ولم يعرف كيف يحييكهنته صار لدى كاهن الإبرشية شك بأن هذا دجال لا غير. وعندما اقترب منه لاحظ أنهاقرب إلى البشر؛ فلديه رائحة مشردين لا تطاق، الجانب الخلفي من جناحيه قد اكتسىبالطفيليات كما أن الريش الكبيرة قد عبثت بها الريح، وليس ثمة شيء يمكن أن يحيلهإلى كرامة وفخر الملائكة. ثم خرج من قن الدجاج وبموعظة موجزة حذر من المتطفلين ومنخطر كونه مخلصاً. وذكرهم أن الشيطان كانت له تلك العادة السيئة في استعمال خدعالكرنفال من أجل إيهام الغافلين. وكانت حجته أنه إذا كانت الأجنحة هي العنصرالأساسي في الأقرار بالاختلاف بين الصقر والطائرة، فهي اقل من ذلك أهمية لدى التعرفعلى الملائكة. لكنه رغم ذلك قد وعد بأن يكتب رسالة إلى اسقفه كي يكتب الأخير رسالةإلى كبير أساقفته الذي بدوره سيكتب إلى الحبر الأعظم لغرض الحصول على الحكم الأخيرمن أعلى السلطات.
    لقد وقعت حكمته على قلوب عقيمة. وانتشرت أخبار الملاكالأسير بسرعة هائلة حتى أن الباحة قد امتلأت بعد سويعات بضجة كضجة السوق وتحتمعليهم أن يطلبوا النجدة من قوات يحملون حراب مشرعة لتفريق جمهور الغوغاء الذينأوشكوا أن يطيحوا بالبيت. وكان ظهر أليسندا قد انقصم من تنظيف نفايات ذلك السوق،حتى تولدت لديها فكرة وضع سياج للباحة وطلب خمس سنتات رسم دخول لمشاهدةالملاك.
    وجاء حب الاستطلاع من مكان بعيد. إذ وصل كرنفال من الرحالة ومعهمبهلوان طائر كان يئز فوق الجمهور المزدحم مرة إثر مرة من دون أن ينتبه إليه أحد لأنجناحيه لم يكونا لملاك بل، بالأحرى، لخفاش نجمي. وحضر أغلب التعساء من المرضىالباحثين عن الشفاء؛ إمرأة مسكينة تحصي دقات قلبها وقد نفدت الأرقام لديها؛ رجلبرتغالي لم يستطع النوم لأن ضوضاء النجوم تقلق راحته؛ سائر في نومه نهض في الليلوألغى كل ما عمله عندما كان في اليقظة، والكثير ممن لديهم مصائب أقل جدية. في خضمتلك الفوضى التي جاءت من السفينة الغارقة، كان بيلايو وأليسندا سعيدان ومرهقان،لأنهما في أقل من أسبوع امتلأت غرفهما بالأموال ولا يزال هنالك طابور جد طويلللحجاج ينتظر دوره للدخول يصل مداه إلى ما بعد الأفق.
    كان الملاك هو الوحيدالذي لم يشترك في مشهده. فقضى وقته محاولاً أن يستريح في عشه المستعار، مربكاً منالحرارة الجحيمية لمصابيح الزيت وشموع السر المقدس التي وضعت بمحاذاة أسلاك القن. حاولوا في البداية أن يجعلوه يأكل كرات العث، الطعام الذي يوصف للملائكة تبعاً إلىتوصية الجارة الحكيمة. لكنهرفضها كما رفض وجبات الطعام البابوية التي جلبها لهالمرضى، ولم يعرفوا أن رفضه قد جاء بسبب أنه كان ملاكاً أو بسبب أنه رجل عجوز. ولميأكل في الأخير غير الباذنجان المهروس. كانت ميزته الخارقة للطبيعة الوحيدة هيالصبر. خصوصاً في الأيام الأولى، عندما نقرته الدجاجات بحثاً عن الطفيليات المفضلةلديها والتي تتكاثر في جناحيه وكان المشلولون ينزعون عنه الريش ليضعوه على أعضائهمالمصابة، وحتى أكثرهم عطفاً عليه كانوا يرجمونه بالأحجار محاولين إيقافه لينظرواإليه وهو منتصبا. والمرة الوحيدة التي نجحوا في إيقافه عندما حرقوا جنبه بسيخ لوسمالثيران المخصية، لأنه كان جامداً لساعات طويلة حتى ظنوا أنه ميت. نهض مذعوراًزاعقاً بلغته السحرية تتساقط الدموع من عينيه ونفض جناحيه عدة مرات مما اثار زوبعةمن غبار ذروق الدجاج ونوبة ذعر بدت آتية من عالم غير هذا العالم. ورغم أن الكثيرينظنوا ان رد الفعل هذا لم يأت من الغضب بل من الألم، صاروا حذرين في أن لا يزعجونه،لأنهم أدركوا أن سلبيته لم تتأت من انه يريد أن يستريح بل هو هدوء العاصفة. كانالأب غونزاكا يرد الجموع المندفعة بكلمات مستوحات من الخادمة بينما كان في انتظاروصول الحكم النهائي بشأن طبيعة الأسير. ولكن بريد روما لم تبد عليه العجلة. فالوقتفي معرفة إذا كان الاسير له سرة، أو إن كانت لغته لها علاقة بالآرامية، وكم مرةيمكنه أن يثبت رأس الدبوس، أو فيما إذا لم يكن غير نرويجي له أجنحة. هذه الرسائلالهزيلة لربما تستمر في أن تأتي وتذهب إلى آخر الزمان لو لم تضع العناية الألهيةنهاية للمصائب التي على رأس الكاهن.
    وحدث في تلك الأيام، أن من بين كرنفالاتالجذب، وصل المدينة عرض لرحالة ظهرت فيه المرأة التي انقلبت إلى عنكبوت لأنها لمتطع والديها. كان الرسم الذي يدفع لرؤيتها ليس أقل مما يدفع لرؤية الملاك فحسب، بلسمح للناس أن يسألوها كل أنواع الأسئلة حول حالتها المزرية ويتفحصونها من كلجوانبها حتى لايشك أحد بحقيقة رعبها. كانت عبارة عن عنكبوت ضخم بحجم الكبش ولها رأسفتاة حزينة. وما كان يمزق القلب هو ليس شكلها الغريب بل الألم الصادق المنبعث منروايتها لتفاصيل حظها العاثر. فعلى الرغم من أنها كانت لاتزال طفلة تسللت من منزلوالديها لتذهب للرقص، وأثناء عودتها عبر الغابات بعد أن قضت الليل بطوله ترقص مندون السماح لها بذلك، صعق رعد السماء وفلقها وعبر ذلك الانفلاق جاء صاعق برقيكبريتي وحولها إلى عنكبوت. كان غذاؤها الوحيد هو من الكرات اللحمية التي يتصدق بهاالمحسنون ويدفعونها في فمها. مشهد مثل هذا، مليء بالحقيقة البشرية وبدرس مروع، كانعلى وشك أن يقضي على مشهد ملاك متعجرف نادراً ما كان يتلطف بالنظر إلى الناس. فضلاًعن ذلك ثمة بضعة معجزات أوعزت إلى الملاك توضح اختلاله العقلي، مثل الرجل الأعمىالذي لم يشفه بل زرع له ثلاثة اسنان جديدة، والمشلول الذي لم يتمكن من السير بل كاديربح اليانصيب، والمجذوم الذي نبتت في تقرحاته زهور عباد الشمس. عزاء المعجزات هذا،الذي كان أشبه بالسخرية، كان قد حطم سمعة الملاك التي سحقت تماماً في الأخير معمجيء المرأة التي تحولت إلى عنكبوت. وهكذا شفي الأب غونزاكا تماماً من أرقه وخلتباحة دار بيلايو مثلما كانت خالية عندما أمطرت السماء لثلاثة أيام ودخلت السرطاناتإلى غرف النوم.
    لم يكن ثمة من داع لإلقاء اللوم على صاحبي المنزل. فقد بنيابالمال الذي حصلا عليه بيتا بطابقين وله شرفات وحدائق وشبكة عالية تمنع السرطاناتمن النزول داخل البيت عند الشتاء، ووضعا قضباناً حديدية تمنع الملائكة من الدخول. وعمل بيلايو مزرعة أرانب قرب المدينة وتخلى عن عمل وكيل مزرعة إلى الأبد، واشترتأليسندا أحذية ساتانية فاخرة بكعب عال والكثير من الثياب القزحية الحريرية، التيترتدى في تلك الأيام من قبل اغلب النساء في يوم الأحد. كان قن الدجاج هو الوحيدالذي لم ينتبهوا إليه. وإن كانوا يغسلونه بالكريولين وقطرات من الصمغ الراتينجي بينالحين والحين. لكن ذلك ليس إجلالاً للملاك بل لإبعاد رائحة الروث التي لاتزال عالقةفي كل مكان كالشبح وتحيل البيت الجديد إلى بيت قديم. وعندما تعلمت الطفلة المشيلأول مرة حرصا على أن لا تقترب من قن الدجاج. لكنهما فيما بعد أبعدا مخاوفهما وألفاالرائحة، وقبل أن يظهر السن الثاني لطفلتهما كانت قد ذهبت لتلعب قرب قن الدجاج حيثتداعى الجدار السلكي للقن. كان الملاك فاتراً معها مثلما كان مع باقي الكائنات،لكنه تحمل أبشع سلوك بريء بصبر كلب لا أوهام لديه.وأصيبا كلاهما بجدري الدجاج. الطبيب الذي جاء لمعلجة الطفلة لم يستطع مقاومة أغراء الاستماع إلى قلب الملاك،ووجد صوت صفير في القلب وسمع الكثير من الأصوات في كليتيه حتى بدا للطبيب أن منالاستحالة أن يكون حيا. الشيء الأغرب هو منطق جناحيه. لقد كانا يبدوان طبيعيين علىذلك الجسم البشري حتى أنه استغرب لماذا لا يملك البشر الآخرون مثلهما.
    عندمابدأت الطفلة بالذهاب إلى المدرسة كان قد مر بعض الوقت الذي هدمت فيه الشمس والأمطارقن الدجاج. وظل الملاك يجر نفسه هنا وهناك مثل رجل ضال يلفظ أنفاسه الأخيرة. كانوايطردونه من غرفة النوم بالمكنسة فيجدونه قد ذهب إلى المطبخ. حتى ظهر لهم أنه موجودفي عدة أماكن في اللحظة نفسها وظنوا أنه صار أكثر من واحد، كأنه يولد من نفسه آخرينينتشرون داخل البيت، مما جعل أليسندا الساخطة والمشوشة أن تصرخ أن هذه حياة بائسةفي جحيم مليء بالملائكة. كان نادراً ما يأكل وأمست عيناه الأثريتين مضببتين أدت بهإلى أن يصطدم بالأعمدة.
    كل ما بقي له هي الإبر المجردة لآخر ريشات له. رمىعليه بيلايو بطانية وتفضل عليه أيضاً بالسماح له بالمنام في السقيفة ولاحظوا عندذاكأن حرارته قد ارتفعت في الليل وبدأ بالهذيان ملتوي اللسان مثل عجوز نرويجي. وكانتتلك هي من المرات القليلة التي يشعرون فيها بالخطر، لاعتقادهم أنه سوف يموت ولنتستطيع حتى جارتهم الحكيمة أن تنصحهم بما يجب أن يعملونه بملاك ميت.
    ولكنهلم يعش طوال الشتاء فحسب بل بدا أنه تحسن مع الأيام المشمسة الأولى. وبقي دون حراكلعدة أيام في ابعد زاوية من الباحة، حيث لا أحد يراه، ومع بواكير كانون الثاني نبتتله بعض الريش الكبيرة الصلبة، ريش فزاعة، هي اشبه بعجز مأساوي آخر. ولكن لابد أنهكان يعلم سبب تلك التغيرات، لأنه كان حريصاً جداً على أن لا يلاحظه أحد ، ولا أحديسمع الأناشيد البحرية التي كان يغنيها أحياناً تحت النجوم. وفي احد الأيام عندماكانت أليسندا تقطع البصل للغداء دخلت إلى المطبخ ريح بدت كأنها آتية من أعاليالبحار. ثم أطلت من النافذة ورأت الملاك وهو في أولى محاولاته للطيران. كانت غيرمتقنة لدرجة أن أظافره قد فتحت حفرة في البقعة الخضراء وكان على وشك أن يطيحبالسقيفة برفرفته الخرقاءالمنفلتة في الضياء والتي لم توفق في قبض الهواء. ولكنهتمكن من تحقيق بعض العلو. وأطلقت اليسندا تنهيدة راحة، من أجل نفسها ومن أجله،عندما راقبته يمر من فوق أخر المنازل، رافعاً نفسه على نحو ما برفرفة مجازفة كأنهالنسر عجوز. ظلت تراقبه وهي لاتزال تقطع البصل واستمرت تراقبه حتى حين لم يعدبإمكانها رؤيته، لأنه عند ذاك لم يعد يمثل أي قلق لحياتها بل مجرد نقطة خيالية فيأفق البحر.
    صفحتي على فيس بوك
    https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757
  • محمد سلطان
    أديب وكاتب
    • 18-01-2009
    • 4442

    #2
    [align=center]ضوء مثل الماء[/align]
    ترجمة: صلاح علماني


    في عيد الميلاد، عاد الطفلان الى طلب زورق التجديف.
    قال الأب:
    حسن، سنشتريه حين نعود الى كارتاخينا.
    لكن توتو،في التاسعة من عمره، وجويل في السادسة، كانا أشد تصميماً مما اعتقده أبواهما. فقدقالا معاً:
    -لا. إننا نحتاجه الآن وهنا.
    قالت الأم: أولاً لا يوجد ماءللإبحار سوى الماء الذي ينزل من الدش.
    وقد كانت هي وزوجها على حق، ففي بيتهم فيكارتاخينا دي اندياس يوجد فناء فيه رصيف على الخليج، ومكان يتسع ليختين كبيرين، أماهنا في مدريد فيعيشون محشورين في شقة في الطابق الخامس من المبنى رقم «47» في شارعباسيودي لاكاستيانا. ولكنهما في النهاية لم يستطيعا هو أو هي، أن يرفضا، لأنهماكانا قد وعدا الطفلين بزورق تجديف مع آلة سدس وبوصلة، فإذا فازا بإكليل الغار فيالسنة الثالثة ابتدائية، وقد فازا به. وهكذا اشترى الأب كل شيء، دون أن يخبر زوجته،وهي الأكثر معارضة لتحمل ديون من أجل الألعاب، كان زورقاً بديعاً من الألمونيوم،مزين بخط ذهبي عند حد الغطاس. وقد كشف الأب السر عند الغداء.
    ـ الزورق موجود فيالكراج.
    المشكلة أنه لا يمكن الصعود به في المصعد أو على السلم، وفي الكراج لايوجد مكان كاف. ومع ذلك، دعا الطفلان أصدقاءهما يوم السبت التالي للصعود بالزورقعلى السلم، وتمكنوا من حمله الى غرفة المستودع في البيت.
    قال لهم الأب: تهانينا.. ثم ماذا الآن؟
    قال الأطفال - الآن لا شيء كل ما كنا نريده هو حملالزورق الى الغرفة، وها هو ذا هنا.
    يوم الاربعاء ليلاً، وكما في كل أربعاء،ذهب الأبوان الى السينما، أما الطفلان اللذان صاحبا وسيدا البيت، فقد أغلقا الأبوابوالنوافذ، وكسرا أحد مصابيح الصالة المضاءة. فبدأ يتدفق تيار من الضوء الذهبيوالبارد من المصباح المكسور، وتركاه يسيل الى أن بلغ ارتفاعه أربعة أشبار. عندئذأقفلا التيار، وأخرجا الزورق وأبحرا بمتعة بين جزر البيت.
    وقد كانت هذهالمغامرة الخرافية نتيجة طيش مني حين شاركت في ندوة حول شعر الأدوات المنزلية، فقدسألني توتو كيف يضاء النور بمجرد ضغط الزر، ولم تكن لدي الشجاعة للتفكير بالأمرمرتين حين أجبته:
    الضوء مثل الماء: يفتح أحدنا الصنبور، فيخرج.
    وهكذا واصلا الابحار كل أربعاء ليلاً، وتعلما استخدام آلة السدس والبوصلة،وحين كان الأبوان يرجعان من السينما يجداهما نائمين على اليابسة كملاكين. وبعد عدةشهور، كانا يتحرقان للمضي الى ما هو أبعد من ذلك، فطلبا أجهزة للصيد تحت الماء،مجموعة كاملة، أقنعة، أقدام زعنفية، أسطوانات أكسجين، وبنادق هواءمضغوط.
    قال الأب: أمر سيء. أن يكون لديكما في غرفة المستودع زورق تجديف لايمكن استخدامه في شيء. ولكن الأسوأ من ذلك هو أن تطلبا حيازة أجهزة غوص.
    قال جويل: وإذا فزنا بالغار الذهبية في الفصل الأول من السنة؟
    فقالت الأم مذعورة - لا - لا شيء آخر.
    لامها الأب على عدم تساهلها.
    فقالت: المشكلة أن هذين الولدين لا يفوزان بقلامة ظفر لمجرد القيامبالواجب، أما من أجل نزواتهما فإنهما مستعدان للفوز حتى بكرسي المعلم.
    ولميقل الأبوان في نهاية الأمر «نعم» ولم يقولا «لا». ولكن توتو وجويل اللذين كانترتيبهما الأخير في السنوات السابقة، فازا في يوليو بالغارونيتين الذهبيتين وثناءالمدير العلني. وفي ذلك المساء بالذات، ودون أن يطلبا، وجدا في غرفة نومهما أجهزةالغوص في علبتها الأصلية. وفي يوم الاربعاء التالي، بينما كان الأبوان يشاهدان «التانغو الأخير في باريس» ملأ الطفلان الشقة الى ارتفاع ذراعين، وغاصا مثل سمكتيقرش وديعتين تحت الأثاث والأسِرّة، وأخرجا من أعماق الضوء الأشياء التي كانا قدفقداها منذ سنوات في الظلام. وعند منح الجوائز النهائية، أختير الأخوان كتلميذينمثاليين في المدرسة، وقدمت لهما شهادات امتياز. وفي هذه المرة لم يطلبا شيئاً، لأنالأبوين سألاهما عما يريدانه، وقد كانا عاقلين لدرجة أنهما لم يرغبا إلا في إقامةحفلة في البيت لتكريم زملائهم في الصف.
    كان الأب متألقاً وهو يتحدث علىانفراد مع زوجته.
    ـ هذا دليل على نضجهما.
    فقالت الأم:
    ـ الله يسمع منك.
    وفي يوم الاربعاء التالي وبينما الأبوان يشاهدان فيلم «معركة الجزائر» رأى الناس الذين كانوا يمرون في شارع كاستيانا شلالاً من الضوءيهوي من عمارة قديمة مختفية بين الأشجار، كان يخرج من الشرفات، ويتدفق بغزارة علىواجهة المبنى، ويجري في الجادة العريضة في سيل ذهبي يضيء المدينة حتى غواداراما.
    حطم رجال الإطفاء الذين استدعوا على عجل باب الطابق الخامس.
    ووجدواالبيت طافحاً بالضوء حتى السقف. كانت الاريكة والمقاعد المغلفة بالجلد تطفو فيالصالة على مستويات متعددة ما بين زجاجات البارد والبيانو بشرشفه الذي صنع منالمانيلا، والذي كان يتحرك وسط الماء مثل سمكة مانتاريا ذهبية. وكانت الأدواتالمنزلية في أوج شاعريتها، تطير بأجنحتها الخاصة في سماء المطبخ. وأدوات الجوقةالحربية التي كان الطفلان يستخدمانها للرقص، كانت تطفو على غير هدى بين الأسماكالملونة التي تحررت من الحوض الذي تحبسها فيه ماما. وكانت تلك الأسماك الملونة التيتحررت هي الوحيدة التي تطفو حية وسعيدة في المستنقع الفسيح المضيء. وفي الحمام كانتتطفو فراشي أسنان الجميع وواقيات منع الحمل المطاطية التي يستخدمها بابا. وأنابيبالكريمة وطقم أسنان ماما الاصطناعية. وكان تلفزيون الصالة يطفو مائلاً وهو لا يزالمفتوحاً يبث الحلقة الأخيرة من فيلم منتصف الليل المحظور على الأطفال.
    وفينهاية الممر، كان الصغيران يطفوان بين ماءين.. توتو جالساً في مقدمة الزورق،متشبثاً بالمجدافين والقناع على وجهه، وهو يبحث عن فنار الميناء الى حيث سمح لهالهواء الذي في الاسطوانة، وجويل يطفو في مؤخرة المركب وهو لا يزال يبحث بآلة السدسعن موقع نجم القطب. وكان يطفو في جميع أرجاء البيت رفاقهم في الصف السبعة والثلاثينوقد تخلدوا في لحظة تبولهم في أصيص الجرانيوم، وغنائهم النشيد المدرسي بكلمات محورةمن سخرية المدير، أو تناولهم خفية كأس براندي من زجاجة بابا. ذلك أنهم كانوا قدفتحوا أنواراً كثيرة في وقت واحد جعلت البيت يطفح، وغرق جميع التلاميذ.. تلاميذالصف الرابع الابتدائى في مدرسة سان خوليان في الطابق الخامس من المبنى «47» فيباسيو دي كاستيانا في مدريد بأسبانيا المدينة البعيدة عن الأصياف الملتهبة والرياحالمتجمدة، والتي لا بحر فيها ولا نهر، والتي لم يكن سكان يابستها يوماً من الأيامماهرين في فنون الإبحار في الضوء.
    صفحتي على فيس بوك
    https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

    تعليق

    • محمد سلطان
      أديب وكاتب
      • 18-01-2009
      • 4442

      #3

      [align=center]
      في يوم من الإيام
      [/align]
      [align=right]
      ترجمة رافع الصفار

      [/align]


      فجر الاثنين ، دافئ وغير ممطر. أوريليو أسكوفار، طبيب أسنان من دونشهادة، مبكر جدا في النهوض، فتح عيادته عند الساعة السادسة. تناول بضعة أسناناصطناعية، مازالت موضوعة في قوالبها الكلسية، من علبة زجاجية ، ووضع مجموعة منالأدوات على الطاولة مرتبا إياها حسب حجمها كما لو كان يجهزها للعرض. كان يرتديقميصا عديم الياقة مغلقا عند العنق بزر ذهبي، وبنطلونا بحمالات. وكان منتصب القامة،نحيفا، قلما ينسجم مظهره مع الموقف، تماما كما هي حالة الأصم.
      عندما انتهىمن ترتيب العدة على الطاولة، سحب المثقاب ناحية كرسي المعالجة وجلس ليباشر في صقلالأسنان الاصطناعية. وكان يبدو شارد الذهن، لا يفكر في تفاصيل العمل الذي يؤديهبدقة وثبات متواصلين، وكانت قدمه تظل تضغط على عتلة المثقاب حتى عندما تنتفي حاجتهإلى الآلة.
      بعد الثامنة توقف لبرهة كي ينظر إلى السماء من خلال النافذة فرأىصقرين منشغلين في تجفيف نفسيهما تحت الشمس على سقيفة البيت المجاور. عاد إلى عملهوهو يقول لنفسه بأن المطر سيسقط قبل موعد الغداء.
      صوت ابنه الحاد والمفاجئ شتتتركيزه
      ـبابا.
      ـماذا ؟
      ـالعمدة يريد أن يعرف إذا كنت ستخلعله ضرسه.
      ـقل له بأنني غير موجود.
      كان منشغلا بصقل سن ذهبية. حملهاأمامه وراح يتفحصها بعينين نصف مغلقتين. عاد ابنه ذو الأحد عشر عاما يصرخ مجددا منغرفة الانتظار.
      ـ يقول بأنك موجود، وأيضا لأنه يستطيع أن يسمعك.
      ظلالطبيب منشغلا بتفحص السن. وعندما أنجز عمله واخذ السن شكله النهائي وضعه علىالطاولة وقال:
      ـ هذا أفضل.
      شَغَّل المثقاب ثانية، وأخذ بضعة قطعتركيب من علبة كارتونية حيث يحتفظ بالأشياء التي تحتاج إلى انجاز، وباشر بعمليةالتعديل والصقل.
      ـبابا.
      أجابه مستخدما نفس التعبير
      ـماذا؟
      ـيقول بأنك إذا لم تخلع له سنه فسوف يطلق النار عليك.
      دونتعجل، وبحركة شديدة الهدوء أوقف المثقاب، دفعه بعيدا عن الكرسي، وسحب الدرج السفليللطاولة، وكان هنالك مسدس. قال:
      ـحسنا، قل له أن يأتي ويطلق النارعلي.
      دفع الكرسي بمواجهة الباب، وكانت يده تستقر على حافة الدرج. ظهر العمدةعند الباب. كان قد حلق الجانب الأيسر من وجهه، لكن الجانب الآخر كان متورما وبلحيةلم تحلق منذ خمسة أيام. رأى الطبيب في عينيه ليالي من التوجع والأرق، فأغلق الدرجبأطراف أصابعه وقال برفق:
      ـاجلس.
      ـصباح الخير.
      أجابهالطبيب:
      ـصباح الخير.
      وبينما انشغل الطبيب بتسخين أدواته، أسندالعمدة رأسه على مسند الكرسي الخلفي فشعر بشيء من الارتياح. كانت أنفاسه تطلق بخارافي الهواء. كانت عيادة بائسة: كرسي خشبي قديم، مثقاب يعمل بدواسة، وعلبة زجاجيةتحوي قناني السيراميك. في المواجهة للكرسي نافذة تغطيها ستارة من القماش. عندما شعرالعمدة باقتراب الطبيب شبك ساقيه وفتح فمه.
      أدار أسكوفار رأس العمدة باتجاهالضوء. وبعد أن تفحص السن الملتهبة، أغلق فك العمدة بحركة حذرة، ثم قال:
      ـسأقلعه ولكن من دون مخدر.
      ـلماذا؟
      ـلأنه لديك خرّاج.
      نظرالعمدة في عيني الطبيب. قال أخيرا وهو يحاول أن يتبسم.
      ـحسناً.
      ولميرد الطبيب على ابتسامته. جلب إناء الأدوات المعقمة إلى الطاولة وراح يخرجها منالماء المغلي بملقط صغير بارد، دون أن يبدو عليه بأنه في عجلة من أمره. دفع المبصقةبطرف حذائه، وذهب ليغسل يديه في المغسلة. قام بكل ذلك دون أن ينظر إلى العمدة، لكنالعمدة لم يرفع عينيه عنه.
      كان سن عقل سفلي. فتح الطبيب قدميه وأمسك بالسنبالكلاّب الساخن. تشبث العمدة بذراعي الكرسي، واضعا كل قوته في قدميه. شعر عندهابفجوة باردة في كليتيه، لكنه لم يصدر صوتا. حرك الطبيب رسغه فقط. ومن دون حقد،وبرقة لاذعة قال:
      ـالآن ستدفع لموتانا العشرون.
      شعر العمدة بانسحاقالعظام في فكه، وامتلأت عيناه بالدموع. لكنه لم يتنفس حتى أدرك بأن السن قد أقتلع،ثم رآه من خلال دموعه. في تلك اللحظة كان عاجزا تماما عن فهم عذاب الليالي الخمسالفائتة.
      انحنى على المبصقة، لاهثا يتصبب منه العرق. فتح أزرار سترته الضيقةومد يدا الى جيب بنطلونه ليخرج المنديل. ناوله الطبيب قطعة قماش نظيفة. قالله:
      ـجفف دموعك.
      كان العمدة يرتعش وهو يجفف دموعه. وأثناءانشغاله بغسل يديه، رأى أسكوفار السقف المتداعي وشبكة العنكبوت المغبرة وبيضالعنكبوت والحشرات الميتة. عاد الطبيب وهو يجفف يديه. قال للعمدة:
      ـخذغرغرة ماء بالملح، ثم اذهب إلى الفراش .
      نهض العمدة واقفا. أدى تحية وداععسكرية ثم تحرك باتجاه الباب وهو يدفع ساقيه، ودون أن يغلق أزرار سترته الضيقة. قال:
      ـابعث بالفاتورة.
      ـلمن ؟ لك أم للبلدة ؟
      لم ينظر إليهالعمدة. أغلق الباب وراءه وهو يقول:
      ـلا فرق.
      صفحتي على فيس بوك
      https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

      تعليق

      • محمد سلطان
        أديب وكاتب
        • 18-01-2009
        • 4442

        #4
        [align=center]عينا كلبٍ أزرق[/align]



        ثمَّ ، نظرتْ إليّ . في البداية اعتقدتُ أنها تراني للمرة الأولى ، لكنها عندما استدارت خلف الموقد ، وبقيتُ أشعر بنظرتها المراوغة تنزلق على ظهري ، و تعبر فوق كتفي ، عندها أدركتُ أننيمن يراها للمرة الأولى. أشعلتُ سيجاراً ، و سحبتُ نفساً عميقاً و قوياً من الدخانقبل أن أدير المقعد لأجعله يتزن على ساق خلفية واحدة. وبعدها أصبح بإمكاني مشاهدتهاحقاً ، كما كانت تقف بجانب الموقد و ترمقني ، كل ليلة. لدقائق وجيزة كان ذلك كلّ مافعلناه : تبادل النظرات. أنا رمقتُها من مقعدي المتزّن على ساق خلفية واحدة ، فيماهي واقفة ويدها الطويلة الساكنة فوق الموقد ، ترمقني بدورها . شاهدت الألق الذيانفرج عنه جفناها ، كما في كل ليلة ؛ فتذكرتُ عادتي في أن أقول لها : ( عينا كلبٍأزرق ). وبدون أن ترفع يدها عن الموقد قالت: ( تلك العبارة، لن ننساها أبداً. (. ثم غادرت مكانها و تابعت متنهدة : ( عينا كلبٍ أزرق. لقد كتبتُها في كل مكان.(
        راقبتها تسير متجهة إلى منضدة التزين، وشاهدتُ صورتها تظهر في المرآةالمستديرة ترمقني كلما طالني شيء من الضوء. مستمرة في مراقبتي بعينيها البراقتينكجمر ، بدأتْ بفتح العلبة الصغيرة المغطاة بنسيج وردي ذو لآلئ ، ثم رشتْ المسحوقعلى أنفها ، كل هذا و أنا أراقب. حين انتهتْ أغلقت العلبة و انتصبتْ معاودة السيرنحو الموقد ، قالت : ( أخشى أنَّ أحدهم يحلم بهذه الغرفة ويستكشف أسراري.) ، ومدتذات اليد الطويلة المرتجفة فوق الوهج ، تلك التي كانت تعمل على تدفئتها قبل الجلوسللمرآة. قالت : ( أنت لا تشعر بالبرد. ) فأجبت : ( أحياناً ). وعادت تقول : ( يجبأن تكون تشعر به الآن ). وعندها أدركتُ لِمَ لمْ يمكنني البقاء وحيداً على الكنبة ؛لقد كان البرد هو الباعث على شعوري بالوحدة. قلت : ( الآن أشعر به.) ثم استطردتُ : ( وهذا غريب لأن الليل صافٍ ، ربما سقطت الملاءة). لكنها لم تحر جواباً. مرة أخرىأراها تغادر مكانها لتتجه إلى المرآة ، فأدير المقعد لأبقي على ظهري مواجهاً لها. وبدون النظر إليها ، عرفتُ ما كانت تقوم به. عرفتُ أنها جلست أمام المرآة مرة أخرى ،تراقب ظهري الذي حظي بالوقت ليصل إلى أعماق مرآتها ، ويُقبض عليه من قِبل نظراتها ،تلك التي بدورها حظيت بالوقت لتصل إلى الأعماق و ترجع – كل هذا قبل أن تبدأ اليددورتها الثانية – حتى أصبحت شفتاها مرسومة بالقرمزي في دورة واحدة من يدها ، وهيجالسة أمام المرأة.
        في مقابلي ، كنت أتطلع الى الجدار الاملس، الذي بدا كمرآةعمياء لا يمكنني عبرها النظر إلى تلك الجالسة خلفي، ولكن بوسعي تخيلها كما لو كانتهناك مرآة معلقة على الحائط تنقل إليّ صورتها، و قلت (أنا أراكِ). و على الجدارأمكنني أن أراها فعلاً ، كما لو رفعت عينيها إلى المرآة وشاهدتني بظهري المقابل لهاعلى المقعد ، و في عمق المرآة ، وجهي المصوب باتجاه الحائط. ثم شاهدتُها تخفضعينيها ، دون أن تنطق بكلمة. قلت لها مرة أخرى ( أنا أراكِ ). فرفعت عينيها ثانيةوقالت: ( هذا مستحيل. ) سألتها عن السبب الذي يجعله مستحيلاً ، و بعيون هادئة ومنخفضة أجابت : ( لأن وجهك بإتجاه الحائط ). عندها أدرتُ المقعد ، قابضاً علىالسيجار في فمي . وحين بقيتُ مواجهاً لها عادتْ إلى مكانها خلف الموقد . هاهي ترفعكفيها فوق الموقد، كما ترفع دجاجة جناحيها ، تدفيء نفسها ، بينما ظلال أصابعها تغطيوجهها ، و قالت : ( أعتقد أني على وشك الإصابة بالبرد. لابد أن تكون هذه مدينةالصقيع. ) أدارت وجهها جانباً ، فتحولت بشرتها من النحاسية إلى الحمراء ، و فجأةبدت حزينة. قالت : ( افعل شيئاً بهذا الصدد.) و بدأت بخلع ملابسها. قلت : (سأديروجهي للحائط) لكنها قاطعتني : (لا جدوى ، سيمكنك رؤيتي على أية حال ، كما فعلتقبلاً.)
        الوهج ينزلق على بشرتها النحاسية فيجعلها تلمع ، قلت لها : (لطالماأردتُ رؤيتك هكذا ، و بطنك المكسوة بالحفر كما لو تم ضربك.) و قبل أن أدرك كم كانتكلماتي غبية و غير لبقة ، كانت هي قد أصبحت عديمة الحس بماحولها ، مشغولة بتدفئةنفسها قرب الموقد. قالت : ( أحياناً أشعر أني مصنوعة من معدن.) ، وصمتت فيما تحرككفيها بخفة فوق اللهب. قلت : ( أحياناً ، في أحلام أخرى ، اعتقدتُكِ مجرد تمثالبرونزي صغير مقام في زاوية أحد المتاحف ؛ ربما لهذا أنتِ باردة.(
        ـ (في بعضالأوقات، عندما أنام على قلبي ، أستطيع أن أشعر بالفراغ يكبر في جسدي ، بشرتي تصبحرقيقة كصفيحة معدن ، ثم عندما يزداد تدفق الدم ، أشعر بالقرع في داخلي. كما لو أنشخصاً يناديني بالطرق على معدتي ، يصبح حتى بوسعي سماع صوت النحاس خاصتي في الفراش،يبدو مثل – ماذا يسمونه ؟ - المعدن المصفح.)
        ثم سكتت و اقتربتْ أكثر من الموقد. قلتُ لها : (أحبُّ أن أسمعكِ).
        ـ (اذا استطعنا العثور على بعضنا يوماً ، ضعأذنك على أضلعي عندما أنام على جانبي الأيسر ، و ستسمعني أقرع. لطالما أردتكُ أنتفعلها يوماً.(
        سمعتُها تلهث بقوة فيما تتحدث. قالت أنها لسنوات لم تفعلشيئاً مختلفا ً؛ وهبتْ عمرها للبحث عني في أرض الواقع. ودليلها الوحيد إليّ كان تلكالعبارة : (عينا كلبٍ أزرق). سارت عبر الشارع و صرخت عالياً بها ، أرادت أن تخبرذلك الشخص الوحيد القادر على الفهم : ( أنا الشخص الذي يزورك في أحلامك كل ليلة ،ليقول لك : عينا كلبٍ أزرق ). كانت تذهب إلى المطاعم ، و قبل أن تطلب شيئاً تقولللنادل : (عينا كلبٍ أزرق) لكن الندل جميعهم كانوا ينحنون مجاملين باحترام، دونأن يتذكر أحدهم أنه قال تلك العبارة في أحلامه قط. بعدها لجأتْ إلى الكتابة علىالشراشف أو الحفر بسكين على أسطح الطاولات المصقولة: (عينا كلبٍ أزرق). وعلىالنوافذ المتشحة بالضباب جميعها، نوافذ الفنادق، و المحطات، و جميع المبانيالحكومية، خطتها بسبابتها: (عينا كلبٍ أزرق).
        قالت أنها ذات مرة دخلت محلصيدلة، شمّت هناك ذات الرائحة التي شمتها مرّة في غرفتها، بعد أن حلمتْ بي، ذاتليلة. قالت لنفسها: (لابد أنه قريب) و بعد أن تفحصت القرميد الجديد النظيف اتجهتللصيدلي و قالت: (أحلمُ كل ليلة برجلٍ يقول لي: عينا كلبٍ أزرق.) يومها حدقالصيدلي بعينيها ثم قال: (بالواقع يا آنستي، إن لك عيوناً كتلك بالفعل.). قالتله: (عليّ أن أعثر على الرجل الذي قال لي هذه الكلمات حرفياً، في أحلامي.) لكنالصيدلي بدأ بالضحك ثم اتجه للزاوية البعيدة من منضدة العرض. بقيتْ ترمق القرميدالنظيف و تشم تلك الرائحة المميزة، ثم فتحت حقيبتها و أخرجت حمرة شفاهها القرمزيةوكتبت بحروف مُحمرّة: (عينا كلبٍ أزرق.). و حين عاد الصيدلي قال لها: (سيدتي،لقد لوثتِ القرميد.) ثم أعطاها قطعة قماش رطبة مستطرداً: (نظّفيها الآن(.
        وتابعت الحديث من موقعها بجوار الموقد، لتقول أنها أمضت طوال فترة ما بعد الظهرجاثية على أربع، تنظف القرميد و تردد دون انقطاع: (عينا كلبٍ أزرق.) حتى تجمعالناس عند الباب و قالوا أنها مجنونة.
        و الآن بعد أن توقفتْ عن الكلام،كنتُ ما أزال جالساً في الزاوية، أتأرجح فوق المقعد. قلت لها: (في كل يوم أحاولتذكر العبارة التي ستقودني اليكِ، و الآن أعتقد أني لن أنساها. لكني لم أفتأ أبيّتالنية ذاتها، و عندما أستيقظ أكون قد نسيت الكلمات التي تمكنني من العثور عليكِ).
        ـ (أنتَ من ابتكرها في اليوم الأول(.
        ـ) لقد ابتكرتُها لأني شاهدت عيناكِالرماديتين ، لكن لم يكن بوسعي أبداً التذكر في الصباح التالي(.
        بقبضة مطبقةمرفوعة فوق الوهج ، تنهدتْ بعمق ، وقالت : (لو أن بوسعك على الأقل أن تذكر الآناسم المدينة التي كتبتُ بها تلك العبارات(
        أسنانها المتراصة المنتظمة تعكسوميض اللهب ؛ قلت لها : ( أودُّ لو ألمسكِ الآن.)
        رفعتْ وجهها الذي كان مسلّطاًعلى الموقد ، رفعتْ أنظارها الملتهبة ، الدافئة في الآن ذاته ، تماماً مثلها و مثليديها ، و شعرتُ بها ترمقني ، في الزاوية حيث أجلس متأرجحاً فوق المقعد. نطقت : ( لم تخبرني بهذا قبلاً)
        ـ) أنا أقولها لكِ الآن، و هي الحقيقة. )
        و منالجهة الآخرى خلف الموقد ، طلبَتْ سيجاراً. عندها شعرتُ بسيجاري الذي توارى بينأصابعي ؛ كنتُ قد نسيت أني أدخنُ واحداً. قالت : ( لا أدري لم لا يمكنني التذكر .. أين كتبتُها تلك العبارات(
        ـ (للسبب نفسه ، غداً لن يكون بوسعي تذكر الكلمات(
        و بحزن قالت : ( لا . أحياناً أفكر أني ربما أكون قد حلمتُ بتلك الكتابةأيضاً.(
        وقفتُ ، وسرت باتجاه الموقد ، حيث تجلس هي خلفه ، حاملاً السيجار وعود الثقاب في يدي ، التي لن يكون بوسعها الوصول الى ما خلف الموقد . مددتُ لهاالسيجار فوق الموقد فالتقطته بشفتاها ، ثم مالت على اللهب قبل أن يتاح لي الفرصةلإشعال عود ثقاب. قلت لها : ( في مدينة ما في العالم ، على كل الجدران ، لابد أنتلك الكلمات مكتوبة : عينا كلبٍ أزرق. و اذا تذكرتُها في الصباح فسيكون بإمكانيالعثور عليكِ.) . رفعت وجهها ثانية عن الموقد ، بسيجار مشتعل بين شفتيها. همستْ : ( عينا كلبٍ أزرق) ، و بدأت تسترجع الذكرى فيما تذر الرماد ، و عينها نصف مفتوحة. نفثت الدخان ، قبضت على السيجار بين أصابعها و استطردت : (شيءٌ قد اختلف الآن . بدأتُ أشعر بالدفء.) قالتها بصوتٍ فاتر و سريع ، كما لو أنها لم تقلها حقاً. كما لوأنها كتبتها على قطعة ورق و قربتها من النور فيما أقرأ: (بدأتُ اشعر بالدفء)ممسكة اياها بسبابتها وابهامها، قبل أن تبدأ بلفها وإتلافها، و فيما أنا بالكادأكمل القراءة ( .. دفء) كانت قد صيرتها كرة و ألقتها إلى النار ، لتصير خيوطاً منرمادٍ و وهج.
        قلتُ لها : (هكذا أفضل. أحياناً يُشعرني مرآكِ ترتجفين بجواراللهب ، بالخوف(.
        كانت قد مرت سنين طوال علينا و نحن مستمرين في رؤية بعضنا . في بعض الأوقات عندما نكون معاً ، شخصٌ ما كان يلقي ملعقة بالخارج ، و كنا عندهانستيقظ. وببطء أدركنا أن صداقتنا كانت خاضعة للأشياء الخارجية ، لأبسط حدث. لقاءاتنا جميعها انتهت بالطريقة ذاتها ، سقوط الملعقة ، حالما يحلّ الفجر. و الآنها هي بجوار الموقد تحدق بي ، مما يجعلني أتذكر أنها نظرت لي بالطريقة ذاتها فيالماضي أيضاً ، منذ ذلك الحلم البعيد ، حين جعلت المقعد يدور على ساق خلفية واحدة ،و بقيت أحدق في إمراة غريبة ذات عيون رمادية. لقد حدث عندها ، في ذلك الحلم أنسألتها للمرة الأولى : ( من أنتِ ؟ ) و أجابتني : ( لا أتذكر. ) و عدت أقول لهامصرّا : ( لكني أعتقد أننا شاهدنا بعضنا قبلاً . ) و بغير اكتراث جاءني جوابها :
        ـ(أعتقد أني حلمتُ بكَ مرة ، و بهذه الغرفة ذاتها)
        ـ(صحيح . لقدبدأتُ أتذكر الآن)
        ـ) يا للغرابة . من المؤكد أننا التقينا قبلاً ، في أحلامأخرى. )
        سحبتْ نفسين من السيجار. كنتُ لم أزل واقفاً أمام الموقد ، و فجأةوجدتني لا أنفك عن التحديق بها، ارتفاعا و هبوطاً ، كانت لم تزل نحاسية. ليس ذاكالنحاس القاسي البارد ، بل كان نحاسها أصفراً ، ناعماً ، و لين. و قلت لها ثانية : (أودُّ لو ألمسكِ الآن(.
        ـ(ستفسد كل شيء(.
        ـ (لم يعد مهماً. كل ماعلينا فعله هو قلب المخدة ليتسنى لنا اللقاء ثانية(.
        و رفعتُ يدي فوق الموقد ،لكنها لم تتحرك . فقط كررت الجملة ذاتها ( ستفسد كل شيء.) ، قبل أن أتمكن من لمسها.
        قالت : ( ربما إن استطعتَ الوصول إلى خلف الموقد ، سيكون بإمكاننا أن نستيقظمعاً ، من يدري في أي بقعة من العالم(.
        ـ(لم يعد مهماً.)
        قالت : ( اناستطعنا قلب المخدة سيكون بامكاننا اللقاء ثانية ، لكنك عندما تستيقظ ستكون قد نسيتعلى أية حال.(
        كنتُ قد عاودتُ سيري تجاه الزاوية ، فيما هي خلفي مستمرة فيالإستدفاء بالوهج. و قبل أن أبلغ المقعد سمعتها تقول :
        (عندما أستيقظ في منتصفالليل ، أبقى أتقلب في الفراش ، حاشية المخدة تحرق ركبتي ، لكني أبقى أردد حتىالفجر : عينا كلبٍ أزرق).
        قلت لها وأنا أحدق في الجدار، كما كنتُ قبلاً: (إنه الفجر فعلاً.)، و واصلتُ دون الإلتفات إليها : (عندما قرعتْ الساعة الثانيةبعد منتصف الليل كنتُ مستيقظاً، و لكن ذلك كان منذ وقتٍ بعيد.)
        اتجهتُ للباب وحين أوشكتُ على لمس المقبض، جاءني صوتها مجدداً، بذات الثبات: (لا تفتح ذلكالباب.) وتابعتْ بعد صمت (إن الرواق مليء بالأحلام المبهمة.) سألتُها: (ماأدراك؟) وأجابت: (لأني كنتُ هناك بالفعل قبل لحظةٍ مرت ، لكني عدت إلى هنا حيناكتشفت أني نائمة على قلبي).
        كنتُ قد فتحت الباب تقريباً، و من الفرجة الصغيرةجاءني نسيم بارد ناعم حمل لي رائحة منعشة للأرض المخضرّة و الحقول الندية. عادتْتتحدث لكني واصلتُ فتح الباب و قلت لها: (لا أعتقد أن هناك أي رواق في الخارج،أني اشم رائحة الريف(.
        ـ(أنا أدرى بهذا خيراً منك. هناك إمرأة بالخارج تحلمبالريف.) و عقدتْ ذراعيها فوق اللهب متابعة: (إنها تلك المرأة التي طالما تمنت أنيكون لها بيت بالريف ، لكنها لم تكن قادرة قط على مغادرة المدينة.(
        عندهاتذكرتُ رؤيتي لتلك المرأة في بعض أحلامي السابقة، لكني أدركتُ أيضاً ، فيما البابشبه مفتوح، أن أمامي نصف ساعة قبل أن يتوجب عليّ الذهاب لتناول إفطاري. لذا قلت: (على أية حال ، يجب عليّ أن أغادر هذه الغرفة ، استعدادًا للإستيقاظ).
        فيالخارج عوت الريح للحظة، ثم هدأت، وأصبح بإمكاني سماع الأصوات الناجمة عن تنفسشخص نائم ، انقلب في فراشه للتو. النسيم القادم من الحقول توقف ولم يعد هناك روائح. قلت لها: (في الغد سأتذكرك بهذا؛ عندما أسير في الشارع وأشاهد امرأة تكتبعبارة (عينا كلبٍ أزرق) على الجدران.) قالت فيما ارتسمت بسمة حزينة على شفتيها - بسمة مذعن للمستحيل ـ : (رغم ذلك لن تتذكر شيئاً أثناء النهار.) و عادت تضع كفيهافوق الموقد فيما تغيب ملامحها وسط غمامة أسى .
        (أنتَ الرجل الوحيد في العالم ،الذي لا يتذكر شيئاً مما حلم به ، حين يستيقظ . (
        صفحتي على فيس بوك
        https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

        تعليق

        • محمد سلطان
          أديب وكاتب
          • 18-01-2009
          • 4442

          #5
          [align=center]

          أشباح أغسطس
          [/align]

          المترجم:إدريس الكنبوري


          وصلناإلي أريزو قبل منتصف النهار بقليل، وقضينا أزيد من ساعتين في البحث عن القصر الذييدل علي عصر النهضة، الواقع في ذاك المكان الشاعري من القرية البدائية، والذياشتراه الكاتب الفنزويلي ميغيل أوتيرو سيلفا. كان يوم أحد من أول أسبوع من شهر آب (أغسسطس)، حارا ومثيرا للأعصاب، ولم يكن من السهل مصادفة شخص يعرف شيئا عن القصر فيالشوارع التي تغص بالسائحين. وبعد عدة محاولات للبحث بدون جدوي عدنا إلي السيارةوغادرنا البلدة عبر طريق صغير تحفه أشجار السرو دون هدف واضح، لكن امرأة عجوزا كانتترعي الإوز دلتنا في النهاية علي مكان القصر بالتحديد، وقبل أن تودعنا سألتنا إنكنا سنقضي الليلة هناك، فأجبناها، وفقا لما كان مقررا في الدعوة، بأننا ذاهبون فقطللغذاء، فقالت:
          ـ هذا لحسن الحظ، لأن المكان يثير الرعب.
          وبما أننا، زوجتيوأنا، لم نكن نؤمن بأشباح منتصف النهار، فقد سخرنا من كلامها، لكن طفلينا، البالغينمن العمر تسعا وست سنوات، انتابهما الفرح لكونهما سوف يريان أشباحاحقيقية.
          وجدنا ميغيل أوتيرو سيلفا، الذي كان علاوة علي كونه كاتبا جيدا مضيافارحب الصدر، ينتظرنا بطعام الغذاء الذي لا يمكن نسيانه أبدا. وبما أننا وصلنامتأخرين فلم يكن لدينا وقت لكي نتجول في أرجاء القصر قبل الجلوس إلي مائدة الطعام،ولكن منظره من الخارج لم يكن مما يثير الخوف، بل إن مشهد المدينة التي كانت تبدولنا من المكان المرتفع الذي نتغذي فيه كان كافيا لطرد أي شعور بالكآبة.
          كان منالصعب أن يتصور المرء كيف يمكن أن يولد في هذه البيوت المتكاتفة فيما بينها فوق هذهالهضبة، حيث يعيش حوالي تسعة آلاف من الأفراد متزاحمين أشخاص ذوو عبقرية دائمة، لكنميغيل أوتيرو سيلفا قال لنا بمزاجه الكاريبي أن أيا من هؤلاء الأشخاص الممتازين ليسأفضل ما في أريزو، وأضاف:
          ـ إن أفضلهم كان هو لودوفيكو.
          هكذا: لودوفيكو، بدونألقاب زائدة، أحسن رجال الفن والحرب الذي بني هذا القصر الحزين، والذي استفاض ميغيلأوتيرو سيلفا في الحديث عنه طيلة وقت الغذاء، عن قوته التي لا تقهر وغرامياتهالتعسة وموته المأساوي، وكيف أنه في لحظة جنون قاسية قتل عشيقته علي السرير الذيمارسا فيه الحب ثم أثار عليه بعد ذلك كلاب الحرب الذين قطعوه أربا. وأكد لنا، بلهجةيقينية، أن شبح لودوفيكو يخرج بعد منتصف الليل ويبدأ في التسكع في جنبات القصر وسطالظلمة محاولا إعادة السكينة إلي مطهر حبه.
          لقد كان القصر في الحقيقة واسعا جداومعتما، غير أن قصة ميغيل لم تبد لنا في واضحة النهار مع امتلاء المعدة وانشراحالقلب إلا مجرد مزحة شبيهة بمزحاته الكثيرة التي يحاول الترويح بها علي ضيوفه. وخلال تجوالنا بعد فترة القيلولة من دون أي شعور بالخوف بدت لنا الغرف الإثنتانوالثمانون التي يتكون منها القصر وكأنها خضعت لتغييرات كثيرة من طرف ملاكيهالمتعاقبين. قام ميغيل بإصلاح الطابق الأسفل كاملا وبني غرفة نومه بطريقة حديثةوجعل أرضيتها من الرخام، وحماما بخاريا علي الطريقة الفنلدنية، وشرفة زودها بورودفاقعة حيث تناولنا طعام الغذاء. أما الطابق الثاني الذي خضع للاستعمال كثيرا خلالالقرون الماضية فقد كان عبارة عن سلسلة من الغرف التي لا تحمل سمات معينة خاصة بها،فيها أثاث ينتمي إلي مختلف العصور ترك بلا عناية. لكن في الطابق العلوي كانت هناكغرفة لم تمس في السابق يبدو أن الزمن لم يتمكن من الوصول إليها فبقيت كما كانت. إنها غرفة نوم لودوفيكو.
          كانت لحظة ساحرة. فهناك كان السرير المحاط بالستائرالموشاة بخيوط من الذهب، والأغطية الحريرية العجيبة المتغضنة التي لا يزال بها أثردم العشيقة المقتولة، والمدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب الأخير إليحجر، والدولاب التي لا تزال به الأسلحة الفتاكة، والبورتريه الزيتي في إطار منالذهب للفارس وهو يتأمل، مرسومة بيد واحد من كبار فناني فلورنسة، لكن الذي أثاراندهاشنا هو وجود رائحة الفراولة ما تزال نفاذة في غرفة النوم دون تفسير واضح.
          الأيام في الصيف في توسكانا طويلة وبطيئة، حيث يبقي الأفق مستقرا في مكانه حتيالتاسعة ليلا. وعندما انتهينا من التجول داخل القصر كانت الساعة تشير إلي الخامسةمن بعد الظهر، ولكن ميغيل أصر علينا بأن يأخذنا لنري اللوحات الجدارية لبييرو ديلافرانسيسا في كنيسة سان فرانسيسكو، وبعد ذلك جلسنا لتناول القهوة والدردشة تحتتعريشة المكان، وحينما عدنا إلي القصر لحمل حقائبنا وجدنا أنهم أعدوا طعام العشاء،وهكذا اضطررنا للبقاء.
          فيما كنا نتعشي تحت سماء خبازية اللون لا توجد بها سوينجمة يتيمة، أخذ الولدان المشاعل من المطبخ وراحا يستكشفان غرف الطابق العلوي وسطالظلمة. ومن مكاننا في الأسفل سمعنا أصوات ركضهم الذي كانا يقلدان به الخيول عليالسلم، وأنين الأبواب، والأصوات الناعمة السعيدة التي تنادي لودوفيكو في الغرفالمظلمة. وخطرت للولدين تلك الفكرة السيئة بأن نقضي الليلة هنا، وساندهم ميغيلأوتيرو سيلفا سعيدا بها، فلم نجد في أنفسنا الشجاعة الأدبية لنرفض الدعوة. بعكس ماكنت أتخوف، نمنا تلك الليلة جيدا، زوجتي وأنا، في غرفة نوم بالطابق السفلي بينمانام الولدان في الغرفة المجاورة. كانت الغرفتان معا قد أدخلت عليهما إصلاحات بشكلجعلهما حديثتين، لذلك لم تكونا معتمتين. وفي انتظار أن يأخذني النوم بدأت أتلهيبتعداد الضربات الإثنتي عشرة للساعة الجدارية الكبيرة، فتذكرت تحذير راعية الإوز،لكننا كنا متعبين جيدا فنمنا نوما ثقيلا مليئا بالأحلام، وصحوت بعد الساعة السابعةصباحا بقليل علي نور الشمس المتسلل عبر فتحات النوافذ، وكانت زوجتي إلي جانبي ماتزال نائمة، فقلت في نفسي: يا لها من حماقة، أن يؤمن المرء في هذا الزمن بالأشباح.
          وفي تلك اللحظة بالذات اجتاحتني رائحة الفراولة التي كأنها قطفت للتو، وصورةالمدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب الأخير إلي حجر، والبورتريه الزيتيللفارس الحزين في الإطار المذهب وهو ينظر إلينا من وراء ثلاثة قرون. واكتشفت بأننالم نكن في الحقيقة نائمين في نفس الغرفة التي نمنا فيها ليلة أمس بالطابق السفلي،بل في غرفة نوم لودوفيكو، تحت الستائر التي علق بها الغبار والأغطية الملطخة بالدمالذي لا يزال طريا علي السرير اللعين.
          صفحتي على فيس بوك
          https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

          تعليق

          • محمد سلطان
            أديب وكاتب
            • 18-01-2009
            • 4442

            #6
            [align=center]عذراً على التأخيــر[/align]



            تحسست مينا طريقها في عتمة الفجر, و لبست ثوبها القصير الأكمام الذي كانت قدعلقته في الليلة الماضية قرب الفراش, و جعلت تفتش في الصندوق الكبير عن الكمينالمنفصلين الذين يكسوان الذراعين امتثالاً للواجب قبل الذهاب إلى الكنيسة ... ثمبحثت عنهما فوق المسامير المعلقة على الحائط و خلف الأبواب, حريصة في كل ذلك ألاتحدث أقل جلبة لكيلا توقظ جدتهما العمياء, التي كانت نائمة في نفس الغرفة ... و لكنما أن اعتادت عيناها العتمة, حتى لاحظت أن جدتها قد نهضت من الفراش, فذهبت إليها فيالمطبخ لكي تسألها عن الكمين .. فقالت الجدة العمياء :
            -
            هما في الحمام .. إننيغسلتهما أمس بعض الظهر ..

            و فعلاً وجدتهما في المطبخ, معلقين من سلك ممدودبمشبكين .. و لكنهما كانا لا يزالان مبتلين .. فعادت مينا بهما إلى المطبخ وبسطتهما فوق أحجار الموقد .. و كانت الجدة العمياء تقلب القهوة و قد سمرت حدقتيعينيها الجامدتين على جدار الشرفة التي رصت فيها أصص الزهور مليئة بأعشاب طيبة ..

            قالت لها مينا : لا تأخذي أشيائي مرة ثانية .. لا يمكنك هذه الأيام أنتتأكدي من طلوع الشمس ..
            حركت المرأة العمياء وجهها نحو الصوت و قالت :
            -
            إنني نسيت أن هذا يوم الجمعة الأول من أسبوع الفصح, موعد القداس ..
            و بعد أنتأكدت الجدة بنفس قوي من فمها أن القهوة نضجت, رفعت الإناء عن الموقد, ثم قالت :
            -
            ضعي قطعة من الورق تحت الكمين, لأن أحجار الموقد متسخة .
            أجرت ميناأصابعها على أحجار الموقد .. فوجدها متسخة فعلاً, و لكن بطبقة من السناج المتحجرالذي لا يمكن أن يلوث الكمين إذا لم يحتكا بالأحجار .. على أنها قالت لجدتها :
            -
            إذا اتسختا فستكونين أنت المسؤولة !..
            و ما لبثت الجدة العمياء أن صبتلنفسها قدحاً من القهوة, و قالت و هي تجذب مقعداً شطر الشرفة :
            -
            أنت غاضبة .. و من المحرم أن يذهب الانسان للقداس و هو غاضب ...

            و جلست لشرب القهوة عنكثب من الزهور في الحوش .. و عندما انبعث رنين دقات الناقوس الأولى إيذاناً بموعدالقداس رفعت مينا الكمين عن الموقد, فكانا لا يزالان مبتلين .. بيد أنها لبستهما .. فإن القس لا يرضى دخول أحد إلى الكنيسة بثوب عاري الذراعين .. ثم مسحت آثار الأحمرمن وجهها بمنشفة, و أخذت كتاب الصلاة و الشال من غرفتها, و خرجت للشارع ...

            و بعد ربع ساعة عادت أدراجها ...
            فقالت الجدة العمياء و هي جالسة فيمواجهة الزهور في الحوش :
            -
            سوف تصلين إلى هناك بعد القراءة الأولى ..
            أمامينا فقالت و هي تتجه إلى دورة المياه :
            -
            لن أتمكن من الذهاب إلى القداس اليوم .. الأكمام مبتلة, و الثوب كله " مكركش " ..
            و على الأثر شعرت بعينين فاهمتينتتبعانها ..
            و ما لبثت العجوز أن هتفت : يوم الجمعة الأول و لا تذهبين للقداس !..

            و لما عادت مينا من دورة المياه صبت لنفسها قدحاً من القهوة و جلست فيالمدخل المطلي بالمصيص الأبيض عن قرب من العجوز العمياء .. بيد أنها لم تستطع أنتشرب القهوة .. و غمغمت في سخط كامن و هي تشعر بأنها توشك على الغرق في دموعهاالحبيسة :
            -
            أنت السبب !..
            فهتفت العجوز العمياء : أنت تبكين !..
            وأضافت و هي تمر قرب جدتها بعد أن وضعت قدح القهوة على الأرضية : يجب أن تذهبيللاعتراف لأنك جعلتني أضيع قداس يوم الجمعة الأول !..

            أما الجدة العجوز فقدلزمت مكانها جامدة تنتظر أن تغلق باب غرفة النوم .. و ما لبثت أن اتجهت إلى آخرالشرفة ثم انحنت تتحسس حتى عثرت على قدح القهوة على الأرض غير مشروب .. فقالت و هيتسكب القهوة في الإناء الخزفي :
            -
            الله يعلم أن ضميري مستريح ..
            و في هذهاللحظة خرجت أم مينا من غرفة النوم, و قالت للعجوز :
            -
            مع من تتكلمين ؟..
            فأجابت : مع نفسي !.. قلت لك قبل الآن انني في طريقي إلى الجنون !..

            وعندما احتجبت مينا في غرفتها فكت أزرار " المشد " و أخرجت ثلاثة مفاتيح صغيرة معلقةفي مشبك .. ففتحت بأحدها الدرج السفلي في " التواليت " و أجرت منه علبة متوسطةفتحتها بمفتاح آخر .. و من داخلها أخرجت مجموعة خطابات مكتوبة على ورق ملون ومربوطة بحزام من المطاط .. فأخفت الخطابات داخل مشدها ثم أعادت العلبة إلى مكانها وأغلقت الدرج .. و أخيراً ذهبت إلى دورة المياه و ألقت بالرسائل في المرحاض ..


            و لما رجعت مينا إلى المطبخ قالت لها أمها :
            -
            حسبتك في الكنيسة ..
            فتولت الجدة العمياء الرد قائلة : لم تتمكن من الذهاب .. أنا نسيت أن هذا يومالجمعة الأول, و غسلت الأكمام بعد ظهر أمس ..
            فغمغمت مينا : انها لا تزال مبتلة ..
            فقالت العجوز العمياء : انني أقوم بأعمال كثيرة هذه الأيام ..
            و قالتمينا : و أنا مطالبة بتسليم مائة و خمسين " دستة " ورد لمناسبة عيد الفصح ..

            و لم تلبث حرارة الشمس أن تزايدت مبكراً .. و قبل الساعة السابعة كانت ميناقد أعدت " مشغل الورد الصناعي " في غرفة المعيشة : سلة مليئة بأوراق الورد, و لفافةسلك, و علبة من ورق الكريب, و مقصان, و بكرة خيط, و إناء به غراء.. و بعد برهة جاءتترينيداد التلميذة المترهبة في الكنيسة تحمل علبة كرتون تحت إبطها, و سألتها علىالفور لم لمْ تذهب لحضور القداس .. فأجابت مينا :
            -
            لم تكن الأكمام جاهزة ..
            فقالت ترينيداد : كان يمكن استعارة كمين من أي أحد ..
            و جذبت كرسياً و جلستقرب سلة أوراق الورد .. فقالت مينا :
            -
            وجدتني متأخرة كثيراً ..
            و فرغت منصنع وردة .. فوضعت ترينيداد علبة الكرتون على الأرض و اشتركت في العمل .. فنظرتمينا إلى العلبة قائلة :
            -
            هل اشتريتِ حذاءً جديداً ؟
            فأجابت ترينيداد : هيفئران ميتة ..

            و لما كانت ترينيداد ماهرة في تركيب أوراق الورد, فقد تفرغتمينا لعمل سيقان من السلك مغلفة بورق أخضر .. و ظلت كلتاهما تعمل في صمت دون أنتلاحظا تقدم الشمس في غرفة المعيشة, التي كانت مزخرفة بصور تزينية و عائلية .. وعندما تفرغت مينا من صنع السيقان تحولت إلى ترينيداد بنظرة تفيض أسى, فكفت هذه عنالعمل و قالت لها :
            -
            ماذا جرى ؟
            فمالت مينا نحوها و قالت : إنه رحل !..
            فألقت ترينيداد المقص في حجرها قائلة : لا ... لا تقولي هذا !؟؟
            فكررت ميناكلماتها قائلة : إنه رحل !..
            فحدقت ترينيداد فيها طويلاً, و قالت مقطبة : والآن ؟..
            فأجابت مينا بصوت ثابت : الآن لا شيء ..

            و قبيل الساعةالعاشرة تأهبت ترينيداد للانصراف, فاستمهلتها مينا لكي تلقي الفئران في المرحاض, وفي طريقها مرت بالعجوز العمياء التي كانت تستقي الزهور في الأصص, فقالت لها مينا :
            -
            أراهن أنك لن تعرفي ما بداخل هذه العلبة ..
            و هزت العلبة بالفئران ... فأرهفت العجوز حواسها, قائلة :
            -
            هزيها مرة ثانية ...
            فكررت مينا العملية, بيد أن العجوز لم تستطع أن تتعرف على ما بداخل العلبة رغم هزها مرة ثالثة, فقالتمينا :
            -
            هي الفئران التي وقعت في المصيدة في الكنيسة الليلة الفائتة .

            و عندما عادت أدراجها مرت بجانب الجدة العمياء دون أن تكلمها .. بيد أنالعجوز تبعتها إلى غرفة المعيشة لكي تستكمل مينا عملية الورد الصناعي, و قالت لها :
            -
            يا مينا .. إذا أردت أن تكوني سعيدة, فلا تعترفي بشيء لشخص غريب عنك ..
            تطلعت إليها مينا دون أن تتكلم .. فجلست الجدة العجوز في المقعد المواجه لهامحاولة أن تساعدها في العمل . بيد أن مينا استوقفتها ..
            فقالت الجدة العمياء : أنت عصبية .. لماذا لم تذهبي إلى القداس ؟..
            -
            أنت تعرفين السبب أكثر من غيرك ..
            فقالت العجوز العمياء : لو كان السبب الأكمام, لما فكرت في الخروج من البيت .. هناك شخص كان ينتظرك في الطريق, و هو الذي سبب لك الشعور بخيبة الأمل ..

            مرت مينا بيديها أمام عيني جدتها, كأنما تمسح لوحاً غير مرئي من الزجاج, وقالت :
            -
            أنت ساحرة !..
            فقالت المرأة العمياء : إنك ذهبت إلى دورة المياهمرتين هذا الصباح .. و أنت لا تذهبين دائماً أكثر من مرة ..

            استمرت مينا فياستكمال الورد الصناعي, بينما عادت العجوز تقول :
            -
            هل تجسرين على أن تريني ماتخفينه في درج "التواليت" ؟..
            فتركت ميناالوردة التي بيدها متمهلة و أخرجتالمفاتيح الثلاثة الصغيرة من مشدها و وضعتها في يد العجوز قائلة :
            -
            اذهبي وانظري بعينيك ...
            فجعلت العجوز تفحص المفاتيح بأناملها, و قالت :
            -
            إن عينيلا يمكنها الرؤية في قاع المرحاض !..
            رفعت مينا رأسها, و عندئذ اعتراها إحساسمختلف .. فقد شعرت أن الجدة العمياء عرفت انها تتطلع إليها .. و لهذا قالت لها :
            -
            انزلي في المرحاض إذا كان ما افعله يهمك إلى هذه الدرجة !..
            تجاهلت الجدةالعجوز هذا الرد اللاذع, و قالت :
            -
            أنت دائماً تجلسين في الفراش و تكتبين حتىالصباح المبكر ..
            فقالت مينا : أنت نفسك تطفئين النور قبل النوم ..
            فعاجلتها العمياء قائلة : و في الحال تنيرين أنت بطاريتك .. و بإمكاني أن أعرفأنك تكتبين, من صوت انفاسك ..

            بذلت مينا جهداً للاحتفاظ بهدوئها, و قالتدون أن ترفع رأسها :
            -
            جميل .. و لنفرض أن هذا هو ما يحدث, فما هو الغريب فيذلك ؟..
            فردت العجوز قائلة : لا شيء .. إلا أن هذا أضاع منك حضور قداس يومالجمعة الأول ..

            و عند هذا الحد حملت مينا بكلتي يديها بكرة الخيط والمقصين و كومة من الورود التي لم تتم, و ألقت بها جميعاً في السلة, ثم واجهت الجدةالعمياء قائلة :
            -
            هل تحبين أن أقول لك مالذي ذهبت لكي أفعله في المرحاض ؟
            و ظلت الإثنتان متحفزتين إلى أن تولت مينا الرد بنفسها, قائلة :
            -
            ذهبت لكيآتي ببعض المخلفات !..
            و عندئذ طوحت الجدة العمياء بالمفاتيح الصغيرة في السلة, و غمغمت قائلة و هي تتجه إلى المطبخ :
            -
            كان يمكن أن يكون سبباً لا بأس به, وكان يمكن أن تقنعيني لولا أنها المرة الأولى في حياتك التي سمعتك فيها تشتمين !..
            و في هذه اللحظة كانت أم مينا آتية في الممشى من الناحية المقابلة محتضنة كومةمن الورود الشائكة , و قالت :
            -
            ماذا جرى ؟..
            فتولت الجدة العمياء الردقائلة :
            -
            إنني جننت .. لكن الظاهر أنكم لا تفكرون في إرسالي إلى مستشفىالمجانين طالما لا أرمي أحداً بالحجارة !..
            صفحتي على فيس بوك
            https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

            تعليق

            • محمد سلطان
              أديب وكاتب
              • 18-01-2009
              • 4442

              #7
              ثمن عشرين قتيلاً


              بزغ يوم الاثنين دافئاً و بلا مطر .. و كالطير فتح " أوريليو اسكوفار " طبيب الأسنان غير المؤهل و المبكر في يقظته , عيادته في الساعة السادسة .. ثم أخرج بعض أسنان صناعية مازالت مركبة في قالب المصيص من الدولاب الزجاجي, و وضع على المنضدة مجموعة أدوات رتبها حسب الحجم .. كما لو كانت للعرض .. و كان يلبس قميصاً مخططاً بلا ياقة, أقفل حول الرقبة بمشبك ذهبي, و بنطلوناً معلقاً بحمالة .. و كان مستقيم العود نحيل الجسم, لا تبدو عليه مسحة المهنة , و كانت هيأته أقرب إلى هيئة رجل أصم ..

              و لما فرغ من ترتيب الأدوات فوق المنضدة جذب المثقب إلى قرب كرسي الأسنان و جلس لصقل الأسنان الصناعية .. لقد بدا أنه لا يفكر في العملية التي يقوم بها, بيد أنه راح يواصل العمل و هو ينفخ كور الثقب بقدميه, حتى و هو لا يحتاج إلى ذلك .

              و عندما بلغت الساعة الثامنة توقف برهة لكي ينظر من النافذة إلى السماء, فرأى طائرين من الجوارح يجففان نفسيهما في الشمس على إفريز سطح البيت المجاور .. و ما لبث أن استأنف عمله متوقعاً أن يعود المطر إلى الانهمار قبل موعد الغداء .. إلى أن قطع عليه تركيزه صوت ابنه الحاد البالغ من العمر احدى عشرة سنة يناديه .. و لدى سؤاله قال له :
              - العمدة يريد أن يعرف إذا كان يمكن أن تخلع سنه ..
              - قل له انني غير موجود
              و أخذ يصقل سناً مذهبة .. ثم امسك بها على قيد ذراع و فحصها بعينين نصف مقفلتين .. و عندئذ انبعث صوت ابنه صائحاً من غرفة الانتظار الصغيرة :
              - العمدة يقول أنك موجود, لأنه يسمع صوتك!..

              استمر الطبيب يفحص السن .. و لم يرد إلا بعد أن وضعها فوق المنضدة بجانب ما تمَّ إنجازه من الأسنان, إذ قال :
              - الأحسن أن يسمع ..
              و أدار الثقب من جديد .. ثم أخرج عدة قطع من " كوبري " من خزانة بها الأشياء التي عليه أن يتمها, و أخذ يصقل الذهب .. و لكن ابنه ناداه مرة أخرى .. فسأله ماذا يريد دون أن تتغير ملامح وجهه, فقال الصبي :
              - قال العمدة إنك إذا لم تخلع له السن, فسوف يضربك بالرصاص !..
              و بدون ما أدنى تعجل, و بحركة جد هادئة, توقف عن تحريك الثقب, و دفعه على الكرسي, ثم جذب الدرج الأسفل للمنضدة عن آخره, فإذا به مسدس .. و قال لإبنه :
              - حسن .. قل له أن يدخل و يقتلني ..

              و دحرج الكرسي في مواجهة الباب .. و ظهر العمدة في المدخل و قد بدا خده الأيسر حليقاً, أما الخد الثاني فكان مورماً موجعاً, نبتت فيه لحية عمرها خمسة أيام, فقد شهد العمدة ليالي كثيرة من العذاب و المعاناة بدت آثارها في عينيه المتبلدتين ..

              أغلق الطبيب الدرج بأنامله, و قال بليونة : اجلس ..
              فقال العمدة : صباح الخير ..
              فرد الطبيب بنصف السلام

              و بينما كانت أدوات الخلع تغلي, مال العمدة برأسه على المسند حتى شعر بتحسن .. و كانت العيادة متواضعة : بها كرسي خشبي عتيق, و المثقب, و دولاب زجاجي به قناني خزفية .. و أمام النافذة ستار لا يعلو عن ارتفاع الكتف .. و عندما شعر العمدة باقتراب الطبيب, شد على عقبيه و فتح فمه ..

              و ما لبث " أوريليو اسكوفار " أن أدار رأس العمدة إلى ناحية الضوء .. و بعد أن فحص السن المصابة أقفل فك العمدة بضغطة محاذرة من أصابعه .. و قال :
              - لابد من الخلع بغير مخدر ..
              - و لماذا ؟ ..
              - لوجود خراج ..
              فنظر العمدة مواجهة, ثم قال : لا بأس ...
              قالها محاولاً أن يبتسم فلم يرد الطبيب على الابتسامة .. بل جاء بإناء الأدوات المعقمة إلى المنضدة و أخرجها من الماء بملقط بارد ..

              كلّ ذلك دون أن يتعجل في حركاته .. ثم دفع المبصقة بطرف حذائه و انتقل لغسل يديه في الحوض .. لقد فعل هذا كله دون أن ينظر على العمدة .. غير أن العمدة لم يرفع نظره عنه لحظة ..

              كان المعطوب " ضرس العقل " السفلي .. و ما لبث الطبيب أن وسع قدميه و أمسك الضرس " بالجفت " الساخن .. فتشبث العمدة بذراعي الكرسي ة شد على قدميه بكل قوته و هو يشعر بخواء بادر في كليته, بيد أنه لم يحدث أي صوت .. و لم يكن يتحرك من الطبيب سوى معصمه .. و دون ما ضغينة, بل برفق تشوبه المرارة, قال للعمدة :
              - الآن سوف تدفع ثمن قتلانا العشرين !..

              شعر العمدة بقصف كقصف العظام في فكه, و امتلأت عيناه بالدموع .. بيد أنه لم يتنفس إلى أن شعر بخروج الضرس .. ثم رآه من خلال الدموع .. و قد بدا غريباً جداً عن الآلام التي كابدها إلى حد أنه عجز عن فهم هذا العذاب الذي تجرعه مدى الأيام الخمسة الفائتة ..

              و بينما انحنى فوق المبصقة عارقاً لاهثاً, فك أزرار كسوته الرسمية و مد يده إلى جيب بنطلونه يلتمس منديله .. فأعطاه الطبيب قطعة قماش نظيفة قائلاً :
              - امسح دموعك !..

              فعل العمدة هذا .. كان يرتعد و بينما أخذ الطبيب يغسل يديه, كان هو يتطلع إلى السقف المتآكل الذي يتدلى منه عنكبوت و حشرات ميتة .. و ما لبث الطبيب أن عاد و هو يمسح يديه .. و قال له :
              - اذهب إلى فراشك .. و " غرغر " بماء مالح ..

              فقام العمدة, و سلم بتحية عسكرية فاترة, ثم اتجه إلى الباب باسطاً ساقيه, و دون أن يزرر سترته ..

              و عند الباب قال : إبعث الفاتورة ..
              - لك, أو لمكتب الحكومة ؟..

              لم ينظر إليه العمدة, بل قال و هو يغلق الباب : هذا و ذاك سيان, لعنة الله !..



              صفحتي على فيس بوك
              https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

              تعليق

              • محمد سلطان
                أديب وكاتب
                • 18-01-2009
                • 4442

                #8
                [align=center]قصة غابريل غارسيا ماركيز [/align]

                عن مجموعة

                Strange Pilgrims

                الصادرة عن دار

                Jonathan Cape London 1993.

                ترجمة : علي سالم

                هذة هي القصة الثالثة من المجموعة أعلاة والتي تحتوي على أثنتي عشر قصة أنوي ترجمة البقية الباقية منها ، علماً بأن هذة المجموعة قد ترجمت الى العربية من قبل السيد صالح علماني بعنوان اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة ونُشرت الترجمة في طبعتها الاولى عام ١٩٩٣ عن دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق ولا أدري عن أي لغة تمت . وهنا أحث الأخوة الأعزاء من القراء المتابعين لترجمات تصدر لأعمال نفس الكاتب مرتين أو ثلاث كما هو شائع ، أن يطلعوا على الترجمة الآنفة الذكر تجنباً للشبهة والإلتباس . ترجمة ماركيز من نوع السهل الممتنع ، فالجمل تختزن إيحاءات وصور لاتبدو للعيان للوهلة الأولى، و تكون صعوبة الترجمة مضاعفة إذا تمت عن ترجمة أخرى ، كما في حالتي أنا إذ أترجم عن الانكليزية لكوني أجهل الإسبانية تماماً . وعلى كل حال فالترجمة نوع من الإجتهاد قرباً أو بعداً عن روح الأصل . أتمنى كمترجم أن أكون قد وفقت بعض الشيء في نقل لمحة من لمحات ماركيز .





                سبعة عشر إنجليزياً مسموماً

                غابريل غارسيا ماركيز



                الشيء الأول الذي لاحظتة السنيورة برودنثيا لينيرو عندما وصلت ميناء نابولي هو رائحتة التي ذكرتها برائحة ميناء ريوهاشا . وبالطبع لم تخبر أحداً بذلك ، لأن لاأحد من ركاب تلك الباخرة الخطية العجوز من طليان بوينس آيريس العائدين لرؤية وطنهم الأم ، لأول مرة منذ الحرب ، والذين تكاد الباخرة تفيض بهم ، كان سيفهم مغزى ملاحظتها هذة ، لكنها على أي حال ، رغم عمرها البالغ إثنان وسبعون عاماً ، ورغم السفرة الطويلة التي أستمرت لثمانية عشر يوماً متواصلة في بحار عاتية بعيداً عن أهلها وبيتها ، شعرت بأنها كانت أقل وحدة ، وأقل خوفاً ونأياً .

                كانت أضواء اليابسة قد برزت للعيان منذ الفجر . وكان المسافرون قد غادروا أسرّتهم في وقت أبكر من الوقت المعتاد ، مرتدين ثياباً جديدة ، وقلوبهم مثقلة بشكوك النزول على الشاطيء ، بحيث بدا لهم الأحد الفائت الذي أمضوة على متن السفينة وكأنة اليوم الوحيد الحقيقي في الرحلة كلها . كانت السنيورة برودنثيا لينيرو من القلائل الذين حضروا القداس . وخلافاً للثياب الشبيهة بثياب الحداد التي أرتدتها من قبل ، لتقوم بجولة حول السفينة ، أرتدت اليوم ثوباً من التُنك الأسمر الغليظ مزنراً بحبل القديس فرانسس ، و نعلين جلديين خشنين لايشبهان نعلي حاج ، فقط لانهما كانا جديدين تماماً . كانت تلك الثياب تمثل بادرة شكر مبكرة للرب تعبيراً عن العهد الذي قطعتة على نفسها أمامة بإرتداء مسوح الراهبات بقية حياتها لو حقق لها أمنيتها بالسفر الى روما لرؤية الحبر الأعظم ، و الآن تعتبر إن الرب قد أستجاب لها و بارك لها تلك الأمنية بالفعل . عند نهاية القداس أوقدت شمعة الى الروح القدس عرفاناً بالجميل على إلهامها الشجاعة التي مكنتها من تحمل أنواء البحر الكاريبي ، وصلت لكل طفل من أطفالها التسعة وأحفادها الأربعة عشر الذين كانوا يحلمون بها في تلك اللحظة بالذات ، في ليلة من ليالي ريوهاشا العاصفة .

                عندما صعدت الى سطح المركب بعد الفطور ، كانت الحياة قد تغيرت على ظهر السفينة . كان العفش مكوماً في صالة الرقص ، الى جانب جميع أنواع الحقائب السياحية التي إبتاعها الطليان في أسواق الأنتيل السحرية ، وفوق بار البهو جلس قرد من فصيلة المكاك جُلب من برنام بوكو داخل قفصة الحديدي . كان صباحاً رائعاً من صباحات أوائل أغسطس / آب . واحداً من صباحات تلك الآحاد الصيفية المثالية لفترة مابعد الحرب التي كان فيها الضوء يشبة إلهاماً يومياً . تقدمت السفينة الهائلة بتؤدة ، وبأنفاس متقطعة كأنفاس رجل مريض ، خلال الماء الساكن الشفاف . ولاح في الأفق الحصن الكئيب لأدواق أنجو ، وظن الركاب الذين تجمعوا على السطح أنهم تعرفوا من جديد على أماكنهم المألوفة ، فأخذو يشيرون اليها حتى قبل أن يكونوا قد رأوها تماماً ، وهم يصيحون فرحين بلهجاتهم الجنوبية . أما السنيورة برودينسيا لنيرو ، التي كسبت الكثير من الأصدقاء العجائز الأعزاء على المركب ، وكانت تتبرع برعاية الأطفال الذين يذهب آبائهم للرقص ، حتى انهم قامت بخياطة أحد أزرار بدلة الضابط الأول ، فقد وجدت ، لدهشتها ، ان جميع أصدقائها قد أصبحوا غرباء وبعيدين . وأحست بإن الروح الإجتماعية والدفء الإنساني اللذين سمحا لها بتجاوز مشاعر حنينها الاولى تحت حرارة المدار الخانقة قد أختفيا الآن . وهاهي تشهد بمجرد أن ظهر الميناء للعيان كيف تنتهي قصص الحب والصداقات الأبدية التي تُنسج في أعالي البحار. ظنت السنيورة برودنثيا لينيرو ، التي لم تكن معتادة على طبيعة الطليان المهذارة ، إن المشكلة لاتكمن في نفوس الآخرين بل في نفسها هي بالذات ، لأنها كانت الوحيدة التي تسافر بلا رفيق مع هذا الحشد العائد الى أرض الوطن . وفكرت وهي تشعر للمرة الأولى بذلك الألم المبرح الذي يصاحب إدراك المرء لغربتة المفاجئة بأن أي رحلة أخرى لابد أن تكون مثل هذة . أتكئت على الحاجز وأخذت تفكر بمخلفات الكثير من العوالم المنقرضة المترسبة في أعماق المياة . فجأة أفزعتها بصرخة مرعبة فتاة جميلة جداً تقف الى جانبها:

                'Mamma mia'

                صرخت الفتاة مشيرة الى الأسفل ، ' أنظري هناك '

                لقد كان رجلاً غريقاً . رأتة السنيورة برودنثيا لينيرو يطفو على ظهرة ، رجل ناضج ، أصلع ، ذو مهابة طبيعية نادرة ، عيناة المفتوحتان السعيدتان لهما لون السماء في الفجر . كان يرتدي بدلة سهرة كاملة مع صديري مقصب ، وحذاء جلد مفصل خصيصاً لة ، وفي طية سترتة كان ثمة زهرة يانعة . في يدة اليمنى كان يمسك علبة صغيرة مربعة ملفوفة بورق هدايا ، وأصابعة الحديدية الشاحبة متمسكة بمقدم السفينة ، وهو الشيء الوحيد الذي أتيح لة التمسك بة لحظة موتة .

                ' لابد انة سقط من حفلة عرس ' قال أحد ضباط السفينة ' يحدث هذا الشيء كثيراً في هذة المياة أيام الصيف ' .

                لقد كان مشهداً عابراً ، لأنهم في تلك اللحظة بالذات كانوا يدخلون المرفأ ، حيث شرعت أمور أخرى أقل مأساوية تستحوذ على أهتمام الركاب . لكن السنيورة برودنثيا لينيرو ظلت تفكر بالرجل الغريق ، الرجل الغريق المسكين ، الذي كان ذيل سترتة الطويلة يتموج في فورة الماء الخارجة من تحت السفينة .

                تقدم قارب سحب عتيق ، حالما دخلت السفينة الى المرفأ ، وأقتادها من أنفها عبر متاهة من حطام مراكب عسكرية دُمرتها الحرب . وعندما شقت السفينة طريقها عبر غابة الهياكل الصدئة ،أخذ الماء يستحيل زيتاً ، وأصبحت الحرارة أشد حتى من حرارة ريوهاشا في الثانية بعد الظهر . وبرزت المدينة على الجانب الآخر من القنال الضيق ، متألقة تحت شمس الضحى بقصورها الخيالية وبيوتها العتيقة الملونة المكدسة فوق التلال . في هذة اللحظة إنبعثت من القعر المضطرب رائحة عفن شديدة ، ذكّرت السنيورة برودنثيا لينيرو برائحة السراطين النتنة المنبعثة من فناء دارها .

                وبينما كانت هذة المناورة تجري ، ميّز الركاب الذين كادوا يطيرون من الفرح أقاربهم وسط الحشد الذي تجمع على رصيف الميناء . و معظم هولاء الأقارب كن سيدات في خريف العمر ذوات صدور ضخمة ، يرتدين ثياب حداد سوداء تكاد تخنقهن ويملكن أكثر الأطفال جمالاً وعدداً في العالم . الى جانبهن كان يقف أزواج صغار الأجسام ، يقظون ، من النوع الخالد الذي يقرأ الصحف بعد فراغ الزوجات منها ، والذي يتلفع دوماً بثياب رسمية صارمة كثياب كتاب العدل ، رغم أنف الحرارة .

                في وسط هذا الهرج الكرنفالي قام رجل عجوز يرتدي معطفاً قذراً ولة وجه يتجاوز بؤسة حدود المواساة باخراج حفنة كبيرة من كتاكيت الدجاج الصغيرة من جيبية بكلتا يدية . وفي لحظة غطت الكتاكيت كامل الرصيف ، مهتاجة وموصوصة ، وبسبب كونها كتاكيت سحرية فقد نجا العديد منها وواصل جرية حتى بعد وطئها بأقدام الحشد الذي لم يكن منتبهاً لهذة المعجزة . قلب الساحر قبعتة ووضعها على الأرض ، لكن لاأحد من الواقفين عند الحاجز قذفة بقطعة نقد واحدة ، ولو على سبيل الإحسان .

                أفتتنت السنيورة برودنثيا لينيرو بغرابة هذا العرض العجيب الذي بدا وكأنة كان يقدم على شرفها ، لأنها الوحيدة التي قدرتة حق قدرة ، ونتيجة لإنشغلها بالعرض لم تنتبة للحظة التي أنزلوا فيها معبر النزول الذي أحتلة على الفور سيل بشري إنهال على السفينة بزخم مدو كزخم هجوم قرصاني . أصابها صوت الإبتهاج الجامح هذا ورائحة البصل الزنخة المنبعثة تحت وطأة القيظ من أفواة العديد من العوائل ، بالدوار ، ووجدت نفسها تُدفع هنا وهناك من قبل زمر من الحمالين المتنافسين على نقل العفش لحد تبادل اللطمات . وشعرت بأن الموت الشائن الذي كان يتهدد الكتاكيت الصغار على الرصيف كان يستهدفها هي أيضاَ ، فجلست على صندوق ثيابها الخشبي ذو الزوايا المعدنية المطلية غير آبهة بشيء ، وشرعت ترتل سلسلة من الصلوات الحميمة لحمايتها من الغواية والأخطار في هذة الأرض التي فقدت إيمانها . عندما أنحسر المد البشري وجدها الضابط الأول تجلس وحيدة في صالة الرقص المهجورة .

                ' لايسمح لأحد بالبقاء هنا الآن ' قال لها الضابط بود حقيقي . ' هل تسمحيلي في المساعدة بشيء ؟ ' .

                قالت ' يجب علي إنتظار القنصل '

                كان ذلك صحيحاً . فقبل يومين من إبحارها ، أرسل إبنها البكر برقية لصديقة قنصل نابولي ، راجياً منة ملاقاة والدتة في الميناء ومساعدتها في إتمام إجراءات الدخول لكي تواصل مسيرها الى روما ، ذاكراً لة أسم السفينة ووقت وصولها ، وإمكانية التعرف على أمة لأنها ستكون مرتدية مسوح القديس فرانسس عند وصول سفينتها الى المرسى . لقد كانت متمسكة جداً بهذة الترتيبات بحيث لم يجد القبطان بداً من تركها تنتظر لفترة أطول ، رغم إقتراب موعد غداء أفراد الطاقم ، الذين شرعوا فعلاً بوضع الكراسي على الطاولات و بدأوا بغسل الأرضية بجرادل الماء ، مضطرين لتحريك صندوق ثيابها عدة مرات لمواصلة العمل ، لكنها كانت تغير مكانها كلما طلبوا منها ذلك دون أن يطرأ أي تغيير على تعابير وجهها ، ودون أن تقطع صلواتها ، حتى أخرجوها أخيراَ من صالة الإستجمام وتركوها تجلس في وهج الشمس وسط قوارب الإنقاذ . وهناك وجدها الضابط الأول للمرة الثانية غارقة في عرقها داخل مسوح التوبة مرددة صلواتها دون أمل لأنها كانت تشعر بالخوف والحزن ، سلاحيها الوحيدين الذين كانت تدرأ بهما الإنخراط في البكاء .

                قال الضابط وقد تبخرت من وجهة ملامح الود كلياُ ' من الغير المجدي بالنسبة لك الإستمرار في الصلاة ، فحتى الرب نفسة يذهب في أجازة أيام أغسطس '

                ثم قال لها بأن نصف ايطاليا في هذا الوقت من العام تذهب الى الساحل ، خصوصاً أيام الأحد . و إن القنصل لم يذهب على الأرجح في أجازة ، نظراً لطبيعة عملة ، لكن من المؤكد إنة لن يفتح مكتبة حتى يوم الاثنين . إذن الشيء الوحيد المعقول هو النزول في فندق ، والنوم جيداً لليلة واحدة ، ثم الإتصال بة تلفونياً في اليوم التالي ؛ ولاشك أن نمرتة موجودة في دفتر التلفونات . لم تكن السنيورة برودنثيا لينيرو تملك أي خيار غير القبول بقرار الضابط الأول الذي ساعدها في إجراءات الهجرة والكمارك وتبديل النقود ووضعها في سيارة أجرة ، مقدماً للسائق تعليمات غامضة حول ضرورة أخذها الى فندق محترم .

                شرعت سيارة الأجرة التي لاتزال تحمل آثار حياتها السابقة كعربة لنقل الموتى في السير مترنحة داخل الشوارع المهجورة . وظنت السنيورة برودنثيا لينورا للحظة إنها والسائق كانا آخر من بقي على قيد الحياة في هذة المدينة المهجورة التي تتدلى أشباحها من حبال الغسيل المنتشرة وسط الشارع ، لكنها فكرت أيضاً بأن الرجل أذا كان ثرثاراً ولايتوقف لحظة عن الكلام بقوة وحرارة ، كهذا السائق ، فلن يكون لدية الوقت الكاف للتفكير بإيذاء سيدة عجوز وحيدة جازفت بحياتها وتحملت أهوال المحيط من أجل رؤية الحبر الأعظم .

                لاح لها البحر ثانية عندما وصلا الى نهاية هذة المتاهة من الشوارع . وواصلت سيارة الأجرة ترنحها على طول الساحل المهجور المشتعل المبقع بالعديد من الفنادق الصغيرة المطلية بألوان زاهية . لكن السيارة لم تتوقف أمام أي منها ، بل واصلت السير قدماً لتتوقف أمام فندق تلوح علية مسحة من الرصانة ، ينتصب داخل حديقة عامة فيها أشجار نخيل عالية ومصاطب خضراء . وضع السائق صندوق الثياب على الطوار المظلل ، و قال عندما شاهد التردد على وجة السنيورة برودنثيا لينورا ، بأن هذا الفندق من أكثر فنادق نابولي إحتشاماً .

                رفع حمال وسيم ، طيب القلب صندوق الثياب على كتفية وتولى مهمة العناية بها . وقادها الى مصعد ذو باب حديدي مشبك أضيف بشكل مرتجل الى بئر السلم ، وأنطلق يغني بأعلى صوتة وباصرار مفزع لحناً لبوتشيني . لقد كانت البناية مهيبة ، وتحتوي على فندق مختلف في كل طابق من طوابقها التسعة المرممة حديثاً . فجأة ، وبنوع من الهلوسة ، شعرت السنيورة برودنثيا لينيرو داخل المصعد بأنها محصورة داخل قن للدجاج يصعد ببطء وسط اصداء فراغ السلم المرمرية ، ملتقطاً ومضات عابرة لنزلاء الطوابق الأخرى في شققهم وهم في أكثر لحظات غفلتهم حميمية ، بسراويلهم الداخلية الممزقة وصوت تجشئاتهم الفائحة بالحموضة . عندما وصلا الطابق الثالث توقف المصعد مرتجاً ، ثم توقف عامل الفندق عن الغناء ، وفتح باب المصعد الحديدي المشبك القابل للطي وأشار بحركة توقير مسرحية موضحاً للسنيورة برودنثيا لينيرو أنهما وصلا الى شقتها .

                في الردهة شاهدت مراهقاً يجلس بتكاسل خلف مكتب خشبي مطعم بزجاج ملون ، ونباتات ظلية في أصص من النحاس . وأحبتة على الفور لأنة كان يشبة حفيدها الأصغر بخصلات شعرة الملائكية المجعدة . وأحبت أسم الفندق ، المحفورة حروفة على لوحة برونزية ، واحبت رائحة حمض الكاربوليك ، وأحبت أغصان السرخس المتدلية ، أحبت الصمت ، أحبت زهور الزنبق التي كانت تزين ورق الجدران . ثم خطت خارج المصعد ، وأنكمش قلبها عندما شاهدت مجموعة من السياح الأنكليز يرتدون بناطيل قصيرة وينتعلون صنادل خفيفة من النوع الذي يرتدية السياح على الشواطيء يغطون في النوم على صف طويل من الكراسي . كانوا سبعة عشر سائحاً ، يجلسون بشكل متماثل ، وكأنهم شخص واحد متكرر عدة مرات في ردهة للمرايا المتقابلة . مسحتهم السنيورة برودنثيا جميعاً بنظرة سريعة واحدة دون أن تفلح في تمييز أحدهما عن الآخر ، وكل مارأتة كان طابور من الركب الوردية الشبيهة بشرائح لحم خنزير معلقة في محل جزارة . فأحجمت عن التقدم خطوة ثانية نحو طاولة إستقبال الفندق ، وتراجعت الى داخل المصعد ، قائلة : دعنا نذهب الى طابق آخر ' .

                قال عامل الفندق ' لكن هذا هو الفندق الوحيد الذي يحتوي على مطعم '

                قالت ' لايهم '

                أومأ العامل موافقاً ، وأغلق المصعد ، وشرع في غناء ماتبقى من الأغنية حتى توقفا عند الطابق الخامس . هنا بدا كل شيء أقل صرامة ، والمالكة كانت سيدة ذات سحنة ربيعية تتحدث الإسبانية بطلاقة ، ولم يكن ثمة أحد ينام القيلولة على الكراسي الموجودة في الردهة . لكن لم يكن هناك غرفة للطعام في الواقع ، ولحل هذة المشكلة كان الفندق متفقاً مع أحد المطاعم لتزويد زبائنة بالطعام لقاء أجر زهيد . وهكذا قررت السنيورة برودنثيا لينيرو المبيت لليلة واحدة ، بعد أن أقنعتها فصاحة سيدة الفندق ولطف شمائلها بالبقاء ، بنفس القدر الذي أقنعها أحساسها بالأرتياح لعدم وجود أنجليزي واحد أحمر الركبتين ينام في الردهة .

                في الثالثة بعد الظهر أُغلقتْ الستائر في غرفة نومها ، وأمتصت العتمة الخفيفة داخل الغرفة الصمت البارد المنبعث من أيكة خفية ، وأصبح المكان مهيأً للبكاء . وحالما وجدت السنيورة برودنثيا لينيرو نفسها وحدها سارعت الى غلق الباب بالرتاج ، وتبولت للمرة الأولى منذ الصباح ، مطلقةً خيطاً مائياً رفيعاً متردداً ، جعلها تستعيد الإحساس بهويتها التي أضاعتها خلال الرحلة . ثم تمددت على جنبها الأيسر على السرير المزدوج الذي كان واسعاً جداً وموحشاً بالنسبة لإمرأة وحيدة ، وقامت بإطلاق سيل آخر من دموع طال إحتباسها .

                لم تكن هذة هي المرة الاولى التي تغادر فيها ريوهاشا وحسب ، بل واحدة من المناسبات القليلة التي تركت فيها بيتها بعد زواج أبنائها ومغادرتهم للبيت ، تاركينها للعيش وحيدة مع خادمتين هنديتين حافيتين للعناية بجسد زوجها الغاط في غيبوبة أبدية . لقد أمضت نصف عمرها داخل غرفة النوم قبالة ذلك الحطام البشري العائد للرجل الوحيد الذي منحتة حبها ، والذي ظل غائباً عن الوعي قرابة الثلاثين سنة ، فوق حشية من جلد الماعز كانت تحتل السرير الذي شهد غرامياتهما الحميمة أيام الشباب .

                وخلال شهر أكتوبر المنصرم ، فتح العليل عينية في ومضة صحو مفاجئة ، وتعرف على عائلتة ، وطلب منهم جلب مصور . وجلبوا مصوراً عجوزاً من الحديقة حاملاً كاميرتة ذات الردن الأسود ولوحة مغنيسيوم لإلتقاط الصور في البيت . وقام الرجل المريض بترتيب الصور بنفسة وقال ، واحدة لبرودنثيا من أجل الحب والسعادة التي منحتهما إياي في حياتي ، وألتُقطت هذة الصورة بأول ومضة للمغنيسيوم . ثم قال ' والآن صورتان أخريان لبنتي العزيزتين ، برودنثيا وناتاليا ' . والتقطت الصورتين. ' والآن صورتين أخريين لولدي ، اللذان أصبحا بحنانهما وسداد رأيهما مثالاً لجميع أفراد العائلة ' وهكذا دواليك حتى نفذ ورق التصوير وأضطر المصور الى أن يهرع الى بيتة لجلب المزيد منة . وفي الساعة الرابعة عندما أمتلأت الغرفة بدخان المغنيسيوم وبضجيج الحشد المؤلف من الأقارب والأصدقاء والمعارف الذين تدفقوا على المكان للحصول على نسخة من الصور أصبح الهواء داخل الغرفة غير صالح للتنفس ، وبدأ الرجل العليل يفقد الوعي فوق سريرة ، وأخذ يلوح للجميع مودعاً وكأنة يقوم بمسح نفسة من صفحة الوجود وهو يقف على حاجز سفينة .

                لم يجلب موتة الراحة لقلب الأرملة كما كان يأمل الجميع . بل على العكس فقد سبب لها حزناً شديداً جعل أبنائها يجتمون ليروا كيف يمكن لهم مواساتها ، قالت لهم إنها ترغب بالسفر الى روما لمقابلة البابا

                ' سأذهب لوحدي وسأرتدي مسوح القديس فرانسيس ، لقد نذرت لة نذرا'ً

                لم يبق لها من كل تلك السنين الطوال التي قضتها في السهر والرعاية غير الراحة والعزاء اللذان يمنحمهما البكاء . وعلى السفينة ، عندما أضطرت الى مشاركة أختين من الطائفة الكلاريسية * نفس الغرفة قبل أن تغادرا السفينة في مرسيليا ، كانت تقضي في الحمام وقتاً أطول من المعتاد ليتسنى لها البكاء دون رقيب . وبالنتيجة فقد كانت غرفة الفندق في نابولي المكان الوحيد المناسب الذي عثرت علية منذ مغادرتها لريوهاشا حيث يمكنها البكاء ماشاء لها ذلك حتى تتسلل الراحة الى قلبها . و كان يمكن أن تواصل البكاء حتى اليوم التالي، لولا مجيء صاحبة الفندق وقرعها الباب في السابعة ، موعد مغادرة القطار الى روما ، لتخبرها بأنها لن تجد ماتأكلة إن لم تنزل حالاً الى المطعم .

                رافقها عامل الفندق . وفي هذة اللحظة كان نسيم منعش قد بدأ يهب من البحر، وعلى الشاطيء كان بعض السابحين لازالوا يتجولون تحت تحت شمس الصباح الشاحبة . تبعت السنيورة برودنثيا لينيرو عامل الفندق الذي سار بها في شوارع منحدرة ضيقة ذات أرض قاسية كانت تستيقظ للتو من قيلولة يوم الأحد ، لتجد نفسها داخل تعريشة مظللة تستقر تحتها طاولات مغطاة بقماش مقصب بخطوط حمراء وجرار أُنبتت فيها زهور ورقية . كان المطعم خالياً من الزبائن في تلك الساعة المبكرة من النهار وكان الوحيدون الذين شاركوها الطعام هم الخدم والخادمات وقس معدم كان يتناول خبزاً وبصلاً على طاولة سوداء . عندما دخلت شعرت بعيون الجميع تستقر على ردائها البني ، لكن ذلك لم يؤثر بها ، لأنها كانت تعرف بأن السخرية كانت جزء من كفارتها . من جانب آخر أثارت الخادمة إحساسها بالشفقة ، لأنها كانت شقراء وجميلة ، وتتكلم كما لو كانت تغني . وفكرت السنيورة برودنثيا لينيرو بأن الأوضاع في إيطاليا بعد الحرب كانت لابد سيئة جداً وإلا لما أضطرت فتاة مثلها للخدمة في مطعم . لكنها شعرت بالراحة تحت التعريشة المزهرة ، وأيقظت نكهة المرق المطهي بورق الكستناء المنبعثة من المطبخ إحساسها بالجوع الذي أجلتة متاعب و قلق ذلك اليوم . وأحست للمرة الأولى منذ زمن طويل بأنها لم تكن راغبة بالبكاء . ومع ذلك لم تتمكن من الأكل كما كانت تشتهي ، لأنها من ناحية لم تكن قادرة على التفاهم مع الخادمة الشقراء ، رغم ماأبدتة الأخيرة من حنان وصبر ، ومن ناحية أخرى لأن اللحم الوحيد المتوفر في المطعم هو لحم الطيور الصغيرة المغردة التي يربونها داخل الأقفاص في ريوهاشا . حاول القس الذي كان يلتهم طعامة في الزاوية ، والذي ترجم لها فيمابعد ، أن يفهمها بأن حالة الطواريء في اوربا لم تنته بعد ، وبأن وجود عدد قليل من طيور الغابات صالح للأكل يعد على الأقل معجزة بحد ذاتة . لكنها أبت أن تأكل و دفعت بالطعام بعيداً .

                وقالت ' بالنسبة لي سيكون الأمر مثل إلتهام واحداً من أبنائي' .

                وأنتهى بها الأمر الى تناول حساء من الشعرية ، وصحن من القرع المطبوخ مع شرائح صغيرة من لحم الخنزير المقدد الزنخة ، وقطعة خبز صلبة كالرخام . وبينما كانت تأكل، أقترب القس من طاولتها وطلب منها أن تشتري لة قدح من الشاي على سبيل الإحسان . كان قساً يوغسلافياً عاش شطراً من حياتة مبشراً في بوليفيا ، وكان ينطق الإسبانية بطريقة خرقاء ، معبرة . وبدا للسنيورة برودنثيا لينيرو مجرد شخص عادي لايحمل محياة أي أثر للإنغماس في الحياة الروحية ، مستدلة على ذلك من يدية المخزيتين وأظافرة المهشمة القذرة ، ورائحة البصل العنيدة في أنفاسة والتي بدت على الأرجح كجزءأً لايتجزأ من شخصيتة . لكنة كان يعمل في خدمة الرب ، على أي حال ، وكان من دواعي سرورها كذلك ، وهي على هذا البعد السحيق عن الوطن ، أن تقابل إنساناً تستطيع التحدث إلية . تحدثا على مهل ، غير منتبهين لضجة الفناء العالية التي أخذت تطوقهم عندما أخذ المزيد من الزبائن يشغل الطاولات الأخرى المجاورة . كانت السنيورة برودنثيا لينيرو قد توصلت الى إتخاذ قرار قاطع يتلخص في عدم حبها لايطاليا . ولايعود السبب في ذلك الى كون رجالها غير محتشمين بعض الشيء ، وهو أمر يعني الكثير ، أو لأنهم كانوا يلتهمون الطيورالمغردة ، وهو أمر لايمكنها قبولة ، بل بسبب عادتهم الشريرة في ترك الغرقى يطفون على الماء .

                أما القس الذي كان قد طلب على حسابها كأساً من شراب الغرابا وقهوة ، فقد حاول أن يوضح لها سطحية رأيها بالإيطاليين ، لأنهم أسسوا خلال الحرب نظاماً فعالاً جداً للإنقاذ والتعرف على ضحايا الغرق الذين يُعثر عليهم طافين في خليج نابولي ودفنهم في رحم الأرض المقدسة . وختم القس حديثة قائلاً ' قبل قرون إكتشف الايطاليون بأن الحياة تُعاش مرة واحدة ، لذا ترينهم يفعلون مابوسعهم لكي يحققوا ذلك على أكمل وجة . لقد جعلهم هذا الإكتشاف حريصين وثرثارين ، لكنة طهرهم أيضاً من أدران القسوة ' .

                قالت ' إنهم لم يبادروا حتى الى إيقاف السفينة ' .

                قال القس ' مايفعلونة عادة هو الإتصال بسلطات الميناء عبر الراديو . سيكونون قد التقطوة الآن ودفنوة بإسم الرب ' .

                بدّل النقاش مزاجيهما . وفي اللحظة التي أنهت فيها السنيورة برودنثيا لينيرو طعامها ، إنتبهت الى أن جميع الطاولات أصبحت مشغولة . وشاهدت على الطاولات القريبة ، سواح شبة عراة يلتهمون الطعام بصمت ، وبينهم بعض العشاق الذين كانوا يتبادلون القبل ولايأكلون . وفي الطاولات الخلفية ، القريبة من البار ، كان أبناء الحي يلعبون النرد ويحتسون نبيذاً شفافاً . وفهمت السنيورة برودنثيا لينيرو بأنها كانت تملك سبباً واحداً فقط لوجودها في هذا البلد الكرية.

                سألتة 'هل تعتقد إن رؤية البابا ستكون صعبة جداً ؟ '

                ورد القس قائلاً بأن لاشيء أسهل من ذلك في الصيف . لقد كان البابا في الفاتيكان في قلعة غوندولفو ، وفي أماسي الأربعاء كان يلقي بموعظة جماعية لجموع الحجاج الوافدين من شتى أنحاء العالم . وكان رسم الدخول زهيداً جداً : عشرون ليرة فقط .

                سألتة 'وكم يتقاضى لقاء الإستماع الى إعترافات شخص ما ؟'

                قال القس مفزوعاً ' الأب المقدس لايسمع الإعترافات ، عدا إعترافات الملوك طبعاً ' .

                قالت ' لاأدري لماذا يحرم عجوز مسكينة من تلك المنة التي تجشمت لأجلها كل هذا العناء '

                قال القس ' وبعض الملوك ، رغم كونهم ملوكاً ، يموتون من فرط الإنتظار . لكن أخبريني هل إن خطيئتك كبيرة الى الحد الذي يدعوك الى هذا السفر الطويل لوحدك لمجرد الإعتراف أمام قداسة البابا ' .

                فكرت السنيورة برودنثيا لينورا قليلاً ، وشاهد القس إبتسامتها للمرة الاولى .

                قالت ' ياأم الرب ، سأرضى بمجرد النظر الية ' . ثم أضافت بإشارة بدت نابعة من روحها ' إنة الحلم الذي أنتظرتة طوال حياتي ' .

                في الحقيقة كانت لاتزال تشعر بالخوف والتعاسة ، وكل ماكانت تطلبة هو أن تغادر دون إبطاء المطعم ، وإيطاليا على السواء . ويبدو أن الراهب فكر بأنة لن ينال من هذة العجوز المخدوعة أكثر مما نال ، فقرر تركها متمنياً لها حظاً طيباً وذهب الى طاولة أخرى ليستجدي بإسم الإحسان كوباً آخراً من القهوة .

                عندما خرجت من المطعم ، وجدت السنيورة برودنثيا لينيرو نفسها في مدينة أخرى مختلفة . أدهشتها أشعة شمس التاسعة ، وأخافها الحشد الصاخب الذي أحتل الشوارع وحرمها من سلوى التمتع بنسيم المساء . لقد شعرت بأن الحياة مستحيلة وسط كل هذة الدراجات النارية من نوع فيسبا التي كانت تهدر بجنون ، والتي يقودها رجال عراة الصدور مع نسائهم الجميلات الجالسات خلفهم ، المتشبثات بخصورهم . كانوا يجعلون الدراجات تثب فجأة ، وهم ينطلقون بها متمايلين وسط لحوم الخنازير المعلقة وبسطات البطيخ . كان جواً كرنفالياً ، لكنة بالنسبة للسنيورة برودنثيا لينيرو كان كارثياً . فظلّت طريقها ، ووجدت نفسها فجأة في شارع غير مناسب تجلس فية نسوة صامتات على عتبات بيوت متشابهة وامضة بمصابيح حمراء جعلتها ترتجف ذعراٌ . تبعها مسافة عدة بنايات رجل أنيق يرتدي خاتماً ذهبياً ثقيلاً ويضع ماسة في ربطة عنقة وقال لها شيئاً بالإيطالية ، ثم بالانكليزية والفرنسية . وعندما لم يستلم منها رداً ، أراها بطاقة بريدية من علبة إستلها من جيبة ، وبلمحة سريعة لتلك البطاقة شعرت إنها كانت تجوس في دروب الجحيم .

                فرت فزعة ، وفي نهاية الشارع عثرت ثانية على البحر الشفقي وشمت نفس رائحة المحار المتفسخ العطنة الشبيهة برائحة ميناء ريوهاشا فأحست بالسكينة تعود الى قلبها المضطرب . وميزت ثانية نفس الفنادق الملونة الموجودة على طول الشاطيء المهجور ، و‘ تكسيات ‘ المآتم ، وماسة أول نجم يظهر في السماء الشاسعة . وفي الطرف القصي للخليج ، ميزت سفينتها التي أبحرت على متنها ، تجثم وحيدة وعملاقة عند رصيف المرفأ ، متوهجة بالأنوار في جميع طوابقها ، وشعرت بأنها لاترتبط بها بأي صلة . إنحرفت نحو اليسار عند المنعطف لكنها عجزت عن الإستمرار بسبب وجود حشد أوقفتة شرطة الكاربينيري. وكان هناك صف من سيارات الإسعاف يقف منتظراً بأبواب مفتوحة خارج بناية فندقها .

                وقفت السنيورة برودنثيا لينيرو على أطراف أصابعها لتنظر من خلف أكتاف المتجمهرين ، وشاهدت السياح الانكليز ثانية . كانوا يُحملون الى الخارج على نقالات ، واحداً تلو الآخر ، وجميعهم بلا حراك وفي وجوههم تلوح سيماء من الجلال ولايزالون يشبهون رجلاً واحداً مكرراً عدة مرات في ثيابهم الأكثر رسمية التي أرتدوها لتناول العشاء ؛ وهي سراويل من الفلانيل ، وربطات عنق مزينة بخطوط مائلة ، وسترات داكنة اللون مطرزة على جيب الصدر بشعار النبالة العائد لترينيتي كوليج . عندما كانوا يخرجونهم ، كان الجيران الذين يراقبون المشهد من الشرفات ، و الناس الذين مُنعوا من الإقتراب ، يعدونهم في آن واحد كما لوكانوا موجودين في ملعب كرة قدم . لقد كانوا سبعة عشر . وضعوهم إثنين إثنين في سيارات الإسعاف التي إنطلقت بهم على صوت صفاراتها الحربية .

                دخلت السنيورة برودنثيا لينيرو المصعد ، بعد أن صعقها ماشهدتة من أحداث ، وأنحشرت مع نزلاء الفنادق الأخرى الذين كانوا يهدرون بلغات عصية على الفهم . وبعد تفرقهم في جميع الطواق عدا الطابق الثالث ، الذي كان مفتوحاً ومضاءاً ، لكن لم يكن فية أحد خلف طاولة الإستقبال أو على كراسي الردهة حيث شاهدت الركب الوردية للانكليز السبعة عشر النائمين . علقت مالكة الطابق الخامس على الكارثة بعاطفة مشبوبة ، قائلة للسنيورة برودنثيا لينيرو بالإسبانية ' لقد ماتوا جميعاً . لقد سممهم حساء المحار الذي تناولوة على العشاء . تخيلي ، محار في أغسطس ! '

                ناولتها مفتاح غرفتها ، ولم تعرها مزيد من الإهتمام وراحت تقول للضيوف الآخرين بلهجتها الخاصة ' نظراً لعدم وجود غرفة للطعام هنا، فكل من يذهب للرقاد هنا يصحو حياً ! ' .

                أقفلت السنيورة برودنثيا لينيرو الباب بالمزلاجين ، وهي تشعر بغصة أخرى من الدموع الحبيسة تتجمع في حنجرتها . بعد ذلك دفعت بطاولة الكتابة الصغيرة وكرسي الجلوس وصندوق ثيابها تجاة الباب ليكونوا متراساً يصعب إختراقة من قبل فضائع هذا البلد الذي تحدث فية الكثير من الأشياء دفعة واحدة . ثم أرتدت منامتها الخاصة بالأرامل ، وتمددت على ظهرها في السرير ، وتلت سبعة عشر صلاةً للإنكليز السبعة عشر المسمومين .





                _______________

                * طائفة كلاريس الفقيرة : طائفة من الراهبات تتفرع عن طائفة القديس فرانسيس الأسيسي و تنتسب الى سيدة من طبقة النبلاء تدعى كلاريس أو كلير الأسيسية تركت كل جاهها ومالها وعاشت حياة متقشفة كرستها للعبادة وطلب المغفرة متأثرة بالقديس فرانسيس الأسيسي .

                المترجم عن الموسوعة البريطانية الميسرة .


                علي سالم
                صفحتي على فيس بوك
                https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

                تعليق

                • محمد سلطان
                  أديب وكاتب
                  • 18-01-2009
                  • 4442

                  #9


                  ليس لدي الكولونيل من يكاتبه
                  ترجمها عن الأسبانية : صالح علماني
                  ودققها : سعيد حورانية

                  نزع الكولونيل غطاء علبة البنْ فتأكد من أنه لم يبق فيها سوي قدر ملعقة صغيرة. فتناول إبريق القهوة عن الموقد، وسكب نصف ما يحتويه من ماء على الأرض الترابية، ثم كشط بسكين محتويات العلبة ونفضه فوق الإبريق إلى أن سقطت آخر ذرات البنْ مختلطة بصدأ العلبة.
                  وبينما كان ينتظر غليان القهوة، شعر الكولونيل وهو يجلس إلى جانب الموقد المصنوع من لبن، وعلى وجهه تبدو مظاهر الانتظار الواثق البريء، بأن نبتات فطر وزنابق سامة تنمو في أحشائه. حدث هذا في أكتوبر. في صباح يوم من الصعب تصنيفه، وخاصة لرجل مثله عاش أصباحا كثيرة مثل هذا الصباح. فطوال ست وخمسين سنة منذ انتهت الحرب الأهلية الأخيرة لم يفعل الكولونيل خلالها شيئا سوي الانتظار، وكان مجيء أكتوبر أحد الأمور القليلة التي تمر في حياته.
                  رفعت زوجته الكلة عندما رأته يدخل حجرة النوم حاملا القهوة. لقد عانت تلك الليلة من نوبة ربو، وتنتابها الآن حالة من النعاس. ولكنها اعتدلت لتتناول الفنجان، وقالت:
                  ـ وأنت!
                  فكذب الكولونيل قائلا:
                  ـ لقد تناولت قهوتي، ومازالت لدينا ملعقة كبيرة من البنْ.
                  في تلك اللحظة شرعت الأجراس تقرع. كان الكولونيل قد نسي الجنازة. وبينما كانت زوجته تتناول القهوة، نزع شبكة النوم المعلقة في أحد أركان الغرفة وطواها في الركن الآخر وراء الباب. فكرت المرأة بالميت، وقالت:
                  ـ ولد سنة .1922 بعد شهر تماما من ميلاد ابننا. يوم السادس من نيسان (ابريل).
                  وتابعت رشف القهوة ما بين شهقات تنفسها المتقطع. كانت امرأة تبدو وكأنها مبنية من غضاريف بيضاء مسندة إلى عمود فقري متقوس وبلا مرونة. واختلاجات أنفاسها تضطرها إلى ضغط أسئلتها. وعندما انتهت من تناول القهوة كانت ما تزال تفكر بالميت فقال: 'لابد أن دفن المرء في أكتوبر شيء رهيب'. ولكن زوجها لم يعرها اهتماما. فتح النافذة. كان أكتوبر قد استقر في البهو. فأخذ يتأمل النباتات التي كانت تنشق عن اخضرار كثيف. والأخاديد الدقيقة التي خلفتها الديدان في الوحل، ثم أخذ يحس من جديد بالشهر المشئوم في أمعائه.
                  ****
                  قال
                  ـ أشعر بأن عظامي رطبة.
                  فردت زوجته:
                  ـ انه الشتاء. منذ بدأ المطر يهطل وأنا أقول لك بأن تنام لابسا جرابك.
                  ـ منذ أسبوع وأنا أنام بالجراب.
                  كانت السماء تمطر ببطء ولكن دون توقف. وكان الكولونيل يود أن يلف نفسه ببطانية صوفية ويعود من جديد إلى سريره المعلق. ولكن إلحاح الأجراس البرونزية ذكٌره بالجنازة، فدمدم: 'يا لأكتوبر'، وسار نحو وسط الغرفة. وعند ذلك فقط تذكر ديك المصارعة المربوط بقائمة السرير.
                  وبعد أن حمل الفنجان الفارغ إلى المطبخ، ملأ الساعة ذات البندول المثبتة ضمن إطار خشبي مزخرف في الصالة. وعلى العكس من غرفة النوم الضيقة التي لا تناسب تنفس المريضة بالربو. فقد كانت الصالة واسعة. وفيها أربعة كراسي هزازة من الليف حول طاولة من الجص. وعلى الجدار المقابل لذلك الذي علقت عليه الساعة. علقت لوحة لامرأة متكئة وسط حرير ناعم شفاف ومحاطة بعشاق في مركب يغص بالزهور.
                  كانت السادسة وعشرين دقيقة عندما انتهي من تعبئة الساعة. بعد ذلك حمل الديك إلى المطبخ، وربطه إلى دعامة بجانب حفنة من الذرة. نفذت مجموعة من الأطفال من خلال السور المتشقق، وجلست حول الديك لتراقبه بصمت.
                  ـ لا تنظروا كثيرا إلى هذا الحيوان. فالديوك تتآكل من كثرة النظر إليها قال لهم الكولونيل.
                  ولكن الأطفال لم يرفعوا أنظارهم عن الديك، وراح أحدهم يعزف على الهارمونيكا أنغام الأغنية الدارجة 'لا تلمسني اليوم'، فقال له الكولونيل: 'هناك ميت في القرية' فدس الطفل الآلة في جيب بنطلونه ومضي الكولونيل إلى الغرفة ليرتدي ملابسه ويذهب إلى الجنازة.
                  لم تكن ملابسه البيضاء مكويّة بسبب نوبة الربو التي أصابت المرأة. وهكذا كان عليه أن يستقر رأيه على ارتداء بدلة الجوخ السوداء التي استخدمها في مناسبات خاصة جدا بعد زواجه. وقد كلفة العثور عليها في أسفل الصندوق جهدا ليس بالقليل. كانت ملفوفة بأوراق الصحف، ومحفوظة من العث بكرات صغيرة من النفتالين. تابعت المرأة التي كانت مستلقية على السرير التفكير بالميت وقالت:
                  ـ لابد وأنه التقي مع أغوستين الآن. ويمكن ألا يكون قد حكي له عن الحالة التي وصلنا إليها بعد موته.
                  فقال الكولونيل:

                  ـ لابد وانهما يتناقشان عن الديوك الآن.
                  عثر في الصندوق على مظلة كبيرة وقديمة. كانت زوجته قد ربحتها في سوق خيري أقيم لجمع تبرعات لصالح حزب الكولونيل. في تلك الليلة ذاتها حضروا عرضا في الهواء الطلق. ولم يتوقف العرض برغم المطر الذي كان يهطل. وشاهد الكولونيل، وزوجته، وابنه أغوستين الذي كان عمره حينئذ ثماني سنوات العرض حتى نهايته، وهم جالسون تحت المظلة. لقد مات أغوستين الآن وبطانة المظلة التي هي من الأطلس قد اهترأت يفعل العث.
                  ـ انظري كيف صارت مظلتنا كمظلات مهرجي السيرك. قالها الكولونيل وكأنه يقول عبارة قديمة كان يستخدمها بكثرة. وفتح فوق رأسه جهازا غامضا من القضبان المعدنية. ثم تابع:
                  ـ إنها تنفع الآن لعدّ النجوم فقط.
                  ابتسم. ولكن المرأة لم تتكلف مشقة النظر إلى المظلة ودمدمت: 'كل شيء هكذا'. 'إننا نتعفن في الحياة'. وأغمضت عينيها لتفكر بالميت بتركيز أكبر.
                  بعد أن حلق الكولونيل ذقنه بالتلمس إذ لم تكن عنده مرآة منذ زمن بعيد ارتدي ملابسه بصمت. كان البنطال ضيقا وملتصقا بالساقين مثل سروال داخلي طويل تقريبا، ويغلق عند الكاحلين بعقدتين منزلقتين، ويثبت عند الخصر بلسانين صغيرين من القماش نفسه يمران من خلال ابزيمين مذهبين ومخاطين على ارتفاع الكليتين، فهو لم يكن يستخدم حزاما، أما القميص الذي كان بلون الكرتون، وبقساوة الكرتون أيضا، فانه يغلق في أعلاه بزر نحاسي، وهذا الزر نفسه يثبت أيضا الياقة المستعارة. ولكن الياقة المستعارة كانت ممزقة، لذلك فان الكولونيل تخلي عن وضع ربطة العنق.
                  كان يقوم بكل حركة وكأنه يؤدي مهمة خطيرة. عظام يديه كانت مغطاة بالجلد اللامع المشدود والمخطط بتفرعات العروق كجلد الرقبة. وقبل أن يلبس حذاءه ذا الكعب العالي اللامع حكّ الوحل العالق بنعله. وفي هذه اللحظة فقط رأته زوجته وهو يرتدي ملابس يوم عرسه. وعندها أدركت كم هرم زوجها.
                  قالت:
                  ـ يبدو وكأنك ذاهب إلى حدث هام.
                  فقال الكولونيل:
                  ـ هذه الجنازة حدث هام. فهذا هو الميت الأول الذي يموت ميتة طبيعية منذ سنوات عديدة.
                  انقطع المطر بعد التاسعة. وأخذ الكولونيل يستعد للخروج عندما جذبته زوجته من كم سترته، وقالت:

                  ـ سرح شعرك.
                  حاول أن يثني شعره الخشن بمشط عظم، ولكن جهده ذهب سدي.
                  ـ لابد أني أبدو كببغاء.
                  تفحصته المرأة. وفكرت أن لا. فلم يكن الكولونيل يبدو كببغاء. كان رجلا جافا، له عظام متينة متمفصلة كبراغ وصمولات. وبسبب حيوية عينيه فقط لا يبدو ككائن محنط بالفورمول.
                  'حسن هكذا'، وافقت هي، وأضافت عندما كان زوجها يغادر الغرفة:
                  ـ اسأل الطبيب عما إذا كنا قد ألقينا عليه ماء ساخنا في هذا البيت.
                  كانا يعيشان في طرف القرية، في بيت سقفه من السعف وجدرانه مطلية يكلس قد تقشر. وكانت الرطوبة ما تزال منتشرة ولكن المطر كفّ عن الهطول، فهبط الكولونيل باتجاه الساحة عبر زقاق يفصل بيوتا متلاصقة. وعند وصوله إلى الشارع الرئيسي شعر برجفة، فإلى أبعد مدي يبلغه بصره كانت القرية مفروشة بالزهور. بينما جلست النساء أمام أبواب البيوت بانتظار الجنازة وقد ارتدين السواد.
                  عندما وصل إلى الساحة أخذ مطر ناعم يهطل من جديد. ورأي صاحب صالة البيليار الكولونيل وهو أمام محله فصرخ له وقد فتح ذراعيه:
                  ـ أيها الكولونيل، انتظر وسأعيرك مظلة.
                  فأجابة الكولونيل دون أن يلتفت:
                  ـ شكرا، فالحال حسنة هكذا.
                  لم تكن الجنازة قد خرجت بعد. وكان الرجال وهم يرتدون ملابس بيضاء وربطات عنق سوداء يتبادلون الحديث أمام بيت الميت تحت مظلاتهم. ورأي أحدهم الكولونيل وهو يقفز فوق برك الماء في الساحة فصرخ:
                  ـ تعال وانضم إلى أيها الصديق.
                  وأفسح له مكانا تحت مظلته.
                  قال الكولونيل:
                  ـ شكرا أيها الصديق.
                  لكنه لم يقبل الدعوة، بل دخل من فوره إلى البيت ليعزي والدة المتوفي. كان أول ما أحس به هو رائحة زهور كثيرة متنوعة. وبعد ذلك شعر بالحر. وحاول أن يشق طريقه وسط الحشد المجتمع في غرفة النوم. ولكن أحدهم وضع يده على ظهره، ودفعه نحو عمق الغرفة عبر دهليز من الوجوه الحائرة إلى حيث توجد واسعتين وعميقتين فتحتا أنف الميت.
                  هناك كانت الأم تهش الذباب عن التابوت بمذبة من السعف المجدول. ووقفت نساء أخريات يرتدين السواد ويتأملن الجثة وعلى وجوههن تعبير من يتأمل تدفق الماء في نهر. وفجأة انبعث صوت من آخر الغرفة. فمال الكولونيل مجانبا امرأة، ووجد نفسه بمحاذاة وجه أم الميت، فوضع احدي يديه على كتفها وضغط على أسنانه وقال:
                  ـ تعازي ومشاعري.
                  لم تلتفت إليه. فتحت فمها وأطلقت نباحا حادا. فذعر الكولونيل. وشعر بأنه مدفوع نحو الجثة بحركات الحشد المضطرب الذي انفجر يهتز من حوله. فبحث بيده عن شيء يستند إليه ولكنه لم يجد الجدار. فقد كانت أجساد أخرى مكانه. همس أحدهم في أذنه بصوت ناعم جدا: 'انتبه، أيها الكولونيل'. أدار رأسه فوجد أمامه الميت. ولكنه لم يتعرف عليه فقد كان قاسيا وديناميكيا، وتبدو عليه الحيرة مثله، وهو مغطي بخرق بيضاء والبوق بين يديه. وعندما رفع رأسه فوق الصرخات بحثا عن الهواء، ورأي التابوت المغطي وهو يهتز متقدما باتجاه الباب وعليه إكليل من زهور تتفتت وهي تصطدم بالجدران. تعرّق.
                  وشعر بألم في مفاصله. وبعد برهة عرف أنه أصبح في الشارع لأن قطرات المطر الخفيف أصابت رموشه، شدّه أحدهم من ذراعه وقال له:
                  ـ تعال أيها الصديق، لقد كنت أنتظرك.
                  كان هذا دون ساباس عراب ابنه الميت، والوحيد بين زعماء حزبه الذي استطاع الإفلات من الاضطهاد السياسي وبقي يعيش في القرية بعد ذلك. 'شكرا أيها الصديق'، قال الكولونيل، وسار بجانبه صامتا تحت المظلة. بدأت الفرقة الموسيقية تعزف اللحن الجنائزي. وأحس الكولونيل بأن ثمة آلة نحاسية ناقصة، وللمرة الأولي تأكد بأن المتوفي قد مات، فدمدم:
                  ـ يا للمسكين.
                  تنحنح دون ساباس. وكان يحمل المظلة بيده السري، وكانت قبضتها في مستوي رأسه تقريبا، إذ كان أقصر بكثير من الكولونيل. وعندما خرج الموكب من الساحة أخذ الرجال يتناقشون. حينئذ التفت دون ساباس نحو الكولونيل بوجهه المكتئب، وقال:
                  ـ ما هي أخبار الديك أيها الصديق.
                  ـ انه هناك أجاب الكولونيل.
                  وفي هذه اللحظة سمعت صرخة متسائلة:
                  ـ إلى أين تذهبون بهذا الميت؟
                  رفع الكولونيل نظره، فرأي العمدة يقف على شرفة المركز وقفة خطابية. كان يرتدي سروالا داخليا وفانلٌة، وأحد خديه متورم وغير حليق. أوقف الموسيقيون عزفهم للّحن الجنائزي.
                  وبعد لحظات تعرف الكولونيل على صوت الأب أنخل وهو يصرخ متحاورا مع العمدة. وفك رموز الحوار من خلال فرقعة قطرات المطر على المظلات.

                  ـ وماذا الآن؟ تساءل دون ساباس.
                  فأجاب الكولونيل:
                  ـ لاشيء، ولكن لا يمكن للجنازة أن تمر من أمام مركز الشرطة.
                  فهتف دون ساباس:
                  ـ لقد نسيت هذا. إنني انسي دائما أننا في حالة طوارىء.
                  قال الكولونيل:
                  ـ ولكن هذا ليس تمردا. أنها جنازة موسيقيٌ ميت مسكين. غيرٌ الموكب اتجاهه. وعند مروره في الأحياء الواطئة تطلعت إليه النسوة وهن يقضمن أظافرهن بصمت. ولكنهن خرجن بعد ذلك إلى منتصف الشارع وأطلقن صرخات الإطراء، والامتنان والوداع، وكأنهن يعتقدن بأن الميت يسمعهن وهو في تابوته. شعر الكولونيل بالتوعك وهو في المقبرة. وعندما دفعه دون ساباس نحو الجدار ليفسح الطريق أمام الرجال الذين يحملون النعش، التفت إليه مبتسما، ولكنه التقي بوجه قاس.
                  سأله:
                  ـ ماذا جري لك أيها الصديق.
                  فتنهد الكولونيل:
                  ـ انه أكتوبر يا صديقي.
                  رجعا من نفس الشارع. كان المطر قد انقطع. وأصبحت السماء أعمق، وأشد زرقة. وفكر الكولونيل: 'لن تمطر أكثر'، وشعر بأن حالته تتحسن، ولكنه استمر في ذهوله. وأيقظه دون ساباس:
                  ـ أيها الصديق، عليك أن تعرض نفسك على طبيب.
                  فقال الكولونيل:
                  ـ لست مريضا. كل ما في الأمر إنني أشعر في أكتوبر وكأن ثمة حيوانات في أحشائي.
                  'آه!'، قال دون ساباس. ثم ودعه أمام باب منزله، وهو بناء جديد، من طبقتين، بنوافذ من حديد مزخرفة. واتجه الكولونيل إلى منزله قانطا ليخلع بذلة المناسبات. ثم عاد وخرج من جديد بعد لحظات ليشتري من الدكان الذي على الناصية علبة قهوة ونصف رطل من الذرة للديك.
                  ****
                  شغل الكولونيل نفسه بالعناية بالديك رغم انه كان يفضل قضاء يوم الخميس في سريره. لم ينقطع المطر طوال أيام. وخلال الأسبوع انبجست نباتات أحشائه. وأمضي عدة ليال في سهر متواصل، يتعذب بصفير رئتي المريضة بالربو. ولكن أكتوبر منحه هدنة مساء يوم الجمعة. وقد استغل أصدقاء اغوستين وهم معلمو خياطة مثلما كان هو، ومتعصبون لمصارعة الديكة استغلوا الفرصة ليتفحصوا الديك. فوجدوا انه في وضع جيد.
                  وعاد الكولونيل إلى الغرفة عندما ذهبوا وظل وحيدا مع زوجته التي بدت منفعلة. سألته:
                  ـ ما رأيهم.
                  أنهم متحمسون. وجميعهم يدخرون المال ليراهنوا على الديك.
                  فقالت المرأة:
                  ـ لست أدري ما الذي رأوه في هذا الديك القبيح. انه يبدو لي كظاهرة غريبة، فرأسه صغير جدا بالنسبة لقائمتيه.
                  أجابها الكولونيل:
                  ـ أنهم يقولون بأنه أفضل ديك في المنطقة. ويساوي حوالي خمسين بيزو.
                  كان متيقنا انه بهذه الوسيلة سيبرر قراره بالاحتفاظ بالديك، الموروث عن ابنه الذي مات مطعونا قبل تسعة شهور في حلبة مصارعة الديكة، لأنه كان يوزع منشورات سرية. قالت المرأة: 'أن ما تقوله حلم يكلف غاليا. فعندما تنتهي الذرة سيكون علينا أن نغذيه بأكبادنا'. فكر الكولونيل طوال الوقت الذي كان يبحث فيه عن بنطاله القطني في صندوق الملابس، وقال:
                  ـ سيكون هذا لبضعة شهور فقط. فقد أصبح معروفا، بشكل مؤكد أن مصارعة للديوك ستجري في كانون الثاني (يناير) وبعد ذلك نستطيع بيعه بسعر أفضل.
                  كان البنطال دون كي. فمسدته المرأة فوق فتحة الموقد على صفيحتين من الحديد المحمي على الفحم.
                  سألته:

                  ـ ما هي ضرورة خروجك إلى الشارع؟
                  ـ البريد.
                  'لقد نسيت أن اليوم هو الجمعة'، علقت وهي عائدة إلى الغرفة. كان الكولونيل قد ارتدي ملابسه كاملة ما عدا البنطال. ولاحظت هي حذاءه، فقالت:
                  ـ هذا الحذاء للرمي. داوم على لبس الجزمة اللامعة ذات الكعب.
                  أحس الكولونيل بالكدر. وقال معترضا:
                  ـ أنها تبدو كأحذية الأيتام. وكلما لبستها أشعر وكأني هارب من مأوي للأيتام.
                  ـ نحن أيتام من ابننا قالت المرأة.
                  لقد أفحمته هذه المرة أيضا. اتجه الكولونيل إلى الميناء النهري قبل أن تصفر المراكب. كان يلبس جزمة لامعة، وبنطالا أبيض دون حزام، وقميصا دون ياقة عنق مغلقا في أعلاه بزر نحاسي. وراقب مناورة المراكب وهي تحاول الدخول إلى الميناء بينما كان يقف في متجر موسي السوري نزل المسافرون منهكين بعد ثماني ساعات لم يغيروا خلالها من وضعياتهم. لقد كانوا المسافرين أنفسهم الذين يأتون دائما: باعة متجولين، وبعض أهل القرية الذين سافروا في الأسبوع الماضي وعادوا كالمعتاد.
                  المركب الأخير كان مركب البريد. وقد نظر إليه الكولونيل وهو يرسو بجزع قلق. واكتشف كيس البريد على السطح، معلقا بأنابيب البخار ومغطي بقطعة قماش مغلقة. فقد شحذ حسه خمسة عشر عاما من الانتظار. كما شحذ الديك أشواقه. ومنذ اللحظة التي صعد بها موظف البريد إلى المركب، وفك الكيس وألقي به على ظهره، كان الكولونيل يراقبه بنظراته.
                  وتابعه عبر الشارع الموازي للميناء، حيث تمتد متاهة من المخازن والباركات التي تعج ببضائع ذات ألوان استعراضية في كل مرة كان الكولونيل يفعل هذا، وكان دوما يحس بقلق مختلف ولكنه كالرعب، باعث على الترقب المتوتر.
                  كان الطبيب ينتظر في مكتب البريد ليستلم الصحف. فقال له الكولونيل:
                  ـ زوجتي تسألك عما إذا كان أحد ألقي عليك ماء ساخنا في بيتنا.
                  كان الطبيب شابا جمجمته مغطاة بشعر مجعد مطلي بمادة براقة. وكان ثمة شيء لا يصدق في دقة ترتيب أسنانه. وقد أبدي اهتماما بصحة المريضة بالربو. وزوده الكولونيل بمعلومات مفصلة عن حالتها دون أن يتوقف عن مراقبة حركات موظف البريد الذي كان يفرز الرسائل مصنفا إياها كلا في كوة خاصة. وقد أغاظت الكولونيل طريقته المتثاقلة في العمل.
                  استلم الطبيب رسائله الخاصة مع رزمة الصحف. ووضع جانبا النشرات الدعائية الطبية. ثم تصفح الرسائل الخاصة. وفي أثناء ذلك، قام الموظف بتوزيع الرسائل على أصحابها الموجودين. تطلع الكولونيل إلى الكوة الخاصة به في اللائحة الأبجدية. بينما كانت في يد الموظف رسالة مرسلة بالطائرة حوافيها زرقاء ضاعفت من توتر أعصابه.
                  نزع الطبيب مغلف الصحف. وقرأ الأخبار البارزة، بينما كان الكولونيل الذي يثبت نظره على كوته ينتظر من موظف البريد أن يتوقف أمامها. ولكنه لم يفعل ذلك. قطع الطبيب قراءته للصحف. ونظر إلى الكولونيل. ثم نظر إلى الموظف الذي جلس أمام جهاز البرق وعاد ينظر مرة أخرى إلى الكولونيل، وقال:
                  ـ فلنذهب.
                  قال الموظف الذي لم يرفع رأسه:
                  ـ لاشيء للكولونيل.
                  فأحس الكولونيل بالخجل، وقال كاذبا:
                  ـ لم أكن أنتظر شيئا والتفت نحو الطبيب بنظرة طفولية تماما، وتابع:
                  ـ ليس لي من يكاتبني.
                  رجعا صامتين. الطبيب مركزا اهتمامه في الصحف. والكولونيل بطريقته المعتادة في المشي التي تبدو كمشية رجل يذرع الشارع بحثا عن قطعة نقود ضائعة. كان مساء ساطعا. وأشجار اللوز في الساحة تلقي آخر أوراقها المتعفنة. وعندما وصلوا إلى باب العيادة كان الليل قد بدأ يخيم.
                  ـ ما هي الأخبار سأله الكولونيل.
                  فقدم إليه الطبيب عدة صحف، وقال:
                  ـ لست أدري... فمن الصعب قراءة ما بين السطور التي تسمح الرقابة بنشرها.
                  قرأ الكولونيل العناوين البارزة. كلها أخبار عالمية. في أعلى الصفحة، وعلى أربعة أعمدة، تقرير حول تأميم قناة السويس. الصفحة الأولي كانت ممتلئة كلها تقريبا بالنعوات.
                  ـ لا أمل في إجراء انتخابات قال الكولونيل.
                  فقال له الطبيب:
                  ـ لا تكن ساذجا أيها الكولونيل. فقد أصبحنا كبارا على انتظار المسيح المخلص.
                  حاول الكولونيل أن يعيد إليه الصحف، ولكن الطبيب اعترض قائلا:
                  ـ خذها معك إلى البيت.. اقرأها هذه الليلة وأعدها لي غدا.
                  بعد الساعة السادسة بقليل قرعت في برج الكنيسة أجراس الرقابة السينمائية. إذ أن الأب أنخل يستخدم هذه الوسيلة ليشير إلى النوعية الأخلاقية للفيلم استنادا إلى قائمة التصنيف التي يتلقاها بالبريد كل شهر. عدت زوجة الكولونيل دقات الناقوس، فكانت دقتين.
                  ـ انه فيلم سيء لجميع الأعمار... منذ سنة تقريبا وجميع الأفلام سيئة لجميع الأعمار.
                  أسدلت ستارة الكلة ودمدمت: 'لقد فسد العالم'. أما الكولونيل فلم يعلق بشيء. وقبل أن ينام ربط الديك إلى قائمة السرير. ثم أغلق البيت ورش مبيد الحشرات في الغرفة. وضع بعدها المصباح على الأرض، وعلق سرير نومه واستلقي ليقرأ الصحف.
                  قرأها جميعا حسب تسلسل تواريخها ومن الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. في الحادية عشرة تعالى صوت نفير منع التجول. وختم الكولونيل القراءة بعد نصف ساعة من ذلك. فتح باب البهو باتجاه الليل القاتم، وبال على دعامة السقف الخشبية، التي تعج بالبعوض.. وعندما رجع إلى الغرفة كانت زوجته مستيقظة. سألته:
                  ـ أليس في الصحف شيء عن قدماء المحاربين.
                  ـ لا شيء.
                  قالها الكولونيل ثم أطفأ المصباح قبل أن يدس نفسه في السرير، ثم أردف:
                  ـ لقد كانوا سابقا ينشرون على الأقل قائمة بأسماء المحالين الجدد على التقاعد. ولكنهم منذ حوالي خمس سنوات تقريبا لا يذكرون شيئا.
                  أمطرت بعد منتصف الليل. واستجاب الكولونيل للنعاس ولكنه استيقظ بعد لحظة مذعورا بسبب أمعائه. وانتبه لوجود ثقب في السقف يتسرب منه الماء إلى مكان ما من البيت. فنهض وقد لف نفسه ببطانية صوفية حتى رأسه وحاول تحديد مكان الثقب في الظلام. انزلق خيط من العرق البارد على عموده الفقري. فأدرك انه مصاب بحمي. وأحسٌ بأنه يطفو في دوائر ذات مركز واحد ضمن بركة من الهلام.
                  تكلم احدهم. فرد عليه الكولونيل من سريره المعلق الذي كان يستخدمه وهو ثائر.
                  سألته زوجته:
                  ـ مع من تتكلم.
                  ـ مع الإنجليزي المتنكر كنمر، الذي ظهر في معسكر الكولونيل اوربليانو بوينديا أجابها الكولونيل. ثم استدار في السرير، وهو يتقد بالحمى، وتابع:
                  ـ لقد كان دوق مارلبورو.
                  استيقظ في غاية الإنهاك. وعندما دق ناقوس الصلاة للمرة الثانية قفز من سريره المعلق وانتصب في واقع من الاضطراب والضوضاء التي كان يسببها صراخ الديك. كان رأسه ما يزال يلف في دوائر ذات مركز واحد. أحس بالغثيان. فخرج إلى البهو واتجه نحو المرحاض عبر الحفيف الناعم وروائح الشتاء المكفهرة. حجرة المرحاض الصغيرة المصنوعة من الأخشاب والمغطاة بسقف من التوتياء كانت تعبق بأبخرة الامونياك المنطلق من المبولة. وعندما رفع الكولونيل الغطاء انطلقت من الفتحة سحابة من الذباب.
                  لقد كان ذعرا مزيفا. فعندما اتخذ وضع القرفصاء على الأرضية المصنوعة من خشب لم تصقله فارة النجارة، أحسن بتفاهة رغبته الخائبة. فقد شعر بدل الغثيان بألم ثقيل في الجهاز الهضمي. 'لاشك في هذا' تمتم الكولونيل 'فدائما يحدث لي نفس الشيء في أكتوبر'. وظهرت عليه سيماء الواثق البريء الآمل إلى أن خمد الفطر الذي في أحشائه. عندئذ عاد إلى الغرفة ليري الديك.
                  قالت له زوجته:
                  ـ لقد كنت تهذي من الحمي في الليل.
                  كانت قد بدأت بترتيب الغرفة التي لم تنظم طوال أسبوع الأزمة، وحاول الكولونيل جاهدا أن يتذكر. ثم قال كاذبا:
                  ـ لم تكن الحمي، وإنما هو حلم العناكب من جديد.
                  وكما يحدث دائما، خرجت المرأة من الأزمة بحماسة شديدة. ففي فترة الصباح قلبت البيت رأسا على عقب. وأبدلت مكان كل الأشياء ما عدا الساعة ولوحة حورية البحيرات. لقد كانت ضئيلة ومرنة لدرجة أنها عندما كانت تتنقل بخفها الذي صنع من القطيفة وثوبها الأسود المغلق بكامله، تبدو وكأنها تملك خاصية المقدرة على اختراق الجدران. ولكن قبل أن تصل الساعة إلى الثانية عشرة كانت قد استعادت كثافتها، وثقلها الإنساني. لقد كانت في السرير فراغا. أما الآن، وهي تتحرك بين أصص السرخس والبيجونيا، فإن و جودها يملأ البيت. 'لو أن سنة مضت على وفاة أغوستين لكنت غنيت' قالت، وهي تحرك القدر الذي يغلي على الموقد والذي يحتوي على جميع أصناف نباتات الأكل التي بامكان أرض الاستواء إنتاجها، مقطعة إلى قطع متشابهة.
                  قال لها الكولونيل:
                  ـ إذا كنت تشعرين برغبة في الغناء غني. فهذا مفيد من أجل الغدة الصفراء.
                  بعد الغداء حضر الطبيب. كان الكولونيل وزوجته يتناولان القهوة في المطبخ عندما دفع الباب المؤدي إلى الشارع وهتف:
                  ـ لقد مات المرضي.
                  نهض الكولونيل لاستقباله، وقال وهو يقوده إلى الصالة:
                  ـ أن الأمر كذلك أيها الدكتور. ودائما كنت أقول لك أن ساعتك تمضي مع ساعة الدجاجات.
                  ذهبت المرأة إلى الغرفة لتعد نفسها للفحص. وبقي الطبيب في الصالة مع الكولونيل. ورغم الحر، فإن بدلته المصنوعة من الكتان السادة كانت تطلق نفحة من البرودة. وعندما أعلنت المرأة أنها مستعدة، قدم الطبيب إلى الكولونيل ثلاث رزم من الورق ضمن مغلف. وقال: 'هذا هو ما لم تقله صحف الأمس'. ثم دخل إلى الغرفة.
                  لقد خمن الكولونيل ذلك. فقد كانت تلك الأوراق تحتوي أهم آخر الأحداث على المستوي الوطني مطبوعة على آلة سحب، للتداول السري، وتقريرا عن وضع المقاومة المسلحة داخل البلاد. أحس بالانهيار. فعشر سنوات من الإعلام السري لم تعلمه بأنه ليس هناك أي خبر أكثر مفاجأة من أخبار الشهر القادم. كان قد انتهي من القراءة عندما رجع الطبيب إلى الصالة وقال:
                  ـ إن هذه المريضة في حالة أحسن من حالتي. فبإصابة بالربو كهذه سأكون قادرا على العيش مائة سنة.
                  نظر إليه الكولونيل بتجهم. وأعاد إليه المغلف دون أن يتفوه بكلمة واحدة، ولكن الطبيب رده قائلا بصوت خافت:

                  ـ أطلع عليه آخرين.
                  وضع الكولونيل المغلف في جيب بنطاله. خرجت المرأة من الغرفة قائلة: 'في يوم قريب سأموت وسأحملك معي إلى الجحيم أيها الدكتور'. رد الطبيب صامتا بإظهار ميناء أسنانه المرتبة. ثم أدار كرسيا نحو الطاولة الصغيرة وتناول من حقيبته عدة زجاجات من أدوية العينات المجانية. مضت المرأة مسرعة نحو المطبخ:
                  ـ انتظر ريثما أسخن لك القهوة.
                  ـ لا، شكرا جزيلا قال لها الطبيب وهو يكتب مقدار الجرعة على ورقة من الأوراق المرفقة بالزجاجات والتي تحتوي تركيب الدواء، وتابع:
                  ـ إني ارفض رفضا قاطعا منحك الفرصة لتسميمي.
                  ضحكت وهي في المطبخ. وعندما انتهي الطبيب من الكتابة، قرأ ما كتبه بصوت عال، إذ كان يعرف أن أحدا لا يستطيع حل رموز كتابته. حاول الكولونيل أن يركز انتباهه. وعندما رجعت المرأة من المطبخ لاحظت على وجهه الآم الليلة الماضية، فقالت للطبيب وهي تشير إلى زوجها:
                  ـ لقد عاني لليلة من الحمي. وأمضي حوالي ساعتين وهو يهذي بهراء عن الحرب الأهلية.
                  ذعر الكولونيل، وقال بإصرار:
                  'لم تكن حمي'، ثم تابع وهو يستعيد رصانته: 'وفوق ذلك، في اليوم الذي سأشعر فيه بأني مريض فاني لن أضع نفسي بين يدي احد. وإنما سألقي بنفسي إلى صندوق القمامة'.
                  ذهب إلى الغرفة لإحضار الصحف.
                  ـ شكرا أيها الزهرة قال الطبيب.
                  سارا معا نحو الساحة. كان الهواء جافا. وإسفلت الشارع بدأ يذوب بسبب الحر. وعندما ودعه الطبيب، سأله الكولونيل بصوت خافت، وقد ضغط على أسنانه:
                  ـ بكم نحن مدينون لك أيها الدكتور.
                  قال الطبيب:
                  ـ لاشيء في الوقت الحاضر ثم ربت على ظهره قائلا:
                  ـ سآتيك بلائحة ديون سمينة عندما يكسب الديك.
                  اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط ليعطي الرسالة السرية لأصدقاء أغوستين. لقد كان هذا المحل هو مأواه الوحيد منذ أخذ رفاقه في الحزب يموتون أو يطردون من القرية، وتحول هو إلى مجرد رجل وحيد لا اهتمامات لديه سوي انتظار البريد كل يوم جمعة.
                  دفء الأصيل أثار ديناميكية المرأة. وبينما هي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا التي في الممر وبجانبها صندوق ملابس قديمة لا نفع منها، مرة أخرى المعجزة الخارقة بصنع ملابس جديدة من لاشيء. فقد صنعت أطواقا للمعاصم، وياقة من نسيج ظهر رداء مهترىء ثم جمعت قصاصات مربعة، ومنتظمة، من أجزاء قماشية مختلفة الألوان. أطلق صرار لصفيره العنان في البهو. والشمس مالت للمغيب. ولكن المرأة لم تنتبه إليها وهي تحتضر فوق أزهار البيجونيا. ورفعت رأسها عندما خيم الليل فقط لدي عودة الكولونيل إلى البيت. عندئذ ضغطت الياقة بيديها الاثنتين ودعكت أماكن الوصل إلى القماش، وقالت: 'لقد صار دماغي جامدا مثل هراوة'.
                  فقال لها الكولونيل:
                  ـ لقد كان هكذا دائما.
                  ولكنه انتبه بعد ذلك إلى جسد المرأة المغطي بقطع القماش الملونة، فقال:
                  ـ انك تبدين كعصفور نجار.
                  ـ يجب أن أكون نصف نجارة لأستطيع تأمين الملابس لك قالت ومدت إليه قميصا مصنوعا من أنسجة ذات ثلاثة ألوان مختلفة، باستثناء الياقة والمعصمين إذ كانت بلون موحد، ثم أردفت المرأة:
                  ـ يكفي أن تخلع الجاكيت فقط في الكرنفال.
                  قاطعتها أجراس الساعة السادسة. 'أن ملاك الحرب ينادي للصلاة'، صلٌت بصوت عال، وهي تتجه إلى غرفة النوم حاملة الملابس، تبادل الكولونيل الحوار مع الصبيان الذين حضروا بعد خروجهم من المدرسة للتفرج على الديك. ثم تذكر أنه لم تعد لديهم ذرة تكفي الديك لليوم التالي فدخل إلى غرفة النوم ليطلب نقودا من امرأته.
                  ـ أعتقد أن لم يعد لدينا سوي خمسين سنتا قالت.
                  كانت تخفي النقود تحت حصيرة الفراش، وقد ربطت عليها عدة عقد في طرف منديل. كانت تلك النقود ثمن ماكينة الخياطة التي كان يملكها أغوستين. لقد أنفقوا خلال تسعة شهور تلك النقود سنتا بعد سنت، مقسمين إياها ما بين ضرورياتهم وضروريات الديك. ولم يبق منها الآن سوي قطعتين من فئة العشرين وقطعة من فئة العشرة سنتات.
                  قالت المرأة:
                  ـ اشتر رطلا من الذرة. واشتر بالباقي بنا لقهوة الصباح وأربع اونصات من الجبن.
                  ـ وفيلاّ مذهبا لنعلقه على الباب تابع الكولونيل مقلدا إياها، ثم قال:
                  ـ أن الذرة وحدها تساوي اثنين وأربعين سنتا.
                  فكرا لبرهة. 'أن الديك حيوان، وسواء لديه أن انتظر بلا طعام'، قالت المرأة مبدئيا. ولكن تعابير وجه زوجها أجبرتها على إعادة النظر، جلس الكولونيل على السرير، وأسند مرفقيه إلى ركبتيه، بينما كانت قطع النقود المعدنية ترن بين يديه. ثم قال بعد برهة: 'أنا لا أريد الديك لنفسي... لو أن الأمر متعلق بي لقمت هذه الليلة بالذات بإعداد وجبة من الديك. ولا شك أن تخمة من خمسين بيزو ستكون شيئا جيدا'.
                  وتوقف قليلا ليسحق بعوضة على رقبته. ثم لاحق زوجته، بالنظر، وهي تمضي في أنحاء الغرفة. وقال:
                  ـ أن ما يشغل تفكيري هو أن هؤلاء الشبان المساكين يدخرون النقود للرهان على الديك.
                  عند ذلك بدأت هي بالتفكير. قامت بدورة كاملة في الغرفة وهي تحمل مضخة مبيد الحشرات. وأحس الكولونيل شيئا خرافيا في موقفها. شعر وكأنها تستدعي أرواح البيت لاستشارتها. وأخيرا وضعت المضخة على مذبح من الحجر المنقوش وثبتت عينيها اللتين بلون الرجبٌ، وقالت:
                  ـ اشترِ الذرة. والله يعلم كيف سنتدبر نحن أمرنا.
                  ******
                  هذه هي معجزة تكثير الخبز'، هكذا كان الكولونيل يكرر كلما جلس إلى المائدة طوال الأسبوع التالي.
                  وبمهارتها المذهلة في الإصلاح والرفأ والترقيع، كانت تبدو وكأنها اكتشفت لغز تدعيم الاقتصاد البيتي في الفراغ. وقد أطال أكتوبر استراحته. وحلت الرطوبة محلٌ الغيبوبة. وانعشتها الشمس النحاسية، فخصصت المرأة ثلاث ليال لتنهمك بتسريح شعرها. 'الآن بدأت الصلاة المغناة'، هكذا قال لها الكولونيل في الأمسية التي حلٌت بها فتائل شعرها الزرقاء بمشطي أسنانه متباعدة. في الأمسية التالية، وهي جالسة في البهو وشرشف أبيض على حضنها، استخدمت مشطا أكثر نعومة لتنزع القمل الذي تكاثر خلال الأزمة. وأخيرا غسلت شعرها بماء الخزامى، وانتظرت حتى جف، ثم عقصت الشعر على الرقبة في لفتين وثبتته بمشبك.
                  استلقي الكولونيل في الليل مسهدا في سريره، لقد قاسي كثرا وهو يفكر بمصير الديك. ولكن عندما وزنوه يوم الأربعاء كان في حالة جيدة.
                  في تلك الليلة ذاتها، وعندما غادر أصدقاء أغوستين البيت، وهم يضعون حساباتهم السعيدة عن فوز الديك، أحس الكولونيل أيضا بأنه في حالة جيدة. قصت امرأته له شعره. 'لقد رفعتِ عشرين سنة عن كاهلي' قال لها وهو يتلمس رأسه بيديه. ففكرت المرأة بان زوجها على حق، وقالت:
                  ـ عندما أكون في حالة جيدة فاني قادرة على بعث ميت من موته.
                  ولكن إيمانها هذا استمر لساعات قليلة فقط. إذ لم يبق في البيت شيء يستحق البيع، ما عدا الساعة واللوحة. وفي يوم الخميس ليلا، أبدت المرأة قلقها لهذا الوضع أمام نضوب آخر الموارد.
                  فقال لها الكولونيل مواسيا:

                  ـ لا تقلقي، فغدا يأتي البريد.
                  في اليوم التالي، وبينما كان ينتظر مركب البريد أمام عيادة الطبيب، قال الكولونيل وعيناه معلقتان على كيس البريد:
                  ـ أن الطائرة لشيء عظيم، فهم يقولون بأنها قادرة على الوصول إلى أوروبا في ليلة واحدة.
                  'أجل، هذا صحيح' ـ، قال الطبيب وهو يهوي وجهه بمجلة مصورة. ورأي الكولونيل موظف البريد يقف بين مجموعة من الناس وهو ينتظر انتهاء المركب من مناورته ليقفز إليه. كان أول من قفز. وتسلم من الكابتن مظروفا ختم بالشمع الأحمر، ثم صعد إلى سطح المركب، حيث كان كيس البريد معلقا فوق برميلين للبترول.
                  ـ ولكن رغم ذلك، فإن للطائرة مخاطرها قال الكولونيل. وأضاع نظره موظف البريد، ولكنه عثر عليه من جديد إلى جانب الزجاجات الملونة في عربة المرطبات. فتابع قائلا:
                  ـ إن الإنسانية لا تتقدم مجانا.
                  قال الطبيب:
                  ـ أنها حاليا أكثر أمانا من السفينة. فعلى ارتفاع عشرين ألف قدم يكون الطيران فوق العواصف.
                  ـ عشرون ألف قدم كرر الكولونيل وهو حائر، دون أن يستوعب الرقم تماما.
                  اهتم الطبيب بالأمر، فشٌد المجلة بيديه الاثنتين إلى أن تمكن من تثبيتها بشكل كامل، وقال:
                  ـ ثمة استقرار تام.
                  ولكن الكولونيل كان يلاحق موظف البريد. رآه وهو يشرب مرطبا له رغوة وردية حاملا الكوب بيده اليسرى، بينما كان يمسك كيس البريد بيده اليمني.
                  تابع الطبيب حديثه:
                  ـ إضافة إلى هذا، توجد بواخر راسية في البحر وهي على اتصال دائم بالطائرات الليلية. وبهذه الاحتياطيات الكثيرة. فإن الطائرات أكثر أمانا من السفن'.
                  نظر الكولونيل. إليه وقال:
                  ـ بالتأكيد. لابد أنها مثل البساط.
                  اتجه الموظف نحوهما مباشرة. مال الكولونيل برغبة لا تقاوم محاولا قراءة الاسم المكتوب على الظرف المختوم بالشمع الأحمر. فتح الموظف الكيس. وسلٌم الطبيب رزمة الصحف. ثم مزق طرف المظروف الذي يضم الرسائل الخاصة وتحقق من صحة جهة الإرسال، ثم قرأ عن الرسائل أسماء المرسل إليهم. فتح الطبيب الصحف وقال وهو يقرأ العناوين البارزة:
                  ـ ما تزال قضية السويس مستمرة. إن الغرب يفقد مواقعه.
                  قال الكولونيل الذي لم يقرأ العناوين، والذي قام بمجهود ليسيطر على آلام معدته: 'منذ فرضت الرقابة والصحف لا تتحدث إلا عن أوروبا.. من الأفضل أن يأتي الأوروبيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوروبا. وهكذا سيعرف كل منا ما الذي يجري في بلده'.
                  فقال الطبيب ضاحكا، ودون أن يرفع نظره عن الصحف:
                  ـ أن أمريكا الجنوبية بالنسبة للأوروبيين هي رجل له شارب، يحمل غيتارا ومسدسا... أنهم لا يفهمون مشاكلنا.
                  ناوله موظف البريد رسائله، ودس الباقي في الكيس وعاد ليغلقه من جديد. استعد الطبيب ليقرأ رسائله الشخصية. ولكن قبل أن يشق مغلفاتها نظر إلى الكولونيل، ثم نظر إلى الموظف:
                  ـ ألا يوجد شيء للكولونيل.
                  أحس الكولونيل بالذعر. ألقي الموظف بالكيس على كتفه ونزل الرصيف وأجاب دون أن يدير رأسه:
                  ـ ليس لدي الكولونيل من يكاتبه.
                  على غير عادته، لم يذهب لتوه إلى بيته. تناول قهوة في محل الخياطة بينما كان أصدقاء اغوستين يتفحصون الصحف. أحس بأنه مغبون. وكان يفضل البقاء هناك حتى يوم الجمعة التالي كي لا يقف هذه الليلة أمام زوجته صفر اليدين. ولكن عندما أغلقوا المحل كان عليه أن يواجه الواقع. سألته المرأة التي كانت تنتظره:
                  ـ لاشيء.
                  ـ لاشيء أجابها الكولونيل.
                  يوم الجمعة التالي ذهب إلى حيث المراكب. ومثل كل جمعة رجع إلى البيت دون الرسالة المنتظرة. قالت له زوجته هذه الليلة: 'لقد انتظرنا ما فيه الكفاية. يجب أن يكون للمرء صبر الجواميس مثلك لينتظر رسالة طوال خمس عشرة سنة'. فقال الكولونيل وهو يدس نفسه في السرير ليقرأ الصحف.
                  ـ يجب أن ننتظر دورنا أن رقمنا هو ألف وثمانمائة وثلاثة وعشرون.
                  ردت المرأة:
                  ـ لقد كسب هذا الرقم مرتين في اليانصيب منذ بدأنا الانتظار.
                  قرأ الكولونيل الصحف كالعادة، من الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. ولكنه لم يركز انتباهه هذه المرة. إذ كان يفكر خلال القراءة بمعاشه التقاعدي: قبل تسع عشرة سنة، عندما أصدر الكونجرس القانون، بدأت عملية مماطلة استمرت ثماني سنوات، وبعد ذلك احتاج لست سنوات أخرى حتى تمكن من ضم اسمه إلى قائمة قدماء المحاربين. وكانت تلك آخر رسالة يتلقاها الكولونيل.
                  انتهي من القراءة بعد سماعه إشارة منع التجول. وعندما مضي ليطفىء المصباح تأكد اعتقاده بان زوجته مازالت مستيقظة:
                  ـ أما زلت تحتفظين بتلك القصاصة
                  فكرت المرأة، وقالت:
                  ـ أجل، يجب أن تكون محفوظة مع الأوراق الأخرى.
                  خرجت من تحت الكلٌة وأخرجت من الخزانة صندوقا خشبيا به حزمة من الرسائل المرتبة حسب تواريخها والمشدودة إلى بعضها برباط مطاطي. سحبت من بينها إعلانا من وكالة للمحاماة يعد بمتابعة فعالة لقضية رواتب المتقاعدين بعد الحرب.
                  ـ لو أنك فعلت هذا منذ بدأت أحدثك بموضوع استبدال المحامي لكان لدينا متسع من الوقت حتى لإنفاق المال قالت المرأة وهي تسلم لزوجها قصاصة الجريدة، ثم أردفت:
                  ـ إذا ما وضعوه لنا في صندوق كما يفعلون بالهنود.
                  قرأ الكولونيل القصاصة التي تحمل تاريخا مضت عليه سنتان، ووضعها في جيب القميص المعلق وراء الباب.
                  ـ السيئ في الأمر هو أن استبدال محام بآخر يتطلب نقودا.
                  فقالت المرأة بتصميم:
                  ـ لاشيء من هذا. اكتب لهم قائلا بان يحسموا المبلغ الذي يريدونه من الراتب التقاعدي نفسه عندما يحصلون عليه. أنها الطريقة الوحيدة لجعلهم يهتمون بالقضية.
                  وهكذا ذهب الكولونيل مساء يوم السبت لزيارة محاميه فوجده مستلقيا على السرير المعلق دون هموم. كان رجلا اسود يشبه تمثالا ضخما، ليس له سوي نابين في فكه العلوي. دسٌ المحامي قدميه في خفٌ نعله من الخشب وفتح نافذة المكتب من فوق بيانو أوتوماتيكي يغطيه الغبار وعليه أوراق محشوة في فراغات لفافات اسطوانية وقصاصات من 'الجريدة الرسمية' ملصقة بالصمغ على دفاتر قديمة لمسك الحسابات، ومجموعة من نشرات المحاسبة للإطلاع. وكان البيانو الأوتوماتيكي الذي بلا مفاتيح يستخدم كطاولة للكتابة.
                  بدأ الكولونيل بعرض ما يساوره من قلق قبل أن يعلن عن غرض زيارته.
                  'لقد حذرتك من قبل بأن القضية لن تحل بين يوم وآخر'، قال المحامي مستغلا احدي وقفات الكولونيل عن الحديث. كان الحر يسحقه. فشّد إلى الوراء نوابض مسند الكرسي وحرك أما وجهه قطعة من الورق المقوي عليها كتابة دعائية مستخدما إياها كمروحة، وقال:
                  ـ أن وكلائي كثيرا ما يكتبون إلى بأنه يجب ألا نيأس. فرد الكولونيل:
                  ـ إني أسمع هذا الكلام ذاته منذ خمسة عشر عاما. لقد أصبح هذا الكلام مثل حكاية الديك المخصي.
                  قدم المحامي شرحا بيانيا مسهبا للصعوبات الإدارية التي تعترضه. كان الكرسي ضيقا جدا بالنسبة لاليتيه الخريفتين.
                  قال 'منذ خمس عشرة سنة كان الأمر أكثر سهولة، ففي ذلك الوقت كانت عناصر الجمعية البلدية لقدماء المحاربين مؤلفة من كلا الحزبين'. ملأ رئتيه بهواء حارق، ثم تلفظ بعبارة حكيمة وكأنه انتهي من اختراعها لتوه:
                  ـ الاتحاد يصنع القوة.
                  قال الكولونيل، وقد تنبه لأول مرة في حياته إلى عزلته:
                  ـ ولكنه لم يفعل ذلك في قضيتنا. فجميع رفاقي ماتوا وهم ينتظرون البريد.
                  لم يتأثر المحامي. وقال:
                  ـ لقد صدر القانون متأخرا جدا. ولم يحظ الجميع بحظ مثل حظك فقد كنت كولونيلا في العشرين من العمر. وأضيفت بعد هذا مادة خاصة للقانون، ولهذا كان على الحكومة أن تقوم بترقيع في الميزانية.
                  دائما نفس القصة. وفي كل مرة يسمعها الكولونيل يشعر بحقد أصم. 'أن ما اطلبه ليس صدقة. ليس قضية تقديم إحسان. لقد تمزقت جلودنا لننقذ الجمهورية'.
                  فتح المحامي ذراعيه وقال:
                  ـ نعم. الأمر هكذا أيها الكولونيل. ولكن الجحود البشري لا حدود له وهذه لقصة يعرفها أيضا الكولونيل. فقد بدأ يسمعها منذ اليوم التالي لاتفاقية 'نيرلانديا' عندما وعدت الحكومة بتقديم بدل سفر وتعويض لمائتين من ضباط الثورة. وعسكرت حول شجرة الثييبا العملاقة في نيرلانديا فرقة ثورية مؤلفة في غالبيتها من شبان يافعين هاربين من مدارسهم، وانتظرت الفرقة طوال شهور ثلاثة. رجع أفرادها بعد ذلك إلى بيوتهم على نفقتهم الخاصة وهناك تابعوا الانتظار. وبعد مرور ستين سنة تقريبا مازال الكولونيل ينتظر.
                  وهاج الكولونيل بتأثير هذه الذكريات، فاتخذ وضعا خطيرا: اسند يده اليمني على عظم الفخذ، ودمدم:
                  ـ لقد صممت على اتخاذ قرار.
                  وقف المحامي حائرا:
                  ـ ماذا تعني
                  ـ استبدال المحامي.
                  دخلت بطة يتبعها عدد من فراخها إلى المكتب. فنهض المحامي ليطردها خارجا، 'كما تشاء أيها الكولونيل'. قال وهو يهش تلك الحيوانات. 'سيكون لك ما تريد. ولو كنت قادرا على تحقيق المعجزات لما عشت في هذا القن'. وضع حاجزا خشبيا على باب البهو ثم عاد إلى مقعده.
                  قال الكولونيل:
                  ـ لقد اشتغل ابني طوال حياته، وبيتي مرهون.. لقد أصبح قانون التقاعد مصدر تقاعد للمحامين مدي الحياة.
                  فاعترض المحامي:
                  ـ ولكنه ليس كذلك بالنسبة لي. فقد أنفقت النقود حتى أخرها في تقديم الالتماسات.
                  تألم الكولونيل لتفكيره بأنه وقع ضحية ظلم. فقال مصححا:
                  هذا ما أردت قوله ثم جفف جبهته بكم قميصه، وتابع:
                  ـ أن براغي الرأس قد صدئت بسبب هذا الحر.
                  بعد لحظة، قلب المحامي المكتب بحثا عن التوكيل. وتقدمت الشمس نحو منتصف الغرفة الضيقة المشادة من أخشاب دون سحج. وبعد أن بحث في كل مكان دون فائدة، انحني على يديه ورجليه، وهو يزفر، وتناول لفافة أوراق من تحت البيانو الأوتوماتيكي:
                  ـ هاهو.
                  ثم قدم للكولونيل ورقة عليها عدة أختام، وأضاف: 'يجب أن اكتب إلى وكلائي لأتلاف النسخ التي لديهم'، نفض الكولونيل الغبار ووضع الورقة في جيب قميصه.
                  ـ مزقها أنت بنفسك.
                  'لا'، أجاب الكولونيل. 'أنها عشرون سنة من الذكريات'. وانتظر أن يتابع المحامي بحثه. ولكنه لم يفعل ذلك. مضي نحو السرير المعلق ليجفف العرق. ومن هناك نظر إلى الكولونيل من خلال الفراغ المتلالىء.
                  ـ إنني بحاجة للوثائق أيضا قال الكولونيل.
                  ـ أية وثائق.
                  ـ الإثباتات.
                  فتح المحامي ذراعيه قائلا:
                  ـ سيكون هذا مستحيلا أيها الكولونيل.
                  ذعر الكولونيل. لأنه عندما كان ضابطا ماليا للثورة في إقليم ماكوندو، قام برحلة شاقة استمرت ستة أيام وهو يحمل أرصدة وأموال الحرب الأهلية في صندوقين مربوطين على متن بغلة ليصل إلى معسكر نيرلانديا، وهو يجر البغلة التي قتلها الجوع. قبل نصف ساعة من توقيع الاتفاقية. وقد أعطاه الكولونيل اوريليانو بوينديا رئيس إدارة التموين العامة للقوات الثورية على شاطىء الأطلنطي إيصالا بالأموال وأدخل الصندوقين في قائمة الجرد الخاصة بالاستلام.
                  قال الكولونيل:
                  ـ أنها وثائق ذات قيمة لا تقدر. ويوجد بينها إيصال مكتوب بخط ويد الكولونيل اوريليانو بوينديا.
                  قال المحامي:
                  ـ أعرف ذلك. ولكن هذه الوثائق مرت على آلاف وآلاف الأيدي، وعلى آلاف وآلاف المكاتب حتى وصلت، من يدري، إلى أية دائرة في وزارة الحربية.
                  ـ إن وثائق من هذا النوع لا يمكن أن تمر على أي موظف دون أن يوليها الأهمية. قال الكولونيل.
                  فرد المحامي مدققا:
                  ـ ولكن الموظفين تبدلوا عدة مرات خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة.. تذكر بأن ستة رؤساء قد تبادلوا السلطة وكل رئيس غير أعضاء حكومته عشر مرات على الأقل وكل وزير استبدل موظفيه مائة مرة على الأقل.
                  قال الكولونيل :
                  ـ ولكن لا يمكن لأي منهم أن يأخذ تلك الوثائق إلى بيته. ولا بد أن كل موظف كان يجد الأوراق في مكانها.
                  يئس المحامي، فقال له:
                  ـ وإضافة إلى هذا، فان هذه الأوراق إذا ما خرجت الآن من وزارة الحربية ستخضع للسير في الدور من جديد في جدول أقدمية المتقاعدين.
                  ـ هذا لا يهمني قال الكولونيل.
                  ـ ولكنها ستكون مسألة قرون من الزمن.
                  ـ ليس مهما، فمن انتظر الكثير ينتظر القليل.
                  *******
                  حمل إلى الطاولة الصغيرة في الصالة دفترا من ورق مسطر، وريشة ومحبرة وورقة نشاف، وترك الباب المؤدي إلى الغرفة مفتوحا حتى يستطيع استشارة زوجته إذا ما لزم الأمر. بينما كانت هي تصلي صلاة المساء.
                  سألها:
                  ـ في أي يوم نحن
                  27 أكتوبر (تشرين الأول).
                  بدأ يكتب متخذا وضعية مدروسة، فاليد التي تحمل الريشة موضوعة فوق ورقة النشاف، والعمود الفقري عمودي لتسهيل التنفس، كما علموه في المدرسة. أصبح الحر لا يطاق في الصالة المغلقة. وانزلقت منه قطرة عرق على الرسالة. فالتقطها الكولونيل بورقة النشاف. حاول بعد ذلك أن يحكٌ الكلمات التي تحلل حبرها، ولكنه أحدث لطخة. لم ييأس كتب نداء ودوٌن في الهامش: 'الحقوق محفوظة'. ثم قرأ الفقرة بكاملها.
                  ـ في أي يوم ادخلوا اسمي في قائمة قدماء المحاربين. لم تقطع المرأة صلاتها لتفكر، بل قالت:
                  ـ في 21 أغسطس (آب) .1949
                  بعد لحظات بدأ المطر يهطل. ملأ الكولونيل صفحة كاملة بخط كبير مشوش وطفولي بعض الشيء، كما علموه في المدرسة العامة في 'ماناوري'. ثم ملأ صفحة أخرى حتى منتصفها، ووضع توقيعه.
                  قرأ الرسالة على زوجته. ووافقت هي على كل جملة بحركة من رأسها. وعندما انتهي من القراءة أغلق المظروف وأطفأ المصباح.
                  ـ يمكنك أن تطلب من احدهم أن ينسخها لك على آلة كاتبة.
                  ـ لا، لقد تعبت وأنا اطلب المعروف من الآخرين. أجابها الكولونيل.
                  ولمدة نصف ساعة، أحس بالمطر الذي يتساقط على سفح السطح. وغرقت القرية كلها بالوابل. وبعد نفير منع التجول بدأت قطرات المطر تنزلق من مكان ما من البيت.
                  ـ كان يجب إصلاح هذا منذ زمن طويل قالت المرأة، ثم أردفت:
                  ـ من الأفضل دائما أن نفهم الأمور في حينها.
                  قال الكولونيل، مشيرا إلى الماء المتسرب:
                  ـ لاشيء متأخرا أبدا. يمكن أن تحل جميع هذه الأمور عندما ينتهي رهن البيت.
                  ـ بقيت سنتان.
                  أشعل المصباح ليحدد مكان الثقب الذي في سقف الصالة. ثم وضع تحته علبة الصفيح التي يشرب منها الديك وعاد إلى غرفة النوم تلحقه الفرقعة المعدنية التي يحدثها الماء. عند اصطدامه بالعلبة الفارغة.
                  ـ ربما فكوا الرهن قبل كانون الثاني (يناير) ساعين لكسب النقود قال، وأقنع نفسه بذلك، ثم تابع:
                  ـ عندها تكون قد انقضت سنة على وفاة اغوستين ونستطيع الذهاب إلى السينما.
                  ضحكت هي بصوت خافت وقالت: 'حتى إني ما عدت اذكر صورا مشوشة منها'. حاول الكولونيل رؤيتها من خلال الكلة:
                  ـ متى ذهبت إلى السينما لآخر مرة؟
                  فقالت:
                  ـ سنة .1931 وكان يعرضون يومها فيلم 'إرادة الميت'.
                  ـ وهل كان به رعب.
                  ـ لم يعرف ذلك أبدا. فقد انقطع وابل المطر عندما كان الشبح يحاول سرقة العقد من الفتاة.
                  هسسة المطر جعلتهما يغفوان. شعر الكولونيل بألم خفيف في أمعائه، ولكنه لم يفزع. كان على وشك أن يجتاز أكتوبر آخر وهو حي. لف نفسه ببطانية صوفية وأحس للحظة بتنفس المرأة المتقطع أحسه نائيا وهي تبحر في حلم آخر. عندئذ تكلم، وهو واع تماما.
                  استيقظت المرأة:
                  ـ مع من تتكلم
                  فرد الكولونيل:
                  ـ ليس مع احد. كنت أفكر بأننا كنا محقين عندما قلنا للكولونيل اوريليانو جوينديا، في اجتماع ماكوندو بأن لا يستلم. فهذا هو السبب في ضياع الجميع.
                  أمطرت طوال الأسبوع. وفي اليوم الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) وضد مشيئة الكولونيل - أخذت المرأة زهورا إلى قبر اوغستين. وعند عودتها من المقبرة، كانت مصابة بنوبة ربو جديدة. كان أسبوعا قاسيا.. أكثر قسوة من أسابيع أكتوبر الأربعة التي اعتقد الكولونيل انه لن يجتازها حيا.
                  حضر الطبيب لعيادة المريضة وخرج من الغرفة صارخا: 'بربو كهذا، سأكون مستعدا لدفن القرية بكاملها'. ولكنه تحدث مع الكولونيل على انفراد ووصف للمريضة علاجا يعتمد نظاما خاصا.
                  عاني الكولونيل أيضا من نكسة صحية. واحتضر لساعات طويلة في المرحاض، وتعرق ثلجا، وهو يحس بنباتات أحشائه تتعفن وتسقط متفتتة إلى قطع صغيرة. 'انه الشتاء'، كرر دون يأس. 'كل شيء سيكون مختلفا عندما تنتهي الأمطار'. واقتنع بذلك فعلا، متأكدا انه سيكون على قيد الحياة عندما ستصله الرسالة.
                  لقد أصبح من واجبه هذه المرة أن يعني بترقيع الاقتصاد المنزلي. وكان عليه أن يضغط على أسنانه مرات ومرات وهو يطلب الاستدانة من الدكاكين المجاورة. 'حتى الأسبوع القادم فقط'، كان يقول لهم، دون أن يكون متأكدا هو نفسه بأن هذا صحيح. 'ثمة' نقود كان يجب أن تصلني منذ يوم الجمعة'. وعندما خرجت المرأة من أزمتها تعرفت عليه مذهولة:
                  ـ لقد صرت عظما اجرد.
                  فقال لها الكولونيل:
                  ـ إنني اعتني بنفسي لأكون صالحا للبيع. وقد بعت نفسي لمصنع يصنع المزامير.
                  ولكنه في الواقع بالكاد كان يقف مستندا على أمل الرسالة. وبسبب إرهاقه، وبسبب عظامه التي سحقها الإجهاد، فانه لم يستطع أن يعتني بحاجاته وحاجات الديك الضرورية في الوقت ذاته. في النصف الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) رأي أن الديك سيموت بعد أن أمضي يومين بلا ذرة. عندئذ تذكر حفنة من اللوبيا كان قد علقها في شهر يوليو (تموز) فوق الموقد. فتح الكيس الذي يحتوي على اللوبيا ووضع أمام الديك علبة ممتلئة بالحبوب الجافة.
                  فقالت له:
                  ـ تعال هنا.
                  أجابها الكولونيل:
                  ـ سآتيك حالا
                  ثم قال لنفسه وهو يراقب ردة فعل الديك:
                  ـ عند الجوع لا يوجد خبز سيء.
                  وجد زوجته تحاول الاعتدال في السرير. ومن الجسد التالف كانت تصدر روائح إعشاب طيبة. تلفظت بالكلمات، كلمة كلمة، بتدقيق محسوب:
                  ـ اخرج بهذا الديك حالا من هنا.
                  كان الكولونيل قد أعد نفسه لهذه اللحظة. كان ينتظرها منذ الأمسية التي قتل بها ابنه وقرر هو الاحتفاظ بالديك. لذلك كان لديه وقت طويل ليفكر.
                  قال:
                  ـ لم يعد الأمر يستحق ذلك، فخلال ثلاثة شهور ستجري مباراة مصارعة الديكة وعندها نستطيع أن نبيعه بأغلى الأسعار.
                  فقالت المرأة:
                  ـ القضية ليست قضية نقود. عندما يأتي الشباب قل لهم أن يأخذوه وليفعلوا به ما يرغبون.
                  قال لها الكولونيل مستخدما حجة محضرة مسبقا:
                  ـ إني احتفظ به من أجل أغوستين... تصوري وجهه لو انه اتى يومها ليخبرنا بفوز الديك.
                  صرخت المرأة وقد فكرت فعلا بابنها:
                  'لقد كانت هذه الديكة اللعينة هي سبب ضياعه. فلو انه بقي في البيت يوم الثالث من يناير (كانون الثاني) ذاك، لما كانت فاجأته ساعة الشر'. ثم وجهت سبابتها الضامرة نحو الباب وهتفت:


                  ـ يبدو لي وكأني كنت أري ما سيجري عندما خرج حاملا الديك تحت ذراعيه. لقد حذرته بألا يذهب بحثا عن موته في ملعب مصارعة الديوك، ولكنه كشر عن أسنانه وقال لي: 'اصمتي، فهذا المساء سنتعفن من كثرة النقود'.
                  سقطت منهكة دفعها برفق الكولونيل نحو الوسادة. واصطدمت عيناه بعينين مشابهتين تماما لعينيه. 'حاولي ألا تتحركي'، قال لها وهو يحس بالصفير وكأنه في رئتيه هو. راحت المرأة في غيبوبة قصيرة. أطبقت عينيها. وعندما فتحتهما من جديد كان تنفسها يبدو أكثر انتظاما.
                  قالت:
                  ـ أن هذا بسبب الحالة التي أصبحنا بها. فمن الكفر اقتطاع الخبز عن أفواهنا وإعطاؤه للديك.
                  جفف لها الكولونيل جبهتها بشرشف السرير.

                  ـ لا أحد يموت في ثلاثة شهور.
                  ـ وماذا سنأكل خلال هذا الوقت
                  تساءلت المرأة.
                  فقال الكولونيل:
                  ـ لست أدري ولكن لو إننا سنموت من الجوع لكنا قد متنا منذ زمن.
                  كان الديك يقف الآن بكامل حيويته أمام العلبة الفارغة. وعندما رأي الكولونيل أطلق صوتا حلقيا، شبه إنساني، وقذف رأسه إلى الوراء. فبادله الكولونيل ابتسامة شريك في الجريمة، وقال:
                  ـ إن الحياة قاسية أيها الرفيق.
                  خرج إلى الشارع. وتسكع في القرية التي تنام القيلولة دون أن يفكر بشيء، وحتى دون أن يحاول إقناع نفسه بان مشكلته ليس لها من حلٌ. سار في شوارع مقفرة إلى أن وجد نفسه منهكا. عندها رجع إلى البيت. أحست المرأة بدخوله ونادته إلى الغرفة.
                  ـ ماذا تريدين؟
                  فأجابت دون أن تنظر إليه:
                  ـ يمكننا أن نبيع الساعة.
                  كان الكولونيل قد فكر بهذا. قالت المرأة: 'إني متأكدة بان ألفارو سيعطيك أربعين بيزو في الحال.. تصور بأية سهولة اشتري منا قبلا ماكينة الخياطة'.
                  أنها تتكلم عن الخياط الذي كان اغوستين يعمل عنده.
                  ـ يمكنني أن أحدثه في الصباح بهذا الخصوص - قال الكولونيل بضيق.
                  فقالت هي بصراحة:
                  ـ لاشيء للكلام في الصباح. خذ الساعة إليه الآن، وضعها أمامه على الطاولة وقل له: 'يا الفارو، لقد أحضرت لك هذه الساعة لتشتريها مني'. وسيفهم هو في الحال.
                  شعر الكولونيل بالتعاسة، وقال معترضا:
                  ـ أن حملها سيكون كمن يحمل لحدا. ولو رآني الناس في الشارع حاملا هذه الواجهة فإنهم سيؤلفون عني أغنية من أغاني رافائيل اسكالونا.
                  ولكن زوجته أقنعته هذه المرة أيضا. ونزعت بنفسها الساعة عن الجدار، لفتها بورق الصحف ووضعتها بين يديه قائلة: 'لن ترجع إلى هنا دون الأربعين بيزو'.
                  اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط حاملا اللفافة تحت ذراعه. ووجد أصدقاء أغوستين يجلسون أمام الباب.
                  قدم إليه أحدهم مقعدا. 'شكرا'، قال الكولونيل وقد تبلبلت أفكاره، ثم أردف: 'لقد كنت مارا من هنا بالصدفة'.

                  خرج الفارو من الدكان حاملا قطعة قماش قطني مبللة بالماء وعلقها في الممر على سلك ممتد بين دعامتين. كان شابا، له تركيب قاس كثير النتوءات وعينان ذاهلتان. وقد دعاه هو أيضا للجلوس. أحس الكولونيل بالانتعاش. أسند الكرسي الذي بلا مسند إلى إطار الباب وجلس ينتظر ريثما يبقي الفارو وحيدا ليعرض عليه الصفقة. وفجأة أحس بأنه محاط بوجوه مقطبة.
                  قال:
                  ـ ألا أزعجكم.
                  اعترضوا جميعهم على هذا. وانحني أحدهم نحوه وقال بصوت لا يكاد يسمع:
                  ـ لقد كتب أغوستين.
                  راقب الكولونيل الشارع المقفر، وسأل:
                  ـ ماذا يقول؟
                  ما يقوله دائما.
                  أعطوه المنشور السري، فأخفاه الكولونيل في جيب البنطال. وبقي صامتا ينقر بأصابعه على الساعة المغطاة حتى انتبه إلى أن هناك من يكلمه. فتوقف عن النقر حائرا.
                  ـ ماذا تحمل معك أيها الكولونيل؟
                  تفادي الكولونيل عيني خيرمان الخضراوين النافذتين. وقال كاذبا:
                  ـ لا شيء. إني أحمل الساعة إلى الألماني ليصلحها لي.
                  ـ 'لا تكن أحمق أيها الكولونيل. انتظر، وسأفحصها لك'، قال خيرمان وهو يحاول انتزاع الساعة منه.
                  قاوم. لم يقل شيئا ولكن رموشه أصبحت شهباء. فأصر الآخرون:
                  ـ أعطه الساعة أيها الكولونيل، فهو يفهم في الآلات.
                  ـ إنني لا أريد إزعاجه.
                  فرد عليه خيرمان، وهو يأخذ الساعة منه:
                  ـ أي إزعاج هذا. أن الألماني سينتزع منك عشرة بيزوات ويترك الساعة على حالها.
                  دخل خيرمان إلى الدكان حاملا الساعة. كان الفارو يعمل وراء ماكينة الخياطة. و في آخر الدكان، تحت غيتار. معلق بمسمار، كانت تجلس فتاة تقوم بتثبيت الأزرار. وفوق الغيتار لوحة كتب عليها: 'ممنوع التكلم بالسياسة'.
                  أحس الكولونيل بأن جسده أصبح أثقل. فأسند أقدامه على عارضة الكرسي.
                  ـ خراء، أيها الكولونيل.
                  فوجىء الكولونيل لهذه العبارة، وقال: 'بدون كلمات نابية'.
                  ثبت الفونسو النظارات على أنفه ليتفحص بشكل أفضل حذاء الكولونيل ذا الكعب العالي، ثم قال:
                  ـ إني أتكلم عن الحذاء. فأنت تلبس حذاء مريعا.
                  ـ ولكنك تستطيع قول ذلك دون كلمات نابية قال الكولونيل، وعرض عليه نعل الحذاء قائلا:
                  ـ لقد أصبح عمر هذا الحذاء الفظيع أربعين عاما، وها هو يسمع الآن لأول مرة كلمة نابية.
                  ـ 'قضي الأمر'، صرخ خيرمان من الداخل في نفس الوقت الذي انطلقت به دقات الساعة. وفي البيت المجاور، ضربت امرأة على الجدار الفاصل، وصرخت:
                  ـ دعوا هذا الغيتار جانبا، فلم تمض سنة بعد على موت اغوستين.
                  انفجرت قهقهة عالية.
                  أنها الساعة.
                  خرج خيرمان حاملا الساعة الملفوفة، وقال:
                  ـ لم يكن بها شيء، إذا أردت فسأصطحبك إلى البيت لأعلقها مكانها.
                  رفض الكولونيل العرض.
                  ـ بكم أنا مدين لك؟
                  ـ لا تهتم بهذا أيها الكولونيل، فالديك سيدفع في كانون الثاني (يناير). رد عليه خيرمان وهو يحتل مكانه بين المجموعة.
                  عندها وجد الكولونيل أن الفرصة مواتية، فقال له:
                  ـ إني أعرض عليك شيئا.
                  ـ ما هو؟
                  ـ أهديك الديك. ثم تفحص الوجوه المحيطة به وقال:
                  ـ إني أهدي الديك لكم جميعا.
                  تطلع إليه خيرمان حائرا.
                  ـ 'لقد أصبحت عجوزا على هذه الأمور'، تابع الكولونيل كلامه وقد هيمنت على صوته صرامة مقنعة.
                  ـ 'انه مسئولية كبيرة بالنسبة لي. ومنذ أيام وأنا أشعر بأن الحيوان يموت شيئا فشيئا'.
                  قال ألفونسو:
                  ـ لا تهتم لهذا أيها الكولونيل، كل ما في الأمر أن الديك يبدل ريشه في هذه الفترة، ولذا فإن منابت الريش تكون ملتهبة.
                  وقال خيرمان مؤكدا:
                  ـ في الشهر القادم سيكون في حالة جيدة.
                  ـ على كل حال أنا لا أريده. قال الكولونيل.
                  اخترقه خيرمان بنظرات حدقتيه، وقال بإصرار:
                  ـ تذكر أيها الكولونيل أن الأمر المهم، هو أن تكون أنت من يضع ديك اغوستين في حلبة الصراع يوم المباراة.
                  فكر الكولونيل بهذا، وقال: 'إني مدرك للأمر. ولهذا السبب احتفظ بالديك حتى الآن'. ضغط على أسنانه وأحس بقوة تجعله يتقدم:
                  ـ ولكن السيئ في الأمر هو مازال أمامنا ثلاثة شهور. كان خيرمان أول من فهمه، فقال:
                  ـ إذا لم يكن هناك شيء آخر سوي هذا الأمر فليس من مشكلة.
                  ثم اقترح حله للمسألة.. ووافق الآخرون. وفي أوائل الليل، عندما دخل إلى البيت واللفافة تحت ذراعه، شعرت امرأته بالإحباط، وسألته:
                  ـ لا شيء.
                  ـ لا شيء أجابها الكولونيل، ثم أردف:
                  ـ ولكن الأمر ليس مهما الآن، فالشباب سيؤمنون الغذاء للديك.
                  ـ انتظر وسأعيرك مظلة أيها الصديق.
                  فتح دون ساباس خزانة مركبة في جدار المكتب. وكشف عن محتوياتها المكركبة، منها جزم متلبدة لركوب الخيل، وحلقات ركائب، وأحزمة وسيور جلدية وإناء من الألمنيوم مليء بالمهاميز التي يستخدمها الخيالة. وفي القسم العلوي من الخزانة توجد نصف دزينة من المظلات المعلقة إلى جانب قبعة نسائية.
                  ـ 'شكرا يا صديقي'. قالها الكولونيل وهو يستند بمرفقيه إلى النافذة، 'أفضل الانتظار حتى يتوقف المطر'.
                  لم يغلق دون ساباس الخزانة. وجلس وراء المكتب ضمن مجال المروحة الكهربائية. ثم أخرج من الدرج حقنة ملفوفة بالقطن، وأخذ الكولونيل يتأمل أشجار اللوز الرصاصية من خلال المطر. لقد كان مساء مقفرا.
                  قال:
                  ـ أن المطر مختلف من خلال هذه النافذة، فهو يبدو كأنه يهطل في قرية أخرى.
                  ـ المطر هو المطر من أية زاوية نظرت إليه. رد دون ساباس، وهو يضع الحقنة ليغليها على اللوح الزجاجي الذي يغطي المكتب، ثم أردف:
                  ـ ما هذه القرية سوي براز.
                  هز الكولونيل كتفيه. وسار إلى وسط المكتب: صالة واسعة بلاطها أخضر وبها قطع موبيليا مغطاة بقماش ألوانه حيوية. وفي طرفه أكياس ملح، وخوابي عسل، وسروج خيل مكومة بفوضى. تابعه دون ساباس بنظرة فارغة تماما.
                  ـ لو كنت مكانك لما فكرت هكذا قال الكولونيل. جلس مقاطعا ساقيه، وثبت نظرته الهادئة على الرجل المنحني فوق المكتب. كان رجلا قصيرا، ضخما ولكن لحمه مترهل، وفي عينيه حزن ضفدع حديثة الولادة.
                  قال دون ساباس:
                  ـ اعرض نفسك على طبيب أيها الصديق. فأنت تبدو جنائزيا بعض الشيء منذ يوم الدفن.
                  رفع الكولونيل رأسه، وقال:
                  ـ إنني في حالة جيدة.
                  انتظر دون ساباس حتى تغلي الحقنة. وقال متأسفا: 'لو إني أستطيع أن أقول هذا! كم أنت محظوظ! فأنت قادر على أكل ركاب نحاسي'. تأمل ظاهر كفه ذات الشعر الغزير والمليئة بالنمش البني. كان يضع خاتما به فص أسود فوق خاتم الزواج.
                  ـ هذا صحيح قال الكولونيل موافقا.
                  نادي دون ساباس زوجته من خلال الباب الذي يصل ما بين المكتب وبقية البيت. ثم بدأ بشرح مؤلم للنظام الغذائي الذي يتبعه. تناول زجاجة دواء صغيرة من جيب قميصه ووضع فوق المكتب قرص دواء أبيض بحجم حبة لوبيا، وقال:
                  ـ انه تعذيب أن أحمل هذا معي في كل مكان أذهب إليه. انه كمن يحمل الموت في جيبه.
                  اقترب الكولونيل من المكتب. وتفحص قرص الدواء في كف يده إلى أن دعاه دون ساباس لتذوقه. ثم قال له شارحا:
                  ـ انه لتحلية القهوة. أي، سكر ولكن بدون سكر.
                  فقال الكولونيل، ولعابه مضمخ بطعم الحلاوة الحزين:
                  ـ فعلا، انه شيء يشبه قرع الأجراس ولكن دون أجراس. اتكأ دون ساباس على المكتب بمرفقيه ووجهه بين يديه بعد أن زرقته زوجته بالحقنة. لم يعد الكولونيل يعرف ما يفعله بجسده. أطفأت المروحة الكهربائية، ووضعتها فوق الصندوق المصفح ثم اتجهت نحو الخزانة قائلة:
                  ـ أن للمظلات علاقة ما بالموت.
                  لم يعرها الكولونيل اهتماما. كان قد خرج من بيته في الساعة الرابعة وغرضه انتظار البريد، ولكن المطر اضطره إلى أن يلتجىء إلى مكتب دون ساباس. وعندما صفرت المراكب كان المطر ما يزال يهطل.
                  ـ 'الجميع يقولون بأن الموت هو امرأة'، تابعت المرأة حديثها. لقد كانت بدينة وأطول من زوجها، ولها تؤلول مغطي بالشعر على شفتها العليا. تذكر طريقتها في الحديث بأزيز المروحة الكهربائية. 'ولكني لا أعتقد بأنه امرأة'، قالت. ثم أغلقت الخزانة والتفتت وكأنها تستشير عيني الكولونيل:
                  ـ إني اعتقد بأن الموت هو حيوان بأظلاف.
                  فقال لها الكولونيل موافقا:
                  ـ ربما. فأحيانا تحدث أمور غريبة جدا.
                  فكر بموظف البريد وتخيله وهو يقفز إلى المركب مرتديا ممطرا من المشمع. لقد انقضي شهر على استبداله المحامي. وله الحق الآن بانتظار الرد. وتابعت زوجة دون ساباس الحديث عن الموت إلى أن انتبهت لتعابير الذهول التي تلف الكولونيل. فقالت:
                  ـ لابد أن هنالك ما يشغل تفكيرك أيها الصديق.
                  استعاد الكولونيل وعيه، وقال كاذبا:
                  ـ أجل أيتها الصديقة. إني أفكر بأن الساعة قد تجاوزت الخامسة ولم أعط الحقنة للديك بعد.
                  وقفت مشدوهة، ثم هتفت:
                  ـ حقنة لديك وكأنه كائن بشري. أن هذا دنس.
                  لم يعد بامكان دون ساباس احتمالها. فرفع وجهه المحتقن، وأمر زوجته:
                  ـ أغلقي فمك للحظة.
                  وفعلا رفعت يديها إلى فهمها. فتابع هو:
                  ـ منذ نصف ساعة وأنت تزعجين صديقي بحماقاتك.
                  ـ لا، أبدا قال الكولونيل معترضا.
                  صفقت المرأة الباب. وجفف دون ساباس رقبته بمنديل مضمخ بالخزامى.
                  اقترب الكولونيل من النافذة. كان المطر يهطل دون توقف. ودجاجة لها قوائم صفراء طويلة تعبر الساحة المقفرة.
                  ـ هل صحيح أنكم تحقنون الديك؟
                  ـ أجل صحيح. فالتمرينات ستبدأ في الأسبوع القادم قال الكولونيل.
                  فقال دون ساباس:
                  ـ أن هذا تهور. فأنت لست مهيئا لهذه الأعمال.
                  قال الكولونيل:
                  ـ أجل، ولكن هذا ليس سببا للوي عنق الديك.
                  ـ 'أنها مجازفة حمقاء' قال دون ساباس وهو يتجه إلى النافذة. أخذ الكولونيل نفسا ككير حداد. وعينا صديقه جعلته يشعر بالشفقة على نفسه.
                  قال دون ساباس:
                  ـ خذ نصيحتي أيها الصديق. خير لك أن تبيع هذا الديك قبل أن يصبح الوقت متأخرا.
                  ـ ليس ثمة ما يؤسف عليه أبدا.
                  فقال دون ساباس بإصرار:
                  ـ لا تكن واهما. أن هذا الديك صفقة بحدين: فمن ناحية سترفع عن كاهلك وجع الرأس، ومن ناحية أخرى ستضع في جيبك مبلغ تسعمائة بيزو.
                  ـ تسعمائة بيزو هتف الكولونيل.
                  ـ أجل، تسعمائة بيزو.
                  ـ أتعتقد بأنهم يدفعون هذا الثمن مقابل الديك؟
                  أجابه دون ساباس:
                  ـ ليس الأمر اعتقادا. إني متأكد من هذا.
                  كان هذا الرقم هو أعلى رقم دخل رأس الكولونيل منذ سلم ميزانية الثورة. وعندما خرج من مكتب دون ساباس أحس بأحشائه تتلوي، ولكنه كان على يقين هذه المرة بأن الألم لم يكن بسبب الطقس. وفي مكتب البريد اتجه مباشرة إلى الموظف، وقال:
                  ـ إني انتظر رسالة مستعجلة. ستصل بالطائرة.
                  بحث الموظف في الكوى المصنفة وعندما انتهي من القراءة وضع الرسائل حسب الحروف المطابقة لها ولكنه لم يقل شيئا. نفض راحتيه ووجه إلى الكولونيل نظرة ذات مغزى.
                  ـ كان يجب أن تصلني اليوم بكل تأكيد قال الكولونيل.
                  هز الموظف كتفيه. وقال
                  ـ الشيء الوحيد الذي يصل بكل تأكيد هو الموت أيها الكولونيل.
                  استقبلته زوجته بطبق من عصيدة 'ماثامورا' الذرة. أكله صامتا، وكان يتوقف طويلا ليفكر ما بين ملعقة وأخرى. خمنت امرأته التي كانت تجلس مقابله بأن ثمة أمرا قد تغير في البيت، فسألته:
                  ـ ماذا جري لك؟
                  قال الكولونيل كاذبا:
                  ـ إني أفكر بالموظف المسئول عن التقاعد. فخلال خمسين عاما سنكون تحت التراب مطمئنين. بينما هذا الرجل المسكين سيحتضر كل يوم جمعة وهو ينتظر راتبه التقاعدي.
                  ـ 'أنها بادرة سيئة.. فهذا يعني انك بدأت تخضع للقدر'. قالت المرأة، وتابعت تناول العصيدة. ولكنها انتبهت بعد برهة إلى أن زوجها مازال غائبا.
                  ـ أن ما عليك عمله الآن هو أن تلتهم هذه العصيدة. فقال الكولونيل:
                  ـ أنها لذيذة جدا. من أين طلعت بها؟
                  أجابت المرأة:
                  ـ من الديك. فقد أحضر له الشبان كثيرا من الذرة، وقرر هو أن يقاسمنا إياها.. هكذا هي الحياة.
                  تنهد الكولونيل:
                  ـ نعم هكذا. أن الحياة هي أفضل شيء تم اختراعه.
                  نظر إلى الديك المربوط بدعامة الموقد وبدا له هذه المرة حيوانا مختلفا. ونظرت المرأة إليه أيضا، وقالت:
                  ـ هذا المساء اضطررت لإخراج الصبيان بالعصا. فقد أحضروا دجاجة هرمة ليجامعوها مع الديك.
                  قال الكولونيل:
                  ـ ليست المرة الأولي التي يحدث هذا. فهكذا كانوا يفعلون في القرى مع الكولونيل أوربليانو بوينديا. إذا كانوا يحضرون له الصبايا ليضاجعهن.
                  أعجبت هي بالمقارنة الطريفة. وأصدر الديك صوتا من حلقه وصل إلى الممر كصوت إنساني مكتوم. ـ 'أحس أحيانا وكأن هذا الحيوان سينطلق متكلما' قالت المرأة. وعاد الكولونيل لينظر إليه، وقال:
                  ـ انه ديك حاك وصائح.
                  ثم أجري بذهنه عمليات حسابية بينما كان يتناول ملعقة من العصيدة، وقال:
                  ـ انه يكفي لإطعامنا ثلاث سنوات.
                  ـ الأحلام لا تؤكل قالت المرأة.
                  ـ لا تؤكل، ولكنها تغذي رد الكولونيل، ثم تابع: أنها شبيهة بعض الشيء بالحبوب العجيبة التي يتناولها صديقي دون ساباس.
                  نام نوما سيئا هذه الليلة وهو يحاول أن يمحو أرقاما من رأسه. في اليوم التالي عند الغداء قدمت المرأة صحنين من عصيدة الذرة، والتهمت طبقها ورأسها منحنيا، دون أن تتلفظ بكلمة واحدة. أحس الكولونيل وكأنه مصاب بعدوي تعكر المزاج.
                  ـ بماذا تفكرين؟
                  ـ لا شيء قالت المرأة.
                  سيطر عليه انطباع بأن دور زوجته في الكذب قد جاء هذه المرة. حاول أن يجرها للكلام. ولكن المرأة أصرت:
                  ـ لست أفكر بشيء غريب. إني أفكر بأن قرابة شهرين قد انقضيا على رحيل الميت ولم أذهب لأعزي حتى الآن.
                  وهكذا ذهبت لتقديم العزاء هذه الليلة. اصطحبها الكولونيل حتى بيت الميت ثم توجه إلى صالة السينما تجذبه الموسيقي المنبعثة من مكبرات الصوت. كان الأب أنخل يجلس على باب مكتبه مراقبا مدخل السينما ليعرف الذين يحضرون العرض بالرغم من تحذيراته الإثني عشر. تموجات الضوء، والموسيقي الصاخبة وصرخات الأطفال فرضت مقاومة طبيعية في الحي. هدد أحد الأطفال الكولونيل ببندقية خشبية وقال له بصوت متسلط فوقي:
                  ـ ما هي أخبار الديك أيها الكولونيل.
                  رفع الكولونيل يديه.
                  ـ ها هو الديك.
                  كان ثمة ملصق بأربعة ألوان يحتل واجهة الصالة بكاملها كتب عليها (عذراء منتصف الليل). وعليه رسم امرأة ترتدي ملابس الرقص وإحدى ساقيها عارية حتى الفخذ. تابع الكولونيل التسكع في المكان إلى أن انفجرت رعود وبروق بعيدة. وعندما عاد إلى حيث ذهبت زوجته، لم يجدها في بيت الميت، ولا في بيتها وقدر الكولونيل بأنه لم يبق وقت قصير على بدء منع التجول، ولكن الساعة كانت متوقفة، انتظر، وهو يشعر بالعاصفة تقترب من القرية. وعندما تأهب ليخرج من جديد دخلت زوجته إلى البيت.
                  حمل الديك إلى غرفة النوم. وأبدلت هي ثيابها ثم مضت لتشرب ماء من الصالة في الوقت الذي كان به الكولونيل قد انتهي من ملء الساعة وجلس ينتظر إشارة منع التجول ليضبط الساعة.
                  سألها الكولونيل:
                  ـ أين كنت؟
                  ـ 'هنا'، أجابت المرأة. ووضعت الكأس على الخابية دون أن تنظر إلى زوجها وعادت إلى غرفة النوم، وقالت: 'لم يكن أحد يصدق بأنها ستمطر بهذه السرعة'. لم يعلق الكولونيل بشيء. وعندما دقت إشارة منع التجول ضبط الساعة على الحادية عشرة، ثم أغلق الزجاج وأعاد الكرسي إلى وضعه. وجد زوجته تصلي صلاة المساء.
                  ـ لم تجيبي على سؤالي قال لها الكولونيل.
                  ـ أي سؤال.
                  ـ أين كنت؟
                  فقالت هي:
                  ـ لقد كنت أتحدث مع الناس. فمنذ زمن طويل لم أخرج إلى الشارع.
                  علق الكولونيل سرير نومه. وأغلق باب البيت ورش الغرفة بالمبيدات. بعد ذلك وضع المصباح على الأرض واستلقي في السرير. ثم قال بأسي:
                  ـ إني أفهمك. فأسوأ ما في حالات الشدة هو أنها تجبر المرء على الكذب.
                  نفثت هي زفرة طويلة، وقالت:
                  ـ لقد ذهبت إلى الأب أنجل. ذهبت لأطلب منه قرضا مقابل خاتمي الزواج.
                  ـ وماذا قال لك؟
                  قال: إن المتاجرة بالأغراض المقدسة، خطيئة.
                  وتابعت من وراء الكلة: 'منذ يومين حاولت أن أبيع الساعة. ولكن لم يقبل شراءها أحد، لأنهم يبيعون الآن بالتقسيط ساعات حديثة لها أرقام مضيئة، يمكن رؤية الوقت بها في الظلام'. تحقق الكولونيل من أن أربعين سنة من الحياة المشتركة ، ومن الجوع المشترك، والمقاساة المشتركة، لم تكن كافية ليتعرف على زوجته. وأحس بأن شيئا قد شاخ في الحب أيضا.
                  قالت هي:
                  ـ ولم يقبل أحد شراء اللوحة. فالجميع تقريبا لديهم نفس اللوحة.. حتى إنني ذهبت إلى منطقة الأتراك.
                  شعر الكولونيل بالمرارة:

                  ـ وبهذا أصبح الجميع الآن يعرفون بأننا نموت جوعا.
                  فقالت المرأة:
                  ـ لقد تعبت. فأنتم معشر الرجال لا تنتبهون إلى مشاكل البيت. لقد وضعت عدة مرات حجارة في القدر وغليتها كي لا يعرف الجيران بأنه ليس لدينا ما نملأ به القدر.
                  شعر الكولونيل بالاستفزاز، فقال:
                  ـ أن هذا الذي فعلته هو المسكنة الحقيقية.
                  غادرت المرأة الكلة واتجهت نحو السرير المعلق قائلة: 'إني مستعدة لأقضي على التصنع والأوهام في هذا البيت'.. بدأ صوتها يكفهر غضبا: 'لقد طفح كيلي من الصبر والوقار'.
                  لم يحرك الكولونيل عضلة واحدة في جسده.
                  وتابعت هي:
                  ـ عشرون سنة وأنا أنتظر العصافير الملونة التي يعدونك بها بعد كل انتخابات، ومن كل هذا الانتظار بقي لنا ابن ميت.. لا شيء سوي ابن ميت.
                  قال الكولونيل الذي كان معتادا على هذا النوع من المهاترات:
                  ـ لقد قمنا بواجبنا.
                  فردت المرأة:
                  ـ وهم قاموا بكسب ألف بيزو شهريا في مجلس النواب طوال عشرين سنة. فهذا صديقنا دون ساباس وبيته ذو الطبقتين الذي لا يتسع لأمواله. لقد أتي إلى القرية كبائع أدوية يعلق أفعى حول عنقه.
                  ـ ولكنه يموت شيئا فشيئا بالسكري قال الكولونيل. فردت المرأة:
                  ـ وأنت تموت جوعا. كل هذا لتتأكد أن الوقار لا يؤكل.
                  قطع البرق عليها حديثها، ثم انفجر الرعد في الخارج، ودخل إلى غرفة النوم ومرق إلى ما تحت السرير مثل سيل من الحجارة. قفزت المرأة بحثا عن مسبحتها.
                  ابتسم الكولونيل وقال:
                  ـ أن هذا يصيبك لأنك لا تكبحين لسانك. لقد قلت لك دائما أن الرب عضو في حزبنا.
                  ولكنه في الواقع كان يشعر بالمرارة. بعد لحظات أطفأ المصباح وغرق في التفكير وسط ظلام يشقه البرق. تذكر ماكوندو، لقد انتظر الكولونيل عشر سنوات حتى تتحقق مواثيق ميرلانديا. وفي غيبوبة قيظ الظهيرة رأي قطارا أصفر يصل معفرا بالغبار ومحملا بالرجال والنساء والحيوانات الذين سحق الحر أنفاسهم، وهم مكدسون في كل مكان، وحتى على سطح العربات. تلك الفترة كانت فترة حمي الموز.
                  وخلال أربع وعشرين ساعة عمروا القرية. عندها قال الكولونيل: 'إني ذاهب، فرائحة الموز تعفن أمعائي' وغادر ماكوندو في قطار العودة، يوم الأربعاء السابع والعشرين من يوليو (تموز) سنة ألف وتسعمائة وست، في الساعة الثانية وثماني عشرة دقيقة بعد الظهر. لقد احتاج لنصف قرن بعدها ليكتشف. انه لم ينعم بدقيقة راحة بعد الاستسلام في نيرلانديا.
                  فتح عينيه، وقال:
                  ـ إذن يجب ألا نفكر في الأمر بعد الآن.
                  ـ ماذا؟
                  قال الكولونيل:
                  ـ أعني مسألة الديك.. غدا بالذات سأبيعه إلى صديقي ساباس بمبلغ تسعمائة بيزو.
                  ******
                  نفذ إلى المكتب، من خلال النافذة، أنين الحيوانات المخصية مختلطا بصرخات دون ساباس. 'إذا لم يأت خلال عشر دقائق فسوف اذهب'، هكذا عاهد الكولونيل نفسه بعد أن أمضي ساعتين في الانتظار، ولكنه انتظر عشرين دقيقة أخرى. وكان يتهيأ للخروج عندما دخل دون ساباس إلى المكتب تتبعه مجموعة من العمال المساعدين. مر دون ساباس عدة مرات أمام الكولونيل دون أن يلتفت إليه. وانتبه لوجوده عندما خرج العمال فقط.
                  ـ هل تنتظرني أيها الصديق؟
                  قال الكولونيل:
                  ـ أجل يا صديقي. ولكن إذا كنت مشغولا فسأعود فيما بعد.
                  لم يسمعه دون ساباس لأنه أصبح في الناحية الأخرى من الباب ولكنه قال له وهو يخرج:
                  ـ سأعود حالا.
                  كانت ظهيرة متقدة. والمكتب يلتهب بالحر المنعكس إليه من الشارع. أغمض الكولونيل، الذي خدره الحر، عينيه رغم أرادته. وفي الحال بدأ يحلم بزوجته.
                  دخلت زوجة دون ساباس على رؤوس أصابعها وقالت له:
                  ـ لا تستيقظ أيها الصديق، سأغلق الأباجور فقط، لأن المكتب صار جهنما.
                  لاحقها الكولونيل بنظرة غائبة عن الوعي تماما. قالت وهي في الظل بعد أن أغلقت الأباجور:
                  ـ هل تحلم كثيرا في نومك؟
                  شعر الكولونيل بالخجل لأنه نام، وأجابها :
                  ـ أحيانا وأري نفسي في جميع أحلامي تقريبا وأنا أتخبط في شبكة عنكبوت.
                  قالت المرأة:
                  ـ أنا أعاني من الكوابيس كل ليلة. ولكني بدأت أعرف الآن من هم هؤلاء الناس المجهولون الذين يظهرون لنا في الأحلام.
                  أدارت المروحة الكهربائية، وقالت: 'في الأسبوع الماضي ظهرت لي في الحلم امرأة وقفت على رأس سريري. وقد وجدت الشجاعة لأسألها من تكون، فأجابتني قائلة: أنا المرأة التي ماتت في هذه الغرفة منذ اثنتي عشرة سنة'.
                  فقال الكولونيل:
                  ـ ولكن لم تكد تمضي سنتان بعد على بناء هذا البيت.
                  ـ نعم. وهذا يعني أن الأموات يخطئون أيضا.
                  جعل أزيز المروحة الكهربائية البرودة أكثر رسوخا. وشعر الكولونيل بفقدان الصبر والاضطراب بسبب النعاس الذي غلبه وبسبب هذه المرأة البدينة التي انتقلت فورا من الحديث عن الأحلام إلى تجسد الموتى وعودتهم ثانية إلى الحياة. وكان ينتظر فرصة تتوقف فيها عن الحديث لينصرف عندما دخل ساباس إلى المكتب مع رئيس عماله. فقالت له المرأة:
                  ـ لقد سخنت لك الحساء أربع مرات حتى الآن.
                  قال دون ساباس:
                  ـ سخنيه عشر مرات إذا شئت. ولكن لا تثيري أعصابي وتجعليني أفقد صبري الآن.
                  فتح صندوق السيولة النقدية وسلم لرئيس عماله رزمة من الأوراق المالية ومعها قائمة تعليمات. فتح رئيس العمال الأباجورات ليعد النقود. لمح دون ساباس بالكولونيل في طرف المكتب ولكنه لم يبد أي تأثر، بل تابع حديثه مع رئيس عماله. نهض الكولونيل في اللحظة التي كان الرجلان يستعدان بها لمغادرة المكتب من جديد. فتوقف دون ساباس قبل أن يفتح الباب، وقال:
                  ـ ماذا أستطيع أن أقدم لك أيها الصديق؟
                  انتبه الكولونيل إلى رئيس العمال ينظر إليه، فقال:
                  ـ لا شيء يا صديقي، كنت أود التحدث إليك. فقال دون ساباس:
                  ـ مهما كان الأمر، يمكنك قوله الآن حالا. لأني لا أستطيع إضاعة دقيقة واحدة.
                  وظل واقفا ويده ممسكة بقبضة الباب الكروية. شعر الكولونيل بانقضاء أطول خمس ثوان في حياته، فضغط على أسنانه ودمدم:
                  ـ إن الأمر يتعلق بمسألة الديك.
                  عندها كان دون ساباس قد انتهي من فتح الباب. 'مسألة الديك'، كرر مبتسما، وقاد رئيس عماله نحو الممر 'إن العالم يهوي بينما صديقي مشغول بهذا الديك'. ثم قال موجها حديثه إلى الكولونيل:
                  ـ حسنا جدا أيها الصديق، سأعود حالا.
                  وقف الكولونيل وسط المكتب بلا حراك حتى تلاشي وقع خطوات الرجلين في آخر الممر. وخرج بعد ذلك ليسير في شوارع القرية المشلولة في قيلولة الأحد. لم يجد أحدا في دكان الخياط. وعيادة الطبيب كانت مغلقة. ولم يكن هناك من يحرس البضائع المعروضة في متاجر السوريين. كان النهر كصفحة من الرصاص. وثمة رجل نائم على أربعة براميل بترول في الميناء، يقي وجهه من الشمس بقبعة. اتجه الكولونيل إلى بيته متيقنا بأنه المكان الوحيد الحيوي في القرية. كانت زوجته تنتظره وقد أعدت وجبة غداء كاملة.
                  قالت مفسرة:
                  ـ لقد استدنت ووعدت أن أدفع غدا صباحا.
                  خلال تناول الغداء روي لها الكولونيل أحداث الساعات الثلاث الأخيرة. واستمعت إليه جزعة، ثم قالت عندما انتهي:
                  ـ كل ما في الأمر انك لا تملك شخصية قوية. فأنت تذهب وكأنك ذاهب لطلب صدقة بينما يجب عليك أن تدخل مرفوع الرأس وتنادي صديقك جانبا وتقول له: 'أيها الصديق، لقد قررت أن أبيعك الديك'.
                  فقال الكولونيل:
                  ـ هكذا هي الحياة، أنها نفحة.
                  كانت تسيطر عليها حالة من الحماس. فقد رتبت البيت صباح هذا اليوم وارتدت ملابسها بطريقة غير مألوفة، إذ لبست حذاء زوجها القديم، ومريلة من المشمع، وربطت على رأسها مزقة من القماش معقودة بعقدتين عند الأذنين. قالت له: 'ليس لديك أدني حس تجاري. فمن يذهب ليبيع شيئا ما يجب أن يتخذ نفس هيئة من يذهب ليشتري'.
                  لاحظ الكولونيل بعض الطرافة في شكلها. فقاطعها ضاحكا:
                  ـ ابق هكذا كما أنت الآن، لأن تشبهين الرجل القصير بائع الجلبان.
                  نزعت مزقة القماش عن رأسها، وقالت:
                  ـ إني أكلمك بجدية.. سآخذ الديك حالا إلى صديقنا وأراهنك على ما تشاء بأني سأعود خلال نصف ساعة ومعي تسعمائة بيزو.
                  قال لها الكولونيل:
                  ـ لقد أدارت الأرقام رأسك. وها قد بدأت تلعبين بثمن الديك.
                  لقد كلفه كثيرا إقناعها بالعدول عن رأيها. إذ أنها بدأت منذ الصباح بتنظيم برنامج في ذهنها. للسنوات الثلاث القادمة التي سيمضيانها دون احتضار أيام الجمعة في انتظار البريد. وأعدت البيت لاستقبال التسعمائة بيزو، فنظمت لائحة بالأشياء الأساسية التي لا يملكانها، دون أن تنسي تسجيل حذاء جديد للكولونيل. وأفسحت مكانا في حجرة النوم للمرآة. إن هذه الضربة المفاجئة لجميع مشاريعها جعلتها تضطرم بإحساس من الخجل والحقد.
                  نامت قيلولة قصيرة. وعندما استيقظت كان الكولونيل جالسا في البهو.

                  ـ وماذا ستفعل الآن؟ سألته هي:
                  فقال الكولونيل:
                  ـ إني أفكر.
                  ـ إذن، فقد حلت المشكلة: سنحصل على تلك النقود خلال خمسين سنة.
                  ولكن الكولونيل كان قد قرر. في الواقع، أن يبيع الديك مساء هذا اليوم بالذات. فكر بدون ساباس، وتخيله وحيدا في مكتبه، يتهيأ أمام المروحة الكهربائية لأخذ حقنة الأنسولين اليومية. كان قد أعد ما سيقوله.
                  خذ الديك معك. فرؤية وجه القديس تصنع المعجزات قالت له زوجته وهو خارج.

                  رفض الكولونيل ذلك. ولكنها تبعته حتى الباب الخارجي بقلق يائس، وقالت:
                  ـ ليس مهما أن يكون هناك فيلق من الناس، خذه من ذراعه وتنح به جانبا ولا تدعه يتحرك قبل أن يعطيك التسعمائة بيزو.
                  ـ سيظنون إننا نعد الانقلاب.
                  لم تهتم هي بهذا. وقالت بإصرار:
                  ـ تذكر أنك أنت صاحب الديك. وتذكر أنك أنت الذي ستقدم له معروفا ببيعه الديك.
                  ـ حسنا.
                  كان دون ساباس في غرفة نومه مع الطبيب. فقالت زوجته للكولونيل: 'انتهز الفرصة الآن أيها الصديق. إن الطبيب يفحصه لأنه سيذهب إلى المزرعة ولن يعود حتى يوم الخميس'.
                  درس الكولونيل الأمر وهو بين قوتين متعارضتين تتجاذبانه فرغم قراره الحاسم ببيع الديك. رغب لو أنه وصل بعد ساعة حتى لا يجد دون ساباس.
                  ـ أستطيع أن أنتظر. قال لها.
                  ولكن زوجة دون ساباس أصرت عليه. وقادته إلى غرفة النوم حيث كان زوجها جالسا بسرواله الداخلي على سرير كالعرش، بينما ثبت على الطبيب عينيه اللتين بلا بريق. وانتظر الكولونيل حتى انتهي الطبيب من تسخين أنبوب زجاجي به عينه من بول المريض، ثم شم البخار المتصاعد منه وأشار إلى دون ساباس إشارة النجاح.
                  قال الطبيب متوجها إلى الكولونيل:
                  ـ يجب رميه بالرصاص. فالسكري يتباطأ كثيرا بالقضاء على الأغنياء.
                  'لقد فعلت أنت كل ما تستطيع لذلك بواسطة حقن الأنسولين اللعينة التي أعطيتني إياها'. قال دون ساباس وهو يربت على اليتيه المترهلتين، وتابع: 'ولكني مسمار قاس على الأكل'. بعدها اتجه نحو الكولونيل قائلا:
                  ـ اقترب أيها الصديق.. عندما خرجت في الظهيرة بحثا عنك لم أجد حتى ولا قبعتك.
                  ـ لا أستخدم قبعة كي لا أضطر لرفعها أمام أحد.
                  بدأ دون ساباس بارتداء ملابسه. ودس الطبيب في جيب سترته انبوبا زجاجيا به عينة من الدم. ثم رتب محتويات حقيبته. وظن الكولونيل بأن الطبيب يستعد للذهاب، فقال له:
                  ـ لو كنت مكانك يا دكتور لقدمت لصديقنا قائمة حساب بمئة ألف بيزو. فهكذا ستصبح همومه أقل.
                  قال الطبيب:
                  ـ لقد عرضت عليه هذه الصفقة، ولكني طلبت مليونا. فالفقر هو أفضل علاج للسكري.
                  ـ 'شكرا لهذه الوصفة'، قال دون ساباس وهو يحاول أن يحشر كرشه الضخم في البنطال الخاص بركوب الخيل، ثم أردف 'ولكني لن أقبل بها لأحول دون أن تصبح أنت غنيا وتصاب بالمرض'.
                  رأي الطبيب أسنانه التي انعكست على غطاء حقيبته المعدني. ثم نظر إلى ساعته دون أن يبدو عليه الاستعجال. وعندما بدأ دون ساباس بلبس جزمته اتجه نحو الكولونيل الذي أتي في وقت غير مناسب.
                  ـ حسنا أيها الصديق، ما الذي حصل للديك.
                  وانتبه الكولونيل إلى أن الطبيب أيضا سيسمع جوابه. فضغط على أسنانه ودمدم:
                  ـ لا شيء أيها الصديق. أني آت لأبيعك إياه.
                  انتهي دون ساباس من لبس الجزمة، وقال دون تأثر:
                  ـ حسنا أيها الصديق.. أنها أعقل فكرة خطرت لك.
                  وأمام تعابير عدم الفهم التي ظهرت على وجه الطبيب، قدم الكولونيل تبريره قائلا:
                  ـ لقد أصبحت كبيرا على هذه الأمور. ولو أن عمري أقل بعشرين سنة مما أنا عليه لكان الأمر مختلفا.
                  فرد الطبيب: أنت دائما أصغر من عمرك بعشرين سنة.
                  استرد الكولونيل أنفاسه. وانتظر من دون ساباس أن يقول له شيئا، ولكنه لم يفعل، وإنما ارتدي سترة جلدية لها سحاب وتأهب للخروج من غرفة النوم فقال الكولونيل:
                  ـ يمكننا أن نتحدث بهذا الأمر في الأسبوع القادم إذا شئت.
                  ـ هذا ما كنت سأقوله لك قال دون ساباس، ثم أردف:
                  ـ لدي زبون قد يدفع لك أربعمائة بيزو ثمنا للديك.
                  ـ ولكن يجب الانتظار حتى يوم الخميس.
                  ـ كم؟ تساءل الطبيب.
                  ـ أربعمائة بيزو.
                  فقال الطبيب:
                  ـ لقد سمعت بأنه يساوي أكثر من هذا المبلغ بكثير.
                  استغل الكولونيل استغراب الطبيب ليقول لصديقه:
                  ـ كنت قد حدثتني عن تسعمائة بيزو.. إنه أفضل ديك في الناحية كلها.
                  رد دون ساباس على الطبيب شارحا:
                  ـ 'في وقت سابق كان يمكن لأي كان أن يدفع ألف بيزو ثمنا له. أما الآن فليس هناك من يتجرأ على إطلاق ديك جيد. فثمة خطر دائما في أن يخرج من حلقة المصارعة صريعا بالرصاص'.
                  ثم التفت نحو الكولونيل بحزن مفتعل بإتقان وقال:
                  ـ هذا ما كنت أنوي قوله لك أيها الصديق.
                  أشار الكولونيل برأسه موافقا، وقال:
                  ـ حسنا.
                  تبعهما في الممر وهما خارجان. ولكن الطبيب ظل في الصالة بدعوة من زوجة دون ساباس التي طلبت منه علاجا 'لتلك الأشياء التي تصيب المرأة فجأة ولا أحد يعرف ما هي'. انتظر الكولونيل في المكتب. بينما فتح دون ساباس صندوق الخزنة، ودس نقودا في جميع جيوبه ثم مد إلى الكولونيل أربع أوراق نقدية. وقال:
                  ـ هذا ستون بيزو أيها الصديق. وعندما يباع الديك نصفي الحساب.
                  سار الكولونيل برفقه الطبيب عبر متاجر شارع الميناء وقد أنعشتهما برودة المساء، بينما كان مركب شحن محمل بقصب السكر ينزلق مع تيار الماء البارد. لاحظ الكولونيل احتقانا في وجه الطبيب:
                  ـ وأنت كيف حالك أيها الدكتور؟
                  هز الطبيب كتفيه وقال:
                  ـ لا بأس. ولكني أعتقد بأني محتاج لاستشارة طبيب فقال الكولونيل:
                  ـ إنه الشتاء، فهو يجعل أمعائي تتعفن.
                  تأمله الطبيب بنظرة خالية تماما من أي اهتمام مهني. وحيا السوريين الجالسين أمام أبواب متاجرهم واحدا واحدا. وأمام العيادة عرض الكولونيل موقفه في صفقة بيع الديك، إذ قال مفسرا:
                  ـ لم أعد قادرا على عمل شيء آخر. لقد أصبح الحيوان يتغذى باللحم البشري.
                  قال الطبيب:
                  ـ إن الحيوان الوحيد الذي يتغذى باللحم البشري هو دون ساباس.. إني متأكد انه سيبيع الديك بتسعمائة بيزو.
                  ـ أتعتقد ذلك؟
                  ـ إني متأكد.. فهذه صفقة تجارية مكشوفة مثلها كمثل صفقة التحالف الوطني مع العمدة.
                  رفض الكولونيل تصديق ذلك، وقال: 'لقد قام صديقي بذلك التحالف مع العمدة لكي ينقذ جلده. وهكذا استطاع البقاء في القرية'.
                  فرد الطبيب:
                  ـ 'وهكذا استطاع أيضا شراء أملاك أعضاء حزبه الذين طردهم العمدة من القرية بنصف ثمنها'. ثم دق على باب العيادة لأنه لم يجد المفتاح في جيوبه. والتفت بعد ذلك ليلتقي بوجه الكولونيل الذي لم يصدق كلامه، وقال:
                  ـ لا تكن ساذجا. فصديق دون ساباس يهتم بالمال أكثر بكثير مما يهتم بجلده.
                  خرجت زوجة الكولونيل في هذه الليلة للتسوق. وقد رافقها زوجها حتى متاجر السوريين وهو يجتر في تأملاته ما قاله الطبيب.
                  قالت له زوجته:
                  ـ أبحث حالا عن الشباب وأخبرهم بأنك قد بعت الديك.. يجب ألا تبقيهم على الأمل.
                  أجابها الكولونيل:
                  ـ لا يمكن اعتبار الديك مباعا إلى أن يعود صديقي ساباس.
                  عندما ترك زوجته ذهب إلى صالة البلياردو وهناك وجد ألفارو وهو يلعب الروليت. كان المحل يعج بالناس ليلة الأحد. والحر يبدو أكثر كثافة بسبب جهاز الراديو الذي يبث بأعلى صوته. سرح الكولونيل في الأرقام ذات الألوان الحيوية المكتوبة على بساط مائدة الروليت الذي من الشمع الأسود،و المضاءة بمصباح بترولي موضوع على صندوق وسط الطاولة. كان الفارو وكأنه يصر على الخسارة يكرر المراهنة على الرقم ثلاثة وعشرين. وبينما كان الكولونيل يتابع اللعب من فوق كتف الفارو لاحظ أن الرقم أحد عشر قد كسب أربع مرات من أصل تسع. فهمس في أذن الفارو:
                  ـ راهن على الأحد عشر، فهو الذي يكسب أكثر من غيره.
                  تفحص الفارو البساط. ولم يراهن في الدورة التالية. وإنما أخرج نقودا من جيب بنطاله، وبين النقود كانت توجد ورقة مطوية، قدمها إلى الكولونيل من تحت الطاولة، وقال:
                  ـ أنها من اغوستين.
                  أخفي الكولونيل الورقة السرية في جيبه، وراهن الفارو على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
                  ـ ابدأ بالقليل.
                  ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه الفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
                  ـ ابدأ بالقليل.
                  ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه ألفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر عندما بدأت العجلة الكبيرة الملونة بالدوران. شعر الكولونيل بالتململ، فهو يجرب للمرة الأولى فتنة،و ذعر، وقلق الحظ.
                  كسب الرقم خمسة فقال الكولونيل خجلا:

                  ـ إني آسف أشد الأسف.
                  ثم تابع بعينيه الذراع الخشبية وهي تسحب نقود الفارو، وقد سيطر عليه إحساس لا يقاوم بالشعور بالذنب، وقال:
                  ـ أن هذا يصيبني لأني أحشر نفسي فيما لا يخصني. ابتسم الفارو دون أن ينظر إليه، وقال:
                  ـ لا تهتم أيها الكولونيل. جرب حظك في الحب.
                  وفجأة قاطع الجميع نفير أبواق. فتفرق اللاعبون وقد رفعوا أيديهم إلى الأعلى. شعر الكولونيل بالصرير الجاف والبارد لأقسام بندقية تتهيأ من ورائه ففهم انه قد وقع وقعة مشئومة في مصيدة للشرطة وهو يحمل المنشور السري في جيبه. دار نصف دورة دون أن يرفع يديه. وعندها رأي بالقرب منه، ولأول مرة في حياته، الرجل الذي أطلق النار على ابنه. كان يقف مقابله وفوهة بندقيته مصوبة نحو بطنه. كان صغيرا، قصير الشعر، ويعبق برائحة طفولية. ضغط الكولونيل على أسنانه وأبعد عنه برفق وبأطراف أصابعه ماسورة البندقية، وقال:
                  ـ بعد إذنك.
                  فواجهته عينان صغيرتان ودائريتان كعيني خفاش. وأحسٌّ لبرهة بأن هاتين العينين قد ابتلعتاه. ومضغتاه وهضمتاه، ثم لفظتاه مباشرة:
                  ـ تفضل بالذهاب أيها الكولونيل.
                  ****
                  لم يكن بحاجة إلى فتح النافذة ليتأكد من أن كانون الأول 'ديسمبر' قد حل. فقد اكتشف ذلك في عظامه ذاتها عندما كان يقطع الفواكه من أجل إفطار الديك في المطبخ. بعد ذلك فتح الباب ورأي البهو فتأكد إحساسه. كان البهو بديعا، تغطيه الإعشاب والأشجار، أما المرحاض فكان يطفو في الضوء، على ارتفاع ميليمتر عن الأرض.
                  بقيت زوجته في الفراش حتى الساعة التاسعة. وعندما ظهرت في المطبخ كان زوجها قد انتهي من ترتيب البيت، ووقف يتحدث مع الصبيان عن الديك. واضطرت هي أن تقوم بالالتفاف من حولهم لتصل إلى الموقد. فصرخت بهم:
                  ـ ابتعدوا من طريقي ثم وجهت نظرة عابسة إلى الديك وقالت:
                  ـ لا أصدق تلك اللحظة التي سيخرج بها طير الشؤم هذا من البيت.
                  تفحص الكولونيل، من خلال الديك، مزاج زوجته. فلم يجد في الحيوان شيئا يدعو إلى التهجم. بل رآه مستعدا لبدء التدريب. كان عنق الحيوان وقوائمه وعرفه المخطط قد اتخذت صورة تامة، وزهوا لا يقاوم.
                  قال لها الكولونيل بعد ذهاب الصبيان:
                  ـ أطلي من النافذة وانسي الديك. فالمرء يشعر في صباح كهذا برغبة لأخذ صورة.
                  أطلت هي من النافذة، ولكن وجهها لم يعكس أي تعبير.
                  ـ 'أرغب بزرع الأزهار' قالت وهي تعود إلى جانب الموقد. علق الكولونيل المرآة على الدعامة ليحلق ذقنه، وقال:
                  ـ إذا كنت ترغبين بزراعة الأزهار، فازرعها.
                  ـ حاول أن يتذكر حركاته من خلال حركات صورته المنطبعة في المرآة.
                  قالت:
                  ـ ولكن الخنازير ستأكلها!
                  فقال الكولونيل:
                  ـ هذا أفضل. إذ لابد أن الخنازير المعلوفة بالأزهار ستكون لذيذة جدا.
                  تطلع من خلال المرآة إلى المرأة ولاحظ أنها مازالت تحمل نفس التعابير. وعلى بريق النار كان وجهها يبدو وكأنه مصاغ من مادة الموقد. ودون أن ينتبه إلى نفسه، وبينما عيناه معلقتان بزوجته، تابع الكولونيل حلاقة ذقنه باللمس كما فعل طوال سنوات كثيرة. فكرت المرأة خلال صمتها الطويل، ثم قالت:
                  ـ ولكني لا أريد أن ازرع أزهارا.
                  فقال الكولونيل:
                  ـ حسنا إذن لا تزرعيها.
                  شعر بأنه قد تحسٌن. فقد أذبل كانون الأول 'ديسمبر' مملكة النباتات التي في أحشائه. لقد لاقي صعوبة وهو يحاول لبس الحذاء الجديد هذا الصباح، وبعد أن حاول ذلك عدة مرات تأكد بأن جهده يذهب سدي، فعاد يلبس الجزمة ذات الكعب العالي. ولاحظت زوجته التغيير، فقالت:
                  ـ إذا أنت لم تلبس الحذاء الجديد فانه لن يتروض على قدميك أبدا.
                  فقال الكولونيل معترضا:
                  ـ إنه كأحذية المشلولين. واعتقد بأن على بائعي الأحذية أن يبيعوها بعد شهر من استخدامها.
                  خرج إلى الشارع يدفعه هاجس بأن الرسالة ستصله هذا المساء. وبما أن موعد المراكب لم يكن قد حان، فانه ذهب لينتظر دون ساباس في مكتبه. ولكنهم أكدوا له بأنه لن يأتي حتى يوم الاثنين. لم ييأس على الرغم من أنه لم يكن يتوقع هذا التغيير في موعد عودته. 'يجب أن يأتي عاجلا أم آجلا' قال لنفسه، ثم اتجه إلى الميناء.
                  دمدم الكولونيل وهو يجلس في متجر موسي السوري:

                  ـ السنة بكاملها يجب أن تكون ديسمبر 'كانون الأول'. فالمرء يشعر في هذا الشهر وكأنه مصاغ من بلور.
                  ولابد أن موسي السوري قد قام بمجهود ذهني كبير ليترجم الفكرة إلى عربيته التي نسيها تقريبا. كان رجلا شرقيا هادئا، مغطي حتى جمجمته ببشرة ناعمة وكأنه ناج من الماء فعلا.

                  قال:
                  ـ لقد كانت الأمور هكذا فيما مضي. ولو أن الأمر ما يزال كذلك الآن فان عمري سيكون ثمانمائة وسبعة وتسعون عاما.
                  ـ وأنت؟
                  ـ 'سبعة وخمسون' قال الكولونيل، وهو يلاحق موظف البريد بنظره. وعندها فقط اكتشف وجود السيرك. إذ رأي الخيمة المرقطة على سطح مركب البريد بين أكوام من الأغراض الملونة.
                  وضاعف موظف البريد من مجال رؤيته للحظة وهو يبحث بعينيه عن الوحوش ما بين الصناديق المتراكمة في مركب آخر. ولكنه لم يعثر عليها..
                  قال:
                  ـ ثمة سيرك. أنه أول سيرك يأتي منذ عشر سنوات.
                  تحقق موسي السوري من الخبر. ثم تحدث إلى زوجته بخليط من العربية والأسبانية. وأجابته هي من الغرفة المجاورة للمتجر. وبعدها قال شيئا لنفسه ثم ترجم للكولونيل ما يدور بذهنه:
                  ـ لابد من إخفاء القط أيها الكولونيل. فقد يسرقه الصبيان ويبيعونه للسيرك.
                  قال الكولونيل وهو يتهيأ ليلحق بالموظف:
                  ـ ولكنه ليس سيركا لحيوانات مفترسة.
                  فرد السوري:
                  ـ ليس مهما. فالبهلوانات يأكلون القطط كي لا تتحطم عظامهم.
                  لحق بالموظف بين متاجر الميناء حتى الساحة. وهناك فاجأته الضجة القادمة من ملعب مصارعة الديوك. وقال له أحدهم. وهو يمر. شيئا ما عن الديك. وعندها فقط تذكر بأن اليوم هو اليوم المحدد لبدء التدريب.
                  مر من أمام مكتب البريد دون اكتراث. وبعد هنيهة كان ينتصب وسط ملعب المصارعة المضطرب. رأي ديكه في حلبة الصراع وحيدا. بلا دفاع، ومخالب أطرافه مربوطة بخرق من القماش ويبدو عليه شيء من الخوف الواضح وسط صخب الساحة. وكان الخصم أمامه ديكا حزينا رمادي اللون..
                  لم يظهر على الكولونيل أي تأثير. فقد كان السجال بين الديكين بهجمات متكافئة. مرت لحظة سريعة متواصلة اشتبكت فيها القوائم والريش والأعناق وسط الهتاف الصاخب. ثم طار الديك الخصم مصطدما بالحاجز الخشبي وقام بالدوران حول نفسه وعاد للهجوم. أما ديكه فلم يهاجم، وإنما كان يدفع كل هجوم ويعود ليسقط في نفس المكان تماما. ولكن قوائمه لم تعد ترتجف الآن.
                  قفز خيرمان عن الحاجز الخشبي، ورفع الديك بيديه الاثنتين وعرضه للجمهور الذي على المدرجات. فحدث انفجار مجنون من التصفيق والصراخ. ولاحظ الكولونيل عدم التناسب ما بين حماسة الهتاف وزخم المشهد. وبدا له كل ذلك مجرد مهزلة تشارك بها الديكة بمشيئتها ووعيها.
                  تفحص الرواق الدائري الذي ينبض، بفضول يخالطه بعض الاحتقار. ثم نزلت مجموعة من الحشد الهائج عن المدرجات نحو الحلبة. ولاحظ الكولونيل. فوضي الوجوه الحارة، والجشعة، والحيوية بشكل رهيب. كانوا أناسا جديدين، جميع أهل القرية الجدد. وعادت لتحيا في مخيلته فجأة كما في نبوءة لحظة ضائعة في أفق ذكرياته. عندها قفز عن الحاجز الخشبي، وشق طريقه بين الحشد المتركز في ميدان المصارعة واصطدم بعيني خيرمان الهادئتين. اللتين تطلعتا إليه دون أن ترمشا.
                  ـ مساء الخير أيها الكولونيل.
                  أخذ الكولونيل الديك منه، ودمدم: 'مساء الخير' ولم يقل شيئا آخر، فقد هزه نبض الحيوان العميق والدافىء. وفكر بأنه لم يلمس أبدا في حياته شيئا بهذه الحيوية بين يديه.
                  قال خيرمان متلعثما:
                  ـ لم تكن موجودا في البيت.
                  وقاطعته موجة جديدة من الهتاف. فشعر الكولونيل بالفزع. وعاد يشق طريقه، دون أن ينظر إلى أحد، ذاهلا بتأثير التصفيق والصراخ، وخرج إلى الشارع والديك تحت ذراعه.
                  القرية كلها الناس الذين تحت خرجوا ليروه، وتبعه أطفال المدرسة. كان ثمة زنجي عملاق يقف فوق طاولة وقد أحاط عنقه بأفعى، يبيع أدوية بلا ترخيص في أحد أركان الساحة. وكانت تلتف حوله ثلة كبيرة ممن كانوا عائدين من المينا. يستمعون إلى مناداته الرتيبة، ولكن عند مرور الكولونيل حاملا الديك اتجه إليه. لم يشعر أبدا بأن طريق البيت كان أطول مما هو عليه اليوم.
                  كانت القرية ترقد منذ زمن طويل في نوع من السبات، الذي عاشت به عشر سنوات من التاريخ، وفي هذا المساء مساء يوم جمعة آخر دون وصول الرسالة المنتظرة استيقظ الناس. وتذكر الكولونيل حقبة أخرى، فقد رأي نفسه مع زوجته وابنه وهم يجلسون تحت المظلة يشاهدون عرضا لم يتوقف برغم المطر الغزير. وتذكر زعماء حزبه ذوي الشعور المسرحة بدقة، وهم يجلسون في بهو بيته يهوون وجوههم على أنغام الموسيقي.
                  عبر من خلال الشارع الموازي للنهر، وهناك التقي أيضا بجلبة الحشود كما في أيام الأحد الانتخابية الصاخبة. رأي عملية إنزال السيرك ومعدٌاته إلى البر. ومن داخل أحد المتاجر صرخت امرأة بشيء له علاقة بالديك. استمر في ذهوله حتى البيت، وهو ما يزال يسمع أصوانا متفرقة، وكأن بقايا هتافات ملعب الصراع تلاحقه.
                  عندما وصل أمام باب البيت، التفت إلى الأطفال قائلا:
                  ـ ليذهب كل إلى بيته. وإذا ما دخل أحدكم فسأخرجه بالحزام.
                  أغلق الباب بالرتاج ومضي مباشرة إلى المطبخ. خرجت امرأته من غرفة النوم وهي تشهق، وصرخت:
                  ـ 'لقد أخذوه بالقوة، قلت لهم أن الديك لن يخرج من هذا البيت مادمت على قيد الحياة'. ربط الكولونيل الديك إلى دعامة الموقد. وأبدل الماء الذي في العلبة، بينما كان لصوت زوجته المحتدم يلاحقه:
                  ـ قالوا بأنهم سيأخذونه من فوق جثتينا، وقالوا أن الديك ليس لنا وحدنا وإنما هو للقرية كلها.
                  وعندما انتهي من الديك، التفت الكولونيل ليلتقي بوجه زوجته القلق. واكتشف، دون دهشة، أنها لم تثر فيه أي تأنيب أو شفقة.
                  ـ 'حسنا فعلوا' قال بهدوء، ثم أضاف، وهو يفتش جيوبه، بلهجة عميقة عذبة:
                  ـ لن يباع الديك.
                  تبعته حتى غرفة النوم. وأحست بأنه إنساني تماما، ولكنه لا يمس، وكأنها تراه على شاشة سينما. أخرج الكولونيل من الخزانة رزمة من الأوراق النقدية وجمعها مع تلك التي كانت في جيوبه، ثم عدٌها جميعا وأعادها إلى الخزانة قائلا:
                  ـ ها هنا تسعة وعشرون بيزو سنعيدها إلى صديقي ساباس. والباقي سأدفعه له عندما يصل الراتب التقاعدي.
                  ـ وإذا لم يصل الراتب التقاعدي؟. سألته المرأة.
                  ـ سيصل
                  ـ ولكن، إذا لم يصل.
                  ـ عندها لن أدفع له.
                  عثر على الحذاء الجديد تحت السرير. فرجع إلى الخزانة بحثا عن علبة الحذاء، ثم نعليه بخرقة قماش ووضعه في العلبة، كما كان عندما أحضرته زوجته يوم الأحد ليلا. لم تتحرك من مكانها.
                  قال الكولونيل:
                  ـ وسنعيد الحذاء. وهكذا يصبح لدينا ثلاثة عشر بيزو آخر.
                  ـ لن يقبلوا إعادته.
                  فرد الكولونيل:
                  ـ يجب أن يقبلوا. لقد لبسته لمرتين فقط.
                  ـ ولكن الأتراك لا يفهمون هذه الأمور.
                  ـ يجب أن يفهموها.
                  ـ وإذا لم يفهموها؟
                  ـ عندئذ دعيهم لا يفهمون.
                  استلقيا للنوم دون طعام. وانتظر الكولونيل ريثما تنتهي زوجته من صلاتها ليطفىء المصباح. سمع أجراس الرقابة السينمائية، وبعدها على الفور بعد ثلاث ساعات سمع إشارة منع التجول.
                  أصبح تنفس المرأة المتحشرجة محزنا مع هواء الفجر البارد.
                  كانت عينا الكولونيل ما تزالان مفتوحتين عندما تكلمت هي بصوت استرضائي رصين:
                  ـ هل أنت مستيقظ؟
                  ـ أجل
                  فقالت المرأة:
                  ـ حاول أن تفكر بالعقل. وتحدث غدا مع الصديق ساباس.
                  ـ لن يأتي حتى يوم الاثنين.
                  ـ هذا أفضل. سيكون أمامك ثلاثة أيام للتفكير.
                  ـ ليس ثمة ما يستدعي التفكير.
                  كان هواء أكتوبر قد مضي وحلت محله برودة معتدلة. وعاد الكولونيل يشعر بكانون الأول 'ديسمبر' من خلال دقات الساعة التي تطلقها طيور الكروان. وعندما دقت الساعة الثانية. لم يكن قد نام بعد، ولكنه كان يعرف أيضا أن زوجته مازالت مستيقظة أيضا. حاول تغيير وضعيته في السرير.
                  ـ هل أنت مستيقظ، قالت المرأة:
                  ـ نعم.
                  فكرت للحظة، وقالت:
                  ـ لسنا في وضع يمكننا من فعل هذا. فكر جيدا بما تعنيه أربعمائة بيزو مجتمعة.
                  ـ بعد وقت قصير سيصلنا الراتب التقاعدي قال الكولونيل.
                  ـ انك تقول هذا الكلام منذ خمس عشرة سنة.
                  فقال الكولونيل:
                  ـ لهذا لا يمكن أن يتأخر الراتب كثيرا.
                  صمتت. ولكن عندما عادت للحديث، بدا للكولونيل وكأن الزمن لم يمر.
                  ـ إني أشعر وكأن هذه النقود لن تصل مطلقا قالت المرأة.
                  ـ ستصل.
                  ـ وإذا لم تصل.
                  لم يجد صوتا ليرد عليها. وعند صياح أول ديك في الفجر اصطدم بالواقع، ولكنه عاد ليغطٌ في نوم عميق، دون أي شعور بالندم. وعندما استيقظ، كانت الشمس قد ارتفعت. وكانت زوجته ما تزال نائمة. وكرر الكولونيل، بشكل إلى ومنهجي، حركاته التي يقوم بها كل صباح، ولكنه في هذا اليوم كان متأخرا ساعتين عن الأيام الأخرى، وانتظر زوجته لتناول طعام الإفطار.
                  استيقظت مكتئبة. تبادلا تحية الصباح وجلسا لتناول الإفطار صامتين. رشف الكولونيل فنجانا من القهوة مع قطعة من الجبن وشريحة من الخبز الحلو. ثم أمضي فترة الصباح بكاملها في دكان الخياط. وفي الساعة الواحدة رجع إلى البيت ووجد زوجته ترقع بعض الملابس وهي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا. قال لها:
                  ـ لقد حان موعد الغداء.
                  ـ لا يوجد شيء للغداء ردت المرأة.
                  هز كتفيه، ثم مضي يعمل على إغلاق الفتحات التي في سور البهو ليمنع الأطفال من الدخول إلى المطبخ. وعندما رجع إلى الممر كانت المائدة قد أعدت.
                  خلال تناول الغداء شعر الكولونيل بأن زوجته تجهد نفسها كي لا تبكي. وقد أفزعه هذا الشعور . فهو يعرف شخصية امرأته القاسية بطبيعتها، والتي زادت من قسوتها أربعون سنة من المرارة. حتى أن موت ابنها لم يجعلها تذرف دمعة واحدة.
                  ثبت عينيه التي تحمل نظرة لوم بعينيها مباشرة. فعضت هي على شفتيها، وجففت رموشها بكمها وتابعت تناول الطعام.
                  ـ انك بلا ضمير.
                  ولكن الكولونيل لم يقل شيئا.
                  ـ 'انك متكبر، وعنيد، وبلا ضمير' كررت هي. ثم وضعت أدوات طعامها متقاطعة في الطبق، ولكنها عادت لتعدل وضع الأدوات وتبعدها عن بعضها لاعتقاداتها الخرافية. وقالت: 'لقد أمضيت حياة بكاملها وأنا آكل التراب لأجد نفسي الآن أقل اعتبارا من مجرد ديك'.
                  ـ ليس الأمر هكذا. قال الكولونيل.
                  فردت المرأة:
                  ـ بل هو كذلك. وعليك أن تعرف بأني أموت، وأن هذا الذي يصيبني ليس مرضا وإنما هو الاحتضار.
                  لم يقل الكولونيل شيئا حتى انتهي من طعامه:
                  ـ إذا ما ضمن لي الدكتور بأن الربو سيفارقك إذا ما بعت الديك، فاني سأبيعه في الحال، أما بغير هذا فلن أبيعه.
                  أخذ الديك إلى ملعب المصارعة في هذا المساء. وعندما رجع وجد زوجته على حافة نوبة جديدة. كانت تتمشي على طول الممر، وشعرها مسدل على ظهرها، وذراعاها مفتوحتان وهي تبحث عن الهواء من خلال صفير رئتيها. وبقيت في الممر حتى أول الليل. وبعدها استلقت في فراشها دون أن تقول شيئا لزوجها.
                  مضغت صلواتها حتى ما بعد منع التجول بقليل، حينئذ أراد الكولونيل إطفاء المصباح. ولكنها منعته قائلة:
                  ـ لا أريد أن أموت في الظلام.
                  ترك الكولونيل المصباح على الأرض. وبدأ يشعر بالاستنزاف. كان يرغب لو انه ينسي كل شيء، لو انه ينام أربعة وأربعين يوما دفعة واحدة ليستيقظ يوم العشرين من كانون الثاني 'يناير' في الساعة الثالثة مساء، في ملعب مصارعة الديكة وفي اللحظة التي سيفلت بها الديك تماما، ولكنه أحس بأنه مراقب من زوجته.
                  قالت بعد هنيهة:
                  ـ 'أنها نفس القصة دائما. نحصل على الجوع ليأكل الآخرون. أنها نفس القصة تتكرر منذ أربعين سنة'.
                  احتفظ الكولونيل بصمته إلى أن توقفت زوجته عن الحديث لتسأله ما إذا كان لا يزال مستيقظا. وأجابها بنعم.
                  فتابعت المرأة حديثها بوتيرة متدفقة، لا تهدأ.

                  ـ الجميع سيكسبون من الديك، ألا نحن. فنحن الوحيدون الذين لا نملك سنتا واحدا لنراهن به.
                  ـ لصاحب الديك حق يناله هو عشرون بالمئة.
                  ردت المرأة:
                  ـ وكان لك حق أيضا بالحصول على منصب لائق عندما كانوا يمزقون جلدك في الانتخابات . ولك الحق أيضا بالحصول على راتبك التقاعدي كمحارب قديم بعد أن حشرت انفك في الحرب الأهلية. ولكن ها هم الآن يعيشون جميعا حياتهم المأمونة بينما أنت وحيد تماما، تموت جوعا.
                  ـ لست وحيدا قال الكولونيل.
                  وحاول أن يشرح لها أمرا، ولكن النعاس غلبه. واستمرت هي تتكلم إلى أن تنبهت لنوم زوجها. عندها خرجت من تحت الكلة وتمشت في الصالة المظلمة. وهناك تابعت الكلام، حتى ناداها الكولونيل في الصباح الباكر.
                  ظهرت في الباب، كطيف. كان ضوء المصباح الذاوي ينعكس عليها من أسفل، فأطفأته قبل أن تدخل تحت الكلة. ولكنها استمرت في الكلام. فقاطعها الكولونيل:

                  ـ اقترح أن نعمل شيئا.
                  ـ الشيء الوحيد الذي نستطيع عمله هو أن نبيع الديك.
                  ـ يمكننا أيضا أن نبيع الساعة.
                  ـ لن يشتريها أحد.
                  ـ سأحاول غدا أن اجعل ألفارو يدفع لي أربعين بيزو ثمنا لها.
                  ـ لن يدفع لك شيئا.
                  عندما عادت المرأة لتتكلم هذه المرة كانت قد خرجت من جديد من تحت الكلة. وأحس الكولونيل بأنفاسها المضمخة بروائح الإعشاب الطبية.
                  ـ لن يشتريها أحد.
                  فرد الكولونيل برقة، ودون أي أثر للخداع في صوته:
                  ـ سنري ذلك. نامي الآن، وإذا لم نستطع أن نبيع شيئا في الغد فإننا سنفكر بوسيلة أخرى.
                  حاول الاحتفاظ بعينيه مفتوحتين، ولكن النعاس غلبه وسقط في أعماق هلام بلازمان ولا مكان، حيث أصبح لكلام زوجته معني مختلف. ولكنه أحس، بعد برهة، بأن هناك من يهز كتفه.
                  ـ اجبني.
                  لم يعرف الكولونيل إذا ما سمع هذه الكلمة وهو نائم أم بعد استيقاظه. كان الفجر قد بدأ بالبزوغ. ومن النافذة كان يبدو النور الأخضر ليوم الأحد. وفكر بأنه مصاب بحمي، فقد كانت عيناه ملتهبتين، وكلفته استعادة الرؤية عناء كبيرا.
                  ـ ماذا نستطيع أن نفعل إذا لم نتمكن من بيع شيء كررت المرأة.
                  فأجابها الكولونيل وقد صحا تماما:
                  ـ عندها يكون يوم العشرين من كانون الثاني 'يناير' قد اتى. ويومها سيدفعون لنا عشرين بالمئة من قيمة المراهنات.
                  فقالت المرأة:
                  ـ هذا إذا كسب الديك. ولكن إذا ما خسر.. ألم يخطر ببالك أن الديك قد يخسر.
                  ـ انه ديك لا يمكن أن يخسر.
                  ـ ولكن افترض انه خسر.
                  ـ مازال أمامنا خمسة وأربعون يوما لنبدأ التفكير بهذه الأمور.
                  سيطر اليأس على المرأة، فسألته:
                  ـ 'حتى ذلك الحين، ماذا سنأكل' ثم جذبت الكولونيل من عنق قميصه الداخلي، وهزته بقوة.
                  ـ قل لي، ماذا سنأكل؟
                  لقد احتاج الكولونيل لخمس وتسعين سنة الخمس وتسعين سنة التي عاشها، دقيقة دقيقة، ليصل إلى هذه اللحظة، فأحس بالنقاء، الوضوح، وبأنه لا يقهر في اللحظة التي رد بها:
                  ـ خراء
                  صفحتي على فيس بوك
                  https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

                  تعليق

                  يعمل...
                  X