تصدر خلال الأسبوع القادم المجموعة القصصية الرابعة
(( قرن غــزال ))
عن دار الإسلام للطباعة و النشر بالمنصورة
وهذا هو محتوى المجموعة
و التى حاولت فيها أن أكون جديدا فى تعاملى مع الكلمة
و القصة ما بين القصة جدا ، و القصيرة
صورة الغلاف اهداء من الفنان (( أحمد الجناينى ))
الكتاب : قرن غزال
الكاتب : ربيع عقب الباب
الناشر :
الطبعة : الأولى في
لوحة الغلاف : أحمد الجناينى
رقم الإيداع
الترقيم الدولي
موتوا بين كلاليبِ ،
ما اصطنعت أبالسةُ نجواكم ،
واعرضوا لحمَ صباباتكم ..
للسابلة ،
مدموغةً بخاتم الخسة !!
فهذه هي ،
وما أنا سوى يعسوبٍ ،
أضناه رحيقُ الجلالة ؛
فظل يرشفُهُ حنينا ،
متخففا من أسمال طينتهِ ؛
ليعود عاريا إلا من براءتهْ !!
لم تجرني صوب هذا الجرف .. ؟! لا .. لا أريد الخوض في محنة كهذه ، أما قلت لك سابقا ، ودائما .. مازلت تلح ، تتحرك ، و تكاد تقصم ظهري ، كلما شاهدت ما تشابه .. أرجوك ، دعنا بعيدا ؛ فالبئر ملئي بالكثير .. آه .. لا تريد التراجع ، لم صاحبي .. لم ؟!
لا سيدي و صديقي ، ما كنت يوسف ، ما كنت ، كنت أحمل عمرا فوق عمر .. أما يوسف ( عليه السلام ) فكان صبيا حدثا ، لم يقدم إساءة أو مكرمة .. آه .. و قدمت أنا ، قدمت على قدر ما تعبث بي عاطفتي المجنحة .. غريب أمري .. نعم .. و لكن ليس ذنبي ، ليس أنا ، و ربما أنا بكل خلجاتي المتعسرة أو ...!
نعم أتوا أباهم عشاء يبكون ، و لكن قبل .. قبل سيدي و صديقي ، فهاله أمرهم ، كانوا رجالا و نساء ، على نفس رجل واحد :" لا يا أبى .. سوف يستولى علينا ، لا توافق ".
رفع شاله ، و مسح وجهه ، وهو في عجب من أمرهم ، خاض في بحره : هذا أخوكم ، كبيركم ، ما أباح من سيركم إلا خيرا ، و رفقا ، ومجابهة لي .. فكيف الآن تخشون شوكته ، هو الطيب ، لا يمتلك سوى راتبه . كبر أولاده ، و سعوا هنا وهناك ، لكن حظهم ما كان أفضل من حظه . لم تخشونه ، وأنتم عيناه .. لم ؟!
يستدرك ، وهو يفتش دواخلهم : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ؛ فصبر جميل ....!".
فاضت عينه ، و تكتم شهقته ، ترك لهم المكان شاغرا دون رد ، كيف له صمود أمام فلذته ، أول من رأت العين ، و قبلت الشفاه ، وبه نودى وعرف بين الناس ، من شاركه مشوارا رهيبا ، وعافر معه موج فقره و بؤسه :" متى كان بخلي عليه ، بل كيف أمنع عنه ما هو بعض حق .. ؟!".
هتف الكبير مناديا جدته الأثيرة :" أين أنت ، أنا في حاجتك ، دبرينى .. هل هؤلاء أولادي ، نبتوا من بذرتي ، و في طينتى شبوا.. ردى على ؟!".
هرع صوب الزوج ، جذبها بقوة ، و هى تتهالك تحت وطأة المرض ، تكاد تسقط :" كيف دفعتهم إلى هذا .. قولي .. ما أمرهم اليوم ، لم يصرون على ذبح الولد ، من وسوس لهم بهذا .. من ؟!".
تعثر لسان الزوج ، عام في وحل الأصوات :" هم على حق ؛ ليبتعد ، كلهم له الولد ، و ليس لأحد فضل على أخيه ، كلهم واحد .. واحد ".
صرخ غيظا ، كاد يفتك بها :" إذن أنت من فعل .. أنت .. كيف أصدق ، أولادهم مازالوا صغارا .. صغارا ، و لا ندرى ما تأتى به الأيام !! ".
عاد صوتها شبه باك :" ما قلت شيئا ، كانوا يجمعون أمرهم ، و كنت شاهدة فقط ".
هتف بقسوة :" و لم سمحت لهم ..لم .. كان الأولى بسمعك ذهابا إلى غير رجعة ؟".
برهبة و قلة حيلة :" هم أولادك ، و المال مالك ، و أنت حر .. أبعدني عن هذا ".
ابتعدت زحفا ، و هو يتهالك جالسا ، لا سبيل له أمام ريحهم ، أحس بالعجز ، كانوا يلوحون بالغريب الذى سوف يكون ، أما ولده ، كبيرهم ، فربما أخل بما قاله ، أثقل عليه ، وبالتالي ضيق علي أبيه !
التفوا حول القادم ، ومكنوه من البيت ، على عيني ، و أنا بأنبوبة الغاز أقف أعلى السلم ، و بالكف الأخرى شرارة نار ، و قد قررت ألا يدخله حتى الكبير لو أراد ، و ليس الغريب ، لكنني بمجرد رؤية ولدى الأكبر أمامي ، انهار تماسكي ، و ذهبت قوتي أدراج الريح !
كان الغضب في عيني ولدى شلالا من نقمة حبيسة ، لن أسمح لها بالعبور ، سوف أدمر كل شيء ، لأجل ماذا .. لا لشيء ، لمكان قد أجده عند غريب أنا الآخر ، و لكن من أين ، و قوانين السادة زلزلت الدنيا تحت الأقدام ، ووجب أن يلم الولد ، يكون له البيت و الأسرة الخاصة ، و إلا أفلت زمامه ، و ضاع منى .
جرعت بحر ماء ، لتثقل حركتي ، تهبط أوردتي من التخمة ، و أضيق شرايين الغضب ، و بالفعل كنت أفترش الأرض ، بينما الكبير يقبل ، يصعد بأنفاس واهنة ، ثم يهجم على ، و يلفني بذراعيه باكيا :" حقك عندي .. حقك عندي .. دعها تمر .. دعها ، وأعدك ببناء شقة له .. أعدك ".
:" لو أملك ما مددت لك يدا .. أنت تعرف ، وهم يعرفون .. قل لى ، أنر طريقي ، الأولاد يضيعون منى ، من أولى بى .. تكلم يا أبى .. تكلم .. كنا معا لا نملك ثمنا لبلاطة أو قالب طوب ، و ما رأوا ، ما أحسوا بنا ، أتوا فى اليسر ، أتوا مرفهين ، لا يحسون بأحد ، ينتظرون إرثا وعفنا.. إرثا وعفنا ".
ما تمالكت نفسي ، بكيت ، ليس على المكان ، ولكن على أخوة يوسف، إخوتي وجعي ، بنين و بنات ، افتئاتهم ، اجتماع كلمتهم .. أمامي أنا ،أنا ..يالضيعتى ، يالضعيتى ،لا أصدق ، هل أنا أنا فعلا أخو هؤلاء ؟!
أرأيت إليما وصلنا صديقي و صاحبي ، أما قلت لك لا ، إلا هنا ، نعم جاءوا بوجوه صفراء يعتليها المكر ، وكل يزيح الأمر على الآخر ، كل يتهم الغائب ، دون محاسبة ، أو طلب تبرئة ، و أنا غير مصدق ، أحس أنى غير ، غريب ، كم كنت صديقا لهم ، أحبهم كما لم أحب نفسي وولدي ، أسبغ عليهم حبا و حنانا و سعة .. !
كانت السبع العجاف ، و كنت هنا مازلت أمد يدا ، و نهرا للجميع ، و أقيم بعض ما انكسر منها ليسمن و يقوى !
الكبير ينهار ، وأنا أرفعه ، أقبل يده ، بل قدمه :" لا أبى .. لا .. أرجوك ، أنت أعز و أكرم ".
وظللت بعيدا ، غريبا ، تأكل حسرة ما جنبي ، تبلغ بي حدود أسئلة ، لا تجد منطقا ليجيب إلحاحها ، لكنني أغالبها دوما ، وألقى بها بئري ، الذي دائما أبدا ما أطهره ، لكنهم أبدا ، كانوا بعيدين ، و إن درت رحاهم ، و نمت على البكاء عليهم ولهم ، كان دمى يهرب منى ، و يخذلني لتمزق كنت أسمع له صوتا في شراييني !
دارت شائعات : " رخاء في بيادر الحكومة ".
راحت كل حارة توقظ جارتها ، كل عطفة تومىء لصاحبتها ، كل حي يهز بدن الحي الراقد : الرخاء أتى ، هيا نأتي بنصيبنا منه ".
تراكض الجميع زاحفين صوب المطحن الكبير ، أفواجا وأمما ، حتى ضاق بهم المبنى الضخم ، بل ضاقت بهم الشوارع القريبة منه !
كل الحارات و العطف و الأحياء عادت فرحة ، تطير في بهجة ، ما تذوقت منذ عهد بعيد طعمة لها ، و لامست مذاقها !
زاد الأمر إلى حد رفع تسعيرة جوال الدقيق ؛ للحد من تكاثر الأحياء وسعيها !
الذي لم يبتلعه أي حي أو عطفة أو حارة ، أنه مع أول ظهور شرارة نار لفرن خبيز ، كانت الصرخات تتعالى ، تتجاوز كل الأحياء ، بل أنها امتدت فعمت المدينة كلها ، مما حدا بالشيخ عبودة مؤذن المسجد الكبير إلى عصيان غريب ، و راح يدور هنا وهناك ، متناسيا واجبه ، وهو يطوح رأسه ، بين رقص وإشارات فاحشة ، بينما عيناه تذرفان دموعا عجيبة :" حتى الحكومة مايلة .. حتى الحكومة مايلة .. واحنا جتتنا نايمة .. لأ و الدقيق بالقيمة .. عجنوه و ضحكوا علينا .. وادونا نخالة عايمة .. باين عليها صيني .. مش مكتوبة في القايمة !!".
وظل لأيام يدور ، ثم تخلص من قفطانه ، واختفى ، و لا أحد يعرف سر اختفائه ، وإن قال أحدهم ، أنه شاهده على بحر الملاح ، يشكل من الطين أشياء عجيبة .بينما قال ثان : أنه أبصره في أضخم شوارع القاهرة ،و أكثرها ازدحاما ، و قد تعرى جسده تماما. بينما قالت " نجية " جارته ، أنها أبصرت سيارة تحمله ليلا و تختفي به .. فجأة ..مجموعات من الأطفال كانت تتشكل بين الحارات ، و تقلده في غنائه و حركاته الفاحشة ، بل و تقوم بلطم أبواب الدور بالحجارة !
سوف أحكى لكم ، عنه سأحكى .. اسمه ؟! و هل يهم أن يكون له اسم من عدمه ؟!.. بسيطة .. اسمه على ما أتذكر ..علىما أتذكر ! يالى من مخرف ، وهل ينسى مثله ؟! لكنه اسم عجيب ، له وقع سيء ، على كل حال ، لا تبعدوا أي وازع ، أي ظن ، ينتابكم بخصوص ذكرى لاسمه .. هو وضيع ابن خائن ، وليس هذا من تأليفي ، بغرض الحط من شأنه ، بل هو واضعه ، على عينه كان ؛ لإعطاء صبغة مغايرة لذاته القرمزية ، فهو صاحب مواهب عديدة ، وهى في مجملها لا تعنيه ، إلا في حال قنصه لسوسنة .. أو فراشة هائمة ، لا يهم إن كان لها رفيق أم لا ، وهو من مرتادي مقهى الحول ، الذين يتسمون بطول النظر ، و التأمل الدقيق ؛ فهو يجيد الـتأمل بكافة أشكاله ، وفى وقت واحد ، يستطيع أن يبهرك بتأملاته الميتاحلزونية ، و السايكومسكوفية رهيبة الوقع ، وهو على ما أعرف صاحب نظرية عن النحلة والعسل ، و الفراشات و الضوء ، و الفأر وقطعة الجبن ، والحية وإبليس ، وإذا قدر لكم الإطلاع عليها سوف تحفظون لي هذه .. أي و الله !
دعوني أحكى لكم ، كيف تم اللقاء بيننا ، و علام أسفر ، و لكن قبل كل شيء ، عليكم أن تعلموا عنى طيبة القلب ، و إن كنت هنا لست طيبا بالمرة ، وهذا ليس جديدا على كل حال ؛ وهكذا الكتاب أو المدعون من أمثالي !
كان ذلك ، حين مررت على المقهى ، و زوجتي الصغيرة تتأبط ذراعي ، فإذا به يخرج عن تأمله و تحنطه ، و يقف مرتاعا ، بصدر يلهث ، كثور شم رائحة أنثاه ، ثم أطلق للهواء صرخة ، دوت في أنحاء الحي .. زوجتي الحسناء توقفت مندهشة ، هزها الموقف العجيب .. نسيت أن أقول لكم إنها تصغرني بعشرين أو ثلاثين سنة ، لا .. قولوا خمسين عقدا ، ربما أكثر، بل أنا أنا من يصغرها بهذه العقود ، وبرغم أن الأمر يبدو عجيبا ، إلا أن في بلد مثل بلدتنا لم يعد شيء عجيب بالمرة ؛ فعبده الزبال تزوج من عجوز أمريكية ، و محسن العجلاتى أتى من ايطاليا بزوجة كانت أستاذة في جامعة ، وعنتر الفلاتى خطفته صينية شابة ، وعم مسعد حارس المقابر تزوج من بكر بعد السبعين ، وأنجب قمرا ، و هناك الكثير من النماذج لو أردتم ، و لا أدرى سببا لهذا إلا أن مدينتي تنجب قلوبا قادرة على العطاء أينا كانت .. آه ، لا تتعجبوا أرجوكم ، و لا تسألوني كيف تم زواجي بها - أنا الغلبان - صاحب القلم الرزيل ، الذي يخوض في كل شيء ، حتى لو كان أنا ، لا تهمه مسألة الوجاهة و الأناقة ، بقدر ما تهمه التعرية ، وكشف حجم الزيف في حياتنا ، و لم أسلم أنا شخصيا من هذا القلم المتشرد !
تمتم المدعو وضيع بن خائن ببضع كلمات ، ثم سكت تماما ، وظل واقفا يلهث ؛ فملصت زوجتي ذراعي ، تحركت مشدوهة ، و سعت تدنو منه . أوقفتها ، وقد أطبق أعلى جبهتي على أسفلها راسما غضبا جامحا :" مالنا به ؟! ".
:" انتظر .. يبدو جميلا .. ألم تسمع ما قاله ؟!
:" سيدتي .. سمعت ، و رأيت ريالته على وجه وسرواله .. هيا ".
:" لا .. لا تظلمه .. هو .. انتظر .. ما يفعل هو ؟! ".
كان يلف جسمه كأن مسا كهربيا أصابه ، ثم يحط على ركبتيه ، و يقهقه ، فجأة يبكى ، وصدره كبالون ضخم ، يرفعه عاليا ، و يعود يسلمه للأرض .. يا ربى .. دموعه لا لون لها ، وإذا بحر يحيط به تعوم فيه أسماك ملونة !
و أنا أجذب سيدتي ، وهي مصرة متشبثة بالأرض ، بل وملاحقة حركاته وسكناته .. كان شيء ما يدفعها دفعا ، ربما استلطاف ، ربما تنطع أو فضول ، فها هي تبادله الحديث .
:" لكنه زوجي !".
:" هو حمار لا يعرف ، مدعِ ، و من لا يعرف أمور نفسه، لن يفهم أحدا ، فضك منه ، أنا هنا ياجميلة ، خير من يقدر و يثمن الجمال !!".
ابتسمت زوجتي بخبث ، و تكتمت ضحكة ، ثم أسرعت بالابتعاد ، بلها جرتني ، و هي مفعمة ، أنا في حيرة ، نعم في حيرة . تصوروا ، أنا حمار ؟! و أكيد كانت تتفهم ما يدور داخلي ؛ فهي ذكية جدا .. أعلم هذا ، و إلا ما أحببتها ، مذ كانت طبيبتي المتابعة لي في القصر العيني ، الوحيدة التي استطاعت سيطرة على ، وأنا أرى العالم محض أصوات ، و أنياب ، و خنافس ، من صناعة أمريكية !
حين وصلنا مسكننا أطلقت ضحكة ، ضحكة ملئي بسعادة ما تصورتها ، و أنا أتميز غيظا !!
الشيء الذي أثار جنوني ، أنى بمحض الصدفة .أبصرته يقف أسفل بلكون مسكني ، وهو يئن بشكل مقزز ، يخمش في بلاط الأرض ، فوقر في صدري حزن عجيب ، نال منى ، وعلت توجسات رهيبة ، كان أهمها ، أنه آخر صيحة في جهاز السى - أي - إيه .. فحملت عصا ، كنت أحتفظ بها ، و أسرعت مستطيرا ، بينما زوجتي في حجرتها . كان غل يتحرك في أحشائي ، حتى وقفت أمامه .. حدق في وجهي ببلادة ، ثم وقف كلوح من ثلح ، و بإصبع طبشور ، و على الحائط ، كان يفكر : واحد زائد خمسة .. الله في كل وجود .. خربش القطة تعضك .. الكتكوت أم الدجاجة .. موسولينى أم ستالونى !!
لا أخفيكم أمرا ، إذا قلت تبالهت أمامه ، لا بد أنه مفكر ، ومن طراز فريد . فجأة دندن بلسانه ، حزم وسطه ، رقص ، وتغنى بأغنية فاجرة ، كنت بمحض الصدفة سمعتها ، في فيلم ( بورنو ) أيام المعيلة ، علا صدره ، تمددت مؤخرته بشكل رهيب ، و التم الخلق من هنا وهناك ، نال تشجيعا لم يره عبد الحليم حافظ في حياته ، و لا فوزي الحاوي في مدينتي.أصابتني فجاجته ، فانصرفت عنه ، الغريب ، أنى اصطدمت بزوجتي على باب المسكن ، وهى تكاد تقضى ضحكا ، فحملتها ، وطرت عاليا داخل مسكني ، و تهت في حنانها !
ما العمل ، وقد ضيق على ، و كاد يهاجمني ، وفى مسكني ، ما الذي يدور في رأسه ، و لم أنا ، لم أنا ؟ بالطبع ليس أنا ، إنما زوجتي . نسيت أن أقول أيضا أنها كانت رقيقة للغاية ، تكاد رقتها تسيل ، لكن الجانب الخفي ، أنا أدركه ، أعيه تماما ، و لا أقربه مخافة منها .. أي و الله ؛ فحين يظهر جليا ، أكاد أبصم أنا لن نستمر أبدا ، و أننا راحلون ، أنا إلى جهنم ، و هي إلى دنيا ربما تكون أكثر سعادة ، لكنها والحق لساني ، تحبني أكثر مما أحبها، و تحب هواجسي ؛ و لو تمكنت منى ، نعم تحبني ، أليس دليلا على حبها اختيارها لي ، نسيانها لعقدين أو مائة بيننا ، مجيئها إلى ، مخلِّفة أهلها ، هي الغالية ، وهى ربما تعلم أن المرض قد يعاودني ، في أى وقت شاء !
كانت ليلة ليلاء ، ملونة بكل ألوان الفصول السبعة ، و ليس الأربعة ، وكانت ربتي في أوج متعتها ، حين علا صوته الذى لا أتوه عن نبراته ، كان ينادى ، يصرخ ، و يتغنى بنفس الأغنية ، فأفزع نومي الذى فر هاربا أمام جبروته . تربعت على السرير ، وهى تميل على قلبي . ما أطعم ثغرها ، و نعاسها ، ما أجملها !!
:" مالك حبيبي .. هيا .. نم !".
:" ألا تسمعي ؟ ".
:" لا تشغل بالك .. دعه .. مالنا وهذا المخبول ".
:" زاد عن حده ، ولا بد من ردعه ".
أصررت على إزاحته ، مطاردته ، وكل ما فعلت ، تعمدت أن يعلو صوتي ، وهي بين ضلوعي ، حين مررنا به في نفس الموضع :" ما يريد الكلب منا،هل ممكن ،قولي لي ،هل ممكن ؟!".
: " و الله و لا كل تعساء العالم .. أنسيت .. أنت أنا ! ".
اختفى وضيع ، و لشهور لم أعد أراه ، لكن هاجسه ظل ملازمي ، بينما حلمنا الرائع يكبر بين أحشائها ، يتلاعب بسكون دواخلها ، و يدبدب ، و هى مفعمة ، تسوخ روحها ، فتزداد جمالا ، وتزداد رقة وحنانا ، بالروعتها ، وجمالها .. أين كنتَ ، لم لم نبدأ الطريق معا ..؟!!
لم تأخرتُ عنك ، كان يجب أن ..... !
: من قال أنى تأخرتُ ، أنت معي من ألف عام ، منذ النشأة الأولى ، حلمي و موطني ، دارى و غيطي ومحرابي !! ".
و في غمرة هذه المشاعر نسيت أمر وضيع ، بل تناسيت العالم ، حتى عدنا ذات ليلة ، مررنا بذات المقهى ، يا ويلي منه هذا المقهى التعس ، سبب تعاستى و نقمتي ، جهنم التي أعيشها الآن ، ماتت كل النساء ، اختفين تماما ، وما كان في الكون سواها - حبيبتي - توقفت المقهى على قدم ، و بدل وضيع واحد أصبح ثلة كاملة ، كانت ليلة غير ممكنة، فقد بدأت شقاوتي ، و نقاري معها ، و هي في أشهر دقيقة ، لابد من راحة بال ، حتى لا يأتي مولودنا شائها ، أو مزاجي النزعة ، الحلم الذي نشتهى ، من سوف أذهب به معها إلى هناك ، إلى أهلها ؛ لتعود المياه لمجاريها بعد انقطاع .
كانت بلكون مسكني شاهدا على مأساتي ، هذا وضيع يترأس لمة الهوس ، يالهوسى ، وجنوني يا محلة المصائب ، أصبحت حياتنا جحيما لا يطاق ، كلمات وضيع تطن ، وتعلو ، تصنع شقوقا ونتوءات ، حتى لم تعد ترى فيّ شيئا جميلا .ماذا أفعل بنفسي ، بيدي أفعل و بمساعدة أولاد الكلب ، أوهامي و هواجسي أسقطت مسمى النوم من قاموس ليلى ، أسقطت اللفظة تماما ، غدوت شبحا ، يتحرك في فضاء السديم ، و هي من مناهدة ، إلى بكاء .
ساد صمت رهيب بيننا ، صمت مميت للغاية ، و في ذات مساء ، عدت من عملي ، لأجدها تصرخ ، وبشكل مرعب ، هزمني بكاؤها ، فأسرعت باستدعاء سيارة إسعاف ، نقلتها إلى المشفى ، و هناك ، أجهض الحلم الجميل ، طارت كل أبراج المنى ، انهار كل شيء . جن جنوني ، لم أعد أرى أمامي ، اندفعت إلى هناك ، مقهى الحول . كان هناك ، حوله شرذمة الوهم المميت ، هاجمته ، شتمته ، سببته . ما تحرك ؛ لكنه بعد وقت من اعتصاري ، كان يترقص ، يعيد رسم حساباته البلهاء على حائط ، بله سبني أيضا ، ببعض الإشارات الفاضحة ، التي لا يفهمها سوى رواد المقهى !
حين كنت أعد نفسي ، لرحيلها عن المشفى ، أنهى حالة شتاتي ، و رأسي تدور في كيفية صياغة جديد ة لقصتنا ، لم أجدها ، لم أعثر لها على أثر . همت في كل طريق ، صرخت في الوجوه الرخامية ، في العيون التي لا ترى ، في تل الغوايات : أين أنت ، يا من كنت أنا .. أين ؟!
مازلت إلى اليوم أبحث ، أغرقت كل مسافات المدينة دموعي ، طاردت هواجسي ، رجمتها بحجارة وجعي ، و أثلام شقوتي ، غاضبت العالم ، الدنيا ، و ظلت صورة وضيع قائمة ، بكل فسادها ، و بهلوانيتها ، الآن أفكر جادا في تصفيته .. نعم .. رصاصة تنهى الأمر ، ولكن ما بال كل الفريق ، و لم ؟!
تنبش الأثر خلف قدميه ، تحوطه بكفها ، ثم تودعه صدرها ، بعد تمتمة ، وبعض هلوسة ندية . عيناها تبحران فى بسمة نحو القمر !!
بينما كانت الأخرى ، تدهس الأثر ، ثم تلقطه بأنفة ، تمشط ما يحمل بإصبع ملون ، ثم تصرع ورقة بطاولة ، تنشط هواجسها ، فيتلاشى الأثر، على إثر حمى تفتك ببياض الورقة ، تدميها حرقا !
حين يعود متآكلا بحنينه ، مفعما بلذة القرب بعد غياب ، يهرع صوب الطاولة ، يهز شوق ورقتها ، فتتهالك ، تطير صارخة ، بوجه كريه ؛ فيحط باكيا .. باكيا منسحقا ؛ بينما كانت هناك ما تزال تحتضن صدرها على ما خلف ،وعيناها تبسمان للقمر، ترجوه وصالا بالغائب الشريد !
لم يكن استبدادا منى ،حين قلت لها :" لن تذهبي إلى عملك اليوم ".
فقد أدهشني أنها غدت أكثر ارتباطا بعملها هذه الأيام ، و بشكل لم يسبق له مثيل ، حتى و أنا طريح الفراش ، رهين المرض !
ربما حامت برأسي هواجس و شكوك ما . اتهمت نفسي بالغفلة ، البعد عن أرضى وموطني ، لكنني حين أومأت برأسها موافقة ، و هى تردد بفرح عجيب ، وتدخل في لحمى :" لن أذهب اليوم .. و لا غدا .. و لا بعد غد .. أنت عندي أهم من العالم ".
تأكدت أنى غاليت ، و على أن أقدم لها اعتذارا يليق بها !!
حين كشف الستار عن عمله العبقري ،
هللت الجموع المتراصة للحظة ،
ثم انهالت عليه بحبات الطماطم الفاسدة .. و البيض ..والحجارة ،
تصاحبها صرخات همجية ،
ونداءات موت !!
فما كان منه ، ألا أن راح بفأسه يحطمه ،
وعيناه تنزفان ..
ثم ينسحب - فى كبرياء - صوب البحر !!
حين كنا نتخذ طريقنا صوب المزارع ، علا صوت صراخ لامرأة فوق رؤوسنا ، فتمهلنا قليلا ، و توجهت أنظارنا تلقائيا ، صوب مصدر الصوت ، فإذا بشيء طائر يحلق من الشباك ، و بنفس التلقائية ، كانت راحتا سعيد تستقبله .
كان طفلا في لفافة ، علا بكاؤه ، فاندفع سعيد به ، مقتحما البيت ، و الغل يملأ صدره ، و نحن مشدوهون ، بعد قليل كان صوت ضربات ، و صراخ امرأة مرة أخرى : دا جوزي يا خويا .. جوزي وربى .. أبوه .. اوعى تقرب منه ".
لم ننتظر كثيرا ، أطل سعيد من باب البيت ، لاعنا ، باصقا !!
حين عدنا من تريضنا لذات البقعة ، فوجئنا بلمة ، و صراخ متواصل، و حديث طويل ، عن امرأة مجنونة ، ذبحت رجلها ..!!
دقت الساعة السادسة ؛
فأظلم المكان و الزمان ،
في قلبه المحطوم !
بيديها و عشيقها ..
ترطب الحبل حول عنقه ..
ببسمة وغنجة فحت :
لم تشعلني بما يكفى لأكون لك دهرا !
بينما بقدمه يطيح بالكرسي :
عشت قذرا برومانسيتي ، وضللني عطرك !!
يرفرف جناحاه قليلا ،
تتصلب أصابعه بالشهادة ،
يتمدد طويلا ؛ لأول مرة في عمره المأفون !
يرفع عنها إزارها ، ترفع عنه سرواله ،
في ضحكة وبحة مخملية يتشابكان ..
جسدان يغطيهما "سيرماسيتى " وردى الرائحة ،
بينما دمعتان مشنوقتان كبلورتين تضيئان ..
عتمة المشهد !!
( سيرماسيتى : زيت الحيتان الضخمة يستخرج من رؤوسها )
كان يمزق فلذاته ، بعنف يجهز عليها ، المطواة تتسلل ،تطعنه هو ، اختلط ريشها ، قطنها ، حشوها بدمه ، دموعه لا تتوقف ، بينما صوته يعلو وينكسر :" لا .. لا أريدك .. لا أريدك .. اذهبى أيتها الدمى الملعونة .. يا من صورتلي الأشياء كقوس قزح .. علمتني أسماءها .. من أول الأبجدية حتى حروف السحاب .. كنتالطفل و كنت الآية السرمدية .. صفحة بيضاء تلونت بأصابعك ، فكانت قمرا و شمسا ، وليال لا يفتنها ظلام ..لا .. لا .. موتى ".
المطواة تنحرف ، تجرح ذراعه . لايتوقف ، كان مبدعا ، وحيد عصره في تحريك ، و إدارة عرائس الماريونيت ، خلف هذهالحجرة كان ظهره ينقصم انحناء ، لهتافات و تصافير الجماهير ، للكبار لعب ، للصغارتغنى ، للمدينة قدم لها عمره !
أنفاس تتردد ، تتحشرج باختناق ، دموعه تتهاطل ،أخيرا تهالك ، ترنح فى فراغ الحجرة ، يتأمل عمرا ، حوله لنتف و قصاصات. ترنح ، فقدالسيطرة على توازنه ، انهار على الأرض .. الدماء تنزف ، الدموع تجرى ، الأرض تدور ،الرؤية تبهت .. تبهت ، أغمى عليه .. ليس غير أنفاس تتردد بقسوة ، وصدر مجهد ، وكوابيس تفزع .. وتسرق منه صرخة أو بعض أنين ، يتكور كجنين .. بهياج يقاتل : نعم أنت .. ألم تزرعى وهمك ياسمينا وجوريا و حنطة ، بينما أنا لا شىء عندك .. محض رقم .. محض رقم ".
عاد المكان لصمته ، إلا من أنفاس واهنة . خبط على الباب :" معلم .. معلم .. إن كنت بالداخل رد على .. أستاذ ".
فزع قاعدا ، تجلطت الدماء ، بعد أننقشت ملابسه :" لا .. لا .. أنت من فعل .. حتى لو كنت بريئة ، لست بريئة ، أنت منأطلق جرذان الوهم ، و سمنها .. نعم .. أنت .. أنت ".
عاد الخبط و الطرق ثانية :" يا أستاذ .. يا أستاذ .. هل أنت هنا ؟!".
قرر أن تكون بابته الأخيرة ، انتفض واقفا ، تحرك مترنحا كقتيل ، جذب الباب المغلق ، خطا كسكير آبق ، على خشبة المسرح كان يجهز دميته ، بسرعة يشكل من نفسه عروسة ماريونيت ، يضع الخيوط بترتيبها الذى تعوده ، يصله هرج و مرج الصالة ، كانت عيناه فقدتا القدرة ، على رؤية أي شيء ، إلا ما يفعل الآن ، سوف يقدم لهم الليلة ، سندريللا كما أذاع ، ومن خلال رؤيته هو ، وبعروسة وحيدة ، عروسة لأمير مطعون ، خلفته لشكوكه تضنيه ، تقتله كل لحظة من لحظات غيابها ، لم ترهق نفسها بدرئها ، بل أمعنت فى عنادها ، حتى أصابه الجنون ، و قتلهالحنين إليها ، فباغتها ذات ليلة كدمية ماريونيت ، غزا قلعتها ، تدحرج عبر دهاليز وسراديب ، أصبح أمامهما ، سندريللا و عفريت الشقوق !
الآن تتحرك الدمية . تصفيقحاد يخرق أذنيه ، يفتته . يؤدى بعبقرية ، أتى على مشهد القتل ، يحتضن سندريللا ،يأخذها بين ذراعيه قتيلة ، يدفن وجهه فى صدرها ، يجهش ، يهتز ، يمزق خيوط اللعبة .. بينما كانت الأضواء تملأ الصالة و الخشبة ، و بسرعة يلتف حوله رجال البوليس شاهرين أسلحتهم !!
كان مايزال يقرأ حين صرخ :" عينى .. إنى لا أرى شيئا ".
ستون عاما وهو يقرأ ، لم يشبع بعد ، لم يكتف ، ماامتلأت كل خزائن روحه ، بها تطالبه بالمزيد و المزيد ، حاولوا أكثر من مرة حرق كتبه، ومنعه من هذا الجنون ، لكنه حطم كل متاريسهم ، كل موانعهم !!
ضاع البصر ،وأصابه العمى ، و لأيام ظل يصرخ :" جائع .. ارحمونى .. جائع .. فلتجلبوا قارئا ".
وأتوا بقارىء ، لكنه لم يسعفه ، بعد أيام فوجئوا به يطارده بعصاه ، و أتوابآخر ، وآخر ، و ما أفلح معه أحد !!
فى رأسه الكثير الكثير من معارك ، وقصص لاأول لها و لا آخر ، ملوك يتطاحنون ، أقزام يعتلون الجبال ، أنهار تتكلم ، جبالتتحرك من أماكنها ، مطر يضحك ، شمس تمشط شعرها .. أشياء و أشياء ، وهو يصرخ .. ويصرخ دون توقف ، بينما كان رجال المشفى يلبسونه قميصا أبيض ، ويعبئونه في السيارة !
حين طلب ورقة و قلما ، هلل المجانين ، ورقصوا حتى ترنحوا ، و حين بدأ يكتب كانبصره يعود إليه ، و سود الكثير الكثير من الأوراق ، وظل لأيام على هذه الحال ، مماأدى إلى إحداث هرج و قلق ، فما كان من الممرضين ، إلا مباغتته ليلا ، و فقء عينيه !!
ضجت " نحن " بما يثقلها ،
من عادات و تقاليد ، وأحكام جائرة ،
وتشتت وتمزق !
خرجت من بينها " أنا "
متمردة ، صاخبة ،
وأعلنت عصيانا !
رنت " أنا " إلى " نحن " أخرى
أكثر عدلا و شموخا .. ونبلا !
أحاطت بـ " نحن " أخرى
ذابت فيها ..
لكن " أنا " ظلت غير مقنعة ،
غير راضية .. عن شىء مفقود تبحث !
وعلى غفلة من " نحن " أشعلت نارا
ورقصت بعنف وبسالة رقصة لم تنته بعد !!
كان دائم الحديث عن الماضي ..
عن بطولات .. أمجاد .. أسلاف ..
تاريخ .. كل شىء فى الماضى كان شهيا
وإلى أبعد حد .. حتى أحس بالملل !
بنظرة متأنية ، اكتشف أنه لم يكن أبدا على وجه الأرض
فردوس مفقود ، وأنه كان يستدعى ما فى طفولته من براءة و عدم معرفة بالعالم ،
وفردوس آدم المفقود !!
المارد الذي احتل المدينة منذ أبريل الماضي ..
لم يغادر بعد ،
و لم يزل يقف على بواباتها ،
ويلوح بقوة ساعده ،
وهو يقهقه : ثلاث إجابات أريد ..
من يستطع حل لغزها ، قهرني ، وحرر المدينة ".
فوجىء اليوم بطفل يدنو منه ،
وهو يتمتم :" أنا عندي حل لغزك ، فهل تضمن لي ،
أن تكون صادقا ، و تبتعد عن هنا ؟!".
ولم ينتظر إجابة المارد ، واقترب من كعبه ،
فأبصر غطاء كأنه للعبة ،
جذبه ، فانجذب .. وهنا أبصر كتلة من الأسلاك ..
بنفس البراءة كان يجذبها ، و يبذل مجهودا فى سحبها بقوة ..
وهنا أحدث تمزيقا لها ، فأصدرت فرقعة ،
وخطوط ضوء وامضة ، وتناثرت كتل نار .. فهلل الطفل ،
وابتعد مدبدبا؛ بينما كان المارد يتساقط ..
رويدا .. رويدا !!
بالفعل كانت ليلة رهيبة ، عاشتها قرية الناصر ، كنت تستطيع أن تسمع بوضوح ، ولو كنت هناك على مشارف حدودها ، أصوات الرجال ، وهى تصهل فى ليلها ، و كأنهم بين وهج نار ، بين أنياب وحوش ضارية ، الغوث يطلبون ، بينما بين الفينة و الأخرى تعلو أصوات ضربات ، و طرقات عصى ، تشج الحجر الصوان ، وربما صراخ نسوة ، وفى الخلاء ركضهن ، يبدو واضحا ، مسرعات طالبات النجدة !
لن تنسى القرية ليلة بالتأكيد ، نكص رؤوسهم فيها الرجال ، و بشكل مفاجىء ، ومبكٍ لأبعد حد ، أمام نسائهن ؛ فقد كانت ليلة ، ودعوا فيها ابن العمدة الصغير ، و بكامل عددهم احتشدوا لعزاء كبيرهم ، و أحد منهم لم يتخلف ، مخافة ورهبة ، وربما إتباعا لحديث رسولنا الكريم !
اندفع الرجال ، كل من طريق ، و كأنهم بالفعل يعرفون ما انتابهم ، كان ذلك قبيل أذان الفجر بساعتين على الأكثر ، كل وضع في عينيه صورة و قامة ، وكفا أطبقت على كفه ، كف كان لها قوة السحر ، و اتجاها يسير فيه ، و بأسرع ما يمكن ؛ لدرء خطر داهم ، بعد أن طاشت رجولتهم ، و هراء أمست ، و عجزا ناقعا ، ربما حمل واحد منهم شرشرة أو فأسا أو بلطة ؛ دفاعا كانت عن كينونتهم ووجودهم ، فلا يصح بأية حال ، ومهما كان ، أن يصبحوا أمام النساء بلا جدوى ، ليكون التخبط ، وقلة القيمة ، و البحث عن بدائل هم فى غنى عنها .. !!
عطوان .. كانت البلطة معلقة في جيب سرواله ، و قد لف جلبابه حول وسطه ، و بين المزارع اتخذ طريقا ، و قطيع من كلاب يطارده ، فما كان منه سوى التقاط كمية هائلة من الطوب و الحصى ، و صكها في رؤوسها، أو كيفما اتفق ، حتى و صل بعد مكابدة إلى عزبة السبع ، التي ترقد فيها بغيته .
بجانب مصرف كانت مشاية ، أى جسر لعبور، ونقيق يدوى ، ولا ينقطع صرير ، و عفاريت تترقص ، و ترمى بنفسها على تراب السكة ، تتراقص به ، وتنهكه ، هو لا يهدأ ، وإن نال منه الخوف ، إلا أنه مستمر ، و بالحصوات ، و بعض آيات قرآنية ، يطارد شياطين و عفاريت ، تراوغه وتكاد تبكيه ، حتى وصل أخيرا ، و قد طقطق شعر رأسه تماما !!
طرق بابا مغلقا بالبلطة. أفزع من كان خلفه ، و لكن سرا في الأمر ، الباب فتح ، و قابله وجه الشيخ بركات ، عبوسا في أول الأمر ، وحين تأكدت حاجة القادم ، ابتسم وهو يتابع شيئا خلفه ، وأخيرا فتح له ؛ ليعبر إلى الداخل :" أنا مش جى أتضايف .. اخلص ".
بافتعال تصنع الغضب :" قال يا قاعدين يكفيكم شر الجايين .. مالك ".
و فجأة رفع البلطة :" قلت لك اخلص ، و بلاش لف و دوران .. يللا ، لأحش رقبتك !! ".
هنا تراجع بركات قليلا ، و على دكة خلفه استرخى:" طيب ماشى .. أمرك .. بس أعرف ..مش نتفق الأول على الحلاوة ؟!".
قليلا هدأ عطوان ، وعن غضبه لم يتنازل:" اللى تقول عليه يا كافر .. بس خلصني ".
كانت لعبة ، لعبها عبد الجبار بمهارة ، بعد كساد الحال ، و عجزه تماما ، عن تدبير مال لازم لسفر ولده ، إلى دولة خليجية ، فراح يلف على كل معارفه ، من شيوخ المندل و الكوتشينة ، و الربط و الأعمال ، و غيرهم من الدجالين المهمين والمعروفين بسوء فعالهم ، ممن وضعهم الناس ، فى بؤرة أهل الإيذاء والسحر و تناسوهم حتى بالسلام .
دبر معهم الأمر ، على أن ينال نسبة من حصاد عملهم ، ووافقوه تماما ، كانت مناسبة عزاء العمدة فى ولده كافية ، تماما كافية وعز الطلب ؛ لملء جيوبهم ، بل أكثر ، امتلاك مالم يستطيعوا خلال سنين من أغنام و ماعز !
في طابور المعزين على منافذ المقابر اندسوا ، متباعدين وقفوا ، كل أهل القرية مروا عليهم ، رجالها و شبابها ، و برغم اكتراث الجميع ، و محاولة تجاهلهم ، إلا أنهم ، و بلا استثناء وقعوا في الشرك ، و سلموا عليهم ، لتكون هواجس و قلق و استرابة ، تلازمهم بشكل بشع ، بل مرضى ، حتى فراشهم ، و لم يستطع سوى قلة التغلب على هذه الحالة ، لأن رؤوسهم كانت قادرة ، على الفتك بأي هاجس قد يحاول النيل منها ، وهؤلاء يطلق عليهم الدجالون :" دمهم زفر كالشياطين !!".
طائرا عاد عطوان ، يركل الأرض ، و الشياطين يضاحك ، وعفاريت المصرف ، بل و يكاد ينازلهم ، و من بعيد تنتظر أوبته الكلاب ، مر من بينها ، و بكل بساطة ، و حين ابتعد قليلا ، كانت تركض خلفه ، وهو يطير مفعما ، يلوح بالبلطة ، كان يلمح على مدد الرؤية الكثير من الهياكل ، تسعى فى ظلام البلدة ، بين مغادر و عائد ، حتى وصل داره ، فرمى بالبلطة جانبا ، وفى لمح البصر تخلص من جلبابه ، و كافة ثيابه ، وطار ، وحط في أحضان زوجته ، أكثر فحولة وبأسا !
:" أنت واد غلبان .. كفاية عليك ورقة بخمسة .. قلت إيه ؟!!".
:" يعنى جيت فى جمل .. يللا بس أنت .. الله لا يسيئك ".
قدم له الورقة ، وهو يتأمل فيها عرقه ، و بيد مترددة ، فلقفها منه بركات ، وفورا وضعها في جيبه ، و أمسك به ، وعزم عليه ، ببعض كلمات يتمتم، وسهم الله كأنه حط بقلب عطوان ، لا ينطق ، ولا يأتي ببنت شفة ، يفغر فاهه كأنه يعبئه بأشكال التمتمات ، و رائحتها ، أو هو يتذوقها .
:" خلاص ياعم .. يللا .. بقيت صاغ سليم .. اتكل على الله ".
:" جد .. أما لو بتضحك عليه ؛ و الله لأجيب خبرك ، أفلقك اتنين ".
:" يللا يارجل ، بلاش جعجعة زى عدمها .. لا .. تعالى من هنا ، ما يصحش حد يشوفك ياوله .. يللا ، الباب التانى وراك أهووه ".
عاد الهدوء للقرية مع حلول الفجر، حين خمدت أوتار النشوة ، و نامت رؤوس النار ؛ بينما كانت دار عبد الجبار تلفها ألسنة دخان معبأ بالكيف ، و ضحكات ساخرة تعلو فيها ، و ربما مساومة أحد الرجال على حصة أكبر ، و لكنه بالتأكيد كان يفكر في حيلولة فعل ذلك مرة أخرى ، فى الوقت الحالي على الأقل ؛ حتى ينسى أهل القرية والعزب المجاورة ، ليلة عزاء العمدة في ولده الأصغر !!
ينتظرهاكان ، في ذات البقعة ، على جمر أحر ، وحضورها يترقب ، بين وقت و آخر ، أوحشهاسمها ، حروفه الأحلى ، كنجم قطبي ، في الأفق يشدو ، فيختفي كل ما في المجرة .. كم يحبها ، لو أن الوقت ينسلخ ، لو يستطيع ، لسلخ كل عمره ، كثوب خرق تخلصمنه ، و أبقى على أجمل ما فيه هي ! بدموع حنين تتندى عيناه ، و الساعات تولى،وهو على حاله ، يترقب وصول خرافته ، وحلمه المستحيل ، كل شيء شائه أمام عينيه،لا معنى لشيء دونها ، غرس المنى يشتل ، في كل ساعاته ، ما عاد يهمه سواها ، كلما يعنيه أصبحت ، و ليذهب العالم إلى الجحيم ، كفاه ما ضاع ، و ما بقى إلا القليل ،و هي تستحق عمرا فوق عمر . يستحضر ملامحها ، كل ملامحها ، ريحها ، حديثها ،صوتها ، كل شيء فيها ، كم بها هو مجنون ، و ما قبلها عرف الجنون . يضحك وحيدا،ووحيدا يبكى ، وحين يغضب ، كعصف السماء يكون غضبه ، حتى زرعها حلما في كل شبر،في هذا البيت ، و في أفئدة من يرفضونها ! هو المغنى الذائع الصيت ، ينام و يصحومعانقا زجاج المدينة ، لا يريم ، و لا شيء مهما عظم يوقفه ، ولم تكن بأقل منهجنونا !
عبر شاب مدينة الزجاج ، أتى يترنم ، أعطوه تصريحا واسما فنيا،وربابة وهوية ؛ فعلا صوته متناغما ، مما استرعى انتباهة المغنى الكبير،وهو بأحلى أغانيه يصدح ، تقف به قدماه ، على آثار انطبعت ،وتوهجت ، في ذاتالبقع المتشظية ، والكبير يكاد يقضى ، كلما توقف الشاب ، يعلو أنينه ، وبلا توقف تسيل دمعاته ، بينما تنهدات القادم تتلاحق ، و تترى اهتزازته ، و كأنهالطاووس تنتفش ، ثم يخطو لنقطة أخرى ، بكفيه يلم أثرا ، يفرشه على رقعة جسدهمنتشيا.إنها آثارها ، آثار معشوقته . عين الكبير تتابعه ، عبر زجاج أغبشتتكسر ، وروحه كعصفور حط قرب موقد ؛ فهلك زغبه ، وريش جناحيه .
في موضع يتوارى ، يرى منه كل ما يتم ، وحين اكتفى الشاب ، جمارك المدينة لم يعبر ماضيا لحالسبيله ، بله انتظر .. انتظر كثيرا ، والكبير تتخلع أوردته ، و دمه أمامه ينسل ، بكل ما تحمل رأسه يفتك الحزن ، من نخاع ، و فتات لحم ودماء ، فتنقله الرأسالمقتول ، لنفس المشهد .. نعم ، سبق ورأى ، وعاش ، وتألم .رأى نفس المشهدالرهيب ، ذات مساء ليس ببعيد !!
أيضا شاب كان ، يحتضن ربابته ، عبر مدينةتشبه تلك ، وغنى حتى رقصت نوافذ المدينة وأبوابها ، وعلى خطى حبيبته ، ارتمى، و بترابها عفر وجهه ، ثم موضع قدمها احتضن ، حتى أكلت الدهشة الكبير ، فدنامنه :" كنت رائعا .. رائعا ".
انتشى الشاب ، وخطف كفى الرجل ، ودار به :" إننيفي انتظار ربتي . سيدي .. كم أحبها .. أحبها .. لا .. بل أعبدها ".
رقص قلبالكبير ، وضمه بقوة ، و عيناه تذرفان :" يالك من محب جسور ".
بربابته طارالشاب ، حلق عاليا ، بين نجوم السماء سكن ، تخاطفته هناك ملائكة للمحبين:" هيقادمة .. قادمة ".
الكبير يتابع ، التوت رقبته ، انثنى جذعه ، اكتوى ، فانبطح أرضا :" من هي سيدي .. من ؟!!".
كأنه بمعراج يقترب ، ثم قبل وصوله للأرضهوم :" يا ربى .. ألا تعرف ، ألا تحس ، كم ربة هنا في مدينتك ، هي واحدة ، وهىفي إجازة منذ .... ".
فرش شك خيمته ، و نار تولدت ، لفت الخيمة ، أحرقتكل أوراق عمره ، فغنى موتا ، وركضا اختفى ؛ حفاظا على بعض كبرياء ، فتلقفتهالسقطات ، حتى أدمت جلده ، لكنه إلى سدرته وصل ، يأكله الحزن ، و يعضه الألم،كانت قد حاصرته ، و فى الإيقاع به تفننت ، وهو ضاحك يردد :" كبير أنا ، لي منالسنين ضعف عمرك ".
تضحك مهللة :" ليس العمر بتعكز السنين ....... ".
وكلما وجد طريقا للهرب تسلل ، لكنها كانت تدميه سخرية ، و غنى يومها كما لم يغنمن قبل !
الآن حل الرحيل ، وإلى أبعد نقطة للحنين :" ألا تنتظرها ، كيف صدقت مخبولا ، أرعن هو بلا شك ؟!".
إنه جارها ، لصق حارتها ، و فيمدينة من زجاج أنا عابر ، محض خيال ، بينما مجسد هو ، دم ولحم ، يطرق أبوابحارتها ، و بيتها ، ويشهد كل ما لا يراه هو ، أنفاسها يشم ، رائحة عرقها ، صوتهاكيف له تناغم وتغنج ، شفتيها .. بسمتها .. ضحكاتها .. حزنها .. حنينها ، التواءهاتحت وطأة الكلمات!!
يا ويلك من مدن الزجاج ، وضراوة المحبين ، والتصاقالأعتاب ، وأنت هنا محض هواء .. هواء . ألا تنتظر حتى تأتى ..انتظر ، ولاتتعجل الأمور
حين أتت في نفس توقيت ، أذاع سره الشاب ، وقفت أمامه ترقص :" أحببت ، قابلت حب عمري ، افرح لي ، كم أحبه ".
وجه الكبير سلخته الكلمات ،أصبح وجها يشبه ضفدعة :"وما كنت أنا .. ما كنت ؟!".
بأفاع أحسها ، تلتفحول عنقه ، تعتصره ، يختنق حد الموت ، يمزق قميصه تماما ، و يتراجع قليلا، تبيض الرؤية في عينيه :" لكن يمامتي لا .. لا .. ليست هي ".
غامت الدنيا ، وحينكان الشاب يغادر مدينة الزجاج ، بعد أن شتل في كل أثر من آثار حبيبته وردة ، كان هو الكبير يتمالك نفسه ، وعرق غزير يبلله ، يسرع صوب جمرك المدينة ، ومنموظف هناك ، عرف أن الشاب ، يسكن نفس مدينة تسكنها خرافته ، فتجمد تماما !!
كانألم ينتقل بسرعة على جانبي رأسه :" إلا جوهرتي .. لا .. بيننا ما يجعل الأمرمستحيلا ، نعم .. نعم ". هز جسده ، دفعه للتحرك ، ما ترك موضعه ، كتمثال منتصب ،كعجز نخلة خاوية ، وعلى جانبي شفتيه ظهرت بعض رغاو ، وتهالك أخيرا ، سقطأرضا بلا حراك :" لا أصدق .. لا أصدق .. لا أصـ..... ".بينما أضواء مدينة الزجاج ، تبهت ، وتبدو كأن سخط السماء ، حل بها فجأة ؛ فأصبحت مدينة موتى ، لا أثرفيها ، ليس إلا أصوات غربان ، وحدآت تحوم ، وجثث متناثرة تتخاطفها نسور جائعة !!
تعاودني تلك الليلة .. الآن ؛
حين جرني شيطاني ،
وصاغنى حلما متمردا ..
لا يأبه بقهر الرجال ..
وأفانين الغواة !!
سالت بعض خيوط .. لها رائحة دمى :
هنا بالأنف ، و الفم ،
ومن جلد المؤخرة ،
ولونت أحلامي ؛
جبينا يتعشق الحزن !!
فرأيته دركيا ..
يفتتل شاربه ..
و بهراوة يفتت ،
رؤوس طيوره - دون تفرقة -
فهممت صارخا ،
و تفلت منه ، وتركته يسلخ عمره ؛ لإعادة ترميم طيوره !!
و أنا أنبش رقعة للحنين ، و أحيلها وشما .. في زرقة أوردتي :"
أنا و مالي لأبى ، ولو كان دركيا .
و استدرجنى ببسمة ، ونبضة عدل ،
وبعض توت ، وسماحة مغناة !
حتى تلاشيت فيه ،
و تناسيت أمر طيوره -
وإن رويتها روحا ، وحَبًّا،
ولازمتها فيضا ، وشدوا لدمى –
وهراوته تسيل ، زئبقا نورانيا ،
يخزنها بين رئتيه .
و لا أدرى .. هل كانت بعض دمه ..؟!
اليوم خاتلنى ،
روض شاربه ، و قص بضع سنين ،
من شجرته العتيقة ،
و التبس جلدا غير جلده ، واسما جديدا ،
ودفق دمه في عروق طفلي ،
و أعطاه تصريحا بذبحي ،
و تفتيت رأسي ؛
وبنفس هراوته .. يلاحقني !!
فمن يرممني ،
و يجتث غباء ، شكل طينتى ،
ومنع عرقي الدسَّاس ،
عن دور له ، وغرس خارطة لعالمي ،
وحلمي ؟!
كان ينازعأنفاسا أخيرة ، حزينا .. واهنا ، بين شهقة و زفرة ينادى وزيره:" يا فضل .. يا فضل ".
ربما بمحض الصدفة ، وصل صوته إلى سمع الفضل ، على عجل أتى يسعى ، بوجه ذئب ، وخطى حية رقطاء :" مولا ى .. مولاي موسى ".
ينشد اعتدالا برغمه - هو القوى - شديد البأس ، يفشل ، و ثانية يعاود ، فيقعى ، يلطم الوسادة بقبضة واهنة:" أين أمي ، أين الخيزران يا فضل ؟!".
بعنف عجيب ، و بجلفة يجيبه ، ويلقى بحشا قيظه ، بآخر مااصطبرعليه حنق قديم :" مولاي ، لا بد أنها ، وصلها أمر مرضك ، نعم لا بد ، غاضبة منك ما تزال.. نعم ما تزال ".
جاءه صوت موسى ضعيفا حزينا ، كأنه لميت :" أريدها ، هاتها يا فضل ، هاتها أكرمك الله ".
قليلا ترقق الفضل ؛ فلم ينس بعد ، أنه أمام موسى الهادي ، ابن المهدي ، وشقيق الرشيد :" لكن لا ، يا ربى ، كيف نسيت ، أربع جوار حسان ، أرسلت إليك.. هدية ، هدية لك ".
اهتز جسده ، و دموع محتبسة اندفعت ، تحت رأسه طوى ذراعه:" أريدها يا فضل ، أريدها حالا ".
بنهاية أحس الفضل ، ما تصورها الآن ، كأنه طلب أخير ، فوقع في قلبه ، الأمر لم يعد يحتمل ، على نفسه أشفق ، ماذا لو سؤل ، عن هذه اللحظات ، ووقف أمام الخيزران أو الرشيد :" أمر مولاي ، سوف أرسل لمولاتى برغبتك في رؤيتها .. حالا ".
تحشرج صوته كأنه الموت :" بسرعة يا فضل .. هيا ، و لا تغب عنى ".
مرغما كان الفضل بن الربيع ، يقطع مسافة بين قصر سيده ، و قصر الخيزران أم أمير المؤمنين ، وهو واقع تحت تأثير ، ماذا لو مات ، الرشيد لا يحبه ، و الخيزران أيضا ، آن أن أظهر طاعة لهما ، ولاء ؛ فالملعون يحيى البرمكى لن يتركه على حاله ، لا هو و لا ولده جعفر ، ربيب الرشيد وأخوه ، كاد يتعثر ، يضل طريقا يعرفه ، بينما تحركت أفاعي أربع ، على أطرافهن زاحفات ، غزون عليه جناحه ، كان هناك ، معلقا بين الرشيد ، و بين أولاده ، وولده الأكبر جعفر - ابن السابعة - عيناه تذرفان دمعات غاليات ، بينما الجوارى يتسلقن فراشه ، و يدنين منه ، دون تردد ، و صوت الخيزران يرن في أعماقهن :" إياكن و الضعف ، لو فشلتن ، ليس عندي غير الموت ، أما نجاحكن ، ففيه تحرركن .. هيا ، لقد توحش ، توحش موسى ، اليوم يسمني ، وغدا يفتك بأخيه ".
كانت ثنتان عند رأسه ، و ثنتان عند القدمين ، يداعبنه ، و يربتن على وجهه ، و كل أعضائه ، و هو متأفف كاره ، يصرخ ، و يتقلب ، ويهتف:" ابتعدن يا جواري الشؤم .. ابتعدن .. هيا ".
وهن يقتربن أكثر ، فأكثر ، و في لمحة كانت الوسادة فوق وجهه ،وواحدة أعلاها ، بينما الأخريات يتشبثن به ، و هو يرتجف ، ويهتز بعنف عجيب ، وكأن تنينا يفترس ضحية ، يرتعد كل شيء في المكان ، يكاد ينهض ، يتملص منهن ، وفى وقت علا فيه صوت الخيزران :" ولدى .. موسى ". كانت أنفاسه تذهب ، ترتحل بعيدا ، و يخمد جسده تماما :" ابتعدن .. ابتعدن .. ولدى .. موسى ، قرة عيني ".. تنهار ، تبعدهن ، و باكية يرتخي جسدها ، ناشجة ، بينما صوت يعلو لبكاء طفل ولد توا ، يختلط بصوت يحي البرمكى الوزير الأكبر :" يموت خليفة ، و يولد خليفة ، و يتوج خليفة ".
ليلة فاصلة ، وشائكة المنافذ ، العطفمحض سراديب ، تنهشها خفافيش العتم ، و حقول شوك الحارات ، و أصوات كأنها تأتى منمتاهة ، لغط من حكايا ، وتباريح ، تركت علبها المتراصة ، على أرفف الحارة ، وغير عابئة زحفت كسحالي ، بأي شيء كان ، و ها أنت يا سيدي ، تتململ ، تنين سعاليفترسك ، و بعيدا عن درجات صلاحيتك يطيح بك ، فتصرخ ، وهو يطوق رقبتك ، و بقوتهالرهيبة يضغط ، يذيبك ، نخالة و بعض سائل تصبح ، فتخمد صرختك ، و تتلاشى .. تتلاشى ، تهوم فى فراغ ورقة ، و دون أسف ترحل ، فى لاجاذبية مشاعر ، رغم كتلمغناطيس مبهمة ، ومحاولاتها المستميتة ، لكنك تتنافر ، و بلا اكتراث تصعد ، إلىسدرة ابتنيتها ، بعينين دامعتين تلقى بعض فتات منك ، و في نهر تخوض ، كنت له- ذات حب - صديقا ، ورفيقا ، انبرى لك سلما من نور ، عمودا يتوهج ، فأصابتك جلالة،و خيوطه عانقتَ ، بينما خلفك نبرات سحر ، في جوفك تتردد :" تعال .. تعال ،أريدك ، أريدك ، انقذنى ".
أسألك أيها العاري ، أمام الطوفان :" كيف هُنَّاعليك ؟! ".
لم يعد كثير وقت ، لا بد أن تجيب ، لا بد نعم ؛ لأستريح ، وأفهم ،بعد كل هذا الوقت ، أسألك :" من ندى الصبح تشقق جلدك ، ومات قلبك من طول تربصالليل بك ، و من تحنطك تيبست عظامك ، عبر الوقت ، فلم فرطت ، في كل هذا ، لم ؟!".
لا .. لا ، هل قادرا مازلت ، على رسم تكشيرتك السرمدية ، لتقيم بينناألف سماء و سماء ، و ألف سدرة و سدرة ، أن تجيب أتوسلك ، لم حرمتنا حنوك ، وأعطيته لغريب ، و أسكنته بيتا لنا ، لم ؟!".
نفس الدور ها أنت تمارس ، تعطنيظهرك ، و تمضى ، انتظر ، أمامك حقول شوك ، انتظر ، ولا من هنا ؛ فالخفافيشعطشى لدمك ، انتظر ، سيدي ، إلى متى تغلق روحك ، أن تقتات بحبنا ، إلى متى ، أنا أدْرِى ، بل أدرَى انفعالاتك بك ، نعم ، بعض انفعالاتك أنا ، نطفتك أيهاالمتوحد ، بشكواه ، بألمه ، بفرحه الذي لا يأتي .. ماذا ؟!
قلها يا سيدي،كقفاز الق بها ، ماذا يضيرك ؟!
لا .. لا .. لا أريد رؤية ضعفك الآن ، ضعفكإلينا ، ما رأيته قط ، عبر السنين تلمسته ، تمنيت أراه ، مِتُ لأراه ، و مثل بصقةيأتيني الآن ، لطمة .. لا ..
أيها القاتل المقتول ، كم رأسا هشمت بهراوتك ، بلقل لي كم رأسا قبلت ؟! ياللسخرية ، أبكى الآن ، غلظة أبكى وفهما خاطئا ، وعصفورا رقيقا يسكن صدرك ، كنت تذبحه ، كل صباح ، كل مساء ، كل الوقت ، وكنافي حاجة إليه ، يبلل حرقتنا ، يقينا الموت ، و ها أنت تضعينا ، تلقى بنا طعومالكلاب السكك ، ثم تتعالى ، تتعالى عنا وعنك ، لو أدرى ما الغباء ، ومتى يسكنالعقول ؟!
مالك ، أعطيتني هبة ، لستٍ ، وعشتار ، لإيزيس ، للنيل ضحية،لوفاء من ، للموت قدمتني عن طيب خاطر، ولقعر بئر سحيقة ، بم تفكر ، أجبني؟!
ما الذي تخفيه عنى ، انتظر ، الخفافيش ، حقول الشوك . أسألك :" كيف ياأ..... . كيف ؟!!!
طاردته بسؤالي سنين عددا ، ما أجاب ، و لا حتى التفت لى ،أو أعارني أذنا، هاهو أمامي ، مثل طائر البطريق ، يزحف متهدل الجناح، يسعى زاحفا ،و لا أدرى ما يخبئه ، هناك شيء بين ثيابه ، إلى أين ، أنهكتني، انتظرني، لايتوقف ، يسمعني ، ولا يلتفت ، فقط يهش على أذنه ، كأني هومة ، هو سادر ، متماسك ، رغم تنين سعال ، يكاد يقصمه ، كأنه خارج من رماد ، هاهو يختفي منى ، يختفيعن عيني ، أين أنت ، ألاحقه ، لا أتوقف ، لا أجده ، كأن الأرض ابتلعته ، فجأةاهتزت الأرض ، و صعقني صوت دوى ، ماذا؟!! التم الخلق ، كل يتساءل ، أقف برغمى، أين أنت أيها الشيخ ، في أى طريق اختفيت ؟! أجرى ، أركض هنا وهناك ، أينأنت ، تأتى أصوات :" دمر البيت بكامله ".
:" كان خطأه ، هو من جلب الغريب، وهو من قوض بناءه ".
أركض ، لا أفهم ، أكاد أصرخ ، لم يجبني كعادته ، لمتستوقفه دموع لي ،
أعرج صوب بيتنا القديم ، كانت لمة هائلة ، وسياراتإطفاء ، و شرطة ، و كان هو ، يقف كوحش ضار ، وقع في قبضة صياد ، كان مبتسما ، لم أره مبتسما مرة ، لم أره ، جميلا مثلما الآن ، وهالني مشهد البيت منهارا والأتربة تصاعد من جوفه ، تعمى وتقذى ، كميدان قتال ، و همسات تتردد :" شفت ماوجدت ..؟!".
:" حشيش .. أمعقول ؟! ".
علا صوت شرطي :" توقف .. أنت .. أسرعوا ، هاتوه بما يحمل من أسلحة .. هيا ".
هال الجموع الغفيرة مشهد لرجال ونساء ، تقذف بهم أشلاء البيت ، كانوا شبه عراة ، يتساقطون مع كل خطوة ، يتنفسونبصعوبة ، يقيئون ، يا ربى ، يقيئون حيات و عقارب ، وبرص ، كأني أعيش كابوسا، كيف أصدق ؟! كيف لي أن أفهم ما يتم ؟!
و حين وقفت في مواجهته ، أريد أفهم ، كنت مصعوقا ، وكانت عيناى مغرورقة بدموع :" لم فعلت ؟! ".
:" وأنت ، لم تر ماوجدت بين الركام .. انظر ؟! ".
:" يا ربى .. كوكاين ، القه ، و اهرب ، قبلأن تسحبك الشرطة ".
زحف نحوى ، ربت على رأسي ، مسح عليها ، وقبل جبيني :" كانلابد ، أضعته ، و كان علىّ استعادته ، و هاهو لكم دون أغراب ".
لم يكن الرجل، لا ، لم يكن ، كان خلقا جديدا ، مذهول أنا ، التصق به ؛ لأتأكد منه ، جيدا أتأكدمنه ومنى !
طوابير من جرذان ، وزواحف ، وهوام هائلة العدد ، تخرج منبين الركام ، مسرعة مبتعدة ، و الخلق تطاردها ، بما ملكت أيمانهم ، وجثث تعافرأنفاسا أخيرة :" تريد أن تعرف لم ، كان دائما سؤالك ؟! ".
حدقت في وجهه ، وأنا أتضاءل ، و بشكل غريب : " لا أريد ، عرفت ، عرفت ".
جذبني ، يا ربى، في ضلعه كنت :" لا ما عرفت شيئا ، ما عرفت ".
أجهشت ، تشممت رائحته لأول مرة :" بقطعة أفيون ، وزبدة من حديث ، أذهب عقلي ، و سرق البيت بأوراقه ، و ما يحمل ، آن لك أن ترتاح ، هيا ، هات إخوتك ، ونظفوه ، هو لكم ، هو لكم !".
كان اليوم السادس لبدء المعارك ..استدعيت لمكتب القيادة ، فى أمر عاجل ، لا يحتمل تأخير .. و كنت هناك .. أنتظر ما يلقى من أوامر :" سيارة أشارة تعطلت قرب المعبر .. عليك فورا بتوصيل قطع غيار و فني .. هناك سيارة في انتظارك بالحملة .. انصرف ".
:" تمام يا فندم ".
:" انتظر .. تذكر دائما .. العربة فى العراء .. بدون غطاء ".
:" تمام يا فندم ".
كان لليل الصحراء رائحة غريبة ، و طعمة ما أحسستها من قبل ، برغم كثرة مأمورياتي ، منذ و قبل بدء المعارك .. أصوات دوى .. هالات من غبار تملأ الطريق بين الأرض و السماء .
صرخت فى السائق :" انته .. الوقت يمر .. مالك باردا ؟!".
أجاب :" أبدا .. كنت أتسلم قطع الغيار المطلوبة .. هيا بنا ".
على طريق القاهرة الإسماعيلية .. كانت السيارات تعبرنا كالريح العاصف .. و الظلام متكاثف بشكل غير معهود ، و أنا أنفث دخان سيجارتى ، و كلما أحسست بصمت السائق ، رحت أطعنه بكوعى .. وهو أكثر تركيز .. و ربما خوفا .. حتى أدركت أنه يدور فى حلقة مفرغة .. فداخلنى شعور ما بالتورط .. صرخت :" ما بك .. تكلم ".
:" تاه منى المدق .. تاه ".
كان الأفق القريب يتلألأ تحت دوى طلقات كاشفة ، تحيل المنطقة القريبة إلى نهار وامض ، و سرعان ما تتوالى زخات من طلقات .. و خيوط نارية تتصاعد .. وتهبط :" كيف .. من وقت أن عرفت أنك من سيلازمني .. و أنا أتوجس منك .. انزل .. انته ".
كنت أريده أن يحدد المكان جيدا .. العربات تنهش وجوهنا .. فارس من يحاول اعتراض طريقها .. لا وقت .. كل إلى مداه يمضى .. و يجب أن نمضى .. وفورا .. سيارة الإشارة من المؤكد أنها ستدمر لو بقينا هنا .
:" هيه .. ما وجدت ؟!".
:" شلت رأسي .. ما عاد عندي تركيز .. ما عاد ".
لا أدرى وقتها ما شعرت به ، سوى أنني وجدتني ، أطيح به ، و أنطحه بقسوة عجيبة ، و أمسك بتلابيبه : اركب .. اركب .. در بنا .. هيا ".
لا بد أنني كنت في ذلك الوقت لا أطاق أبدا .. أنا أعرف نفسي .. بحجم كارثة كانت تعبيرات وجهي .. المهم .. دار .. و انطلق لمسافة قريبة .. وفجأة هتف :" أهه .. نعم هو .. هو ".
و انعطف بنا فورا .. و هنا.. انفرجت أساريري .. و أحسست براحة ، فملت عليه ، و قبلته ،و أنا أتحسس جبهته ، التي تجلطت بها بعض قطرات دم ، وأخرجت منديلا .. و نظفتها .
و بكل ما كنت أحمل من هم و ضياع ، مازحته ، و أطلقت بعض نكات لا لون لها ، ربما لقتل القلق الذي تولد ، وغنيت و أنا أشد على ساعده :" هيه .. لا نريد توهانا آخر .. هيه ".
حين وصلنا .. كانت العربة فعلا في العراء .. و كان طاقمها حولها ، سرعان ، ما تقدمونا إلى قائد اللواء .. و هناك في ملجأ متسع .. كان وقار وسكون يسيطر على المكان .. أجواء رهيبة .. رحم لأبطال ..كل إلى جوار صاحبه .. لا فرق بين أحد و أحد.. لا رتب .. و لا نياشين .. و حين وقفت أمامه .. أحسست برجفة .. و شعور عارم بتقبيل كل من هنا .. كانت الأجساد كأنها كتل لحم بشرى .. بلا أنفاس .. كأنهم يعبئون أجسادهم لأيام مقبلة .. لن يجدوا فيها لحظة هدوء.. و حين أنهيت مأموريتي ، و برغم عدم تمسكي بالتقاليد العسكرية ، إلا أنني كنت أؤدي التحية العسكرية لكل من بالملجأ ، في اعتزاز و قوة ما عهدتها بنفسي ، و انصرفت و بى إحساس رهيب ، يكاد يعانق بي عنان السماء بالعزة و الكبرياء ، و عدت بعينين دامعتين ،و قلب طائر ، و لا أدرى حجم الحزن الذي كان يتولد داخلي ، و أنا لا أتصور هؤلاء الأبطال ، يذهبون ، و لا يعودون !!
(( قرن غــزال ))
عن دار الإسلام للطباعة و النشر بالمنصورة
وهذا هو محتوى المجموعة
و التى حاولت فيها أن أكون جديدا فى تعاملى مع الكلمة
و القصة ما بين القصة جدا ، و القصيرة
صورة الغلاف اهداء من الفنان (( أحمد الجناينى ))
الكتاب : قرن غزال
الكاتب : ربيع عقب الباب
الناشر :
الطبعة : الأولى في
لوحة الغلاف : أحمد الجناينى
رقم الإيداع
الترقيم الدولي
إليهم
موتوا بين كلاليبِ ،
ما اصطنعت أبالسةُ نجواكم ،
واعرضوا لحمَ صباباتكم ..
للسابلة ،
مدموغةً بخاتم الخسة !!
فهذه هي ،
وما أنا سوى يعسوبٍ ،
أضناه رحيقُ الجلالة ؛
فظل يرشفُهُ حنينا ،
متخففا من أسمال طينتهِ ؛
ليعود عاريا إلا من براءتهْ !!
حتى الموت
خطوات قليلة تفصل الميدان عن قسم الشرطة ،
خطوات قليلة تفصل الميدان عن قسم الشرطة ،
مكنت السيد ضابط المباحث من مراقبة مايتم،
و هو على درج المبنى ، و بيده فنجان قهوته
المسائية ، وبين أصابع اليدالأخرى سيجارته !
كان فى قمة الرضي عن نفسه ، وهو يشهد
الاثنين يتناحران ، وقد تحكم كل منهما فى
سيف غليظ ، بينما صرخات النسوة تملأ أذنيه .
لم يعكرمزاجه سوى أحد مخبريه : سيدي
يجب أن نتدخل ، ونوقف هذا الموت ! ".
قهقه بكياسة قاتل جسور :" لا .. لا يجب أن نتدخل ،
و لن نسمح لأحد بالتدخل ، أريدهماصرعى الآن ..
هيا .. راقب و أنت مستمتع .. لا تكن حمارا ".
دهش المخبر الغشيم، وعاد يهتف :" سيدي ألا تر
جميع من بالمقهى .. انظر سيدي .. كلهم يصور
العراك ، و لابد أن موبايلاتهم سوف تجمع مشهد
الميدان وقسم الشرطة و حضرتكم ".
اهتزت رأسه ، نفضها ، وكأنه بالفعل تلقى ضربة
على صدغه ؛ فوقع فنجان القهوة . تحرك قائلا :"
بسرعة كردون حول كل من بالميدان .. هيا ".
قفز كلاعب متمكن ، فى الوقت الذي كانت رأسا المتعاركين ،
يتحولان إلى قطع متناثرة ،ويختلطان تماما ، فلا تكاد تعرف لمن هذه ،القطعة ، ويرسمان على الوجوه لوحاتحمراء لفنان بارع !
و هو على درج المبنى ، و بيده فنجان قهوته
المسائية ، وبين أصابع اليدالأخرى سيجارته !
كان فى قمة الرضي عن نفسه ، وهو يشهد
الاثنين يتناحران ، وقد تحكم كل منهما فى
سيف غليظ ، بينما صرخات النسوة تملأ أذنيه .
لم يعكرمزاجه سوى أحد مخبريه : سيدي
يجب أن نتدخل ، ونوقف هذا الموت ! ".
قهقه بكياسة قاتل جسور :" لا .. لا يجب أن نتدخل ،
و لن نسمح لأحد بالتدخل ، أريدهماصرعى الآن ..
هيا .. راقب و أنت مستمتع .. لا تكن حمارا ".
دهش المخبر الغشيم، وعاد يهتف :" سيدي ألا تر
جميع من بالمقهى .. انظر سيدي .. كلهم يصور
العراك ، و لابد أن موبايلاتهم سوف تجمع مشهد
الميدان وقسم الشرطة و حضرتكم ".
اهتزت رأسه ، نفضها ، وكأنه بالفعل تلقى ضربة
على صدغه ؛ فوقع فنجان القهوة . تحرك قائلا :"
بسرعة كردون حول كل من بالميدان .. هيا ".
قفز كلاعب متمكن ، فى الوقت الذي كانت رأسا المتعاركين ،
يتحولان إلى قطع متناثرة ،ويختلطان تماما ، فلا تكاد تعرف لمن هذه ،القطعة ، ويرسمان على الوجوه لوحاتحمراء لفنان بارع !
سرو النهار
من بعيدحك المسافر قضبانه ،
صادف هذا عبور "زوبعة الليل "
بص شردة الآهات ،
حين أبصره زوبعة تجمد ،
زلزله الرعب ، وفز واقفا ،
: غير معقول .. أيكون هو .. بعد هذا العمر .
عادت النقرات بإلحاح ..
وغنى !!
وصرخ "
من بعيدحك المسافر قضبانه ،
فتآوهت شررا ، وخيوط نار..
وصرخات وهج و انتشاء ..
فذوبها الحنين ،
وأسرع بمد الجسد بحرارة ..
العناق النارى .
وكان جوال يتدحرج على الجسر ،
ما إن شم رائحة الأنفاس ، تهيج
وانسعر بدنه ،
فصرخ،
و أمعن فى الفرار .. و لكن أين المفر ؟!
وصرخات وهج و انتشاء ..
فذوبها الحنين ،
وأسرع بمد الجسد بحرارة ..
العناق النارى .
وكان جوال يتدحرج على الجسر ،
ما إن شم رائحة الأنفاس ، تهيج
وانسعر بدنه ،
فصرخ،
و أمعن فى الفرار .. و لكن أين المفر ؟!
صادف هذا عبور "زوبعة الليل "
العائد من البوظة ،
برأس يترنح ،
فأستوقفه صراخ يأتي من الجسر،
انشده أول الأمر ،
وحط كقتيل ، ينصت لحديث المعدن ،
فضحك و هلل ،
ثم استسخف ما يفعل بين حد السكر وحد اليقظة !
لكن الصرخات تعاود الظهور،
توقف ،و نظر بعين شاردة ،
و سرعان ما أبصر الجوال ،
فعرج إليه ، يتخبط بقدمين ثقيلتين .
حط فوقه ،
تحسسه ..
كان يتلوى كحيات حبيسة ..
ارتعب زوبعة ،وطار بعيدا ؛
و حين أتاه صوت آدمي ،
تقدمت يداه ،
و فكتا عنق الجوال !
برأس يترنح ،
فأستوقفه صراخ يأتي من الجسر،
انشده أول الأمر ،
وحط كقتيل ، ينصت لحديث المعدن ،
فضحك و هلل ،
ثم استسخف ما يفعل بين حد السكر وحد اليقظة !
لكن الصرخات تعاود الظهور،
توقف ،و نظر بعين شاردة ،
و سرعان ما أبصر الجوال ،
فعرج إليه ، يتخبط بقدمين ثقيلتين .
حط فوقه ،
تحسسه ..
كان يتلوى كحيات حبيسة ..
ارتعب زوبعة ،وطار بعيدا ؛
و حين أتاه صوت آدمي ،
تقدمت يداه ،
و فكتا عنق الجوال !
بص شردة الآهات ،
ثم زحف على كفيه كأفعى ،
و لم يتوقف ، وهو يلتفت يمنة و يسرة كنسناس ،
وعند سور السكة استراح ،
و بكى بهستيرى !!
و لم يتوقف ، وهو يلتفت يمنة و يسرة كنسناس ،
وعند سور السكة استراح ،
و بكى بهستيرى !!
حين أبصره زوبعة تجمد ،
فقد السمع و النطق ، و الفهم أيضا ..
كان مشدوها ، لا من سكر، و لكن ربما هو يدرى ؛
حتى أنه لم يأخذ حذره من هذا المتشظى ،
بوجده عنيف التواقيع ،
الذى التهمه ،
و عبر ناثرا زوبعة على امتداد السكة ..
غبارا ودما و لحما ،
اختلط بهذا الجسد المتكور ،
المذعور لشردة الآهات !
كان مشدوها ، لا من سكر، و لكن ربما هو يدرى ؛
حتى أنه لم يأخذ حذره من هذا المتشظى ،
بوجده عنيف التواقيع ،
الذى التهمه ،
و عبر ناثرا زوبعة على امتداد السكة ..
غبارا ودما و لحما ،
اختلط بهذا الجسد المتكور ،
المذعور لشردة الآهات !
زلزله الرعب ، وفز واقفا ،
وهو يلهث و يصرخ ،
ثم حط ثانية ،
بينما خيوط من نارتنهش حدقتيه ،
و حينما عانق المسافر سكته ،
وولج رحمها ،
لم يعثر لشردةالآهات على أثر !!
ثم حط ثانية ،
بينما خيوط من نارتنهش حدقتيه ،
و حينما عانق المسافر سكته ،
وولج رحمها ،
لم يعثر لشردةالآهات على أثر !!
فى الليل ..
كانت نقرات خفيفة ،
على شيش شباك سروالنهار .
انتبهت ،
انتظرت سماع النقرات مرة أخرى :
هى نفس نقراته ،
حين يتخلف فى الخارج ،
أو حين عودته من عمله الليلي !
كانت نقرات خفيفة ،
على شيش شباك سروالنهار .
انتبهت ،
انتظرت سماع النقرات مرة أخرى :
هى نفس نقراته ،
حين يتخلف فى الخارج ،
أو حين عودته من عمله الليلي !
: غير معقول .. أيكون هو .. بعد هذا العمر .
عشر سنين مرت .. و هى لا تدرى عنه شيئا .
عشر سنين ذاقت فيها ويل الويل ،
و هي تسمع كل يوم حكايات ..
و ألغازا عنه .
عشر سنين .. و كم كان الأولاد فى حاجة إليه !!
أنكرت ما وصلها ،
التفت بلحافها ،
ودموع حارةتنحت قلبها !
عشر سنين ذاقت فيها ويل الويل ،
و هي تسمع كل يوم حكايات ..
و ألغازا عنه .
عشر سنين .. و كم كان الأولاد فى حاجة إليه !!
أنكرت ما وصلها ،
التفت بلحافها ،
ودموع حارةتنحت قلبها !
عادت النقرات بإلحاح ..
ورجاء .
فهتفت : إن كنت شيطانا فارحل بأمر الله ،
و إن كنت آبقا فاستحِ من ربك ،
وإن كنت هو فواصل الغناء ".
فهتفت : إن كنت شيطانا فارحل بأمر الله ،
و إن كنت آبقا فاستحِ من ربك ،
وإن كنت هو فواصل الغناء ".
وغنى !!
سرو النهار لا تنحني لريح ..
و هاهي تنحني ،
وتلمه بين ضلوعها ،
وتهلكه عشقا !
لم ينطق سوى اسمها ،
لم يقتل هذا الموت ..
السابح في دمها ..
منذ قالوا :" رأيناه فى بلد الرجوات ،
ورأينا زوجه أميرة مسحورة " .
كان يبكى .. و يغور فيها .
و كانت تبكى ، تشحنه بها .
فك صمته ، فتأتأ .. ما استقام عوج .
جاءت صرخة من الخارج
: أمي .. أخي زوبعة الليل .. لم يأت !
لسعها ذعر : ليست عادته ،
ربما طالته يد الشرطي .. يا ويل ويلي !
حدق فى بكائها ،
فبكى .
قالت : لم أقدر عليهم .. صفاء العمر -
بكريك - وجدناه قتيلا أمام الدار ،
وزوبعة الصغير قتله طلب الثأر ،
ومات حيا فى البوظ و الغرز !
وهذه سوسنة الربيع أنهكها السفر ،
وطول الرحيل ، وانتظار مالا يأتي !
همهم ، تمتم .. ضج به الصمت .
فناطح الجدران ،
و هاهي تنحني ،
وتلمه بين ضلوعها ،
وتهلكه عشقا !
لم ينطق سوى اسمها ،
لم يقتل هذا الموت ..
السابح في دمها ..
منذ قالوا :" رأيناه فى بلد الرجوات ،
ورأينا زوجه أميرة مسحورة " .
كان يبكى .. و يغور فيها .
و كانت تبكى ، تشحنه بها .
فك صمته ، فتأتأ .. ما استقام عوج .
جاءت صرخة من الخارج
: أمي .. أخي زوبعة الليل .. لم يأت !
لسعها ذعر : ليست عادته ،
ربما طالته يد الشرطي .. يا ويل ويلي !
حدق فى بكائها ،
فبكى .
قالت : لم أقدر عليهم .. صفاء العمر -
بكريك - وجدناه قتيلا أمام الدار ،
وزوبعة الصغير قتله طلب الثأر ،
ومات حيا فى البوظ و الغرز !
وهذه سوسنة الربيع أنهكها السفر ،
وطول الرحيل ، وانتظار مالا يأتي !
همهم ، تمتم .. ضج به الصمت .
فناطح الجدران ،
وصرخ "
دع البئر راكدة !
لم تجرني صوب هذا الجرف .. ؟! لا .. لا أريد الخوض في محنة كهذه ، أما قلت لك سابقا ، ودائما .. مازلت تلح ، تتحرك ، و تكاد تقصم ظهري ، كلما شاهدت ما تشابه .. أرجوك ، دعنا بعيدا ؛ فالبئر ملئي بالكثير .. آه .. لا تريد التراجع ، لم صاحبي .. لم ؟!
لا سيدي و صديقي ، ما كنت يوسف ، ما كنت ، كنت أحمل عمرا فوق عمر .. أما يوسف ( عليه السلام ) فكان صبيا حدثا ، لم يقدم إساءة أو مكرمة .. آه .. و قدمت أنا ، قدمت على قدر ما تعبث بي عاطفتي المجنحة .. غريب أمري .. نعم .. و لكن ليس ذنبي ، ليس أنا ، و ربما أنا بكل خلجاتي المتعسرة أو ...!
نعم أتوا أباهم عشاء يبكون ، و لكن قبل .. قبل سيدي و صديقي ، فهاله أمرهم ، كانوا رجالا و نساء ، على نفس رجل واحد :" لا يا أبى .. سوف يستولى علينا ، لا توافق ".
رفع شاله ، و مسح وجهه ، وهو في عجب من أمرهم ، خاض في بحره : هذا أخوكم ، كبيركم ، ما أباح من سيركم إلا خيرا ، و رفقا ، ومجابهة لي .. فكيف الآن تخشون شوكته ، هو الطيب ، لا يمتلك سوى راتبه . كبر أولاده ، و سعوا هنا وهناك ، لكن حظهم ما كان أفضل من حظه . لم تخشونه ، وأنتم عيناه .. لم ؟!
يستدرك ، وهو يفتش دواخلهم : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ؛ فصبر جميل ....!".
فاضت عينه ، و تكتم شهقته ، ترك لهم المكان شاغرا دون رد ، كيف له صمود أمام فلذته ، أول من رأت العين ، و قبلت الشفاه ، وبه نودى وعرف بين الناس ، من شاركه مشوارا رهيبا ، وعافر معه موج فقره و بؤسه :" متى كان بخلي عليه ، بل كيف أمنع عنه ما هو بعض حق .. ؟!".
هتف الكبير مناديا جدته الأثيرة :" أين أنت ، أنا في حاجتك ، دبرينى .. هل هؤلاء أولادي ، نبتوا من بذرتي ، و في طينتى شبوا.. ردى على ؟!".
هرع صوب الزوج ، جذبها بقوة ، و هى تتهالك تحت وطأة المرض ، تكاد تسقط :" كيف دفعتهم إلى هذا .. قولي .. ما أمرهم اليوم ، لم يصرون على ذبح الولد ، من وسوس لهم بهذا .. من ؟!".
تعثر لسان الزوج ، عام في وحل الأصوات :" هم على حق ؛ ليبتعد ، كلهم له الولد ، و ليس لأحد فضل على أخيه ، كلهم واحد .. واحد ".
صرخ غيظا ، كاد يفتك بها :" إذن أنت من فعل .. أنت .. كيف أصدق ، أولادهم مازالوا صغارا .. صغارا ، و لا ندرى ما تأتى به الأيام !! ".
عاد صوتها شبه باك :" ما قلت شيئا ، كانوا يجمعون أمرهم ، و كنت شاهدة فقط ".
هتف بقسوة :" و لم سمحت لهم ..لم .. كان الأولى بسمعك ذهابا إلى غير رجعة ؟".
برهبة و قلة حيلة :" هم أولادك ، و المال مالك ، و أنت حر .. أبعدني عن هذا ".
ابتعدت زحفا ، و هو يتهالك جالسا ، لا سبيل له أمام ريحهم ، أحس بالعجز ، كانوا يلوحون بالغريب الذى سوف يكون ، أما ولده ، كبيرهم ، فربما أخل بما قاله ، أثقل عليه ، وبالتالي ضيق علي أبيه !
التفوا حول القادم ، ومكنوه من البيت ، على عيني ، و أنا بأنبوبة الغاز أقف أعلى السلم ، و بالكف الأخرى شرارة نار ، و قد قررت ألا يدخله حتى الكبير لو أراد ، و ليس الغريب ، لكنني بمجرد رؤية ولدى الأكبر أمامي ، انهار تماسكي ، و ذهبت قوتي أدراج الريح !
كان الغضب في عيني ولدى شلالا من نقمة حبيسة ، لن أسمح لها بالعبور ، سوف أدمر كل شيء ، لأجل ماذا .. لا لشيء ، لمكان قد أجده عند غريب أنا الآخر ، و لكن من أين ، و قوانين السادة زلزلت الدنيا تحت الأقدام ، ووجب أن يلم الولد ، يكون له البيت و الأسرة الخاصة ، و إلا أفلت زمامه ، و ضاع منى .
جرعت بحر ماء ، لتثقل حركتي ، تهبط أوردتي من التخمة ، و أضيق شرايين الغضب ، و بالفعل كنت أفترش الأرض ، بينما الكبير يقبل ، يصعد بأنفاس واهنة ، ثم يهجم على ، و يلفني بذراعيه باكيا :" حقك عندي .. حقك عندي .. دعها تمر .. دعها ، وأعدك ببناء شقة له .. أعدك ".
:" لو أملك ما مددت لك يدا .. أنت تعرف ، وهم يعرفون .. قل لى ، أنر طريقي ، الأولاد يضيعون منى ، من أولى بى .. تكلم يا أبى .. تكلم .. كنا معا لا نملك ثمنا لبلاطة أو قالب طوب ، و ما رأوا ، ما أحسوا بنا ، أتوا فى اليسر ، أتوا مرفهين ، لا يحسون بأحد ، ينتظرون إرثا وعفنا.. إرثا وعفنا ".
ما تمالكت نفسي ، بكيت ، ليس على المكان ، ولكن على أخوة يوسف، إخوتي وجعي ، بنين و بنات ، افتئاتهم ، اجتماع كلمتهم .. أمامي أنا ،أنا ..يالضيعتى ، يالضعيتى ،لا أصدق ، هل أنا أنا فعلا أخو هؤلاء ؟!
أرأيت إليما وصلنا صديقي و صاحبي ، أما قلت لك لا ، إلا هنا ، نعم جاءوا بوجوه صفراء يعتليها المكر ، وكل يزيح الأمر على الآخر ، كل يتهم الغائب ، دون محاسبة ، أو طلب تبرئة ، و أنا غير مصدق ، أحس أنى غير ، غريب ، كم كنت صديقا لهم ، أحبهم كما لم أحب نفسي وولدي ، أسبغ عليهم حبا و حنانا و سعة .. !
كانت السبع العجاف ، و كنت هنا مازلت أمد يدا ، و نهرا للجميع ، و أقيم بعض ما انكسر منها ليسمن و يقوى !
الكبير ينهار ، وأنا أرفعه ، أقبل يده ، بل قدمه :" لا أبى .. لا .. أرجوك ، أنت أعز و أكرم ".
وظللت بعيدا ، غريبا ، تأكل حسرة ما جنبي ، تبلغ بي حدود أسئلة ، لا تجد منطقا ليجيب إلحاحها ، لكنني أغالبها دوما ، وألقى بها بئري ، الذي دائما أبدا ما أطهره ، لكنهم أبدا ، كانوا بعيدين ، و إن درت رحاهم ، و نمت على البكاء عليهم ولهم ، كان دمى يهرب منى ، و يخذلني لتمزق كنت أسمع له صوتا في شراييني !
رخاء .. رخاء ..!
دارت شائعات : " رخاء في بيادر الحكومة ".
راحت كل حارة توقظ جارتها ، كل عطفة تومىء لصاحبتها ، كل حي يهز بدن الحي الراقد : الرخاء أتى ، هيا نأتي بنصيبنا منه ".
تراكض الجميع زاحفين صوب المطحن الكبير ، أفواجا وأمما ، حتى ضاق بهم المبنى الضخم ، بل ضاقت بهم الشوارع القريبة منه !
كل الحارات و العطف و الأحياء عادت فرحة ، تطير في بهجة ، ما تذوقت منذ عهد بعيد طعمة لها ، و لامست مذاقها !
زاد الأمر إلى حد رفع تسعيرة جوال الدقيق ؛ للحد من تكاثر الأحياء وسعيها !
الذي لم يبتلعه أي حي أو عطفة أو حارة ، أنه مع أول ظهور شرارة نار لفرن خبيز ، كانت الصرخات تتعالى ، تتجاوز كل الأحياء ، بل أنها امتدت فعمت المدينة كلها ، مما حدا بالشيخ عبودة مؤذن المسجد الكبير إلى عصيان غريب ، و راح يدور هنا وهناك ، متناسيا واجبه ، وهو يطوح رأسه ، بين رقص وإشارات فاحشة ، بينما عيناه تذرفان دموعا عجيبة :" حتى الحكومة مايلة .. حتى الحكومة مايلة .. واحنا جتتنا نايمة .. لأ و الدقيق بالقيمة .. عجنوه و ضحكوا علينا .. وادونا نخالة عايمة .. باين عليها صيني .. مش مكتوبة في القايمة !!".
وظل لأيام يدور ، ثم تخلص من قفطانه ، واختفى ، و لا أحد يعرف سر اختفائه ، وإن قال أحدهم ، أنه شاهده على بحر الملاح ، يشكل من الطين أشياء عجيبة .بينما قال ثان : أنه أبصره في أضخم شوارع القاهرة ،و أكثرها ازدحاما ، و قد تعرى جسده تماما. بينما قالت " نجية " جارته ، أنها أبصرت سيارة تحمله ليلا و تختفي به .. فجأة ..مجموعات من الأطفال كانت تتشكل بين الحارات ، و تقلده في غنائه و حركاته الفاحشة ، بل و تقوم بلطم أبواب الدور بالحجارة !
وضيع ابن خائن
سوف أحكى لكم ، عنه سأحكى .. اسمه ؟! و هل يهم أن يكون له اسم من عدمه ؟!.. بسيطة .. اسمه على ما أتذكر ..علىما أتذكر ! يالى من مخرف ، وهل ينسى مثله ؟! لكنه اسم عجيب ، له وقع سيء ، على كل حال ، لا تبعدوا أي وازع ، أي ظن ، ينتابكم بخصوص ذكرى لاسمه .. هو وضيع ابن خائن ، وليس هذا من تأليفي ، بغرض الحط من شأنه ، بل هو واضعه ، على عينه كان ؛ لإعطاء صبغة مغايرة لذاته القرمزية ، فهو صاحب مواهب عديدة ، وهى في مجملها لا تعنيه ، إلا في حال قنصه لسوسنة .. أو فراشة هائمة ، لا يهم إن كان لها رفيق أم لا ، وهو من مرتادي مقهى الحول ، الذين يتسمون بطول النظر ، و التأمل الدقيق ؛ فهو يجيد الـتأمل بكافة أشكاله ، وفى وقت واحد ، يستطيع أن يبهرك بتأملاته الميتاحلزونية ، و السايكومسكوفية رهيبة الوقع ، وهو على ما أعرف صاحب نظرية عن النحلة والعسل ، و الفراشات و الضوء ، و الفأر وقطعة الجبن ، والحية وإبليس ، وإذا قدر لكم الإطلاع عليها سوف تحفظون لي هذه .. أي و الله !
دعوني أحكى لكم ، كيف تم اللقاء بيننا ، و علام أسفر ، و لكن قبل كل شيء ، عليكم أن تعلموا عنى طيبة القلب ، و إن كنت هنا لست طيبا بالمرة ، وهذا ليس جديدا على كل حال ؛ وهكذا الكتاب أو المدعون من أمثالي !
كان ذلك ، حين مررت على المقهى ، و زوجتي الصغيرة تتأبط ذراعي ، فإذا به يخرج عن تأمله و تحنطه ، و يقف مرتاعا ، بصدر يلهث ، كثور شم رائحة أنثاه ، ثم أطلق للهواء صرخة ، دوت في أنحاء الحي .. زوجتي الحسناء توقفت مندهشة ، هزها الموقف العجيب .. نسيت أن أقول لكم إنها تصغرني بعشرين أو ثلاثين سنة ، لا .. قولوا خمسين عقدا ، ربما أكثر، بل أنا أنا من يصغرها بهذه العقود ، وبرغم أن الأمر يبدو عجيبا ، إلا أن في بلد مثل بلدتنا لم يعد شيء عجيب بالمرة ؛ فعبده الزبال تزوج من عجوز أمريكية ، و محسن العجلاتى أتى من ايطاليا بزوجة كانت أستاذة في جامعة ، وعنتر الفلاتى خطفته صينية شابة ، وعم مسعد حارس المقابر تزوج من بكر بعد السبعين ، وأنجب قمرا ، و هناك الكثير من النماذج لو أردتم ، و لا أدرى سببا لهذا إلا أن مدينتي تنجب قلوبا قادرة على العطاء أينا كانت .. آه ، لا تتعجبوا أرجوكم ، و لا تسألوني كيف تم زواجي بها - أنا الغلبان - صاحب القلم الرزيل ، الذي يخوض في كل شيء ، حتى لو كان أنا ، لا تهمه مسألة الوجاهة و الأناقة ، بقدر ما تهمه التعرية ، وكشف حجم الزيف في حياتنا ، و لم أسلم أنا شخصيا من هذا القلم المتشرد !
تمتم المدعو وضيع بن خائن ببضع كلمات ، ثم سكت تماما ، وظل واقفا يلهث ؛ فملصت زوجتي ذراعي ، تحركت مشدوهة ، و سعت تدنو منه . أوقفتها ، وقد أطبق أعلى جبهتي على أسفلها راسما غضبا جامحا :" مالنا به ؟! ".
:" انتظر .. يبدو جميلا .. ألم تسمع ما قاله ؟!
:" سيدتي .. سمعت ، و رأيت ريالته على وجه وسرواله .. هيا ".
:" لا .. لا تظلمه .. هو .. انتظر .. ما يفعل هو ؟! ".
كان يلف جسمه كأن مسا كهربيا أصابه ، ثم يحط على ركبتيه ، و يقهقه ، فجأة يبكى ، وصدره كبالون ضخم ، يرفعه عاليا ، و يعود يسلمه للأرض .. يا ربى .. دموعه لا لون لها ، وإذا بحر يحيط به تعوم فيه أسماك ملونة !
و أنا أجذب سيدتي ، وهي مصرة متشبثة بالأرض ، بل وملاحقة حركاته وسكناته .. كان شيء ما يدفعها دفعا ، ربما استلطاف ، ربما تنطع أو فضول ، فها هي تبادله الحديث .
:" لكنه زوجي !".
:" هو حمار لا يعرف ، مدعِ ، و من لا يعرف أمور نفسه، لن يفهم أحدا ، فضك منه ، أنا هنا ياجميلة ، خير من يقدر و يثمن الجمال !!".
ابتسمت زوجتي بخبث ، و تكتمت ضحكة ، ثم أسرعت بالابتعاد ، بلها جرتني ، و هي مفعمة ، أنا في حيرة ، نعم في حيرة . تصوروا ، أنا حمار ؟! و أكيد كانت تتفهم ما يدور داخلي ؛ فهي ذكية جدا .. أعلم هذا ، و إلا ما أحببتها ، مذ كانت طبيبتي المتابعة لي في القصر العيني ، الوحيدة التي استطاعت سيطرة على ، وأنا أرى العالم محض أصوات ، و أنياب ، و خنافس ، من صناعة أمريكية !
حين وصلنا مسكننا أطلقت ضحكة ، ضحكة ملئي بسعادة ما تصورتها ، و أنا أتميز غيظا !!
الشيء الذي أثار جنوني ، أنى بمحض الصدفة .أبصرته يقف أسفل بلكون مسكني ، وهو يئن بشكل مقزز ، يخمش في بلاط الأرض ، فوقر في صدري حزن عجيب ، نال منى ، وعلت توجسات رهيبة ، كان أهمها ، أنه آخر صيحة في جهاز السى - أي - إيه .. فحملت عصا ، كنت أحتفظ بها ، و أسرعت مستطيرا ، بينما زوجتي في حجرتها . كان غل يتحرك في أحشائي ، حتى وقفت أمامه .. حدق في وجهي ببلادة ، ثم وقف كلوح من ثلح ، و بإصبع طبشور ، و على الحائط ، كان يفكر : واحد زائد خمسة .. الله في كل وجود .. خربش القطة تعضك .. الكتكوت أم الدجاجة .. موسولينى أم ستالونى !!
لا أخفيكم أمرا ، إذا قلت تبالهت أمامه ، لا بد أنه مفكر ، ومن طراز فريد . فجأة دندن بلسانه ، حزم وسطه ، رقص ، وتغنى بأغنية فاجرة ، كنت بمحض الصدفة سمعتها ، في فيلم ( بورنو ) أيام المعيلة ، علا صدره ، تمددت مؤخرته بشكل رهيب ، و التم الخلق من هنا وهناك ، نال تشجيعا لم يره عبد الحليم حافظ في حياته ، و لا فوزي الحاوي في مدينتي.أصابتني فجاجته ، فانصرفت عنه ، الغريب ، أنى اصطدمت بزوجتي على باب المسكن ، وهى تكاد تقضى ضحكا ، فحملتها ، وطرت عاليا داخل مسكني ، و تهت في حنانها !
ما العمل ، وقد ضيق على ، و كاد يهاجمني ، وفى مسكني ، ما الذي يدور في رأسه ، و لم أنا ، لم أنا ؟ بالطبع ليس أنا ، إنما زوجتي . نسيت أن أقول أيضا أنها كانت رقيقة للغاية ، تكاد رقتها تسيل ، لكن الجانب الخفي ، أنا أدركه ، أعيه تماما ، و لا أقربه مخافة منها .. أي و الله ؛ فحين يظهر جليا ، أكاد أبصم أنا لن نستمر أبدا ، و أننا راحلون ، أنا إلى جهنم ، و هي إلى دنيا ربما تكون أكثر سعادة ، لكنها والحق لساني ، تحبني أكثر مما أحبها، و تحب هواجسي ؛ و لو تمكنت منى ، نعم تحبني ، أليس دليلا على حبها اختيارها لي ، نسيانها لعقدين أو مائة بيننا ، مجيئها إلى ، مخلِّفة أهلها ، هي الغالية ، وهى ربما تعلم أن المرض قد يعاودني ، في أى وقت شاء !
كانت ليلة ليلاء ، ملونة بكل ألوان الفصول السبعة ، و ليس الأربعة ، وكانت ربتي في أوج متعتها ، حين علا صوته الذى لا أتوه عن نبراته ، كان ينادى ، يصرخ ، و يتغنى بنفس الأغنية ، فأفزع نومي الذى فر هاربا أمام جبروته . تربعت على السرير ، وهى تميل على قلبي . ما أطعم ثغرها ، و نعاسها ، ما أجملها !!
:" مالك حبيبي .. هيا .. نم !".
:" ألا تسمعي ؟ ".
:" لا تشغل بالك .. دعه .. مالنا وهذا المخبول ".
:" زاد عن حده ، ولا بد من ردعه ".
أصررت على إزاحته ، مطاردته ، وكل ما فعلت ، تعمدت أن يعلو صوتي ، وهي بين ضلوعي ، حين مررنا به في نفس الموضع :" ما يريد الكلب منا،هل ممكن ،قولي لي ،هل ممكن ؟!".
: " و الله و لا كل تعساء العالم .. أنسيت .. أنت أنا ! ".
اختفى وضيع ، و لشهور لم أعد أراه ، لكن هاجسه ظل ملازمي ، بينما حلمنا الرائع يكبر بين أحشائها ، يتلاعب بسكون دواخلها ، و يدبدب ، و هى مفعمة ، تسوخ روحها ، فتزداد جمالا ، وتزداد رقة وحنانا ، بالروعتها ، وجمالها .. أين كنتَ ، لم لم نبدأ الطريق معا ..؟!!
لم تأخرتُ عنك ، كان يجب أن ..... !
: من قال أنى تأخرتُ ، أنت معي من ألف عام ، منذ النشأة الأولى ، حلمي و موطني ، دارى و غيطي ومحرابي !! ".
و في غمرة هذه المشاعر نسيت أمر وضيع ، بل تناسيت العالم ، حتى عدنا ذات ليلة ، مررنا بذات المقهى ، يا ويلي منه هذا المقهى التعس ، سبب تعاستى و نقمتي ، جهنم التي أعيشها الآن ، ماتت كل النساء ، اختفين تماما ، وما كان في الكون سواها - حبيبتي - توقفت المقهى على قدم ، و بدل وضيع واحد أصبح ثلة كاملة ، كانت ليلة غير ممكنة، فقد بدأت شقاوتي ، و نقاري معها ، و هي في أشهر دقيقة ، لابد من راحة بال ، حتى لا يأتي مولودنا شائها ، أو مزاجي النزعة ، الحلم الذي نشتهى ، من سوف أذهب به معها إلى هناك ، إلى أهلها ؛ لتعود المياه لمجاريها بعد انقطاع .
كانت بلكون مسكني شاهدا على مأساتي ، هذا وضيع يترأس لمة الهوس ، يالهوسى ، وجنوني يا محلة المصائب ، أصبحت حياتنا جحيما لا يطاق ، كلمات وضيع تطن ، وتعلو ، تصنع شقوقا ونتوءات ، حتى لم تعد ترى فيّ شيئا جميلا .ماذا أفعل بنفسي ، بيدي أفعل و بمساعدة أولاد الكلب ، أوهامي و هواجسي أسقطت مسمى النوم من قاموس ليلى ، أسقطت اللفظة تماما ، غدوت شبحا ، يتحرك في فضاء السديم ، و هي من مناهدة ، إلى بكاء .
ساد صمت رهيب بيننا ، صمت مميت للغاية ، و في ذات مساء ، عدت من عملي ، لأجدها تصرخ ، وبشكل مرعب ، هزمني بكاؤها ، فأسرعت باستدعاء سيارة إسعاف ، نقلتها إلى المشفى ، و هناك ، أجهض الحلم الجميل ، طارت كل أبراج المنى ، انهار كل شيء . جن جنوني ، لم أعد أرى أمامي ، اندفعت إلى هناك ، مقهى الحول . كان هناك ، حوله شرذمة الوهم المميت ، هاجمته ، شتمته ، سببته . ما تحرك ؛ لكنه بعد وقت من اعتصاري ، كان يترقص ، يعيد رسم حساباته البلهاء على حائط ، بله سبني أيضا ، ببعض الإشارات الفاضحة ، التي لا يفهمها سوى رواد المقهى !
حين كنت أعد نفسي ، لرحيلها عن المشفى ، أنهى حالة شتاتي ، و رأسي تدور في كيفية صياغة جديد ة لقصتنا ، لم أجدها ، لم أعثر لها على أثر . همت في كل طريق ، صرخت في الوجوه الرخامية ، في العيون التي لا ترى ، في تل الغوايات : أين أنت ، يا من كنت أنا .. أين ؟!
مازلت إلى اليوم أبحث ، أغرقت كل مسافات المدينة دموعي ، طاردت هواجسي ، رجمتها بحجارة وجعي ، و أثلام شقوتي ، غاضبت العالم ، الدنيا ، و ظلت صورة وضيع قائمة ، بكل فسادها ، و بهلوانيتها ، الآن أفكر جادا في تصفيته .. نعم .. رصاصة تنهى الأمر ، ولكن ما بال كل الفريق ، و لم ؟!
امرأتان
تنبش الأثر خلف قدميه ، تحوطه بكفها ، ثم تودعه صدرها ، بعد تمتمة ، وبعض هلوسة ندية . عيناها تبحران فى بسمة نحو القمر !!
بينما كانت الأخرى ، تدهس الأثر ، ثم تلقطه بأنفة ، تمشط ما يحمل بإصبع ملون ، ثم تصرع ورقة بطاولة ، تنشط هواجسها ، فيتلاشى الأثر، على إثر حمى تفتك ببياض الورقة ، تدميها حرقا !
حين يعود متآكلا بحنينه ، مفعما بلذة القرب بعد غياب ، يهرع صوب الطاولة ، يهز شوق ورقتها ، فتتهالك ، تطير صارخة ، بوجه كريه ؛ فيحط باكيا .. باكيا منسحقا ؛ بينما كانت هناك ما تزال تحتضن صدرها على ما خلف ،وعيناها تبسمان للقمر، ترجوه وصالا بالغائب الشريد !
اعتذار
لم يكن استبدادا منى ،حين قلت لها :" لن تذهبي إلى عملك اليوم ".
فقد أدهشني أنها غدت أكثر ارتباطا بعملها هذه الأيام ، و بشكل لم يسبق له مثيل ، حتى و أنا طريح الفراش ، رهين المرض !
ربما حامت برأسي هواجس و شكوك ما . اتهمت نفسي بالغفلة ، البعد عن أرضى وموطني ، لكنني حين أومأت برأسها موافقة ، و هى تردد بفرح عجيب ، وتدخل في لحمى :" لن أذهب اليوم .. و لا غدا .. و لا بعد غد .. أنت عندي أهم من العالم ".
تأكدت أنى غاليت ، و على أن أقدم لها اعتذارا يليق بها !!
عبقرية
حين كشف الستار عن عمله العبقري ،
هللت الجموع المتراصة للحظة ،
ثم انهالت عليه بحبات الطماطم الفاسدة .. و البيض ..والحجارة ،
تصاحبها صرخات همجية ،
ونداءات موت !!
فما كان منه ، ألا أن راح بفأسه يحطمه ،
وعيناه تنزفان ..
ثم ينسحب - فى كبرياء - صوب البحر !!
امرأة مجنونة
حين كنا نتخذ طريقنا صوب المزارع ، علا صوت صراخ لامرأة فوق رؤوسنا ، فتمهلنا قليلا ، و توجهت أنظارنا تلقائيا ، صوب مصدر الصوت ، فإذا بشيء طائر يحلق من الشباك ، و بنفس التلقائية ، كانت راحتا سعيد تستقبله .
كان طفلا في لفافة ، علا بكاؤه ، فاندفع سعيد به ، مقتحما البيت ، و الغل يملأ صدره ، و نحن مشدوهون ، بعد قليل كان صوت ضربات ، و صراخ امرأة مرة أخرى : دا جوزي يا خويا .. جوزي وربى .. أبوه .. اوعى تقرب منه ".
لم ننتظر كثيرا ، أطل سعيد من باب البيت ، لاعنا ، باصقا !!
حين عدنا من تريضنا لذات البقعة ، فوجئنا بلمة ، و صراخ متواصل، و حديث طويل ، عن امرأة مجنونة ، ذبحت رجلها ..!!
اغتيال
دقت الساعة السادسة ؛
فأظلم المكان و الزمان ،
في قلبه المحطوم !
بيديها و عشيقها ..
ترطب الحبل حول عنقه ..
ببسمة وغنجة فحت :
لم تشعلني بما يكفى لأكون لك دهرا !
بينما بقدمه يطيح بالكرسي :
عشت قذرا برومانسيتي ، وضللني عطرك !!
يرفرف جناحاه قليلا ،
تتصلب أصابعه بالشهادة ،
يتمدد طويلا ؛ لأول مرة في عمره المأفون !
يرفع عنها إزارها ، ترفع عنه سرواله ،
في ضحكة وبحة مخملية يتشابكان ..
جسدان يغطيهما "سيرماسيتى " وردى الرائحة ،
بينما دمعتان مشنوقتان كبلورتين تضيئان ..
عتمة المشهد !!
( سيرماسيتى : زيت الحيتان الضخمة يستخرج من رؤوسها )
آخر بابات ابن دانيال
كان يمزق فلذاته ، بعنف يجهز عليها ، المطواة تتسلل ،تطعنه هو ، اختلط ريشها ، قطنها ، حشوها بدمه ، دموعه لا تتوقف ، بينما صوته يعلو وينكسر :" لا .. لا أريدك .. لا أريدك .. اذهبى أيتها الدمى الملعونة .. يا من صورتلي الأشياء كقوس قزح .. علمتني أسماءها .. من أول الأبجدية حتى حروف السحاب .. كنتالطفل و كنت الآية السرمدية .. صفحة بيضاء تلونت بأصابعك ، فكانت قمرا و شمسا ، وليال لا يفتنها ظلام ..لا .. لا .. موتى ".
المطواة تنحرف ، تجرح ذراعه . لايتوقف ، كان مبدعا ، وحيد عصره في تحريك ، و إدارة عرائس الماريونيت ، خلف هذهالحجرة كان ظهره ينقصم انحناء ، لهتافات و تصافير الجماهير ، للكبار لعب ، للصغارتغنى ، للمدينة قدم لها عمره !
أنفاس تتردد ، تتحشرج باختناق ، دموعه تتهاطل ،أخيرا تهالك ، ترنح فى فراغ الحجرة ، يتأمل عمرا ، حوله لنتف و قصاصات. ترنح ، فقدالسيطرة على توازنه ، انهار على الأرض .. الدماء تنزف ، الدموع تجرى ، الأرض تدور ،الرؤية تبهت .. تبهت ، أغمى عليه .. ليس غير أنفاس تتردد بقسوة ، وصدر مجهد ، وكوابيس تفزع .. وتسرق منه صرخة أو بعض أنين ، يتكور كجنين .. بهياج يقاتل : نعم أنت .. ألم تزرعى وهمك ياسمينا وجوريا و حنطة ، بينما أنا لا شىء عندك .. محض رقم .. محض رقم ".
عاد المكان لصمته ، إلا من أنفاس واهنة . خبط على الباب :" معلم .. معلم .. إن كنت بالداخل رد على .. أستاذ ".
فزع قاعدا ، تجلطت الدماء ، بعد أننقشت ملابسه :" لا .. لا .. أنت من فعل .. حتى لو كنت بريئة ، لست بريئة ، أنت منأطلق جرذان الوهم ، و سمنها .. نعم .. أنت .. أنت ".
عاد الخبط و الطرق ثانية :" يا أستاذ .. يا أستاذ .. هل أنت هنا ؟!".
قرر أن تكون بابته الأخيرة ، انتفض واقفا ، تحرك مترنحا كقتيل ، جذب الباب المغلق ، خطا كسكير آبق ، على خشبة المسرح كان يجهز دميته ، بسرعة يشكل من نفسه عروسة ماريونيت ، يضع الخيوط بترتيبها الذى تعوده ، يصله هرج و مرج الصالة ، كانت عيناه فقدتا القدرة ، على رؤية أي شيء ، إلا ما يفعل الآن ، سوف يقدم لهم الليلة ، سندريللا كما أذاع ، ومن خلال رؤيته هو ، وبعروسة وحيدة ، عروسة لأمير مطعون ، خلفته لشكوكه تضنيه ، تقتله كل لحظة من لحظات غيابها ، لم ترهق نفسها بدرئها ، بل أمعنت فى عنادها ، حتى أصابه الجنون ، و قتلهالحنين إليها ، فباغتها ذات ليلة كدمية ماريونيت ، غزا قلعتها ، تدحرج عبر دهاليز وسراديب ، أصبح أمامهما ، سندريللا و عفريت الشقوق !
الآن تتحرك الدمية . تصفيقحاد يخرق أذنيه ، يفتته . يؤدى بعبقرية ، أتى على مشهد القتل ، يحتضن سندريللا ،يأخذها بين ذراعيه قتيلة ، يدفن وجهه فى صدرها ، يجهش ، يهتز ، يمزق خيوط اللعبة .. بينما كانت الأضواء تملأ الصالة و الخشبة ، و بسرعة يلتف حوله رجال البوليس شاهرين أسلحتهم !!
مجنون
كان مايزال يقرأ حين صرخ :" عينى .. إنى لا أرى شيئا ".
ستون عاما وهو يقرأ ، لم يشبع بعد ، لم يكتف ، ماامتلأت كل خزائن روحه ، بها تطالبه بالمزيد و المزيد ، حاولوا أكثر من مرة حرق كتبه، ومنعه من هذا الجنون ، لكنه حطم كل متاريسهم ، كل موانعهم !!
ضاع البصر ،وأصابه العمى ، و لأيام ظل يصرخ :" جائع .. ارحمونى .. جائع .. فلتجلبوا قارئا ".
وأتوا بقارىء ، لكنه لم يسعفه ، بعد أيام فوجئوا به يطارده بعصاه ، و أتوابآخر ، وآخر ، و ما أفلح معه أحد !!
فى رأسه الكثير الكثير من معارك ، وقصص لاأول لها و لا آخر ، ملوك يتطاحنون ، أقزام يعتلون الجبال ، أنهار تتكلم ، جبالتتحرك من أماكنها ، مطر يضحك ، شمس تمشط شعرها .. أشياء و أشياء ، وهو يصرخ .. ويصرخ دون توقف ، بينما كان رجال المشفى يلبسونه قميصا أبيض ، ويعبئونه في السيارة !
حين طلب ورقة و قلما ، هلل المجانين ، ورقصوا حتى ترنحوا ، و حين بدأ يكتب كانبصره يعود إليه ، و سود الكثير الكثير من الأوراق ، وظل لأيام على هذه الحال ، مماأدى إلى إحداث هرج و قلق ، فما كان من الممرضين ، إلا مباغتته ليلا ، و فقء عينيه !!
أنا
ضجت " نحن " بما يثقلها ،
من عادات و تقاليد ، وأحكام جائرة ،
وتشتت وتمزق !
خرجت من بينها " أنا "
متمردة ، صاخبة ،
وأعلنت عصيانا !
رنت " أنا " إلى " نحن " أخرى
أكثر عدلا و شموخا .. ونبلا !
أحاطت بـ " نحن " أخرى
ذابت فيها ..
لكن " أنا " ظلت غير مقنعة ،
غير راضية .. عن شىء مفقود تبحث !
وعلى غفلة من " نحن " أشعلت نارا
ورقصت بعنف وبسالة رقصة لم تنته بعد !!
فردوس مفقود
كان دائم الحديث عن الماضي ..
عن بطولات .. أمجاد .. أسلاف ..
تاريخ .. كل شىء فى الماضى كان شهيا
وإلى أبعد حد .. حتى أحس بالملل !
بنظرة متأنية ، اكتشف أنه لم يكن أبدا على وجه الأرض
فردوس مفقود ، وأنه كان يستدعى ما فى طفولته من براءة و عدم معرفة بالعالم ،
وفردوس آدم المفقود !!
طفل
المارد الذي احتل المدينة منذ أبريل الماضي ..
لم يغادر بعد ،
و لم يزل يقف على بواباتها ،
ويلوح بقوة ساعده ،
وهو يقهقه : ثلاث إجابات أريد ..
من يستطع حل لغزها ، قهرني ، وحرر المدينة ".
فوجىء اليوم بطفل يدنو منه ،
وهو يتمتم :" أنا عندي حل لغزك ، فهل تضمن لي ،
أن تكون صادقا ، و تبتعد عن هنا ؟!".
ولم ينتظر إجابة المارد ، واقترب من كعبه ،
فأبصر غطاء كأنه للعبة ،
جذبه ، فانجذب .. وهنا أبصر كتلة من الأسلاك ..
بنفس البراءة كان يجذبها ، و يبذل مجهودا فى سحبها بقوة ..
وهنا أحدث تمزيقا لها ، فأصدرت فرقعة ،
وخطوط ضوء وامضة ، وتناثرت كتل نار .. فهلل الطفل ،
وابتعد مدبدبا؛ بينما كان المارد يتساقط ..
رويدا .. رويدا !!
ليلة عزاء العمدة
بالفعل كانت ليلة رهيبة ، عاشتها قرية الناصر ، كنت تستطيع أن تسمع بوضوح ، ولو كنت هناك على مشارف حدودها ، أصوات الرجال ، وهى تصهل فى ليلها ، و كأنهم بين وهج نار ، بين أنياب وحوش ضارية ، الغوث يطلبون ، بينما بين الفينة و الأخرى تعلو أصوات ضربات ، و طرقات عصى ، تشج الحجر الصوان ، وربما صراخ نسوة ، وفى الخلاء ركضهن ، يبدو واضحا ، مسرعات طالبات النجدة !
لن تنسى القرية ليلة بالتأكيد ، نكص رؤوسهم فيها الرجال ، و بشكل مفاجىء ، ومبكٍ لأبعد حد ، أمام نسائهن ؛ فقد كانت ليلة ، ودعوا فيها ابن العمدة الصغير ، و بكامل عددهم احتشدوا لعزاء كبيرهم ، و أحد منهم لم يتخلف ، مخافة ورهبة ، وربما إتباعا لحديث رسولنا الكريم !
اندفع الرجال ، كل من طريق ، و كأنهم بالفعل يعرفون ما انتابهم ، كان ذلك قبيل أذان الفجر بساعتين على الأكثر ، كل وضع في عينيه صورة و قامة ، وكفا أطبقت على كفه ، كف كان لها قوة السحر ، و اتجاها يسير فيه ، و بأسرع ما يمكن ؛ لدرء خطر داهم ، بعد أن طاشت رجولتهم ، و هراء أمست ، و عجزا ناقعا ، ربما حمل واحد منهم شرشرة أو فأسا أو بلطة ؛ دفاعا كانت عن كينونتهم ووجودهم ، فلا يصح بأية حال ، ومهما كان ، أن يصبحوا أمام النساء بلا جدوى ، ليكون التخبط ، وقلة القيمة ، و البحث عن بدائل هم فى غنى عنها .. !!
عطوان .. كانت البلطة معلقة في جيب سرواله ، و قد لف جلبابه حول وسطه ، و بين المزارع اتخذ طريقا ، و قطيع من كلاب يطارده ، فما كان منه سوى التقاط كمية هائلة من الطوب و الحصى ، و صكها في رؤوسها، أو كيفما اتفق ، حتى و صل بعد مكابدة إلى عزبة السبع ، التي ترقد فيها بغيته .
بجانب مصرف كانت مشاية ، أى جسر لعبور، ونقيق يدوى ، ولا ينقطع صرير ، و عفاريت تترقص ، و ترمى بنفسها على تراب السكة ، تتراقص به ، وتنهكه ، هو لا يهدأ ، وإن نال منه الخوف ، إلا أنه مستمر ، و بالحصوات ، و بعض آيات قرآنية ، يطارد شياطين و عفاريت ، تراوغه وتكاد تبكيه ، حتى وصل أخيرا ، و قد طقطق شعر رأسه تماما !!
طرق بابا مغلقا بالبلطة. أفزع من كان خلفه ، و لكن سرا في الأمر ، الباب فتح ، و قابله وجه الشيخ بركات ، عبوسا في أول الأمر ، وحين تأكدت حاجة القادم ، ابتسم وهو يتابع شيئا خلفه ، وأخيرا فتح له ؛ ليعبر إلى الداخل :" أنا مش جى أتضايف .. اخلص ".
بافتعال تصنع الغضب :" قال يا قاعدين يكفيكم شر الجايين .. مالك ".
و فجأة رفع البلطة :" قلت لك اخلص ، و بلاش لف و دوران .. يللا ، لأحش رقبتك !! ".
هنا تراجع بركات قليلا ، و على دكة خلفه استرخى:" طيب ماشى .. أمرك .. بس أعرف ..مش نتفق الأول على الحلاوة ؟!".
قليلا هدأ عطوان ، وعن غضبه لم يتنازل:" اللى تقول عليه يا كافر .. بس خلصني ".
كانت لعبة ، لعبها عبد الجبار بمهارة ، بعد كساد الحال ، و عجزه تماما ، عن تدبير مال لازم لسفر ولده ، إلى دولة خليجية ، فراح يلف على كل معارفه ، من شيوخ المندل و الكوتشينة ، و الربط و الأعمال ، و غيرهم من الدجالين المهمين والمعروفين بسوء فعالهم ، ممن وضعهم الناس ، فى بؤرة أهل الإيذاء والسحر و تناسوهم حتى بالسلام .
دبر معهم الأمر ، على أن ينال نسبة من حصاد عملهم ، ووافقوه تماما ، كانت مناسبة عزاء العمدة فى ولده كافية ، تماما كافية وعز الطلب ؛ لملء جيوبهم ، بل أكثر ، امتلاك مالم يستطيعوا خلال سنين من أغنام و ماعز !
في طابور المعزين على منافذ المقابر اندسوا ، متباعدين وقفوا ، كل أهل القرية مروا عليهم ، رجالها و شبابها ، و برغم اكتراث الجميع ، و محاولة تجاهلهم ، إلا أنهم ، و بلا استثناء وقعوا في الشرك ، و سلموا عليهم ، لتكون هواجس و قلق و استرابة ، تلازمهم بشكل بشع ، بل مرضى ، حتى فراشهم ، و لم يستطع سوى قلة التغلب على هذه الحالة ، لأن رؤوسهم كانت قادرة ، على الفتك بأي هاجس قد يحاول النيل منها ، وهؤلاء يطلق عليهم الدجالون :" دمهم زفر كالشياطين !!".
طائرا عاد عطوان ، يركل الأرض ، و الشياطين يضاحك ، وعفاريت المصرف ، بل و يكاد ينازلهم ، و من بعيد تنتظر أوبته الكلاب ، مر من بينها ، و بكل بساطة ، و حين ابتعد قليلا ، كانت تركض خلفه ، وهو يطير مفعما ، يلوح بالبلطة ، كان يلمح على مدد الرؤية الكثير من الهياكل ، تسعى فى ظلام البلدة ، بين مغادر و عائد ، حتى وصل داره ، فرمى بالبلطة جانبا ، وفى لمح البصر تخلص من جلبابه ، و كافة ثيابه ، وطار ، وحط في أحضان زوجته ، أكثر فحولة وبأسا !
:" أنت واد غلبان .. كفاية عليك ورقة بخمسة .. قلت إيه ؟!!".
:" يعنى جيت فى جمل .. يللا بس أنت .. الله لا يسيئك ".
قدم له الورقة ، وهو يتأمل فيها عرقه ، و بيد مترددة ، فلقفها منه بركات ، وفورا وضعها في جيبه ، و أمسك به ، وعزم عليه ، ببعض كلمات يتمتم، وسهم الله كأنه حط بقلب عطوان ، لا ينطق ، ولا يأتي ببنت شفة ، يفغر فاهه كأنه يعبئه بأشكال التمتمات ، و رائحتها ، أو هو يتذوقها .
:" خلاص ياعم .. يللا .. بقيت صاغ سليم .. اتكل على الله ".
:" جد .. أما لو بتضحك عليه ؛ و الله لأجيب خبرك ، أفلقك اتنين ".
:" يللا يارجل ، بلاش جعجعة زى عدمها .. لا .. تعالى من هنا ، ما يصحش حد يشوفك ياوله .. يللا ، الباب التانى وراك أهووه ".
عاد الهدوء للقرية مع حلول الفجر، حين خمدت أوتار النشوة ، و نامت رؤوس النار ؛ بينما كانت دار عبد الجبار تلفها ألسنة دخان معبأ بالكيف ، و ضحكات ساخرة تعلو فيها ، و ربما مساومة أحد الرجال على حصة أكبر ، و لكنه بالتأكيد كان يفكر في حيلولة فعل ذلك مرة أخرى ، فى الوقت الحالي على الأقل ؛ حتى ينسى أهل القرية والعزب المجاورة ، ليلة عزاء العمدة في ولده الأصغر !!
طائر مغرد
مهداة للمبدع السوري : أكرم حسن
ينتظرهاكان ، في ذات البقعة ، على جمر أحر ، وحضورها يترقب ، بين وقت و آخر ، أوحشهاسمها ، حروفه الأحلى ، كنجم قطبي ، في الأفق يشدو ، فيختفي كل ما في المجرة .. كم يحبها ، لو أن الوقت ينسلخ ، لو يستطيع ، لسلخ كل عمره ، كثوب خرق تخلصمنه ، و أبقى على أجمل ما فيه هي ! بدموع حنين تتندى عيناه ، و الساعات تولى،وهو على حاله ، يترقب وصول خرافته ، وحلمه المستحيل ، كل شيء شائه أمام عينيه،لا معنى لشيء دونها ، غرس المنى يشتل ، في كل ساعاته ، ما عاد يهمه سواها ، كلما يعنيه أصبحت ، و ليذهب العالم إلى الجحيم ، كفاه ما ضاع ، و ما بقى إلا القليل ،و هي تستحق عمرا فوق عمر . يستحضر ملامحها ، كل ملامحها ، ريحها ، حديثها ،صوتها ، كل شيء فيها ، كم بها هو مجنون ، و ما قبلها عرف الجنون . يضحك وحيدا،ووحيدا يبكى ، وحين يغضب ، كعصف السماء يكون غضبه ، حتى زرعها حلما في كل شبر،في هذا البيت ، و في أفئدة من يرفضونها ! هو المغنى الذائع الصيت ، ينام و يصحومعانقا زجاج المدينة ، لا يريم ، و لا شيء مهما عظم يوقفه ، ولم تكن بأقل منهجنونا !
عبر شاب مدينة الزجاج ، أتى يترنم ، أعطوه تصريحا واسما فنيا،وربابة وهوية ؛ فعلا صوته متناغما ، مما استرعى انتباهة المغنى الكبير،وهو بأحلى أغانيه يصدح ، تقف به قدماه ، على آثار انطبعت ،وتوهجت ، في ذاتالبقع المتشظية ، والكبير يكاد يقضى ، كلما توقف الشاب ، يعلو أنينه ، وبلا توقف تسيل دمعاته ، بينما تنهدات القادم تتلاحق ، و تترى اهتزازته ، و كأنهالطاووس تنتفش ، ثم يخطو لنقطة أخرى ، بكفيه يلم أثرا ، يفرشه على رقعة جسدهمنتشيا.إنها آثارها ، آثار معشوقته . عين الكبير تتابعه ، عبر زجاج أغبشتتكسر ، وروحه كعصفور حط قرب موقد ؛ فهلك زغبه ، وريش جناحيه .
في موضع يتوارى ، يرى منه كل ما يتم ، وحين اكتفى الشاب ، جمارك المدينة لم يعبر ماضيا لحالسبيله ، بله انتظر .. انتظر كثيرا ، والكبير تتخلع أوردته ، و دمه أمامه ينسل ، بكل ما تحمل رأسه يفتك الحزن ، من نخاع ، و فتات لحم ودماء ، فتنقله الرأسالمقتول ، لنفس المشهد .. نعم ، سبق ورأى ، وعاش ، وتألم .رأى نفس المشهدالرهيب ، ذات مساء ليس ببعيد !!
أيضا شاب كان ، يحتضن ربابته ، عبر مدينةتشبه تلك ، وغنى حتى رقصت نوافذ المدينة وأبوابها ، وعلى خطى حبيبته ، ارتمى، و بترابها عفر وجهه ، ثم موضع قدمها احتضن ، حتى أكلت الدهشة الكبير ، فدنامنه :" كنت رائعا .. رائعا ".
انتشى الشاب ، وخطف كفى الرجل ، ودار به :" إننيفي انتظار ربتي . سيدي .. كم أحبها .. أحبها .. لا .. بل أعبدها ".
رقص قلبالكبير ، وضمه بقوة ، و عيناه تذرفان :" يالك من محب جسور ".
بربابته طارالشاب ، حلق عاليا ، بين نجوم السماء سكن ، تخاطفته هناك ملائكة للمحبين:" هيقادمة .. قادمة ".
الكبير يتابع ، التوت رقبته ، انثنى جذعه ، اكتوى ، فانبطح أرضا :" من هي سيدي .. من ؟!!".
كأنه بمعراج يقترب ، ثم قبل وصوله للأرضهوم :" يا ربى .. ألا تعرف ، ألا تحس ، كم ربة هنا في مدينتك ، هي واحدة ، وهىفي إجازة منذ .... ".
فرش شك خيمته ، و نار تولدت ، لفت الخيمة ، أحرقتكل أوراق عمره ، فغنى موتا ، وركضا اختفى ؛ حفاظا على بعض كبرياء ، فتلقفتهالسقطات ، حتى أدمت جلده ، لكنه إلى سدرته وصل ، يأكله الحزن ، و يعضه الألم،كانت قد حاصرته ، و فى الإيقاع به تفننت ، وهو ضاحك يردد :" كبير أنا ، لي منالسنين ضعف عمرك ".
تضحك مهللة :" ليس العمر بتعكز السنين ....... ".
وكلما وجد طريقا للهرب تسلل ، لكنها كانت تدميه سخرية ، و غنى يومها كما لم يغنمن قبل !
الآن حل الرحيل ، وإلى أبعد نقطة للحنين :" ألا تنتظرها ، كيف صدقت مخبولا ، أرعن هو بلا شك ؟!".
إنه جارها ، لصق حارتها ، و فيمدينة من زجاج أنا عابر ، محض خيال ، بينما مجسد هو ، دم ولحم ، يطرق أبوابحارتها ، و بيتها ، ويشهد كل ما لا يراه هو ، أنفاسها يشم ، رائحة عرقها ، صوتهاكيف له تناغم وتغنج ، شفتيها .. بسمتها .. ضحكاتها .. حزنها .. حنينها ، التواءهاتحت وطأة الكلمات!!
يا ويلك من مدن الزجاج ، وضراوة المحبين ، والتصاقالأعتاب ، وأنت هنا محض هواء .. هواء . ألا تنتظر حتى تأتى ..انتظر ، ولاتتعجل الأمور
حين أتت في نفس توقيت ، أذاع سره الشاب ، وقفت أمامه ترقص :" أحببت ، قابلت حب عمري ، افرح لي ، كم أحبه ".
وجه الكبير سلخته الكلمات ،أصبح وجها يشبه ضفدعة :"وما كنت أنا .. ما كنت ؟!".
بأفاع أحسها ، تلتفحول عنقه ، تعتصره ، يختنق حد الموت ، يمزق قميصه تماما ، و يتراجع قليلا، تبيض الرؤية في عينيه :" لكن يمامتي لا .. لا .. ليست هي ".
غامت الدنيا ، وحينكان الشاب يغادر مدينة الزجاج ، بعد أن شتل في كل أثر من آثار حبيبته وردة ، كان هو الكبير يتمالك نفسه ، وعرق غزير يبلله ، يسرع صوب جمرك المدينة ، ومنموظف هناك ، عرف أن الشاب ، يسكن نفس مدينة تسكنها خرافته ، فتجمد تماما !!
كانألم ينتقل بسرعة على جانبي رأسه :" إلا جوهرتي .. لا .. بيننا ما يجعل الأمرمستحيلا ، نعم .. نعم ". هز جسده ، دفعه للتحرك ، ما ترك موضعه ، كتمثال منتصب ،كعجز نخلة خاوية ، وعلى جانبي شفتيه ظهرت بعض رغاو ، وتهالك أخيرا ، سقطأرضا بلا حراك :" لا أصدق .. لا أصدق .. لا أصـ..... ".بينما أضواء مدينة الزجاج ، تبهت ، وتبدو كأن سخط السماء ، حل بها فجأة ؛ فأصبحت مدينة موتى ، لا أثرفيها ، ليس إلا أصوات غربان ، وحدآت تحوم ، وجثث متناثرة تتخاطفها نسور جائعة !!
عرق دساس
تعاودني تلك الليلة .. الآن ؛
حين جرني شيطاني ،
وصاغنى حلما متمردا ..
لا يأبه بقهر الرجال ..
وأفانين الغواة !!
سالت بعض خيوط .. لها رائحة دمى :
هنا بالأنف ، و الفم ،
ومن جلد المؤخرة ،
ولونت أحلامي ؛
جبينا يتعشق الحزن !!
فرأيته دركيا ..
يفتتل شاربه ..
و بهراوة يفتت ،
رؤوس طيوره - دون تفرقة -
فهممت صارخا ،
و تفلت منه ، وتركته يسلخ عمره ؛ لإعادة ترميم طيوره !!
و أنا أنبش رقعة للحنين ، و أحيلها وشما .. في زرقة أوردتي :"
أنا و مالي لأبى ، ولو كان دركيا .
و استدرجنى ببسمة ، ونبضة عدل ،
وبعض توت ، وسماحة مغناة !
حتى تلاشيت فيه ،
و تناسيت أمر طيوره -
وإن رويتها روحا ، وحَبًّا،
ولازمتها فيضا ، وشدوا لدمى –
وهراوته تسيل ، زئبقا نورانيا ،
يخزنها بين رئتيه .
و لا أدرى .. هل كانت بعض دمه ..؟!
اليوم خاتلنى ،
روض شاربه ، و قص بضع سنين ،
من شجرته العتيقة ،
و التبس جلدا غير جلده ، واسما جديدا ،
ودفق دمه في عروق طفلي ،
و أعطاه تصريحا بذبحي ،
و تفتيت رأسي ؛
وبنفس هراوته .. يلاحقني !!
فمن يرممني ،
و يجتث غباء ، شكل طينتى ،
ومنع عرقي الدسَّاس ،
عن دور له ، وغرس خارطة لعالمي ،
وحلمي ؟!
نهاية خليفة
كان ينازعأنفاسا أخيرة ، حزينا .. واهنا ، بين شهقة و زفرة ينادى وزيره:" يا فضل .. يا فضل ".
ربما بمحض الصدفة ، وصل صوته إلى سمع الفضل ، على عجل أتى يسعى ، بوجه ذئب ، وخطى حية رقطاء :" مولا ى .. مولاي موسى ".
ينشد اعتدالا برغمه - هو القوى - شديد البأس ، يفشل ، و ثانية يعاود ، فيقعى ، يلطم الوسادة بقبضة واهنة:" أين أمي ، أين الخيزران يا فضل ؟!".
بعنف عجيب ، و بجلفة يجيبه ، ويلقى بحشا قيظه ، بآخر مااصطبرعليه حنق قديم :" مولاي ، لا بد أنها ، وصلها أمر مرضك ، نعم لا بد ، غاضبة منك ما تزال.. نعم ما تزال ".
جاءه صوت موسى ضعيفا حزينا ، كأنه لميت :" أريدها ، هاتها يا فضل ، هاتها أكرمك الله ".
قليلا ترقق الفضل ؛ فلم ينس بعد ، أنه أمام موسى الهادي ، ابن المهدي ، وشقيق الرشيد :" لكن لا ، يا ربى ، كيف نسيت ، أربع جوار حسان ، أرسلت إليك.. هدية ، هدية لك ".
اهتز جسده ، و دموع محتبسة اندفعت ، تحت رأسه طوى ذراعه:" أريدها يا فضل ، أريدها حالا ".
بنهاية أحس الفضل ، ما تصورها الآن ، كأنه طلب أخير ، فوقع في قلبه ، الأمر لم يعد يحتمل ، على نفسه أشفق ، ماذا لو سؤل ، عن هذه اللحظات ، ووقف أمام الخيزران أو الرشيد :" أمر مولاي ، سوف أرسل لمولاتى برغبتك في رؤيتها .. حالا ".
تحشرج صوته كأنه الموت :" بسرعة يا فضل .. هيا ، و لا تغب عنى ".
مرغما كان الفضل بن الربيع ، يقطع مسافة بين قصر سيده ، و قصر الخيزران أم أمير المؤمنين ، وهو واقع تحت تأثير ، ماذا لو مات ، الرشيد لا يحبه ، و الخيزران أيضا ، آن أن أظهر طاعة لهما ، ولاء ؛ فالملعون يحيى البرمكى لن يتركه على حاله ، لا هو و لا ولده جعفر ، ربيب الرشيد وأخوه ، كاد يتعثر ، يضل طريقا يعرفه ، بينما تحركت أفاعي أربع ، على أطرافهن زاحفات ، غزون عليه جناحه ، كان هناك ، معلقا بين الرشيد ، و بين أولاده ، وولده الأكبر جعفر - ابن السابعة - عيناه تذرفان دمعات غاليات ، بينما الجوارى يتسلقن فراشه ، و يدنين منه ، دون تردد ، و صوت الخيزران يرن في أعماقهن :" إياكن و الضعف ، لو فشلتن ، ليس عندي غير الموت ، أما نجاحكن ، ففيه تحرركن .. هيا ، لقد توحش ، توحش موسى ، اليوم يسمني ، وغدا يفتك بأخيه ".
كانت ثنتان عند رأسه ، و ثنتان عند القدمين ، يداعبنه ، و يربتن على وجهه ، و كل أعضائه ، و هو متأفف كاره ، يصرخ ، و يتقلب ، ويهتف:" ابتعدن يا جواري الشؤم .. ابتعدن .. هيا ".
وهن يقتربن أكثر ، فأكثر ، و في لمحة كانت الوسادة فوق وجهه ،وواحدة أعلاها ، بينما الأخريات يتشبثن به ، و هو يرتجف ، ويهتز بعنف عجيب ، وكأن تنينا يفترس ضحية ، يرتعد كل شيء في المكان ، يكاد ينهض ، يتملص منهن ، وفى وقت علا فيه صوت الخيزران :" ولدى .. موسى ". كانت أنفاسه تذهب ، ترتحل بعيدا ، و يخمد جسده تماما :" ابتعدن .. ابتعدن .. ولدى .. موسى ، قرة عيني ".. تنهار ، تبعدهن ، و باكية يرتخي جسدها ، ناشجة ، بينما صوت يعلو لبكاء طفل ولد توا ، يختلط بصوت يحي البرمكى الوزير الأكبر :" يموت خليفة ، و يولد خليفة ، و يتوج خليفة ".
كيف هنَّا عليك ؟!
ليلة فاصلة ، وشائكة المنافذ ، العطفمحض سراديب ، تنهشها خفافيش العتم ، و حقول شوك الحارات ، و أصوات كأنها تأتى منمتاهة ، لغط من حكايا ، وتباريح ، تركت علبها المتراصة ، على أرفف الحارة ، وغير عابئة زحفت كسحالي ، بأي شيء كان ، و ها أنت يا سيدي ، تتململ ، تنين سعاليفترسك ، و بعيدا عن درجات صلاحيتك يطيح بك ، فتصرخ ، وهو يطوق رقبتك ، و بقوتهالرهيبة يضغط ، يذيبك ، نخالة و بعض سائل تصبح ، فتخمد صرختك ، و تتلاشى .. تتلاشى ، تهوم فى فراغ ورقة ، و دون أسف ترحل ، فى لاجاذبية مشاعر ، رغم كتلمغناطيس مبهمة ، ومحاولاتها المستميتة ، لكنك تتنافر ، و بلا اكتراث تصعد ، إلىسدرة ابتنيتها ، بعينين دامعتين تلقى بعض فتات منك ، و في نهر تخوض ، كنت له- ذات حب - صديقا ، ورفيقا ، انبرى لك سلما من نور ، عمودا يتوهج ، فأصابتك جلالة،و خيوطه عانقتَ ، بينما خلفك نبرات سحر ، في جوفك تتردد :" تعال .. تعال ،أريدك ، أريدك ، انقذنى ".
أسألك أيها العاري ، أمام الطوفان :" كيف هُنَّاعليك ؟! ".
لم يعد كثير وقت ، لا بد أن تجيب ، لا بد نعم ؛ لأستريح ، وأفهم ،بعد كل هذا الوقت ، أسألك :" من ندى الصبح تشقق جلدك ، ومات قلبك من طول تربصالليل بك ، و من تحنطك تيبست عظامك ، عبر الوقت ، فلم فرطت ، في كل هذا ، لم ؟!".
لا .. لا ، هل قادرا مازلت ، على رسم تكشيرتك السرمدية ، لتقيم بينناألف سماء و سماء ، و ألف سدرة و سدرة ، أن تجيب أتوسلك ، لم حرمتنا حنوك ، وأعطيته لغريب ، و أسكنته بيتا لنا ، لم ؟!".
نفس الدور ها أنت تمارس ، تعطنيظهرك ، و تمضى ، انتظر ، أمامك حقول شوك ، انتظر ، ولا من هنا ؛ فالخفافيشعطشى لدمك ، انتظر ، سيدي ، إلى متى تغلق روحك ، أن تقتات بحبنا ، إلى متى ، أنا أدْرِى ، بل أدرَى انفعالاتك بك ، نعم ، بعض انفعالاتك أنا ، نطفتك أيهاالمتوحد ، بشكواه ، بألمه ، بفرحه الذي لا يأتي .. ماذا ؟!
قلها يا سيدي،كقفاز الق بها ، ماذا يضيرك ؟!
لا .. لا .. لا أريد رؤية ضعفك الآن ، ضعفكإلينا ، ما رأيته قط ، عبر السنين تلمسته ، تمنيت أراه ، مِتُ لأراه ، و مثل بصقةيأتيني الآن ، لطمة .. لا ..
أيها القاتل المقتول ، كم رأسا هشمت بهراوتك ، بلقل لي كم رأسا قبلت ؟! ياللسخرية ، أبكى الآن ، غلظة أبكى وفهما خاطئا ، وعصفورا رقيقا يسكن صدرك ، كنت تذبحه ، كل صباح ، كل مساء ، كل الوقت ، وكنافي حاجة إليه ، يبلل حرقتنا ، يقينا الموت ، و ها أنت تضعينا ، تلقى بنا طعومالكلاب السكك ، ثم تتعالى ، تتعالى عنا وعنك ، لو أدرى ما الغباء ، ومتى يسكنالعقول ؟!
مالك ، أعطيتني هبة ، لستٍ ، وعشتار ، لإيزيس ، للنيل ضحية،لوفاء من ، للموت قدمتني عن طيب خاطر، ولقعر بئر سحيقة ، بم تفكر ، أجبني؟!
ما الذي تخفيه عنى ، انتظر ، الخفافيش ، حقول الشوك . أسألك :" كيف ياأ..... . كيف ؟!!!
طاردته بسؤالي سنين عددا ، ما أجاب ، و لا حتى التفت لى ،أو أعارني أذنا، هاهو أمامي ، مثل طائر البطريق ، يزحف متهدل الجناح، يسعى زاحفا ،و لا أدرى ما يخبئه ، هناك شيء بين ثيابه ، إلى أين ، أنهكتني، انتظرني، لايتوقف ، يسمعني ، ولا يلتفت ، فقط يهش على أذنه ، كأني هومة ، هو سادر ، متماسك ، رغم تنين سعال ، يكاد يقصمه ، كأنه خارج من رماد ، هاهو يختفي منى ، يختفيعن عيني ، أين أنت ، ألاحقه ، لا أتوقف ، لا أجده ، كأن الأرض ابتلعته ، فجأةاهتزت الأرض ، و صعقني صوت دوى ، ماذا؟!! التم الخلق ، كل يتساءل ، أقف برغمى، أين أنت أيها الشيخ ، في أى طريق اختفيت ؟! أجرى ، أركض هنا وهناك ، أينأنت ، تأتى أصوات :" دمر البيت بكامله ".
:" كان خطأه ، هو من جلب الغريب، وهو من قوض بناءه ".
أركض ، لا أفهم ، أكاد أصرخ ، لم يجبني كعادته ، لمتستوقفه دموع لي ،
أعرج صوب بيتنا القديم ، كانت لمة هائلة ، وسياراتإطفاء ، و شرطة ، و كان هو ، يقف كوحش ضار ، وقع في قبضة صياد ، كان مبتسما ، لم أره مبتسما مرة ، لم أره ، جميلا مثلما الآن ، وهالني مشهد البيت منهارا والأتربة تصاعد من جوفه ، تعمى وتقذى ، كميدان قتال ، و همسات تتردد :" شفت ماوجدت ..؟!".
:" حشيش .. أمعقول ؟! ".
علا صوت شرطي :" توقف .. أنت .. أسرعوا ، هاتوه بما يحمل من أسلحة .. هيا ".
هال الجموع الغفيرة مشهد لرجال ونساء ، تقذف بهم أشلاء البيت ، كانوا شبه عراة ، يتساقطون مع كل خطوة ، يتنفسونبصعوبة ، يقيئون ، يا ربى ، يقيئون حيات و عقارب ، وبرص ، كأني أعيش كابوسا، كيف أصدق ؟! كيف لي أن أفهم ما يتم ؟!
و حين وقفت في مواجهته ، أريد أفهم ، كنت مصعوقا ، وكانت عيناى مغرورقة بدموع :" لم فعلت ؟! ".
:" وأنت ، لم تر ماوجدت بين الركام .. انظر ؟! ".
:" يا ربى .. كوكاين ، القه ، و اهرب ، قبلأن تسحبك الشرطة ".
زحف نحوى ، ربت على رأسي ، مسح عليها ، وقبل جبيني :" كانلابد ، أضعته ، و كان علىّ استعادته ، و هاهو لكم دون أغراب ".
لم يكن الرجل، لا ، لم يكن ، كان خلقا جديدا ، مذهول أنا ، التصق به ؛ لأتأكد منه ، جيدا أتأكدمنه ومنى !
طوابير من جرذان ، وزواحف ، وهوام هائلة العدد ، تخرج منبين الركام ، مسرعة مبتعدة ، و الخلق تطاردها ، بما ملكت أيمانهم ، وجثث تعافرأنفاسا أخيرة :" تريد أن تعرف لم ، كان دائما سؤالك ؟! ".
حدقت في وجهه ، وأنا أتضاءل ، و بشكل غريب : " لا أريد ، عرفت ، عرفت ".
جذبني ، يا ربى، في ضلعه كنت :" لا ما عرفت شيئا ، ما عرفت ".
أجهشت ، تشممت رائحته لأول مرة :" بقطعة أفيون ، وزبدة من حديث ، أذهب عقلي ، و سرق البيت بأوراقه ، و ما يحمل ، آن لك أن ترتاح ، هيا ، هات إخوتك ، ونظفوه ، هو لكم ، هو لكم !".
مأمورية عاجلة
كان اليوم السادس لبدء المعارك ..استدعيت لمكتب القيادة ، فى أمر عاجل ، لا يحتمل تأخير .. و كنت هناك .. أنتظر ما يلقى من أوامر :" سيارة أشارة تعطلت قرب المعبر .. عليك فورا بتوصيل قطع غيار و فني .. هناك سيارة في انتظارك بالحملة .. انصرف ".
:" تمام يا فندم ".
:" انتظر .. تذكر دائما .. العربة فى العراء .. بدون غطاء ".
:" تمام يا فندم ".
كان لليل الصحراء رائحة غريبة ، و طعمة ما أحسستها من قبل ، برغم كثرة مأمورياتي ، منذ و قبل بدء المعارك .. أصوات دوى .. هالات من غبار تملأ الطريق بين الأرض و السماء .
صرخت فى السائق :" انته .. الوقت يمر .. مالك باردا ؟!".
أجاب :" أبدا .. كنت أتسلم قطع الغيار المطلوبة .. هيا بنا ".
على طريق القاهرة الإسماعيلية .. كانت السيارات تعبرنا كالريح العاصف .. و الظلام متكاثف بشكل غير معهود ، و أنا أنفث دخان سيجارتى ، و كلما أحسست بصمت السائق ، رحت أطعنه بكوعى .. وهو أكثر تركيز .. و ربما خوفا .. حتى أدركت أنه يدور فى حلقة مفرغة .. فداخلنى شعور ما بالتورط .. صرخت :" ما بك .. تكلم ".
:" تاه منى المدق .. تاه ".
كان الأفق القريب يتلألأ تحت دوى طلقات كاشفة ، تحيل المنطقة القريبة إلى نهار وامض ، و سرعان ما تتوالى زخات من طلقات .. و خيوط نارية تتصاعد .. وتهبط :" كيف .. من وقت أن عرفت أنك من سيلازمني .. و أنا أتوجس منك .. انزل .. انته ".
كنت أريده أن يحدد المكان جيدا .. العربات تنهش وجوهنا .. فارس من يحاول اعتراض طريقها .. لا وقت .. كل إلى مداه يمضى .. و يجب أن نمضى .. وفورا .. سيارة الإشارة من المؤكد أنها ستدمر لو بقينا هنا .
:" هيه .. ما وجدت ؟!".
:" شلت رأسي .. ما عاد عندي تركيز .. ما عاد ".
لا أدرى وقتها ما شعرت به ، سوى أنني وجدتني ، أطيح به ، و أنطحه بقسوة عجيبة ، و أمسك بتلابيبه : اركب .. اركب .. در بنا .. هيا ".
لا بد أنني كنت في ذلك الوقت لا أطاق أبدا .. أنا أعرف نفسي .. بحجم كارثة كانت تعبيرات وجهي .. المهم .. دار .. و انطلق لمسافة قريبة .. وفجأة هتف :" أهه .. نعم هو .. هو ".
و انعطف بنا فورا .. و هنا.. انفرجت أساريري .. و أحسست براحة ، فملت عليه ، و قبلته ،و أنا أتحسس جبهته ، التي تجلطت بها بعض قطرات دم ، وأخرجت منديلا .. و نظفتها .
و بكل ما كنت أحمل من هم و ضياع ، مازحته ، و أطلقت بعض نكات لا لون لها ، ربما لقتل القلق الذي تولد ، وغنيت و أنا أشد على ساعده :" هيه .. لا نريد توهانا آخر .. هيه ".
حين وصلنا .. كانت العربة فعلا في العراء .. و كان طاقمها حولها ، سرعان ، ما تقدمونا إلى قائد اللواء .. و هناك في ملجأ متسع .. كان وقار وسكون يسيطر على المكان .. أجواء رهيبة .. رحم لأبطال ..كل إلى جوار صاحبه .. لا فرق بين أحد و أحد.. لا رتب .. و لا نياشين .. و حين وقفت أمامه .. أحسست برجفة .. و شعور عارم بتقبيل كل من هنا .. كانت الأجساد كأنها كتل لحم بشرى .. بلا أنفاس .. كأنهم يعبئون أجسادهم لأيام مقبلة .. لن يجدوا فيها لحظة هدوء.. و حين أنهيت مأموريتي ، و برغم عدم تمسكي بالتقاليد العسكرية ، إلا أنني كنت أؤدي التحية العسكرية لكل من بالملجأ ، في اعتزاز و قوة ما عهدتها بنفسي ، و انصرفت و بى إحساس رهيب ، يكاد يعانق بي عنان السماء بالعزة و الكبرياء ، و عدت بعينين دامعتين ،و قلب طائر ، و لا أدرى حجم الحزن الذي كان يتولد داخلي ، و أنا لا أتصور هؤلاء الأبطال ، يذهبون ، و لا يعودون !!
احتراق
تشاغبه مدن بعيدة ، فيسرع صوب النهر ، يتجاذب و إياه حديثا طويلا ، وحين لا يجدمنه جوابا ، يخلع نفسه من ثيابه ، يخوض فى عالمه ، يبصر الشمس بين كفيه ، فيحتضنهاكعاشق ، و يتغنى ، وهى تضحك على كفيه ، فتكشف له مدنا جديدة للسحر ، يقرأ نارها،حبيبات روعتها تسيل ، خيطا خيطا تلفلف نفسها ، تدميه اندهاشا ، وهى تستحم معه ،وتنثنى بين ذراعيه ، فتأخذه رجفة ، ويبحر بها بعيدا ، صوب الأعماق.
حين كشرالملك ، و أشتعل غضبه ، نهشت أظافره أكباد معارضيه .. و الذين فتكت بعقولهم آفةالحفر فى محاجر المجهول . كوت غلظته قلوبهم على ذويهم .. كان يختفي و ابنه في كهفسحيق ، اختبأ فيه طويلا ، تأتيه أخبار متفرقات ، عن غزوات الملك التي لا تنفض ، ولم تهدأ سورة غضبه إلى الآن ، بينما الولد يختنق ، يموت شغفا لمحبوبته ، فيخاتلأباه ، ويصعد خلسة ، ليكون معها ، يبثها لواعجه ، وشجونه ، فتكشف له جديدا ، وتعرىبقاع الأرض من حوله ، ثم يتسلل و الحمى تنهض فاتكة برأسه .
لم يكن يقين يسكنه ،بنجاته وولده ، فكان يعد عدته ؛ ليعبر المفازة ، و يكون خارج دائرة الموت .. فكركثيرا .. فكر حتى ما عاد في رأسه شيء يصلح ، ليس إلا أزيز لدبابير ، تنهك تماسكه ،وتصليه حيرة و ارتباكا .
جاءته حين كان يهدهد ولده ، و يزرع شتلات أمل في روحهالمحلقة ، في ارتحالها العميق ؛ حين دندن ، و النعاس يداعب أحلامه :" بي رغبةللتحليق .. للارتفاع إلى ما لا حدود يا ابتى ؛ لأصبح هناك فى سديم هذا الكون معالنجوم ، و لن أكتفي ، بل أكون أبعد و أبعد .. يجذبني غرام عجيب إلى كشف أسرار لاأعرفها .. أكاد ألمحها ، و لا أمسكها بيدي".. وأغلق دون انتظار لسماع رد والده ،هام في لجة غرامه !
لم ينم الأب ؛ حيث أشرقت المعاني ، وتجلت الحاجة ، نور لميتوقعه ، ومن فوره كان خارج الكهف ، يلاحق رياش النسور ، و الجوارح ، و قفل عائدافى جبين الفجر ، يحمل فوق رأسه خمرا لليلته ، كان حملا ضخما من الريش ، ملأ صدرالكهف ، و غطى قامته !
شيء محير ، فى الحبال يفكر ، و الحبال صعبة ، و ليستمجدية ، أيضا غير متوفرة ، جدائل شجر الصفصاف و السرو والليف ، سوف تحدث ثقلا ، والأمر لا يحتمل .. ما العمل إذا ؟!
يكاد يخبط جمجمته فى نتوءات الحائط الصخري ،و أيضا أتت .. نعم أتت كوحى أوحى إليه ، رقص رقصا عجيبا ، وحده رقص بين كومة الريش، فحمل حربته ، و تسلل ثانية ، و عاد تسبقه آنات ولهاث عال ، و كان على رأس الكومةيحمل غزالا .. وشع العقل حد الجنون !
أخيرا حلقا ، بعيدا كطائرين من عالم لا يمتلهذه البسيطة ، عبرا أراضٍ ، ومساكن ، وغابات ، وبحار ، حتى كانا بعيدين .. بعيدينعن قبضة الغضب ، فنادى ولده :"هيا نحتضن أرضنا الجديدة ".
كانت مفاجأة ، لم تخطربباله ، وقت سمع رفضه ، و أطلق العنان لارتفاعه ، بينما الأب يصرخ فيه ، بله بكىاستعطافا ، عله يحن ، لكن الولد لم يسمع له ،و أشرق في صدره شيء خارق ، لم يدر كنهه، وظل يرتفع .. يرتفع ، غير مدرك ، أنه فى رحلة الصعود يلزمه الكثير ؛ يلزمه إلىجانب عشقها وعشقه لها!
لم يكن يقين يسكنه ،بنجاته وولده ، فكان يعد عدته ؛ ليعبر المفازة ، و يكون خارج دائرة الموت .. فكركثيرا .. فكر حتى ما عاد في رأسه شيء يصلح ، ليس إلا أزيز لدبابير ، تنهك تماسكه ،وتصليه حيرة و ارتباكا .
جاءته حين كان يهدهد ولده ، و يزرع شتلات أمل في روحهالمحلقة ، في ارتحالها العميق ؛ حين دندن ، و النعاس يداعب أحلامه :" بي رغبةللتحليق .. للارتفاع إلى ما لا حدود يا ابتى ؛ لأصبح هناك فى سديم هذا الكون معالنجوم ، و لن أكتفي ، بل أكون أبعد و أبعد .. يجذبني غرام عجيب إلى كشف أسرار لاأعرفها .. أكاد ألمحها ، و لا أمسكها بيدي".. وأغلق دون انتظار لسماع رد والده ،هام في لجة غرامه !
لم ينم الأب ؛ حيث أشرقت المعاني ، وتجلت الحاجة ، نور لميتوقعه ، ومن فوره كان خارج الكهف ، يلاحق رياش النسور ، و الجوارح ، و قفل عائدافى جبين الفجر ، يحمل فوق رأسه خمرا لليلته ، كان حملا ضخما من الريش ، ملأ صدرالكهف ، و غطى قامته !
شيء محير ، فى الحبال يفكر ، و الحبال صعبة ، و ليستمجدية ، أيضا غير متوفرة ، جدائل شجر الصفصاف و السرو والليف ، سوف تحدث ثقلا ، والأمر لا يحتمل .. ما العمل إذا ؟!
يكاد يخبط جمجمته فى نتوءات الحائط الصخري ،و أيضا أتت .. نعم أتت كوحى أوحى إليه ، رقص رقصا عجيبا ، وحده رقص بين كومة الريش، فحمل حربته ، و تسلل ثانية ، و عاد تسبقه آنات ولهاث عال ، و كان على رأس الكومةيحمل غزالا .. وشع العقل حد الجنون !
أخيرا حلقا ، بعيدا كطائرين من عالم لا يمتلهذه البسيطة ، عبرا أراضٍ ، ومساكن ، وغابات ، وبحار ، حتى كانا بعيدين .. بعيدينعن قبضة الغضب ، فنادى ولده :"هيا نحتضن أرضنا الجديدة ".
كانت مفاجأة ، لم تخطربباله ، وقت سمع رفضه ، و أطلق العنان لارتفاعه ، بينما الأب يصرخ فيه ، بله بكىاستعطافا ، عله يحن ، لكن الولد لم يسمع له ،و أشرق في صدره شيء خارق ، لم يدر كنهه، وظل يرتفع .. يرتفع ، غير مدرك ، أنه فى رحلة الصعود يلزمه الكثير ؛ يلزمه إلىجانب عشقها وعشقه لها!
احتضنته الشمس ، و في حضنها السخن ، العنيف لهذا المعشوق، أطارت ريش الجناحين ، فهوى كأوراق خريفية ، بينا تتخلى عن عناقها ، تلتقط أنفاسهالمعاودة الالتصاق به ، إلا أن العاشق تفلت منها .. تهاوى ، وهو يفتح لها جناحيه ،ويصرخ فيها :" أين ما وعدت به .. خنت عهدا بيننا ؟! ".
بكت الشمس ، دارت :" لمتكن على قدر جنوني ؛ فاذهب .. أشعلتني ؛و أنت أضعف من أن تتحمل احتراقي بك !! " .
بكت الشمس ، دارت :" لمتكن على قدر جنوني ؛ فاذهب .. أشعلتني ؛و أنت أضعف من أن تتحمل احتراقي بك !! " .
تعليق