.
الشاعر والجارية السوداء
عبد الرشيد حاجب
ظل شاعر المقاومة المفوه ، وصاحب القاموس الناري ، بلا جدال ..إلى أن كان ذلك اليوم .
دخلت القرية حيزبون غنية تجر وراءها خدما وحشما لا تخطئ العين جارية سوداء متفحمة من بينهم.
وبدأت القرية تعرف بعض الألوان الجديدة بتحرك هؤلاء الخدم في طرقاتها ، وابتسامات الجارية السوداء اللامعة التي تثير دهشة الكبار ، وخوف الصغار !
كانت القرية متعودة أن تقيم أمسية شعرية ، في إحدى القاعات ، كل شهر .
اجتمع الناس في القاعة تسبقهم آذانهم الموسيقية ، وعشقهم لقاموس شاعرهم .
كان حين يتلو شعره ، تهب الرياح تنفض الغبار العالق بنفوس أهل القرية ، وتجدد نشاطهم ، وتبعث فيهم الأمل ، وتبشرهم بالغد الجميل .
كانت القرية كلها تصمت مصغية في خشوع ..حتى أشجارها ..مئذنتها الوحيدة ..والنجوم في ليلها تبدو خاشعة .
إنه الشعر .
لكن هذه الليلة لم تكن كسائر الليالي .
كان أهل القرية الطيبون قد لاحظوا بعض الوجوم والتوهان على شاعرهم ، كما لاحظوا أنه يكثر التجول حول قصر الحيزبون ، لكنهم برروا ذلك برغبته في الإستشراف ، ورؤية ما لا يستطيعون رؤيته ، فهو لم يخف عنهم أبدا ما يراه .كان عينهم الثالثة التي يرون بها أنفسهم وما حولهم .وكانت ألفاظه الاصبع السادسة في يدهم التي يفقؤون بها عين الروتين والنكد .
وبدأت الأمسية .
بدأت حين امتلأت القاعة عن آخرها ، فقد كان الجو في الخارج باردا ، وسعد الناس بهذا الدفء الذي ولده اجتماعهم واحتكاكهم .
وقف الشاعر أمام المكرفون القديم ، فوقف شعر رؤوس أهل القرية ، وتطاولت أعناقهم وآذانهم .
يا الله ! كم كانوا يعشقون هذه اللحظات وهم يستعدون لهذا التعميد في نهم الشعر ، وهذا الوضوء الأكبر في ينبوع الطهر والنقاء !
كان الاستماع لإنشاده حياتهم الأخرى ، وكأنهم يبعثون من جديد.
لكن صوت الشاعر ، هذه الليلة كان خافتا ، هامسا ، موشوشا لا يكاد يسمع .
لم تكن ألفاظه مما تعودوا ، ولا حركاته مما ألفوا ..ومع ذلك ظلوا يصغون إليه ما بين الترقب والدهشة .
لم يسجل اليوم أنه عربي .. ولا قال سقطت بجانبك فاحملني .
ولم يقل لأي منهم اليوم : إنك اليوم حر !
كان هو نفسه يبدو كسجين مصفد في الأغلال ، مقهورا ، متعبا ، كأنه يحمل فوق ظهره صليبا من نار !
سمعوا وصفا لحور عينيها ..تذكروا الشاعر الأعمى يتشمم روائح بنات الحي العربي وينشد :
" إن العيون التي بطرفها حور ..."
تذكروا واضطربوا ، بدأ التوهان والتعب يتسرب إليهم بدورهم .
كان صوته يتحشرج كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يتغنى بعاج أسنانها .. والبرق الذي لمع في ليله .
وفجأة قفزوا من مقاعدهم وهم يسمعون تصفيقا حارا في آخر القاعة ، فلم يكن من عادتهم أن يصفقوا في قريتهم ، بل كانوا يسبحون ، ويكبرون ،ويهللون حين يغمرهم الطرب.
التفتوا كلهم في وقت واحد . رأوا الجارية السوداء كالليل في أخر القاعة ، تصفق ، وتبتسم بكل عاجها وبروقها ، وبجانبها الحيزبون تبتسم ابتسامة ساخرة غامضة .
دخلت القرية حيزبون غنية تجر وراءها خدما وحشما لا تخطئ العين جارية سوداء متفحمة من بينهم.
وبدأت القرية تعرف بعض الألوان الجديدة بتحرك هؤلاء الخدم في طرقاتها ، وابتسامات الجارية السوداء اللامعة التي تثير دهشة الكبار ، وخوف الصغار !
كانت القرية متعودة أن تقيم أمسية شعرية ، في إحدى القاعات ، كل شهر .
اجتمع الناس في القاعة تسبقهم آذانهم الموسيقية ، وعشقهم لقاموس شاعرهم .
كان حين يتلو شعره ، تهب الرياح تنفض الغبار العالق بنفوس أهل القرية ، وتجدد نشاطهم ، وتبعث فيهم الأمل ، وتبشرهم بالغد الجميل .
كانت القرية كلها تصمت مصغية في خشوع ..حتى أشجارها ..مئذنتها الوحيدة ..والنجوم في ليلها تبدو خاشعة .
إنه الشعر .
لكن هذه الليلة لم تكن كسائر الليالي .
كان أهل القرية الطيبون قد لاحظوا بعض الوجوم والتوهان على شاعرهم ، كما لاحظوا أنه يكثر التجول حول قصر الحيزبون ، لكنهم برروا ذلك برغبته في الإستشراف ، ورؤية ما لا يستطيعون رؤيته ، فهو لم يخف عنهم أبدا ما يراه .كان عينهم الثالثة التي يرون بها أنفسهم وما حولهم .وكانت ألفاظه الاصبع السادسة في يدهم التي يفقؤون بها عين الروتين والنكد .
وبدأت الأمسية .
بدأت حين امتلأت القاعة عن آخرها ، فقد كان الجو في الخارج باردا ، وسعد الناس بهذا الدفء الذي ولده اجتماعهم واحتكاكهم .
وقف الشاعر أمام المكرفون القديم ، فوقف شعر رؤوس أهل القرية ، وتطاولت أعناقهم وآذانهم .
يا الله ! كم كانوا يعشقون هذه اللحظات وهم يستعدون لهذا التعميد في نهم الشعر ، وهذا الوضوء الأكبر في ينبوع الطهر والنقاء !
كان الاستماع لإنشاده حياتهم الأخرى ، وكأنهم يبعثون من جديد.
لكن صوت الشاعر ، هذه الليلة كان خافتا ، هامسا ، موشوشا لا يكاد يسمع .
لم تكن ألفاظه مما تعودوا ، ولا حركاته مما ألفوا ..ومع ذلك ظلوا يصغون إليه ما بين الترقب والدهشة .
لم يسجل اليوم أنه عربي .. ولا قال سقطت بجانبك فاحملني .
ولم يقل لأي منهم اليوم : إنك اليوم حر !
كان هو نفسه يبدو كسجين مصفد في الأغلال ، مقهورا ، متعبا ، كأنه يحمل فوق ظهره صليبا من نار !
سمعوا وصفا لحور عينيها ..تذكروا الشاعر الأعمى يتشمم روائح بنات الحي العربي وينشد :
" إن العيون التي بطرفها حور ..."
تذكروا واضطربوا ، بدأ التوهان والتعب يتسرب إليهم بدورهم .
كان صوته يتحشرج كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يتغنى بعاج أسنانها .. والبرق الذي لمع في ليله .
وفجأة قفزوا من مقاعدهم وهم يسمعون تصفيقا حارا في آخر القاعة ، فلم يكن من عادتهم أن يصفقوا في قريتهم ، بل كانوا يسبحون ، ويكبرون ،ويهللون حين يغمرهم الطرب.
التفتوا كلهم في وقت واحد . رأوا الجارية السوداء كالليل في أخر القاعة ، تصفق ، وتبتسم بكل عاجها وبروقها ، وبجانبها الحيزبون تبتسم ابتسامة ساخرة غامضة .
الجزائر يوم 17 نوفمبر 2009
تعليق