من سورة العراة
مجموعة قصصية
للكاتب المبدع
مجدى السماك
آهات وعرانيس
آه .. آه.. آه .. آهات ثم آهات ثم آهات .. متقطعة و ممزقة و متواصلة .. تنفثها كتلة لحمية تمشي على قدمين .. و أنات كأنها منفلتة من ثقب طنجرة ضغط بحجم مبنى البنتاغون . هيكل عظمي مغطى بجلد رقيق ناشف ملقى بجانب حاوية القمامة و كأنه جزء منها أو هو القمامة .. لا اعرف إذا كان ضيفا طارئا عليها أم هو مقيم دائم عندها .. أقول هو إنسان بسبب لسانه الذي يعلو بصرخات آدمية أليمة وموحشة كأنها صادرة عن إنسان يشوى على لظى كومة من الجمر المستعر .. عيناه مستديرتان و تشيران إلى رأسه ببياضهما اللامع في العتمة .. أما قدماه و بقية جسمه فمن الصعب رؤيتهما أو التعرف على مكانهما لامتزاجهما بالقمامة والظلمة ... آهات معذبة يقذفها أعماق قلب بشري محروق أو مكسور أو مهزوم .. حدثتني : الآهات هي الآهات ...
خمنت بأنها النوبةالقلبية المباغتة لقلبه المحروق بجسمه الهزيل .. ظننت أن عظامه تهشم بمطرقة حديديةضخمة .. حسبت أن أحدا يقتلع أظافره من أناملها ...
أظهره ضوء سيارة إسعاف قادمةمن بعيد .. من رأس الشارع .. أخذت معالمه تتضح أكثر فأكثر مع اقتراب السيارة .. كان مقرفصا على جنبه كالجنين في بطن أمه .. حملته السيارة للمشفى ... قال الأطباء : ليست نوبة قلبية .. و لا عظام تهشمت .. لا احد اقتلع أظافره .. إنما هي نوبة غذائية .. سوء تغذية ... أو غياب تغذية ، لم افهم بالضبط .. هنا الخيرات كلها وهناك تؤكل .
اتضح انه شاب في العشرينات من عمره ، قبل سنوات قليلة كان يحمل الأثقال ويشارك في مسابقاتها .. طردته إحدى الدول العربية .. عاد إلى غزة .. قصفت إسرائيل مشروعه الصغير و تحالف كل الكون ضده .. فقد أباه في حرب لبنان .. فقد أخاه الأكبر في اجتياح مدينة رفح .. فقد أخاه الأوسط برصاص طائش لاقتتال داخلي .. أمه ماتت كمدا .
ساعده احد الناس وقدم له مبلغا زهيدا من المال .. توجه لشاطئ البحر و افترش الرمال و اخذ يبيع الذرة المشوية تحت سقف السماء و حرها اللاهب .. تقدمت لشراءعرنوس ذرة بهدف المساعدة والفضول و ليس بهدف الشراء .. حدقت بجسمه النحيل .. جلده يكشف عن أعضائه الداخلية .. قفصه الصدري بارز من تحت جلده كأنه مصور بصورة أشعة اكس .. انه شاب صغير بعد .. حدثني قلبي : أولادنا أكبادنا تحرق على الأرض ...
ينصب الكانون الصغير .. يأخذ بحرق العيدان الخشبية التي يلملمها مع الورق المقوى .. يهف عليها بغطاء طنجرة قديم مسربل بالسخام و الشحار ، التقطه من القمامة على ما يبدو.. ومرات يهف بطرف جلبابه المتسخ بالسواد .. يضع شبكة معدنية صغيرة ويصف عليها اكوازالذرة النيئة بانتظام و كأنها طابور عسكري مهزوم .. يقلبها الواحد تلو الآخركالأسرى بين يديه .. تبدأ بالاحمرار والنضج على مهل .. على نار هادئة فتصبح كالحقيقة المشهرة في وجه السلطان .. ثم يأخذ بالنداء : " ذرة مشوية .. ذرة مشوية .. يلا قبل ما يخلص .. يلا يا حبايب ... " . و لأنه أخنف بعض الشيء يخرج الكلام مخنوقاو كأنه يتكلم من انفه .. و قد استغنى عن فمه فلا يستخدمه إلا للنداء و الصراخ عندالحاجة الماسة .. و لا يعرف الضحك .. أو أن الضحك لا يجد طريقا لفمه و قلبه المثقل بالغبن والجوع .
يتوافد المصطافون إليه الواحد تلو الآخر لشراء عرا نيس الذرةالشهية .. سمعت احدهم : يا الهي ما ألذ رائحة الشواء ! .. تمتمت : يا الهي ما أقسى رائحة الشواء ! . صرت اشتري منه كلما توجهت إلى ذلك المكان .. حيث يقف ليصطادالزبائن بطريقة لطيفة خنفاء ومحببة للنفس .. توجهت إليه ذات يوم للاستمتاع بمذاق ماأبدعت يداه من شواء .. وجدته يهف على الذرة بشهادته الجامعية .
أظهره ضوء سيارة إسعاف قادمةمن بعيد .. من رأس الشارع .. أخذت معالمه تتضح أكثر فأكثر مع اقتراب السيارة .. كان مقرفصا على جنبه كالجنين في بطن أمه .. حملته السيارة للمشفى ... قال الأطباء : ليست نوبة قلبية .. و لا عظام تهشمت .. لا احد اقتلع أظافره .. إنما هي نوبة غذائية .. سوء تغذية ... أو غياب تغذية ، لم افهم بالضبط .. هنا الخيرات كلها وهناك تؤكل .
اتضح انه شاب في العشرينات من عمره ، قبل سنوات قليلة كان يحمل الأثقال ويشارك في مسابقاتها .. طردته إحدى الدول العربية .. عاد إلى غزة .. قصفت إسرائيل مشروعه الصغير و تحالف كل الكون ضده .. فقد أباه في حرب لبنان .. فقد أخاه الأكبر في اجتياح مدينة رفح .. فقد أخاه الأوسط برصاص طائش لاقتتال داخلي .. أمه ماتت كمدا .
ساعده احد الناس وقدم له مبلغا زهيدا من المال .. توجه لشاطئ البحر و افترش الرمال و اخذ يبيع الذرة المشوية تحت سقف السماء و حرها اللاهب .. تقدمت لشراءعرنوس ذرة بهدف المساعدة والفضول و ليس بهدف الشراء .. حدقت بجسمه النحيل .. جلده يكشف عن أعضائه الداخلية .. قفصه الصدري بارز من تحت جلده كأنه مصور بصورة أشعة اكس .. انه شاب صغير بعد .. حدثني قلبي : أولادنا أكبادنا تحرق على الأرض ...
ينصب الكانون الصغير .. يأخذ بحرق العيدان الخشبية التي يلملمها مع الورق المقوى .. يهف عليها بغطاء طنجرة قديم مسربل بالسخام و الشحار ، التقطه من القمامة على ما يبدو.. ومرات يهف بطرف جلبابه المتسخ بالسواد .. يضع شبكة معدنية صغيرة ويصف عليها اكوازالذرة النيئة بانتظام و كأنها طابور عسكري مهزوم .. يقلبها الواحد تلو الآخركالأسرى بين يديه .. تبدأ بالاحمرار والنضج على مهل .. على نار هادئة فتصبح كالحقيقة المشهرة في وجه السلطان .. ثم يأخذ بالنداء : " ذرة مشوية .. ذرة مشوية .. يلا قبل ما يخلص .. يلا يا حبايب ... " . و لأنه أخنف بعض الشيء يخرج الكلام مخنوقاو كأنه يتكلم من انفه .. و قد استغنى عن فمه فلا يستخدمه إلا للنداء و الصراخ عندالحاجة الماسة .. و لا يعرف الضحك .. أو أن الضحك لا يجد طريقا لفمه و قلبه المثقل بالغبن والجوع .
يتوافد المصطافون إليه الواحد تلو الآخر لشراء عرا نيس الذرةالشهية .. سمعت احدهم : يا الهي ما ألذ رائحة الشواء ! .. تمتمت : يا الهي ما أقسى رائحة الشواء ! . صرت اشتري منه كلما توجهت إلى ذلك المكان .. حيث يقف ليصطادالزبائن بطريقة لطيفة خنفاء ومحببة للنفس .. توجهت إليه ذات يوم للاستمتاع بمذاق ماأبدعت يداه من شواء .. وجدته يهف على الذرة بشهادته الجامعية .
******
البالة
توجه إلى البالة في الصباح الباكر كي يشتري قميصا أو أي رداء .. المكان مزدحم بالزبائن و المارة ..اشترى بنطلونا بثمن قليل .. فرحا توجه إلى البيت كي يريه لزوجته .. ارتداه و اخذ ينظر إليه في المرآة كمن لايصدق نفسه ، يقترب ويبتعد عنها كي يتقن الرؤية من جميع الزوايا و الاتجاهات .. زوجته تكيل الثناء والمديح و المباركة .. كذلك الأولاد جميعهم شاركوه الفرحةالعارمة .. زغاريد قوية طرقعت بها زوجته و لعلعت و اتبعتها بضحكات و سخسخات .. أماالجيران فطالبوه الحلوان ووعدهم بذلك .. لم تكن الفرحة بسبب البنطلون فقط ، إنماللورقة النقدية التي وجدها بإحدى الجيوب .. هي ورقة خضراء أنعشت روحه و كل أرواح الأسرة .
صار يحدق بورقة المائة دولار و يقلبها وجها وقفا .. يقربها من انفه ويبعدها ، كأنه يتأكد بكل حواسه من صدق ما يرى ، لدرجة انه كان يدعكها قرب إذنه ويطرب لخشخشتها ، ثم مرر عليها لسانه من أولها حتى آخرها .. اخذ يقبلها من جهتيها ويضعها على جبهته شكرا وحمدا لله على هذه النعمة و الخير الذي عم .
اجتمع أفرادالأسرة و تحلقوا حول طبلية الطعام .. يأكلون و يتحدثون ، كل يدلي بدلوه .. الزوجةتريد شراء أدوات منزلية للمطبخ .. الابن الأكبر يريد دراجة هوائية ، الأوسط يريدكرة قدم و حذاء رياضي ، الأصغر يريد شنطة فخمة للمدرسة و صندل .. البنت تريد فستانامدندش بسحاب من الخلف.
خرج الرجل من البيت وقد عزم الأمر على إيداعها في البنك .. يمشي بثقة فائقة وحزم كأنه رجل أعمال كبير عريق ، ويتأكد بأطراف أصابعه من صحةانثناءة ياقة قميصه كلما مشى بضعة خطوات. و يحسس على الورقة النقدية بجيبه ليتأكدمن وجودها .. كان يحس بدفء ها يسري في بدنه و يدغدغه .
وصل إلى البنك .. توجه إلى الشباك المخصص لإيداع النقود .. مسكها الموظف و أرجعها له و قد أصابه الغضب .. المائة دولار مزورة .
عاد الرجل و قد شعر بأنه افتقد ثروة ضخمة .. قرر أن يعمل ليل نهار كي يمتلك مائة دولار حقيقية .. اخذ ت زوجته و الأولاد بمواساته .. حملق بهم متسائلا : لماذا نحن فقراء ؟
اجتمع أفرادالأسرة و تحلقوا حول طبلية الطعام .. يأكلون و يتحدثون ، كل يدلي بدلوه .. الزوجةتريد شراء أدوات منزلية للمطبخ .. الابن الأكبر يريد دراجة هوائية ، الأوسط يريدكرة قدم و حذاء رياضي ، الأصغر يريد شنطة فخمة للمدرسة و صندل .. البنت تريد فستانامدندش بسحاب من الخلف.
خرج الرجل من البيت وقد عزم الأمر على إيداعها في البنك .. يمشي بثقة فائقة وحزم كأنه رجل أعمال كبير عريق ، ويتأكد بأطراف أصابعه من صحةانثناءة ياقة قميصه كلما مشى بضعة خطوات. و يحسس على الورقة النقدية بجيبه ليتأكدمن وجودها .. كان يحس بدفء ها يسري في بدنه و يدغدغه .
وصل إلى البنك .. توجه إلى الشباك المخصص لإيداع النقود .. مسكها الموظف و أرجعها له و قد أصابه الغضب .. المائة دولار مزورة .
عاد الرجل و قد شعر بأنه افتقد ثروة ضخمة .. قرر أن يعمل ليل نهار كي يمتلك مائة دولار حقيقية .. اخذ ت زوجته و الأولاد بمواساته .. حملق بهم متسائلا : لماذا نحن فقراء ؟
*****
من الأنف إلى النهد
لم يكن الليل قد اكتملت عتمته بعد ، هو بقايا أصيل يلفظ أنفاسه الأخيرة مثلما تفعل كل الأصايل . النادل غائب . جعجعة تشبه الغناءصاخبة عالية تضرب طبلة أذن كل من يقترب للمقهى ، لا احد سوى شاب بكتلة لحمية مهولةالضخامة مترامية الأطراف تكومت على كرسي مقابل تلفاز عتيق ، يشفط حسوة وراء حسوة من الشاي بنهم و بالشيشة يقرقر.. ليس بعيدا خلفه قعدت انتظر النادل لتلبية نداء مخّي بالقهوة و الشيشة .. انتظار استغاثة محفوف بالسأم و الملل .
بلهفة يحدق في شاشةالتلفاز و شغف .. تحول جسمه إلى عين جمة بعدسة محدبة عظيمة . كثير الانفعال و سريع التأثر بما يبحلق ، أخذ وجهه يضيء بالشهوة و بالشبق يتلألأ حتى توهج و بالكبت شعشع . هي أغاني فيديو كليب جديدة على ما يبدو ، كلماتها سوقية ، للحظة بدا ضجيجهاللموسيقى اقرب . تلاحق نظراته مغنيات عاريات يرقصن في غرف النوم و ينبطحن فتتدلى منهن الأثداء كالعناقيد ، و بالحمّام أيضا .. ها هي أصوات قبيحة مؤذية للحس تجأربما يشبه الغناء وتنعق .. صرت أترحم على كوكب الشرق أم كلثوم وهفا برأسي الموسيقارمحمد عبد الوهاب .. سابقي من عشاق غنائهما أنا ، و بالطرب الأصيل متيم .
بالفطرة قفزت يدي إلى جيبي ، سحبت علبة السجائر كي أخرج منها واحدة ، بالسليقة وضعت السيجارة في فمي و بالعادة امتدت يدي لتناول الولاعة .. الولاعة غير موجودة .. طلبت منه ولعة بصوت جهوري : ولعة .. يا أخ لو سمحت .. يا أستاذ . لكنه لا يرد و لا يحفل، كأنه أبدا غير موجود ، و كأني غير موجود أبدا.. كل حواسه تحولت إلى عين واحدةملتاعة متسمرة تشاهد ، كل خلية من خلايا جسمه تحولت إلى عين ثاقبة تحدق في جهازالتلفاز بنّهم طائل وشغف جم .. يرفع كف يده إلى فمه ، يسكب به من فمه بوسة ، يمسكهاجيدا خشية انزلاقها أرضا فتكسر ، يكوّرها براحة يده ، ثم يقذف بها شاشة التلفازفتترصع .. تفريغ كهربي كما الغيوم بينه و بين الشاشة .. بوسة عقب بوسة حتى عج المكان بالقبلات و ازدحم ، خلته يقتحم الشاشة ليقع على المغنيات الفاتنات حين تململ هائجا . بالتلفاز وجدتني أحدق أنا أيضا .. لم أر سوى فتيات بشفاه لذيذة منفوخةبعناية فائقة ، كأن بيكاسو رسمهما ، قبل النفخ كانت مثل نوى البلح الأصفر الناشف ،أنوف مسمسمة تم كشط الزائد منها بعملية جراحية .. نهود شدت بالسيلكون حتى تكوّرت وطلزت ، قبل الشد كانت تتدلى كالضرع .. فبدا أن مقومات الغناء تغيير السحنة من الأنف إلى النهد ، و الهيئة تغني نيابة عن الحنجرة .. أما عن المؤخرة فالحديث يطول و يمتد . أسراب من التأوهات و أرتال من الغنجات تخللت الغناء بالإثارة تغلفت و إلى القلوب انسلت .. ها هو ذا دمه يغلي بالشهوة ويبقبق و عظامه بالشبق تطقطق .
نداءالسيجارة كالدبوس يوخز راسي .. أخذت ازعق بصوت مرتفع : يا أخ ..ولعة .. يا أستاذ ،لو سمحت .. لا حياة لمن تنادي . صنم حي ضخم هائل هائم غائب حاضر . تارة يزم شفتيه وتارة يتلمظ . ها هو ذا يقعي .. خفت أن يهجم على التلفاز ، لكنه التهم ما تكوم أمامه من حلوى .
فجأة حضر النادل .. دهش مني . سألني مستغربا : كيف تزعق عليه ! ؟
قلت ببراءة جريئة : أريد ولعة .. لمّ لا ازعق به .. أعلى رأسه ريشة ؟
دب الضحك بالنادل حتى قهقه بجلجلة رنانة . بدوري سألته : لمّ تضحك ؟
أجاب بكلمات قدانسلت من ضحكاته : انه شخص أطرش !.
بالفطرة قفزت يدي إلى جيبي ، سحبت علبة السجائر كي أخرج منها واحدة ، بالسليقة وضعت السيجارة في فمي و بالعادة امتدت يدي لتناول الولاعة .. الولاعة غير موجودة .. طلبت منه ولعة بصوت جهوري : ولعة .. يا أخ لو سمحت .. يا أستاذ . لكنه لا يرد و لا يحفل، كأنه أبدا غير موجود ، و كأني غير موجود أبدا.. كل حواسه تحولت إلى عين واحدةملتاعة متسمرة تشاهد ، كل خلية من خلايا جسمه تحولت إلى عين ثاقبة تحدق في جهازالتلفاز بنّهم طائل وشغف جم .. يرفع كف يده إلى فمه ، يسكب به من فمه بوسة ، يمسكهاجيدا خشية انزلاقها أرضا فتكسر ، يكوّرها براحة يده ، ثم يقذف بها شاشة التلفازفتترصع .. تفريغ كهربي كما الغيوم بينه و بين الشاشة .. بوسة عقب بوسة حتى عج المكان بالقبلات و ازدحم ، خلته يقتحم الشاشة ليقع على المغنيات الفاتنات حين تململ هائجا . بالتلفاز وجدتني أحدق أنا أيضا .. لم أر سوى فتيات بشفاه لذيذة منفوخةبعناية فائقة ، كأن بيكاسو رسمهما ، قبل النفخ كانت مثل نوى البلح الأصفر الناشف ،أنوف مسمسمة تم كشط الزائد منها بعملية جراحية .. نهود شدت بالسيلكون حتى تكوّرت وطلزت ، قبل الشد كانت تتدلى كالضرع .. فبدا أن مقومات الغناء تغيير السحنة من الأنف إلى النهد ، و الهيئة تغني نيابة عن الحنجرة .. أما عن المؤخرة فالحديث يطول و يمتد . أسراب من التأوهات و أرتال من الغنجات تخللت الغناء بالإثارة تغلفت و إلى القلوب انسلت .. ها هو ذا دمه يغلي بالشهوة ويبقبق و عظامه بالشبق تطقطق .
نداءالسيجارة كالدبوس يوخز راسي .. أخذت ازعق بصوت مرتفع : يا أخ ..ولعة .. يا أستاذ ،لو سمحت .. لا حياة لمن تنادي . صنم حي ضخم هائل هائم غائب حاضر . تارة يزم شفتيه وتارة يتلمظ . ها هو ذا يقعي .. خفت أن يهجم على التلفاز ، لكنه التهم ما تكوم أمامه من حلوى .
فجأة حضر النادل .. دهش مني . سألني مستغربا : كيف تزعق عليه ! ؟
قلت ببراءة جريئة : أريد ولعة .. لمّ لا ازعق به .. أعلى رأسه ريشة ؟
دب الضحك بالنادل حتى قهقه بجلجلة رنانة . بدوري سألته : لمّ تضحك ؟
أجاب بكلمات قدانسلت من ضحكاته : انه شخص أطرش !.
****
وجبة كبيرة
بقلم : مجدي السماك
لمّا اشتد الحصار على غزة وطال حتى يئس عوض من الحصول على أي فرصة للعمل باع أسورة الذهب التي تزين معصم زوجته ، واشترىبثمنها كومة كبيرة من البطيخ . ثم صنع عريشه من جريد النخيل واخذ يمكث بها من الصباح حتى الليل . وهي فرصة أيضا للقاء أصدقائه للتسلية معهم في النهار والسمر حتى منتصف الليل .. وإن كان قد علَّقَ يافطة كبيرة من الورق المقوى وكتب عليها بخط رديءبالكاد يمكن قراءته : الدَّين ممنوع و العتب مرفوع والرزق على الله .
في جلسةعوض الأخيرة مع أصدقائه ظهر لهم من بعيد حمار هزيل برزت عظام مفاصله و بالكاديستطيع المشي ، و يئن بحمل حمدان وقد اخذ يلكزه بعقب صندله كي يحثه على الإسراع . ما أن رأوه قادما حتى غرقوا في الضحك والقهقهة المجلجلة .. واخذوا يتذكرون نوادره التي قيلت أمامهم ملايين المرات . فذكر احدهم كيف أن حمدان خلال الانتفاضة الأولى وضع كيسا صغيرا من النايلون في منتصف الشارع مما استدعى الجيش إلى جلب خبراءالمتفجرات من تل أبيب ليكتشفوا انه كيس مملوء بالزبالة . وذكر آخر كيف امسك به الجيش ذات يوم و هو يقذفهم بالحجارة فتظاهر بالجنون فأخلى الجند سبيله بعد أن أشبعوه ضربا ، فضحكوا كثيرا حتى أخذت موجات الضحك تتعالى مستدعية موجات أخرىوراءها.. أما عوض فذكر لهم كيف أن الجند داهموا الحارة ذات يوم أثناء قيام حمدان بكتابة الشعارات الوطنية على الجدران ، فارتبك و اختلطت عليه الأمور فبدل أن يهرب مبتعدا عن الجند جرى باتجاههم وارتطم بسيارتهم العسكرية فامسكوا به وسجنوه ستة شهور.. أخذت أجسادهم تهتز من شدة الضحك .. وضرب احدهم كفا بكف ناسيا أن بيده سيجارة فلسعته مما زاد من قوة تيارات الضحك العاتية المتعالية مع كل إشارة أو إيماءة أوكلمة من احدهم . على الرغم من احترامهم وحبهم لحمدان إلا أنهم كثيري التندر به ويحبون مداعبته واستفزازه في أحيان ليست قليلة .. مع إدراكهم تمام الإدراك مدىذكاءه الحاد و دهاءه النادر وشجاعته الفائقة .
وصل حمدان وألقى التحية فردوهابحفاوة ، حاول احدهم كتم ضحكة مباغتة لكنها خرجت مكتومة كعطسة الخروف . ثم طلبوامنه النزول عن ظهر الحمار ليشاركهم الحديث .. و صبّ له احدهم الشاي . تعمد عوض استفزازه كعادته فقال له متظاهرا الجد : أنت اضعف من حمارك يا حمدان .. فتعالت الضحكات والقهقهات الصاخبة حتى كادوا أن يختنقوا بجرعات الشاي فنفثوها من أفواههم كالنوافير في وجوه بعضهم البعض .. احدهم سالت ريالته وهو يسعل وجحظت عيناه بحشرجةخشنة متقطعة . لاح وجه حمدان بنصف ابتسامة صفراء وقال متصنعا الهزل : دعني آكل من هذا البطيخ علّني اسمن .. قالها وشفرات الجوع تفرم معدته .
عوض : بإمكانك أن تأكل ما تريد .
حمدان : حتى اشبع أنا وحماري ؟!
عوض : موافق
حمدان : كلام رجال ؟
عوض : نعم . كلام رجال ! ... قالها وهو يبرم طرفي شاربه الكث .
حمدان : انتم شهود على هذا الكلام يا رجال .
قالوا جميعا بإيقاع واحد أنهم يشهدون على ذلك . شمر حمدان عن ساعديه واخرج من الخرج سكينا كبيرا و انتقى بطيخة ضخمة و شقهاواخذ يأكلها بشراهة و يلقي بالقشور إلى الحمار الجائع الذي اخذ يلتهمها باطمئنان زائد وكأنه فهم الاتفاق ومراميه البعيدة . مدَّ حمدان يده وتناول بطيخة ثانية وفعل ما فعله مع الأولى . وهكذا استمر يتناول البطيخ واحدة إثر الأخرى ويأكل حتى امتقع وجه عوض وتخضب بالحمرة لكثرة ما أكل حمدان من بطيخ ، وهو الذي يمتاز ببشرة بيضاءوملساء مثل حبة الباذنجان . شبع الحمار من الأكل وانتفخ بطنه فأخذت تتكوم أمامه القشور .
توقف حمدان عن الأكل ففرح عوض وانبسط وجهه المشدود العابس .. لكن حمدان فك الزر عن بنطاله وعاود الأكل ثانية منتقيا البطيخات الكبيرات يشقها و يلقي بالقشور إلى نفس الكومة أمام الحمار الشبعان .. وعوض ينظر ويكاد أن تفقع مرارته وهويحدق في حمدان وكأنه لا يصدق ما يرى .. وبقية الرجال يحدقون أيضا مشدوهون وقد حلبهم العجب ونال منهم الغيظ .. أما عوض فقد نسي لذهوله الاستمرار في عدّ ما يأكله حمدان من بطيخ .. آخر عدد يذكره هو تسعة ، و لكن هذا الرقم كان قبل أن يشبع الحمار .. مما زاد من حنق عوض على نفسه وعلى اليوم الذي باع به أسورة زوجته ليتاجر بالبطيخ، وترجم حنقه إلى سيل من الشتائم طالت جدوده الأوائل وعصفت بشجرة عائلته كلها .
توقف حمدان مرة أخرى عن الأكل .. فشعر عوض بالارتياح الممزوج بالنكد . تناول حمدان إبريق الماء واخذ يشرب بنهم شديد .. ثم تابع شق البطيخ ليأكله والاحتفاظ بالقشور . صار عوض ينظر إليه بعيون شاردة وقد أحنى ظهره و وضع يده على بطنه كالممغوص .
توقف حمدان عن الأكل وخطا نحو قشور البطيخ يلملمها وعبأها في كيس كبير و ربطه بحبل مجدول .. ثم طلب من عوض أن يساعده في رفع الكيس على ظهر الحمار ،فساعده عوض وقد بدا على وجهه علامات النوم المغناطيسي .. همّ حمدان بالمغادرة لكن عوض زعق به ساخرا غاضبا متأففا: كلّ المزيد ! يبدو انك لم تشبع بعد ؟!
فعادحمدان وتناول بطيخة أخرى وشقها واخذ يلتهمها قائلا بهدوء : سآكل هذه البطيخة من أجلك .. خشية أن تزعل .
ركب حمدان حماره وذهب وهو يضحك و يقهقه حتى اهتزت كتفاه .. واخذ يردد بصوت خافت : يا رب سامحني .. لا احد يعلم إلى متى سيطول الحصار .
بدأت ليلةالزفاف
ألآن بدأت ليلة الزفاف . صار فواز عريسا ، قد لايعرفه من يراه بشعره المصفف النظيف اللامع والمدهون بالكريم ، وبدلة الفرح السوداءالتي اشتراها من البالة ، رغم أنها مستعملة لكنها تبدو جديدة وقد غيرت شكله وقلبته رأسا على عقب ، وإن كان في جيبها الجانبي ثقب صغير لا يظهر لأحد ، ثقب ابتلع قطعةنقود صغيرة إلى جوف البدلة ويئس فواز من التقاطه بعد محاولات عديدة ، فأحال أمره إلى وقت آخر ريثما ينتهي من مراسيم الفرح وطقوس ليلة الدخلة ، هذه الليلة التي انتظرها من سنين طوال ، وكاد قلبه أن يتوّرم من أجلها .. فهو متشوق إلى درجة أنه فكر بصرف المدعوين وتقديم عقارب الساعة ، كي يختصر الساعات ويصل بسرعة إلى ليلةعمره .
ما أن أصبح فواز وعروسه سهير داخل بيت الزوجية الضيق كعلبة السجائر ،حتى حملها بين ذراعية القويين والرفيعين كساقي خروف ، وبقدمه اليمنى بدأ خطاه متجهابها إلى غرفة النوم النظيفة والمرتبة بعناية ، مبتسما ، وقد لاحت في عينيه نظرات لها بريق أخاذ .. بريق به دفقات من خفايا قلبه ووراءه رعشة حياة ، وهي نظرات تقول كلاما فصيحا بلا أي كلمات ، وقد فهمتها سهير وسبرت أغوارها .. من المؤكد أنهافهمتها .. فهي من الراسخات في معاني الصمت ، بل ليس بمقدورها ألا تفهمها ، رغم ماغشيها من توتر ، وما حل بها من حياء .. فألذ أنواع الكلام إلى قلبها وأفصحه إلى عقلها هو ذلك الذي لا يقال .. بل هي على يقين أن للقلوب السنة لا تسمعها الآذان .
وضع كفا أسفل خاصرتها فوق عظمة الحوض ، وكفا على كتفها ، وأمال رأسه إلى الأمام لينال قبلة ساخنة من فمها المنتظر بشوق ، والملسوع بالرغبة ، لكنها رفعت رأسها قليلا بلا شعور منها ، فسقط فمه على أحد ثقبي أنفها الصغير، فغرقت بالخجل الذي تلبد به وجهها الأسمر والمدّور كقرص البيتزا ، وبالكاد ظهر على وجهها ابتسامةمكسوفة ، فطأطأت رأسها وقد أمالته قليلا إلى اليسار ، ليرتفع كتفها الأيسر قليلا عن كتفها الأيمن في محاولة منها لإخفاء الحياء وكتم الخجل ، وراح هو بالضحك الواني ،المتبوع بابتسامات عريضات ملأت كل أصقاع وجهه الطويل من أوله إلى آخره ، فبرز كل مابه من هضاب وتلال .. طبيعي أن يضحك الآن ، فهو الذي كان يتمنى أن يصاب بعاهة العمى أو الطرش ، أو حتى أي عاهة ، في سبيل أن يصبح عريسا لابنة حلال جميلة و طيبة مثل سهير .. ها هو الآن معها عريس لها بلا أي عاهة ، وإن كان جسمه نحيلا كالمّسلة ،ورغم ما قاساه من شقاء عندما كان يجمع النقود قليلها إلى أقلها حتى وصل إلى غايته ،ونال هذه الليلة المبتغاة .. فهو مثل بقية شبان الحارة ، بالعادة يتزوجون ،وبالعادة ينجبون ، وبقوة إرادة الحياة يعيشون .. هكذا هم .. يأخذون الدنيا غلابا .
دخل فواز إلى الحمّام ، ثم تخلص بسرعة ولهفة من كل شيء يستر جسده النحيل ، لم يبق سوى ساعة يده المقاومة للماء ، التي اشتراها من يومين بخمسة دولارات ، وأخذبشدة يفرك أسنانه المتباعدة بالفرشاة المغطاة بمعجون له طعم النعناع ، فأنعش فمه ورطب حلقه حتى أطراف بلعومه ، فأزال من فمه رائحة دخان السجائر الساطعة كرائحةألفنيك ، فصارت أسنانه تلمع مثل الزجاج المغسول ، ثم مدّ يده و فتح صنبور الماءلينعم بحمّام ساخن ولذيذ ، كي يزيل ما علق بجلدة الخشن كورق الصنفرة من عرق ، ويخفف ما يسري بجسده المنهنه من تعب .. بهمّة أخذ يدعك جسمه بقطعة ليف جديدة محاطةبالقماش ، اشتراها خصيصا من أجل ليلة العمر هذه ، فتغطى جسده برغوة الصابون وفقاعاته ، حتى بدا كأنه وسط كومة من القطن الأبيض المندوف المستعمل في العيادات ،ثم راح يفرك رأسه بشامبو له رائحة الفراولة ومخلوط بالفيتامين ، فخرجت الرغوة من بين أصابع كفيه كالعجين .. في هذه الأثناء على غفلة منه بسبب تسرعه وقلة صبره ،تزحلق ووقع أرضا فارتطم رأسه بالحائط ، لكنه وقف ثانية ميتا من الخوف كالملدوغ من عقرب ، ومقطوعة أنفاسه من الفزع والهلع ..
- يا سهير .. يا سهير .. أين أنت .
- نعم .. أنا هنا .
- لقد عميت .. لا أرى شيئا .. حتى أصابع كفي لا أراها .
- لا تقلق . الكهرباء .. لقد قطع التيار الكهربي .
- " الله يلعن أبوالكهربة على أبو يومها " .. وبعدين مع هذا الحال ! من سنين وأنا انتظر هذه الساعة .. أشعلي شمعة !
لكن سهير حديثة العهد في هذا البيت ، فلا تعرف أماكن الأشياء ،فأخذت تمشي بهدوء متخبطة و تتلمس الأشياء كالعمياء ، تحسس بيديها في هذه الظلمةالحالكة لليل ساكت ، فشبك طرف فستان الفرح الأبيض الناصع مثل اللبن الزبادي بطرف مسمار بارز في كرسي خشبي فشقه ، سمعت صوت تمزقه وكأنه شرخ في قلبها ، فهو فستان مستعار بالأجرة لهذه الليلة المنتظرة من سنين ، فجلست جانبا مستكينة ، صامتة ،كأنها تحصي أنفاسها اللاهثة المتقطعة ، وتبني على خديها بمناديل من الورق الناعم سدودا تصد بها تيارات الدموع المتدفقة من عينيها الجميلتين .. على حين أخذ هو يحاول بعصبية فتح باب الحمام ، الذي تعطّل ولم يفتح أبدا ، فقد خرب الزرفيل .. وصار مثل الحمار الذي يحرن عن المشي .. ها هو الوقت قد جاوز منتصف الليل بكثير ، والدنيانائمة في عتمة داجية ، والنهار بعيد ، والصمت جاثم على الصدور ، صمت لا يقطعه سوىصمت آخر هو صوت الليل الممطوط المعتم بإصرار عنيد .
وقع في يد سهير قطعة شمع بحجم عقلة الإصبع ، فأشعلتها واستبدلت الفستان الأبيض بملابس أخرى .. بينما جلس فواز في الحمام على كرسي بلاستيكي واضعا وركا فوق ورك ، بعد أن اضطر لارتداء نفس ملابسه المتسخة بالعرق ، وأخذ يخفف عن سهير مصابها بالفستان المشقوق ، ووعدها أن يشتري لها مثله عند خروجه بالسلامة من الحمّام ، رغم يأسه من امتلاك ثمنه في يوم من الأيام ، إلا أن كلامه كان لقلبها بلسما ، فهدأت أعصابها بعد أن تأوهت تأويهة طويلةوساخنة كالصهد .
بينما هو كذلك حثها على الاقتراب من باب الحمّام ، وأخذ ينقربطرف سبابته محددا بقعة تضع عليها خدها كي يقبلها من خلال خشب الباب ، وأخذ يرسل قبلات لها صوت أشبه بزامور دراجة هوائية ، طربت لها سهير حتى سرت في جسدها رعشةوأغمضت عينيها بوله هائمة كالمخدرة بالبنج ، وهو متيقن أن خدها وفمها يقعان في المجال الحراري للقبلة .. ثم تسلل كفه إلى جيبه فعثر على حبتين من الملّبس ، فأرسل إليها واحدة من تحت عقب الباب ، فهّرستها بلين بين فكيها ، أما هو فوضع الحبة في فمه وأخذ ينقلها من جانب إلى آخر ويطرب لقرقرة اصطدامها بأسنانه .. وتحفز للكلام فراح يحدثها عن المستقبل ورغبته بإنجاب ولد يعلمه الصحافة ، أو المحاماة ، وأن يختار له اسما ناعما كالموسيقا الهادئة ، بينما عبرت هي عن رغبتها بإنجاب بنت تختارلها اسمها وتعلمها المحاسبة ، ثم أخذا يضحكان كثيرا ، نوبات متتابعة من الضحك الصاخب حتى أمطرت العيون .. لكن الصمت ساد من جديد ، فشعرت سهير بالوحشة ، ممااضطره إلى مؤانستها بالمزيد من الحديث الجميل عن المستقبل ، وأخذ يقول لها نكات جعلتها تضحك حتى سالت على خديها قطرات الدموع باردة كحبيبات الثلج .. لكن ذلك لم يمنعها أن تسأله ..
- إلى متى سنبقى بلا كهرباء ؟
- إلى أن تمدنا إسرائيل بالوقود .
- ومتى ستمدنا إسرائيل بالوقود ؟
- عندما .. لمّا .. الله اعلم !
بدأت الشمس ترسل أولى خيوطها .. نادت سهير أحد الجيران ليكسر باب الحمام ،فكسره وعاد مسرعا ، فخرج فواز من الحمام كعصفور فلت من قفصه ، فتمتمت سهير بأرق : حمدا لله على سلامتك ، هيا ننام .. فحملق بها فواز وضمها إلى صدره بعد أن أخذها بين ذراعيه ، وزعق زعقة قوية مدهشة : ننام .. أي نوم .. قال نوم .. الآن بدأت ليلةالزفاف .
وضع كفا أسفل خاصرتها فوق عظمة الحوض ، وكفا على كتفها ، وأمال رأسه إلى الأمام لينال قبلة ساخنة من فمها المنتظر بشوق ، والملسوع بالرغبة ، لكنها رفعت رأسها قليلا بلا شعور منها ، فسقط فمه على أحد ثقبي أنفها الصغير، فغرقت بالخجل الذي تلبد به وجهها الأسمر والمدّور كقرص البيتزا ، وبالكاد ظهر على وجهها ابتسامةمكسوفة ، فطأطأت رأسها وقد أمالته قليلا إلى اليسار ، ليرتفع كتفها الأيسر قليلا عن كتفها الأيمن في محاولة منها لإخفاء الحياء وكتم الخجل ، وراح هو بالضحك الواني ،المتبوع بابتسامات عريضات ملأت كل أصقاع وجهه الطويل من أوله إلى آخره ، فبرز كل مابه من هضاب وتلال .. طبيعي أن يضحك الآن ، فهو الذي كان يتمنى أن يصاب بعاهة العمى أو الطرش ، أو حتى أي عاهة ، في سبيل أن يصبح عريسا لابنة حلال جميلة و طيبة مثل سهير .. ها هو الآن معها عريس لها بلا أي عاهة ، وإن كان جسمه نحيلا كالمّسلة ،ورغم ما قاساه من شقاء عندما كان يجمع النقود قليلها إلى أقلها حتى وصل إلى غايته ،ونال هذه الليلة المبتغاة .. فهو مثل بقية شبان الحارة ، بالعادة يتزوجون ،وبالعادة ينجبون ، وبقوة إرادة الحياة يعيشون .. هكذا هم .. يأخذون الدنيا غلابا .
دخل فواز إلى الحمّام ، ثم تخلص بسرعة ولهفة من كل شيء يستر جسده النحيل ، لم يبق سوى ساعة يده المقاومة للماء ، التي اشتراها من يومين بخمسة دولارات ، وأخذبشدة يفرك أسنانه المتباعدة بالفرشاة المغطاة بمعجون له طعم النعناع ، فأنعش فمه ورطب حلقه حتى أطراف بلعومه ، فأزال من فمه رائحة دخان السجائر الساطعة كرائحةألفنيك ، فصارت أسنانه تلمع مثل الزجاج المغسول ، ثم مدّ يده و فتح صنبور الماءلينعم بحمّام ساخن ولذيذ ، كي يزيل ما علق بجلدة الخشن كورق الصنفرة من عرق ، ويخفف ما يسري بجسده المنهنه من تعب .. بهمّة أخذ يدعك جسمه بقطعة ليف جديدة محاطةبالقماش ، اشتراها خصيصا من أجل ليلة العمر هذه ، فتغطى جسده برغوة الصابون وفقاعاته ، حتى بدا كأنه وسط كومة من القطن الأبيض المندوف المستعمل في العيادات ،ثم راح يفرك رأسه بشامبو له رائحة الفراولة ومخلوط بالفيتامين ، فخرجت الرغوة من بين أصابع كفيه كالعجين .. في هذه الأثناء على غفلة منه بسبب تسرعه وقلة صبره ،تزحلق ووقع أرضا فارتطم رأسه بالحائط ، لكنه وقف ثانية ميتا من الخوف كالملدوغ من عقرب ، ومقطوعة أنفاسه من الفزع والهلع ..
- يا سهير .. يا سهير .. أين أنت .
- نعم .. أنا هنا .
- لقد عميت .. لا أرى شيئا .. حتى أصابع كفي لا أراها .
- لا تقلق . الكهرباء .. لقد قطع التيار الكهربي .
- " الله يلعن أبوالكهربة على أبو يومها " .. وبعدين مع هذا الحال ! من سنين وأنا انتظر هذه الساعة .. أشعلي شمعة !
لكن سهير حديثة العهد في هذا البيت ، فلا تعرف أماكن الأشياء ،فأخذت تمشي بهدوء متخبطة و تتلمس الأشياء كالعمياء ، تحسس بيديها في هذه الظلمةالحالكة لليل ساكت ، فشبك طرف فستان الفرح الأبيض الناصع مثل اللبن الزبادي بطرف مسمار بارز في كرسي خشبي فشقه ، سمعت صوت تمزقه وكأنه شرخ في قلبها ، فهو فستان مستعار بالأجرة لهذه الليلة المنتظرة من سنين ، فجلست جانبا مستكينة ، صامتة ،كأنها تحصي أنفاسها اللاهثة المتقطعة ، وتبني على خديها بمناديل من الورق الناعم سدودا تصد بها تيارات الدموع المتدفقة من عينيها الجميلتين .. على حين أخذ هو يحاول بعصبية فتح باب الحمام ، الذي تعطّل ولم يفتح أبدا ، فقد خرب الزرفيل .. وصار مثل الحمار الذي يحرن عن المشي .. ها هو الوقت قد جاوز منتصف الليل بكثير ، والدنيانائمة في عتمة داجية ، والنهار بعيد ، والصمت جاثم على الصدور ، صمت لا يقطعه سوىصمت آخر هو صوت الليل الممطوط المعتم بإصرار عنيد .
وقع في يد سهير قطعة شمع بحجم عقلة الإصبع ، فأشعلتها واستبدلت الفستان الأبيض بملابس أخرى .. بينما جلس فواز في الحمام على كرسي بلاستيكي واضعا وركا فوق ورك ، بعد أن اضطر لارتداء نفس ملابسه المتسخة بالعرق ، وأخذ يخفف عن سهير مصابها بالفستان المشقوق ، ووعدها أن يشتري لها مثله عند خروجه بالسلامة من الحمّام ، رغم يأسه من امتلاك ثمنه في يوم من الأيام ، إلا أن كلامه كان لقلبها بلسما ، فهدأت أعصابها بعد أن تأوهت تأويهة طويلةوساخنة كالصهد .
بينما هو كذلك حثها على الاقتراب من باب الحمّام ، وأخذ ينقربطرف سبابته محددا بقعة تضع عليها خدها كي يقبلها من خلال خشب الباب ، وأخذ يرسل قبلات لها صوت أشبه بزامور دراجة هوائية ، طربت لها سهير حتى سرت في جسدها رعشةوأغمضت عينيها بوله هائمة كالمخدرة بالبنج ، وهو متيقن أن خدها وفمها يقعان في المجال الحراري للقبلة .. ثم تسلل كفه إلى جيبه فعثر على حبتين من الملّبس ، فأرسل إليها واحدة من تحت عقب الباب ، فهّرستها بلين بين فكيها ، أما هو فوضع الحبة في فمه وأخذ ينقلها من جانب إلى آخر ويطرب لقرقرة اصطدامها بأسنانه .. وتحفز للكلام فراح يحدثها عن المستقبل ورغبته بإنجاب ولد يعلمه الصحافة ، أو المحاماة ، وأن يختار له اسما ناعما كالموسيقا الهادئة ، بينما عبرت هي عن رغبتها بإنجاب بنت تختارلها اسمها وتعلمها المحاسبة ، ثم أخذا يضحكان كثيرا ، نوبات متتابعة من الضحك الصاخب حتى أمطرت العيون .. لكن الصمت ساد من جديد ، فشعرت سهير بالوحشة ، ممااضطره إلى مؤانستها بالمزيد من الحديث الجميل عن المستقبل ، وأخذ يقول لها نكات جعلتها تضحك حتى سالت على خديها قطرات الدموع باردة كحبيبات الثلج .. لكن ذلك لم يمنعها أن تسأله ..
- إلى متى سنبقى بلا كهرباء ؟
- إلى أن تمدنا إسرائيل بالوقود .
- ومتى ستمدنا إسرائيل بالوقود ؟
- عندما .. لمّا .. الله اعلم !
بدأت الشمس ترسل أولى خيوطها .. نادت سهير أحد الجيران ليكسر باب الحمام ،فكسره وعاد مسرعا ، فخرج فواز من الحمام كعصفور فلت من قفصه ، فتمتمت سهير بأرق : حمدا لله على سلامتك ، هيا ننام .. فحملق بها فواز وضمها إلى صدره بعد أن أخذها بين ذراعيه ، وزعق زعقة قوية مدهشة : ننام .. أي نوم .. قال نوم .. الآن بدأت ليلةالزفاف .
******
ممنوع التصدير
الحصار محكمة حلقاته ، الفقر ، الفقر ينتشر فتجف العقول . الحصار ، في الحصار يقف وسط السوق أمام صناديق الطماطم الممنوعة ، يجأربأعلى صوته .. وفي الحصار يزداد الفقر قبحا ، وفي الفقر تفرغ الجيوب فتتصلب الأعصاب .
الرياح شديدة باردة تقرص الوجوه الإنسية في الصباح وتحرقها ، وتتخضب أطراف الأنوف بحمرة قاسية تجبرها على السيلان ، ويشعر المرء أن أذنيه قد تجمدتا ، وهي مناطق حساسة يطيب ويحلو للبرد لسعها أكثر من غيرها .. ليس هذا ما يضايق الشاب مصطفى، الذي تعود على البرد وتعود البرد عليه منذ نعومة أظافره ، أظافره التي انكمشت وصارت كمخالب النسر مع مرور السنين المليئة بالهموم .. ومع هذا فقد وقف وسط السوق مرتديا سترته الباهتة ذات السحّاب الخربان ، ممسكا دفتيها بكف ، والكف الآخر مدسوس في جيب بنطلونه الفضفاض الذي اشتراه من سنين ، أيام موضة البنطلونات الواسعة .. ويخطر في بالك حين تنظر إلى ملابسه أنها من مخلفات العثمانيين ، وربما تظن أنه سرقها من متحف للآثار ، وقد يدفعك تهورك لأن تحلف أغلظ الأيمان على أنها لم تغسل في يوم ما .. وقبل أن يبدأ بصف وترتيب صناديق الطماطم غطى رأسه بكوفيته الفلسطينيةولفها حول رقبته وترك طرفها يتدلى على قفاه .. فصار رأسه المحمول على جسده الرفيع الطويل يظهر من بعيد مثل الهمزة فوق حرف الألف .
لمّا فرغ مصطفى من صف الصناديق وأصبحت كالبنيان المرصوص أخذ ينادي بأعلى صوته ليبيعها ، وهو يجأر بصوت قبيح لكنه عميق وقوي يلفت انتباه الناس إليه من أول الشارع إلى آخره ، ويحاول أحيانا أن يلحن الكلام وينغمه فيمط حرف الميم متلذذا مرة ويشده في أخرى ..
- طماطم .. دمعة ياطماطم .. أحلا طماطم في الدنيا .
اقترب رجل في مرحلة الكهولة من عمره وحدق إلى الصناديق بنظرات حائرة ثم سأل بصوت جهير وحاد أقرب إلى نقيق الضفادع :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب مبتسما :عشرة شواقل .
- يا لطيف !.. غالية جدا ! .. هل هي من جنات الفردوس ؟.. من يمتلك هذا المبلغ في ظل الحصار؟
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
رفع الرجل رأسه غير مكترث ، وعوج فمه إلى اليمين فارتفع طرف شاربه الغزير المبروم بإتقان حتى كاد أن يلامس شحمة أذنه ، ثم راح في طريقه إلى حال سبيله ، مسرعا كأنه هارب من عفريت .
أطرق مصطفى يفكر ، يعصر رأسه بين يديه ، فإن لم يبع الطماطم فسيذهب تعبه سدى ، تعبه وهو يزرع الطماطم ، ومشقةقطفها في الصباح الباكر وهو ينشب أصابع قدميه في طين الأرض البارد ، وسيخسر أموالا كثيرة ، أموال الريّ والبذر والنقل وغيرها .. سيخسر .. من المؤكد انه سيخسر .
قطع خلوته مع نفسه صوت مبحوح لامرأة عجوز ، سألته بصوت مخنوق كالفحيح الصادرعن حنجرة مثقوبة :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب بهدوء قلق :عشرة شواقل .
- يا سلام ، السعر مولع نار! ألا تعلم أن النقود عزيزة في هذه الأيام ؟
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
عدلت العجوز ظهرها ، وأحكمت قبضتها على عكازها وراحت تنقر بطرفه الأرض مبتعدة عنه ، مثلما يبتعد المرء عن قنبلةموقوتة لا يعرف متى ستنفجر ، وأخذ فمها يحمحم ويتبرم قبل أن تغلقه بشفتين نشفتهماالأيام .
جلس مصطفى على صندوق خشبي واضعا فخذا فوق فخذ ، وركز خدّه في راحته ،لكنه رفع رقبته ومطها عندما اقترب منه صبي في العاشرة من عمره ، وجهه مرصع ببقع القشب البيضاء ، يضع على رأسه طاقية لها زعبوط ، يتلكأ متسكعا ويمضغ آخر لقمة من ساندويتش فلافل ، أخذ يسأل مبتسما :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب بتثاقل ووجه عابس : عشرة شواقل .
- لماذا ؟ هل هي طماطم مصنوعة من ذهب ؟
- هي مجهزةللتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
ضحك الصبي ضحكات حادة متقطعة كالصهيل ،وسالت من فمه ريالة لزجة كشربة زيت الخروع ، مسحها بكمه ، وأخرج لسانه مستهزئا وفرهاربا مقهقها.
عاد مصطفي يفكر من جديد في كيفية تدبر الأمر ، وقرر أن يخفض الثمن ويبيع الطماطم بخسارة .. نعم . لقد قرر أن يخسر كي ينقذ ما يمكن إنقاذه .. اعتدل من جديد عندما رأى سميحة ابنة صائغ الذهب متجهة نحوه ، بثوب طويل واسع يخفي تحته جسداجميلا كأنه مجبول بماء الورد ، وهي صبية في ريعان الشباب ، وإن كانت تمشي ببطء بسبب البواسير .. ردد مصطفى بصوت مرتفع للمرة المليون منذ الصباح الباكر : " يا صّباح يافتّاح يا رزاق يا كريم" ، وأخذ يتمتم الأدعية والأذكار الخاصة بالرزق ، ويبتهل إلى الله باسطا كفيه في الهواء ومسلطا نظراته إلى قبة السماء .. اقتربت منه سميحة وصاربإمكانه تمييز وجهها الحلو الناعم المنتوف منه الشعر بعناية ، حتى بات يبرق كصينيةالنحاس المجلية بفلقة ليمون ، وأخذت تحدق إلى الصناديق تتفرس بعينين ضُمت جفونهما ،وقد تقاربت حواجبهما الرفيعان كسن قلم الرصاص حتى كادا أن يتلامسا ، وسألت بصوت رفيع ناعم مليء بالدلال :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب متبرما على مضض : ثلاثةشواقل .
- يا سلام .. رخيصة جدا !
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
لكن الفأر لعب في عب سميحة ، وأصابها الوسواس ، فعادت تستوضح الأمر :
- يبدو أنها طماطم معفنة!
- قال وهو يضرب بكفه ظهر فخذه : اقسم بالله أنهاجيدة ..علىّ الطلاق أنها أحلا طماطم .. وحياة أولادي أنها للتصدير .
عطفت ظهرهاوأشارت بسبابتها إلى أحد الصناديق السفلية وطلبت منه إخراجه ، ولمّا أخرج الصندوق بعد عناء من بين الصناديق الكثيرة المتراصة طلبت منه أن يقلب ما به على الأرض كيت تأكد من سلامة الطماطم في قاع الصندوق ، ثم تساءلت بهمّة عالية ..
- أتوافق علىبيع الصندوق باثنين من الشواقل ؟
نفرت خدود وجهه العابس باضطراب ، ارتجفت ذراعاه ، وارتخت كل مفاصله فور أن سرت في جسده رعشة اهتزت لها قدماه وتضعضعت ، حتى فقدت قدرتها على حمل جسمه ، وقد آل إلى السقوط لولا أن أسندته عربة عبد الحميد بائع المهلبية ، المجاور له ، ثم اتكأ على ذراع عبد الحميد ، وما انفكت أنفاسه تتدفق لاهثة ، كأن روحه تحاول أن تترك جسده وهو يكافح ويكافح كي يجلس على صندوقه الخشبي ،وما هي سوى دقائق حتى قام يرفس الصناديق بحذائه الممزق شاتما الدنيا ومن عليهابسيول من الشتائم السافلة الرذيلة ، بعض هذه الشتائم طالت الحكام وشجرات عائلاتهم بعروقها وأوراقها ، ثم أمسك بصناديق الطماطم يرميها ويكبها وسط السوق وهو يزمجر ..
- إسرائيل منعت تصديرها .. إسرائيل منعت تصديرها ...
حاول بعض الناس الإمساك به لتهدئته ، لكنه ملص من بين أيديهم وعاد أدراجه إلى بيته ، وهويضرب قدميه بالأرض ويدقهما بما يشبه المشية العسكرية زاعقا بلا توقف حتى وصل إلى بيته : إسرائيل منعت تصديرها ... ما أن دخل البيت ووجد زوجته مشغولة بكنسه حتى صرخ في وجهها صرخات قوية جعلتها تجفل وتفلت المكنسة من يدها : إسرائيل منعت تصديرها .. إسرائيل منعت تصديرها .
لمّا فرغ مصطفى من صف الصناديق وأصبحت كالبنيان المرصوص أخذ ينادي بأعلى صوته ليبيعها ، وهو يجأر بصوت قبيح لكنه عميق وقوي يلفت انتباه الناس إليه من أول الشارع إلى آخره ، ويحاول أحيانا أن يلحن الكلام وينغمه فيمط حرف الميم متلذذا مرة ويشده في أخرى ..
- طماطم .. دمعة ياطماطم .. أحلا طماطم في الدنيا .
اقترب رجل في مرحلة الكهولة من عمره وحدق إلى الصناديق بنظرات حائرة ثم سأل بصوت جهير وحاد أقرب إلى نقيق الضفادع :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب مبتسما :عشرة شواقل .
- يا لطيف !.. غالية جدا ! .. هل هي من جنات الفردوس ؟.. من يمتلك هذا المبلغ في ظل الحصار؟
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
رفع الرجل رأسه غير مكترث ، وعوج فمه إلى اليمين فارتفع طرف شاربه الغزير المبروم بإتقان حتى كاد أن يلامس شحمة أذنه ، ثم راح في طريقه إلى حال سبيله ، مسرعا كأنه هارب من عفريت .
أطرق مصطفى يفكر ، يعصر رأسه بين يديه ، فإن لم يبع الطماطم فسيذهب تعبه سدى ، تعبه وهو يزرع الطماطم ، ومشقةقطفها في الصباح الباكر وهو ينشب أصابع قدميه في طين الأرض البارد ، وسيخسر أموالا كثيرة ، أموال الريّ والبذر والنقل وغيرها .. سيخسر .. من المؤكد انه سيخسر .
قطع خلوته مع نفسه صوت مبحوح لامرأة عجوز ، سألته بصوت مخنوق كالفحيح الصادرعن حنجرة مثقوبة :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب بهدوء قلق :عشرة شواقل .
- يا سلام ، السعر مولع نار! ألا تعلم أن النقود عزيزة في هذه الأيام ؟
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
عدلت العجوز ظهرها ، وأحكمت قبضتها على عكازها وراحت تنقر بطرفه الأرض مبتعدة عنه ، مثلما يبتعد المرء عن قنبلةموقوتة لا يعرف متى ستنفجر ، وأخذ فمها يحمحم ويتبرم قبل أن تغلقه بشفتين نشفتهماالأيام .
جلس مصطفى على صندوق خشبي واضعا فخذا فوق فخذ ، وركز خدّه في راحته ،لكنه رفع رقبته ومطها عندما اقترب منه صبي في العاشرة من عمره ، وجهه مرصع ببقع القشب البيضاء ، يضع على رأسه طاقية لها زعبوط ، يتلكأ متسكعا ويمضغ آخر لقمة من ساندويتش فلافل ، أخذ يسأل مبتسما :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب بتثاقل ووجه عابس : عشرة شواقل .
- لماذا ؟ هل هي طماطم مصنوعة من ذهب ؟
- هي مجهزةللتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
ضحك الصبي ضحكات حادة متقطعة كالصهيل ،وسالت من فمه ريالة لزجة كشربة زيت الخروع ، مسحها بكمه ، وأخرج لسانه مستهزئا وفرهاربا مقهقها.
عاد مصطفي يفكر من جديد في كيفية تدبر الأمر ، وقرر أن يخفض الثمن ويبيع الطماطم بخسارة .. نعم . لقد قرر أن يخسر كي ينقذ ما يمكن إنقاذه .. اعتدل من جديد عندما رأى سميحة ابنة صائغ الذهب متجهة نحوه ، بثوب طويل واسع يخفي تحته جسداجميلا كأنه مجبول بماء الورد ، وهي صبية في ريعان الشباب ، وإن كانت تمشي ببطء بسبب البواسير .. ردد مصطفى بصوت مرتفع للمرة المليون منذ الصباح الباكر : " يا صّباح يافتّاح يا رزاق يا كريم" ، وأخذ يتمتم الأدعية والأذكار الخاصة بالرزق ، ويبتهل إلى الله باسطا كفيه في الهواء ومسلطا نظراته إلى قبة السماء .. اقتربت منه سميحة وصاربإمكانه تمييز وجهها الحلو الناعم المنتوف منه الشعر بعناية ، حتى بات يبرق كصينيةالنحاس المجلية بفلقة ليمون ، وأخذت تحدق إلى الصناديق تتفرس بعينين ضُمت جفونهما ،وقد تقاربت حواجبهما الرفيعان كسن قلم الرصاص حتى كادا أن يتلامسا ، وسألت بصوت رفيع ناعم مليء بالدلال :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب متبرما على مضض : ثلاثةشواقل .
- يا سلام .. رخيصة جدا !
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
لكن الفأر لعب في عب سميحة ، وأصابها الوسواس ، فعادت تستوضح الأمر :
- يبدو أنها طماطم معفنة!
- قال وهو يضرب بكفه ظهر فخذه : اقسم بالله أنهاجيدة ..علىّ الطلاق أنها أحلا طماطم .. وحياة أولادي أنها للتصدير .
عطفت ظهرهاوأشارت بسبابتها إلى أحد الصناديق السفلية وطلبت منه إخراجه ، ولمّا أخرج الصندوق بعد عناء من بين الصناديق الكثيرة المتراصة طلبت منه أن يقلب ما به على الأرض كيت تأكد من سلامة الطماطم في قاع الصندوق ، ثم تساءلت بهمّة عالية ..
- أتوافق علىبيع الصندوق باثنين من الشواقل ؟
نفرت خدود وجهه العابس باضطراب ، ارتجفت ذراعاه ، وارتخت كل مفاصله فور أن سرت في جسده رعشة اهتزت لها قدماه وتضعضعت ، حتى فقدت قدرتها على حمل جسمه ، وقد آل إلى السقوط لولا أن أسندته عربة عبد الحميد بائع المهلبية ، المجاور له ، ثم اتكأ على ذراع عبد الحميد ، وما انفكت أنفاسه تتدفق لاهثة ، كأن روحه تحاول أن تترك جسده وهو يكافح ويكافح كي يجلس على صندوقه الخشبي ،وما هي سوى دقائق حتى قام يرفس الصناديق بحذائه الممزق شاتما الدنيا ومن عليهابسيول من الشتائم السافلة الرذيلة ، بعض هذه الشتائم طالت الحكام وشجرات عائلاتهم بعروقها وأوراقها ، ثم أمسك بصناديق الطماطم يرميها ويكبها وسط السوق وهو يزمجر ..
- إسرائيل منعت تصديرها .. إسرائيل منعت تصديرها ...
حاول بعض الناس الإمساك به لتهدئته ، لكنه ملص من بين أيديهم وعاد أدراجه إلى بيته ، وهويضرب قدميه بالأرض ويدقهما بما يشبه المشية العسكرية زاعقا بلا توقف حتى وصل إلى بيته : إسرائيل منعت تصديرها ... ما أن دخل البيت ووجد زوجته مشغولة بكنسه حتى صرخ في وجهها صرخات قوية جعلتها تجفل وتفلت المكنسة من يدها : إسرائيل منعت تصديرها .. إسرائيل منعت تصديرها .
*****
أرملة في غزة
الجسد الأسمر يرتعش والذراع ، والكف المرفوع أيضايرتعش ، بشدة ، والسبابة التي ضغطت كبسة الجرس وأطالت ضغطها كانت تنتفض كالعصفورالمبلول بماء بارد ، سمع رنات الجرس الشبيهة بزقزقة البلابل الطليقة .. وقف لحظةينتظر أن تفتح له الباب أخته الأرملة ، هي لحظة تختلف عن كل اللحظات التي مر بها في حياته ، وشعر كأنها تمتد به إلى ملايين السنين ، والأرض تميد تحت حذاءه المغطى بالغبار، لقد نسي أن يمسحه .. ها هو ذا يقف بوجه عابس ، وربما للمرة الأولى في حياته يعبس وجهه المستطيل ، وينخر الحزن عظامه ويحز في أعماق قلبه .. فمعروف عنه أنه كثير الضحك والمزاح ، أو هو كتل ملتهبة وعواصف قوية من الضحك تهب في حين وتضعف في حين آخر ، لكنها لا تنتهي .. وعادة ما يختم ضحكته بصرير أو يتبعها بصفير حاد بعدشهقة عميقة ، فيبدو كأنه يكبحها فجأة بفرامل قوية مثبتة في حنجرته توقف حبالهاوتمسك بلسانه .. حتى عندما يضحك ضحكات وانية فهو يهيئ نفسه ومن حوله إلى موجات قادمة عاتية من الضحك الهادر ، كالهدوء الذي يسبق العاصفة ، ومن عادته أن يضحك بذمةوضمير ليمنح النفس حقها في الحياة ، هكذا هو إبراهيم ومن المحال لأي أحد ممن يعرفونه تخيله إلا ضاحكا أو مبتسما في الأقل .. وكان دائما يردد أنا اضحك إذن أناموجود .. أكيد موجود .. ومن عادته أن يضحك في الأحزان ، أحزان جيرانه وأقاربه حتى أقرب الأقارب ، لا يكترث إلى من هم الحزانى ، إلى درجة انه يضحك ويطلق العنان لفمه الواسع بالقهقهة في بيوت العزاء ، فتلتف الناس حوله في دائرة تتسع وتتسع مع زحف الدقائق ، فيغشاهم الضحك حتى ينسوا أنهم في بيت عزاء ، كأنهم يقايضون الحزن بالضحك، ويستبدلون البلية بالابتسامات العريضات ، وقد تأخذ الابتسامات بالتحول إلى ضحكات عالية ، فيتحول العزاء إلى ما يشبه العرس أو الحفل السامر ، فيمد من يجلس بعيدا عنه رقبته ويحرك رأسه ويميل بجسده حتى يتقوّس ، كي يرى وجهه من بين الأجساد الملتفةالمكومة ، وبعضهم يميل رأسه ويحركه مسلطا أذنه بفضول صوب مصدر الصوت ، عله يلتقط كلمة أو يختلس جمله تسعفه بابتسامة ، حتى من يستاء لضحكاته كان يضحك ، والغبي منهم الذي لا يفهم نكاته كان أيضا يضحك ، كل هذا يحدث بلا ميعاد أو اتفاق ، فيكون للضحك متعة أكبر ورونق أجمل ، فألذ الضحك وأمتعه إلى القلوب هو ذلك الذي يأتي بلا أي ميعاد .. وفي المشفى بحكم أنه ممرض من عشر سنين اكتسب خبرات كثيرة في الطب ، فكان يسخر وينثر النكات لهفوات الأطباء حديثي العهد بالمهنة ، فيضحك جميع الموظفين ، حتى المرضى كانوا يضحكون ، وفاقدو الأمل منهم بالحياة كانوا أيضا يضحكون ، فكأن عزرائيل يجذبهم إلى جهة وإبراهيم يجذبهم إلى جهة أخرى . وله محاولات عديدة فاشلة في تعلم العبوس ، كثيرا ما كان يقف أمام المرآة محاولا التدرب على رسم تكشيرة صارمة على وجهه ، وذلك بتجعيد إرادي لجبينه وشده حتى يتقارب حاجباه العريضان المنفوشان وينحدران إلى الأسفل كالمظلة ، ويضغط عضلات وجهه حتى تنتفخ عروق رقبته وتنفرعضلاتها ، فتبرز حنجرته في أعلى رقبته مهتزة كسنام جمل يحث الخطوات ، لكنها لحظة لاتزيد عن ثانيتين أو ثلاث حتى يرتخي وجهه من جديد ويغرق بضحك عميق صاخب ما أسرع أن يتعالى إلى قهقهات مجلجلات .
مد يده وضغط كبسة الجرس مرة أخرى ، بات يتمنى أن لايجد أخته في البيت ، أو تنشق الأرض وتبلعه ، فالأمر الوحيد الذي يشغل باله الآن ويزلزل كيانه هو طريقة إخبارها بموت ابنها الوحيد عبد الحميد في مجزرة ومحرقة غزةفي مخيم جباليا ، مات عبد الحميد قبل ساعات قليلة ، وهو في السابعة من عمره ، كل عمره، ولدته أمه بعد سنين مريرة من العلاج المضني ، وبعدما باعت كل ما لديها من صيغةوأنفق زوجها كل ما لديه في البنك من نقود ، النقود التي جمعها عندما كان يعمل في السعودية سنوات طوال .. وهي حزينة على زوجها الذي مات بحسرته قبل شهر بالفشل الكلوي، بعدما أحكمت إسرائيل حصارها القاتل على غزة ولم يجد الدواء وتوقفت أجهزة المشفى عن العمل لانقطاع الكهرباء ، وأخته حزينة وغارقة في حزنها على أخيها الذي مات بالجلطة منذ شهرين قبل العيد الكبير بيوم واحد ، مات لنفس الأسباب ، وإن كان موتهمامن النوع النادر في غزة ، فقد ماتا وأجسادهما كاملة غير منقوصة وغير ممزقة وبلا أي ثقوب لرصاص إسرائيلي أو قذائف ، إلا أنه موت أجساد محاصرة بالمرض ومحاصرة بالحصارالخانق القاتل الملفوف حولهم بصمت من كل الجهات .. كيف سيتحدث مع أخته ؟ وكيف سيخبرها ؟ كيف .. كيف .
مد كفه للمرة الثالثة وضغط على كبسة الجرس ، فتحت أخته الباب ، ما أن رأته حتى راق وجهها الحزين وتوهجت ملامحه وانتعش في وسطه ابتسامة ..
- تفضل يا أخي .. ادخل يا إبراهيم.. أهلا وسهلا.. " وين هال غيبه"
- كيف حالك .. إن شاء الله بخير.. أيقظتك من نومك! .
- بخير .. لم أكن نائمة .. تفضل.. طالما أنت بخير فأنا بخير.
راحت مسرعة تبسط له الفراش وجلبت وسادتين ، كي يسندظهره إلى الحائط بواحدة ويضطجع بكوعه على الأخرى ، وأخذ يحمّلق إلى وجهها ، ويتابع بعينيه الواسعتين مشيتها بثوبها الأسود الطويل الكاسي ، هو ثوب الحداد .. بالنسبةلأخته لم تكن زيارته مجرد زيارة عادية كالزيارات ، إنما كانت دفء حياة وجرعة أنس ونسمة أمل .
جلست مقابله ، نظرت إلى وجهه المكشر ، دون أن تلاحظ صفرته أو ازرقاق جفنيه ، فظنت أنه كعادته يقلد تكشيرة الفنان عادل إمام ، في مسرحية مدرسة المشاغبين، فراحت تضحك بعمق وهي لا تريد أن تضحك ، أو حتى تبتسم ، لمّا أفرغت ما بقلبها من ضحك لعنت الشيطان عدة لعنات واستغفرت الله عدة مرات ، وأخذت تحوقل وهي تحدق بصورةزوجها المعلقة بمسمار على الحائط ، انتابها شعور داخلي بالذنب لأنها ضحكت وهي مازالت في ثياب الحداد ..
- " الله يقطع شيطانك يا إبراهيم .. أضحكتني رغما عني ".
- " الله يلعن كل الشياطين في هذه الدنيا .. اضحكي يا أختي ..اضحكي ".
نهضت أخته بتثاقل وهي تتثاءب واضعة يدها على فمها وراحت تجهز له الشاي ، أخذت تتحدث بصوت لزج أثناء توجهها إلى المطبخ مذكرة إياه بالهدية التي وعد بها عبدالحميد لأنه حصل على درجات كاملة في الامتحانات الشهرية ، امتحانات شهر فبرايرالماضي ، فنحن الآن في مطلع شهر مارس ..
- أين الحذاء الرياضي الذي وعدت به عبدالحميد ؟ وعد الحر دين عليه !
- أي حذاء ! .. آه .. نسيت .. غدا سأشتريه .
- جميع درجاته كاملة ، الله يرضى عليه لقد رفع رأسنا عاليا في السماء ، فهو اشطر طالب في المدرسة.. الحمد لله .. صار لي ابنا يروح إلى المدرسة ويأخذها الأول .. يا رب أعيش لغاية ما أراه ينهى تعليمه الجامعي .
- آه .. ما شاء الله .. بالكاد استطاع النطق ، وأوشكت عيناه أن تذرفان لولا أن مقاومته لهما كانت قوية وقاسية .
- وأنا سأجهز لك الشاي الغامق الثقيل مع النعناع الذي يحبه قلبك .
لم يكن بإمكان عقله أن ينسى الساعات الماضية ، والساعات لم تكن تنساه ، بل هو محفور بها وهي متغلغلة به ، داهمته بكل تفاصيلها .. ففيها كان وسط الأجساد البشرية الممزقةالناقصة أعضاء ، أو محروقة متفحمة ، أو مثقوبة ، وكومات من الأشلاء يفتش عن أجسادها، ويودع الموتى الثلاجات .. كل هذا وسط الازدحام ، والعويل والنحيب والصراخ ، حتىالرجال كانوا يبكون ويصرخون ، ويعلو صراخهم ويعلو حتى يفلق الأفق ، كل شيء حوله يبكي ويصرخ : الجدران ، الأّسرة ، أجهزة التنفس ، الكراسي ، الطاولات ، جهاز الأشعة، الحجارة عبر النافذة ، حتى السماء كانت تبكي .. لا وقت لديه لأن يمسح العرق عن جبينه ، حتى نسي أن يأكل ، نسي أنه بحاجة إلى دورة المياه ، نسي أن يصلي ، ولماذكره زميلة بالصلاة انتهز لحظات قليلات لها ، لكنه اضطر لقطع الصلاة بعد أداءالركعة الأولى مع وصول سيارة إسعاف تحمل جثثا وأشلاء ومصابين ، وأخذ يحاول إعادةالنبض إلى قلوب بعضها ، هي أجساد مرصعة بالثقوب الكثيرة ، ثقوب واسعة باتساع فوهةالفنجان ، وزميله يحاول أن يضغط عليها بيديه لإغلاقها محاولا إيقاف نزيفها المتدفق كالنافورة .. شعر للحظات بالغثيان وهده الإرهاق ، إرهاق ممزوج برائحة البنج واليودوالموت ، وتعب مخلوط بالدماء الجافة والطازجة ، والملاءات البيضاء تحولت إلى حمراءوصارت تقطر بالدماء .. وسط هذا كله كان يعمل .. كان يحاول إعادة الحياة إلى أجسادلا يعرفها ، لكنه يعرف أنها تترنح بين الحياة والموت ، ويعرف أنها تفارق الدنيا ،وإن كان يأمل لبعضها – فقط يأمل – أن تعيش .. تموت الأجساد الآدمية بين يديه وكأنعزرائيل يلبد لها بين أصابعه .. تملكته رغبة عارمة بالبكاء لكن الوقت والظرف لايسمحان ولو بدمعة واحدة .
عادت أخته تحمل أكواب الشاي على صينية بلاستيكيةمدّورة ، جلست مقابله وتربعت بعد أن وضعت أمامه الكوب ، ارتشفت منه رشفة واحدةضعيفة ، وراح لسانها يتحدث عن عبد الحميد وأعماله الصبيانية واصفة إياها بالشيطنة ،وأخبرته كيف بالأمس قفز عن طاولة المطبخ فكسر بقدمه الصحن الأبيض الصيني إلى عدةقطع .. وعبد الحميد بالنسبة لها لم يكن فقط ابنها ، إنما كان حجرة من حجرات قلبها ،ونفحة من روحها ، أو هو روحها .. اسمع يا إبراهيم ..
- لمّا تنتهي من شرب الشاي، اجلب لي عبد الحميد من الخارج ، صار قلبي يغلي عليه ، أخشى أن يذهب إلى أطراف المخيم .. حيث الفاشيون الصهاينة يقتلون الناس بلا تمييز بين طفل وشاب أو عجوز .. فهم يقتلون أيضا النساء والأطفال الرضع .
- حاضر .. سأبحث .. سأبحث عنه .
سادت لحظة صمت طويلة .. فسحت المجال للحظات أخرى دموية أن تقتحم عقله من جديد، عندما كان في المشفى ، ووقع بين يديه ذراع صغير لطفل ، أخذ يدقق كي يبحث له عنجسد مناسب ، شاهد في قفا الذراع آثار حرق قديم وشامة بجانبه .. هل هي صدفة ؟ إنهاذراع عبد الحميد لا محالة! .. بعد بحث وجد بقية الجسد المحروق حتى التفحم ، لكن الرقبة والرأس بلا حروق ، واستطاع التعرف على جثة عبد الحميد .. بل هو تأكد وصارواثقا أنه هو عندما شاهد السن المكسور وشحمة الأذن الملوية .. شعر وكأن مكواة حاميةلسعت قلبه ، أعفاه مدير المشفى من الاستمرار في العمل ، وطلب منه الاستراحة في البيت بعد أن استدعى بديلا عنه .
سألته أخته عن حاله ..
- لماذا وجهك اصفر؟وجفنك ازرق وعينك حمراء !
- لا يوجد شيء.
- بالله عليك ما هو الموضوع ؟.. حلفتك بالله !
- عبد .. عبد الحميد .
- زعقت : ما به ؟
- لقد .. لقد .. إنه ..
توقف لسانه كأنه ربط بحبل .. سالت الدموع ، رجف جسده رجفا شديدا كأنه يجلس على كرسي كهربي ، وصدره يكاد أن يتفسخ وقد تهدجت منه الأنفاس ، خرج مسرعا ،لحقت به أخته تصرخ وقد نسيت أن تغطي شعر رأسها بالمنديل الأسود .. توجه إبراهيم إلى بيت عمه الشهيد وأخذ سلاحه وتوجه مسرعا كالصاروخ إلى أطراف المخيم .. كي يقاتل الفاشيين الصهاينة .. وما فتئت صرخات أخته تشق الفضاء .
مد كفه للمرة الثالثة وضغط على كبسة الجرس ، فتحت أخته الباب ، ما أن رأته حتى راق وجهها الحزين وتوهجت ملامحه وانتعش في وسطه ابتسامة ..
- تفضل يا أخي .. ادخل يا إبراهيم.. أهلا وسهلا.. " وين هال غيبه"
- كيف حالك .. إن شاء الله بخير.. أيقظتك من نومك! .
- بخير .. لم أكن نائمة .. تفضل.. طالما أنت بخير فأنا بخير.
راحت مسرعة تبسط له الفراش وجلبت وسادتين ، كي يسندظهره إلى الحائط بواحدة ويضطجع بكوعه على الأخرى ، وأخذ يحمّلق إلى وجهها ، ويتابع بعينيه الواسعتين مشيتها بثوبها الأسود الطويل الكاسي ، هو ثوب الحداد .. بالنسبةلأخته لم تكن زيارته مجرد زيارة عادية كالزيارات ، إنما كانت دفء حياة وجرعة أنس ونسمة أمل .
جلست مقابله ، نظرت إلى وجهه المكشر ، دون أن تلاحظ صفرته أو ازرقاق جفنيه ، فظنت أنه كعادته يقلد تكشيرة الفنان عادل إمام ، في مسرحية مدرسة المشاغبين، فراحت تضحك بعمق وهي لا تريد أن تضحك ، أو حتى تبتسم ، لمّا أفرغت ما بقلبها من ضحك لعنت الشيطان عدة لعنات واستغفرت الله عدة مرات ، وأخذت تحوقل وهي تحدق بصورةزوجها المعلقة بمسمار على الحائط ، انتابها شعور داخلي بالذنب لأنها ضحكت وهي مازالت في ثياب الحداد ..
- " الله يقطع شيطانك يا إبراهيم .. أضحكتني رغما عني ".
- " الله يلعن كل الشياطين في هذه الدنيا .. اضحكي يا أختي ..اضحكي ".
نهضت أخته بتثاقل وهي تتثاءب واضعة يدها على فمها وراحت تجهز له الشاي ، أخذت تتحدث بصوت لزج أثناء توجهها إلى المطبخ مذكرة إياه بالهدية التي وعد بها عبدالحميد لأنه حصل على درجات كاملة في الامتحانات الشهرية ، امتحانات شهر فبرايرالماضي ، فنحن الآن في مطلع شهر مارس ..
- أين الحذاء الرياضي الذي وعدت به عبدالحميد ؟ وعد الحر دين عليه !
- أي حذاء ! .. آه .. نسيت .. غدا سأشتريه .
- جميع درجاته كاملة ، الله يرضى عليه لقد رفع رأسنا عاليا في السماء ، فهو اشطر طالب في المدرسة.. الحمد لله .. صار لي ابنا يروح إلى المدرسة ويأخذها الأول .. يا رب أعيش لغاية ما أراه ينهى تعليمه الجامعي .
- آه .. ما شاء الله .. بالكاد استطاع النطق ، وأوشكت عيناه أن تذرفان لولا أن مقاومته لهما كانت قوية وقاسية .
- وأنا سأجهز لك الشاي الغامق الثقيل مع النعناع الذي يحبه قلبك .
لم يكن بإمكان عقله أن ينسى الساعات الماضية ، والساعات لم تكن تنساه ، بل هو محفور بها وهي متغلغلة به ، داهمته بكل تفاصيلها .. ففيها كان وسط الأجساد البشرية الممزقةالناقصة أعضاء ، أو محروقة متفحمة ، أو مثقوبة ، وكومات من الأشلاء يفتش عن أجسادها، ويودع الموتى الثلاجات .. كل هذا وسط الازدحام ، والعويل والنحيب والصراخ ، حتىالرجال كانوا يبكون ويصرخون ، ويعلو صراخهم ويعلو حتى يفلق الأفق ، كل شيء حوله يبكي ويصرخ : الجدران ، الأّسرة ، أجهزة التنفس ، الكراسي ، الطاولات ، جهاز الأشعة، الحجارة عبر النافذة ، حتى السماء كانت تبكي .. لا وقت لديه لأن يمسح العرق عن جبينه ، حتى نسي أن يأكل ، نسي أنه بحاجة إلى دورة المياه ، نسي أن يصلي ، ولماذكره زميلة بالصلاة انتهز لحظات قليلات لها ، لكنه اضطر لقطع الصلاة بعد أداءالركعة الأولى مع وصول سيارة إسعاف تحمل جثثا وأشلاء ومصابين ، وأخذ يحاول إعادةالنبض إلى قلوب بعضها ، هي أجساد مرصعة بالثقوب الكثيرة ، ثقوب واسعة باتساع فوهةالفنجان ، وزميله يحاول أن يضغط عليها بيديه لإغلاقها محاولا إيقاف نزيفها المتدفق كالنافورة .. شعر للحظات بالغثيان وهده الإرهاق ، إرهاق ممزوج برائحة البنج واليودوالموت ، وتعب مخلوط بالدماء الجافة والطازجة ، والملاءات البيضاء تحولت إلى حمراءوصارت تقطر بالدماء .. وسط هذا كله كان يعمل .. كان يحاول إعادة الحياة إلى أجسادلا يعرفها ، لكنه يعرف أنها تترنح بين الحياة والموت ، ويعرف أنها تفارق الدنيا ،وإن كان يأمل لبعضها – فقط يأمل – أن تعيش .. تموت الأجساد الآدمية بين يديه وكأنعزرائيل يلبد لها بين أصابعه .. تملكته رغبة عارمة بالبكاء لكن الوقت والظرف لايسمحان ولو بدمعة واحدة .
عادت أخته تحمل أكواب الشاي على صينية بلاستيكيةمدّورة ، جلست مقابله وتربعت بعد أن وضعت أمامه الكوب ، ارتشفت منه رشفة واحدةضعيفة ، وراح لسانها يتحدث عن عبد الحميد وأعماله الصبيانية واصفة إياها بالشيطنة ،وأخبرته كيف بالأمس قفز عن طاولة المطبخ فكسر بقدمه الصحن الأبيض الصيني إلى عدةقطع .. وعبد الحميد بالنسبة لها لم يكن فقط ابنها ، إنما كان حجرة من حجرات قلبها ،ونفحة من روحها ، أو هو روحها .. اسمع يا إبراهيم ..
- لمّا تنتهي من شرب الشاي، اجلب لي عبد الحميد من الخارج ، صار قلبي يغلي عليه ، أخشى أن يذهب إلى أطراف المخيم .. حيث الفاشيون الصهاينة يقتلون الناس بلا تمييز بين طفل وشاب أو عجوز .. فهم يقتلون أيضا النساء والأطفال الرضع .
- حاضر .. سأبحث .. سأبحث عنه .
سادت لحظة صمت طويلة .. فسحت المجال للحظات أخرى دموية أن تقتحم عقله من جديد، عندما كان في المشفى ، ووقع بين يديه ذراع صغير لطفل ، أخذ يدقق كي يبحث له عنجسد مناسب ، شاهد في قفا الذراع آثار حرق قديم وشامة بجانبه .. هل هي صدفة ؟ إنهاذراع عبد الحميد لا محالة! .. بعد بحث وجد بقية الجسد المحروق حتى التفحم ، لكن الرقبة والرأس بلا حروق ، واستطاع التعرف على جثة عبد الحميد .. بل هو تأكد وصارواثقا أنه هو عندما شاهد السن المكسور وشحمة الأذن الملوية .. شعر وكأن مكواة حاميةلسعت قلبه ، أعفاه مدير المشفى من الاستمرار في العمل ، وطلب منه الاستراحة في البيت بعد أن استدعى بديلا عنه .
سألته أخته عن حاله ..
- لماذا وجهك اصفر؟وجفنك ازرق وعينك حمراء !
- لا يوجد شيء.
- بالله عليك ما هو الموضوع ؟.. حلفتك بالله !
- عبد .. عبد الحميد .
- زعقت : ما به ؟
- لقد .. لقد .. إنه ..
توقف لسانه كأنه ربط بحبل .. سالت الدموع ، رجف جسده رجفا شديدا كأنه يجلس على كرسي كهربي ، وصدره يكاد أن يتفسخ وقد تهدجت منه الأنفاس ، خرج مسرعا ،لحقت به أخته تصرخ وقد نسيت أن تغطي شعر رأسها بالمنديل الأسود .. توجه إبراهيم إلى بيت عمه الشهيد وأخذ سلاحه وتوجه مسرعا كالصاروخ إلى أطراف المخيم .. كي يقاتل الفاشيين الصهاينة .. وما فتئت صرخات أخته تشق الفضاء .
سورة العراة
أخيراهبطت بي الطائرة إلى أرض المطار ، وافلت جسدي من قبضة الطائرة ، في ذلك البلدالبعيد ، والقريب . تنسمت روحي الصعداء ملء نفسي ، و نجوت من سطوة الجو بحفراته الهوائية التي توخز القلب مع كل رعشة للطائرة .. تخلصت من الضغط على أذنيّ وبصقت منفمي قطعة علكة بيضاء في غاية الطراوة ، ولم يبق لي سوى النوم حتى يتشبع به جسدي .. ها قد اقتربت اللحظة التي أرخي بها جسمي المرهق ، وافرد ساقيّ المخدرين وأمدهما كمايحلو لي بلا أي سلطان علىّ من الجو أو البر أو البحر .. لقد سئمت كل سلطان يمحق الروح ويسحق الجسد .
خرجت من أرض المطار ، تترنح على كتفي الأيسر حقيبة السفرالصغيرة ، ما إن اقتربت إلى الحارات المحشوة بالأجساد حتى استبد بي العجب ، وسرت الدهشة في نفسي حتى تبلبلت .. أكاد لا اصدق ما أرى .. أينما وليت وجهي فثمة قردةونسانيس ، بأحجام مختلفة ، اكتظت بها الأرصفة والشوارع والأزقة ، جماعات وفرادى .. نظرت إلى تذكرة الطائرة علني مخطئا في الرحلة ، شعرت أنني في غابة أو حديقة حيوان.. لكن الفضول دفعني إلى الاقتراب أكثر فأكثر ، مسحت زجاج النظارة جيدا واعدتها إلى مستقرها وأجلستها بإتقان على طرف أنفي .. صرت قادرا على تمييز الملامح تمام التمييز .. آه .. معقول ؟! هؤلاء الذين حسبتهم قردة ونسانيس ليسوا سوى آدميين ، من بنيالبشر ، ويشهد على ذلك استقامة أجسادهم الخالية من الذيول ، وتأكدت من ذلك حين بحلقت إلى مؤخراتهم الناشفة والمستوية مع ظهورهم ، وقد علق بها بقايا براز طازج .. جميعهم عراة بلا أي ملابس تستر أجسادهم كما ولدتهم أمهاتهم ، ذكورهم وإناثهم ،أطفالهم وشبابهم ، حتى العجائز ! كلهم عراة .. ما هذا ؟! أنا الوحيد العجيب بينهم والنشاز لأنني مستور بملابس ، وجدتهم يتحركون بعشوائية ، يمشون كأنهم واقفون في أماكنهم لا يتزحزحون ، متهالكون كتماثيل عفرها الزمن ونحتتها الأيام ، حتى تشوهت ملامحها ، بعضهم نيام على الطرقات وفي الزبالة ، ما أغاظني أنهم ينامون بعمق ويشخرون .. عجبت لأجسادهم الرفيعة النحيلة كعصا المكنسة ، يعلو أجسادهم رؤوس مغطاةبشعر خشن كث مجبول بالعرق والتراب ، تحملها رقاب مقوّسة رفيعة على وشك أن تنكسر .. منظرهم لحس عقلي ، فجلودهم رقيقة متجعدة متمادية في تجاعيدها ، وناشفة كأوراق أشجارالخريف وخشنة كملمس المبرد ، خمنت لأول وهلة أن جلودهم مسلوخة عن جثث بهائم ميتة منزمن ولصقت بأجسادهم .. ذهلت للون أسنانهم البنية الغامقة ، وقد نخرها السوس ومن الاستحالة تبييضها حتى لو تم غسلها "بماء النار" عالي التركيز ، ورائحة أفواههم وأجسادهم تهب ساطعة و كريهة كرائحة الخميرة ، رائحة زكمت أنفي حتى قفلت منخري بالسبابة والإبهام ، فأثقلت صدري حتى خفت أن أكتم نفسي ، وزاف بطني حتى كدت أن أتقيأ ما به ، لولا أنني ابتعدت عنهم مسرعا مسافة كافية ، كأنني اهرب من مصابين بالطاعون .. أقدامهم حافية مفلطحة ، تجمع عليها أكواما من الطين ، وبالكاد تظهرأصابعها الرفيعة التي تتشبث بتراب الأرض كالمخالب .. داهمتني موجات جارفة من الاشمئزاز عندما حدقت إلى أذرعهم النحيلة والرفيعة كأمعاء الدجاج ، وظننت أن عروقهاديدان طويلة منفردة ومتشابكة .. لكنهم كانوا ينظرون نحوي مندهشون ، مشدوهون ،يتمتمون بشفاه ناشفة مشققة ما لم استطع سماعه .. من المؤكد أنهم يتألمون ، يتأوهون، يئنون ، يندمون ، يتوبون .. وربما ما هو أكثر من كل ذلك ، أو كل ذلك .
أبصرت رجلا غريبا يلبس جاكتة جينز بالية ، منحوتة ، يجلس لصق حائط بيت مشقق الجدران ،أسرعت إليه ملقيا تحية هادئة ، وقلقة ، لم يحفل بردها ، ربما لأنه ملّ الدنيا ومابها ومن عليها ، عرفت منه فيما بعد أنه من بلد مجاور ، ويعمل فراشا في إحدى الشركات الأجنبية .. ولكنني صممت على محادثته ورفعت صوتي أسأله :
- ما هي حكاية هؤلاءالناس ؟
أرسل نظراته الوديعة إلى وجهي ، نظرات مطفئة مكسورة مترعة بالذل ، اعتدل في مجلسه ، تثاءب ملء فمه ، تمطى وهو يطلق صوتا كالخوار ، ثم غمغم بقرف بعد أن تأففت أفيفة طويلة متحسرة :
- تقصد ما هي حكاياتهم ؟
- هل تعرف شيئا عنهم ؟
- آه .. اعرف الكثير .
- دخيل الله .. أنا دخيلك .. الحقني .. حدثني عنهم .. لماذاهم عراة ؟
- إنها حكايات طويلة .. سأخبرك باقتضاب :
ذات يوم خرج هؤلاءالناس البؤساء يحملون تعاستهم المطوية في ردهات قلوبهم ، خرجوا بمسيرة إلى الملك ،يرفعون عريضة كبيرة ، يطالبونه بها ببناء مدارس لأولادهم ، فاستجاب الملك بلا أي إبطاء .. فطلب منهم جلالته أن يبيعوا أثاث بيوتهم الرثة ، وملابسهم البالية ، كي يبني بأثمانها المدارس ، ولمّا أطاعوا وباعوا دون تأخير، اشترى الملك بالنقودسيارات حديثة طويلة ، مجهزة بتقنيات عالية ، ما شاء الله عليها ، وكتب على زجاجهاالخلفي بخط أنيق :" سيري فعين الله ترعاك "، ثم وسع قصره الضيق ليليق بمهابة جلالته السامية ، وعلى مدخل القصر نقش بالخط العثماني عبارة : هذا من فضل ربي .. ثم شيدعددا من السجون الضيقة والزنازين بما تبقى من نقود .
سكت الرجل ، وراح يحدق بالأرض ، أحسست أن شيئا يمور ويتلاطم في ثنايا أعماق صدره الضيق ، تناول من التراب عودا صلبا رفيعا وأخذ ينكش به أسنانه ، وبحركة لا إرادية قضم طرفه الرفيع بأسنانه الصفراء ، فوجدتني غاضبا محتدا مؤكدا:
- إنهم أغبياء .
- لا .. أنهم جهلةوجبناء .
- غريب ! منظر أجسادهم يدل على أنهم مرضى .. أجسادهم مسلّية .
- الموت يخطف الكثير منهم كل يوم بسبب الأمراض .. لهذا حكاية أخرى .
- ما هي؟
اسمع يا سيدي .. ذات يوم خرج هؤلاء الناس يطلبون من الملك أن يبني لهم مستشفيات ، بعد أن تدهورت صحتهم ، فطلب منهم التوجه إلى العاصمة كي يبيعوا أي شيءلديهم ، ولأنهم لا يملكون أي غرض يصلح للبيع ؛ طلب منهم أن يبيعوا أي عضو من أعضاءجسدهم ، أي عضو يناسبهم ويختارونه بمحض إرادتهم ، في الحقيقة أنه كان متساهلا معهم ولطيفا بهم .. البعض باع كليته ، هناك من باع عينه ، وهناك من باع شقفة من الرئة .. وهكذا .. ولمّا استلم الملك النقود أثمان أعضائهم .. شيد بها الحدائق الغناء حول القصر ، حدائق مليئة بالأشجار المثمرة وأشجار الزينة ، منظرها يشرح الصدر ويردّالروح ، ويطرب النفس ، لقد خط في أرجائها عبارات حلوة كتبت بالخط الكوفي الجميل مثل : كلوا من طيبات ما رزقناكم .. إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ..
- اللهم لا حسد .. صلي على النبي ، خشية أن تصيب الحديقة بالحسد .
- اللهم صلي على النبي ..ما شاء الله .. لا تخف ، أنا عيني باردة لا تحسد .
وما تبقى من أموالاشترى بها هدايا ثمينة إلى أصدقائه الملوك ، وزاد رواتب أعوانه ، وتوسع في بناءالسجون ، واشترى الكثير من الهراوات وبعض الأصفاد المتينة .
ما إن توقف عن الكلام حتى وجدتني ازعق :
- ناس جبناء .. الله لا يردهم .. الله لا يقيمهم .
- سوف أكمل الكلام ، لا تقاطعني .. لماذا بصلتك محروقة ! طوّل روحك .
- أكمل ! هات ما عندك من حلو الحديث .. هات درر الكلام !
آخر مرة منذ عام خرج الناس في مسيرة طويلة ما لها أول من آخر ، وقتما كان لديهم صحة وعافية ، خرجوا في مسيرة حاشدة يطلبون من الملك رصف الشوارع بالزفت ، وطالبوه أيضا أن يوصل المياه إلىبيوتهم ، والملك يعلم أنهم فقراء ، الله وكيلك على الحديدة .. فطلب منهم أن يبيعوابعضا من دمائهم ، كل حسب قدرته ، هناك من باع لتر أو لترين ، وهناك من باع ثلاثةلترات ، واشترى بأثمان دمهم بعض اللوحات الفنية لبيكاسو ، وسلفادور دالي ، ليزين بها جدران القصر ويرفع رأس بلده بين الشعوب والأمم .. الله جميل يحب الجمال .. وماتبقى من نقود تزوج به ابنة احد الملوك العظام ، فصار عنده جلالته سبع نساء ، بعين الشيطان ، فهو يحوّش النساء ويكدسهن في قصر خاص .. الله يعطيك ويطعمك مثلهن ، إنهن في غاية الحسن ، هذا بعض من حكاياتهم .. ارتحت ؟ هدي بالك ؟!
شعرت أن الدنياتدور بي ، ألّمت بي الدوخة .. ورحت امسح بكفي شعر رأسي ، محاولا التخلص من شحنات كهربية اجتاحت جذوره ودغدغته ، لا اعرف كيف قذف فمي زمجرة قوية معربدة :
- اتفوعلى هيك ناس .. اخص .. بستاهلوا أكثر من هيك .. الله لا يقيم عنهم شدة .
- لماذاأنت ناقم عليهم ؟
- أنا لست ناقما عليهم ؟ هم الذين نقموا على أنفسهم حين قبلوابالخنوع والذل !
- لكنهم ألآن صاروا يكرهون الملك !
- لا فائدة تتأتى من كره صادر عن عجزة وجبناء !.. وهم ألان بلا صحة وبلا عافية وبلا كرامة ، فكيف أحبهم ولاانقم عليهم .. حبهم برص !
- ألا تشفق عليهم ؟
- بإمكاني الإشفاق عليهم .. لكنالشفقة لا تغير من واقعهم أي شيء .
شمل المكان صمت جليل ، كأنه أبدي ، شعرت بسطوته تلف القلوب في محاولة لإيقاف خفقانها المتدفق باضطرام .. ورحت في أنفسي أفكرفي ثقافة هؤلاء وتاريخهم ، فاندفع لساني بالسؤال ..
- ألا يوجد لهم تاريخ كبقيةالبشر ؟
- يوجد .. بين طيات الكتب .. خارج نطاق الذاكرة .
- هل عندهم ثقافة؟
- فقط للمحافل والمناسبات .. يعني للمنظرة .
ما أن نطق بالإجابة حتى راح يحدثني عنهم ، أخذت اسمع رغم القهر الذي اجتاح صدري ، والألم الذي جاش في نفسي ،قطعت كلامه لأساله أين الملك ألان ؟
- ركز مخك معي .. أرجوك لا تسرح بعقلك بعيدا .. عندما وصلت الأمور بالناس إلى ما وصلت إليه ، هاجر الملك وأولاده وكل أفرادعائلاتهم إلى دولة أجنبية وحصلوا على جنسيتها .. لم يعد يرغب هو أو أي واحد من أولاده أن يحكموا شعبا مريضا فقيرا ، فهم يريدون شعبا يانعا وطريا مثل عود الريحان و طازجا كعصير العنب .
- من سيحكمهم إذن ؟
- ها هم الآن حيارى يبحثون عن غريب يحكمهم .. ولم يجدوا بعد ، ومن الواضح أنهم لن يجدوا من يحكمهم .. ستحل خسارة كبيرةبمن يغامر ويقبل أن يحكمهم ، لقد تحولوا إلى كتل من العاهات ، لقد انتهى تاريخ صلاحيتهم ، وهم في وضع لا يساوون به ثمن صابون غسل أجسادهم المقيحة .. فما بالكببناء البلد وتعميرها ، وتكلفة علاجهم ، ومن هو ذلك المغفل الذي يقبل أن يحكمهم ولايوجد بحوزتهم ما يسرقه منهم .. فتح مخك يا أخي .. بتفكرها مسخرة .
- لكن يوجدفي البلد شركات أجنبية !
- ليست من أجلهم .. إنما من اجل الأرض وباطنها .
نظر إلى ساعة يده ، استأذن بالانصراف ، نهض ، نفض بيده التراب عن مؤخرته وراح يلتهم الطريق .. وددت أن الحق به لأساله : لماذا لا يختارون منهم من يحكمهم ؟ لكننيامتنعت حين أدركت ما في السؤال من غباء .. عدت انظر إلى الناس العراة ، أشفقت عليهم، حزنت لحالهم ، وشعرت بأن حيوانا ضاريا خرافي الحجم ينهش قلبي .. لماذا أطاعواجلالته ؟ لماذا ؟
أبصرت رجلا غريبا يلبس جاكتة جينز بالية ، منحوتة ، يجلس لصق حائط بيت مشقق الجدران ،أسرعت إليه ملقيا تحية هادئة ، وقلقة ، لم يحفل بردها ، ربما لأنه ملّ الدنيا ومابها ومن عليها ، عرفت منه فيما بعد أنه من بلد مجاور ، ويعمل فراشا في إحدى الشركات الأجنبية .. ولكنني صممت على محادثته ورفعت صوتي أسأله :
- ما هي حكاية هؤلاءالناس ؟
أرسل نظراته الوديعة إلى وجهي ، نظرات مطفئة مكسورة مترعة بالذل ، اعتدل في مجلسه ، تثاءب ملء فمه ، تمطى وهو يطلق صوتا كالخوار ، ثم غمغم بقرف بعد أن تأففت أفيفة طويلة متحسرة :
- تقصد ما هي حكاياتهم ؟
- هل تعرف شيئا عنهم ؟
- آه .. اعرف الكثير .
- دخيل الله .. أنا دخيلك .. الحقني .. حدثني عنهم .. لماذاهم عراة ؟
- إنها حكايات طويلة .. سأخبرك باقتضاب :
ذات يوم خرج هؤلاءالناس البؤساء يحملون تعاستهم المطوية في ردهات قلوبهم ، خرجوا بمسيرة إلى الملك ،يرفعون عريضة كبيرة ، يطالبونه بها ببناء مدارس لأولادهم ، فاستجاب الملك بلا أي إبطاء .. فطلب منهم جلالته أن يبيعوا أثاث بيوتهم الرثة ، وملابسهم البالية ، كي يبني بأثمانها المدارس ، ولمّا أطاعوا وباعوا دون تأخير، اشترى الملك بالنقودسيارات حديثة طويلة ، مجهزة بتقنيات عالية ، ما شاء الله عليها ، وكتب على زجاجهاالخلفي بخط أنيق :" سيري فعين الله ترعاك "، ثم وسع قصره الضيق ليليق بمهابة جلالته السامية ، وعلى مدخل القصر نقش بالخط العثماني عبارة : هذا من فضل ربي .. ثم شيدعددا من السجون الضيقة والزنازين بما تبقى من نقود .
سكت الرجل ، وراح يحدق بالأرض ، أحسست أن شيئا يمور ويتلاطم في ثنايا أعماق صدره الضيق ، تناول من التراب عودا صلبا رفيعا وأخذ ينكش به أسنانه ، وبحركة لا إرادية قضم طرفه الرفيع بأسنانه الصفراء ، فوجدتني غاضبا محتدا مؤكدا:
- إنهم أغبياء .
- لا .. أنهم جهلةوجبناء .
- غريب ! منظر أجسادهم يدل على أنهم مرضى .. أجسادهم مسلّية .
- الموت يخطف الكثير منهم كل يوم بسبب الأمراض .. لهذا حكاية أخرى .
- ما هي؟
اسمع يا سيدي .. ذات يوم خرج هؤلاء الناس يطلبون من الملك أن يبني لهم مستشفيات ، بعد أن تدهورت صحتهم ، فطلب منهم التوجه إلى العاصمة كي يبيعوا أي شيءلديهم ، ولأنهم لا يملكون أي غرض يصلح للبيع ؛ طلب منهم أن يبيعوا أي عضو من أعضاءجسدهم ، أي عضو يناسبهم ويختارونه بمحض إرادتهم ، في الحقيقة أنه كان متساهلا معهم ولطيفا بهم .. البعض باع كليته ، هناك من باع عينه ، وهناك من باع شقفة من الرئة .. وهكذا .. ولمّا استلم الملك النقود أثمان أعضائهم .. شيد بها الحدائق الغناء حول القصر ، حدائق مليئة بالأشجار المثمرة وأشجار الزينة ، منظرها يشرح الصدر ويردّالروح ، ويطرب النفس ، لقد خط في أرجائها عبارات حلوة كتبت بالخط الكوفي الجميل مثل : كلوا من طيبات ما رزقناكم .. إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ..
- اللهم لا حسد .. صلي على النبي ، خشية أن تصيب الحديقة بالحسد .
- اللهم صلي على النبي ..ما شاء الله .. لا تخف ، أنا عيني باردة لا تحسد .
وما تبقى من أموالاشترى بها هدايا ثمينة إلى أصدقائه الملوك ، وزاد رواتب أعوانه ، وتوسع في بناءالسجون ، واشترى الكثير من الهراوات وبعض الأصفاد المتينة .
ما إن توقف عن الكلام حتى وجدتني ازعق :
- ناس جبناء .. الله لا يردهم .. الله لا يقيمهم .
- سوف أكمل الكلام ، لا تقاطعني .. لماذا بصلتك محروقة ! طوّل روحك .
- أكمل ! هات ما عندك من حلو الحديث .. هات درر الكلام !
آخر مرة منذ عام خرج الناس في مسيرة طويلة ما لها أول من آخر ، وقتما كان لديهم صحة وعافية ، خرجوا في مسيرة حاشدة يطلبون من الملك رصف الشوارع بالزفت ، وطالبوه أيضا أن يوصل المياه إلىبيوتهم ، والملك يعلم أنهم فقراء ، الله وكيلك على الحديدة .. فطلب منهم أن يبيعوابعضا من دمائهم ، كل حسب قدرته ، هناك من باع لتر أو لترين ، وهناك من باع ثلاثةلترات ، واشترى بأثمان دمهم بعض اللوحات الفنية لبيكاسو ، وسلفادور دالي ، ليزين بها جدران القصر ويرفع رأس بلده بين الشعوب والأمم .. الله جميل يحب الجمال .. وماتبقى من نقود تزوج به ابنة احد الملوك العظام ، فصار عنده جلالته سبع نساء ، بعين الشيطان ، فهو يحوّش النساء ويكدسهن في قصر خاص .. الله يعطيك ويطعمك مثلهن ، إنهن في غاية الحسن ، هذا بعض من حكاياتهم .. ارتحت ؟ هدي بالك ؟!
شعرت أن الدنياتدور بي ، ألّمت بي الدوخة .. ورحت امسح بكفي شعر رأسي ، محاولا التخلص من شحنات كهربية اجتاحت جذوره ودغدغته ، لا اعرف كيف قذف فمي زمجرة قوية معربدة :
- اتفوعلى هيك ناس .. اخص .. بستاهلوا أكثر من هيك .. الله لا يقيم عنهم شدة .
- لماذاأنت ناقم عليهم ؟
- أنا لست ناقما عليهم ؟ هم الذين نقموا على أنفسهم حين قبلوابالخنوع والذل !
- لكنهم ألآن صاروا يكرهون الملك !
- لا فائدة تتأتى من كره صادر عن عجزة وجبناء !.. وهم ألان بلا صحة وبلا عافية وبلا كرامة ، فكيف أحبهم ولاانقم عليهم .. حبهم برص !
- ألا تشفق عليهم ؟
- بإمكاني الإشفاق عليهم .. لكنالشفقة لا تغير من واقعهم أي شيء .
شمل المكان صمت جليل ، كأنه أبدي ، شعرت بسطوته تلف القلوب في محاولة لإيقاف خفقانها المتدفق باضطرام .. ورحت في أنفسي أفكرفي ثقافة هؤلاء وتاريخهم ، فاندفع لساني بالسؤال ..
- ألا يوجد لهم تاريخ كبقيةالبشر ؟
- يوجد .. بين طيات الكتب .. خارج نطاق الذاكرة .
- هل عندهم ثقافة؟
- فقط للمحافل والمناسبات .. يعني للمنظرة .
ما أن نطق بالإجابة حتى راح يحدثني عنهم ، أخذت اسمع رغم القهر الذي اجتاح صدري ، والألم الذي جاش في نفسي ،قطعت كلامه لأساله أين الملك ألان ؟
- ركز مخك معي .. أرجوك لا تسرح بعقلك بعيدا .. عندما وصلت الأمور بالناس إلى ما وصلت إليه ، هاجر الملك وأولاده وكل أفرادعائلاتهم إلى دولة أجنبية وحصلوا على جنسيتها .. لم يعد يرغب هو أو أي واحد من أولاده أن يحكموا شعبا مريضا فقيرا ، فهم يريدون شعبا يانعا وطريا مثل عود الريحان و طازجا كعصير العنب .
- من سيحكمهم إذن ؟
- ها هم الآن حيارى يبحثون عن غريب يحكمهم .. ولم يجدوا بعد ، ومن الواضح أنهم لن يجدوا من يحكمهم .. ستحل خسارة كبيرةبمن يغامر ويقبل أن يحكمهم ، لقد تحولوا إلى كتل من العاهات ، لقد انتهى تاريخ صلاحيتهم ، وهم في وضع لا يساوون به ثمن صابون غسل أجسادهم المقيحة .. فما بالكببناء البلد وتعميرها ، وتكلفة علاجهم ، ومن هو ذلك المغفل الذي يقبل أن يحكمهم ولايوجد بحوزتهم ما يسرقه منهم .. فتح مخك يا أخي .. بتفكرها مسخرة .
- لكن يوجدفي البلد شركات أجنبية !
- ليست من أجلهم .. إنما من اجل الأرض وباطنها .
نظر إلى ساعة يده ، استأذن بالانصراف ، نهض ، نفض بيده التراب عن مؤخرته وراح يلتهم الطريق .. وددت أن الحق به لأساله : لماذا لا يختارون منهم من يحكمهم ؟ لكننيامتنعت حين أدركت ما في السؤال من غباء .. عدت انظر إلى الناس العراة ، أشفقت عليهم، حزنت لحالهم ، وشعرت بأن حيوانا ضاريا خرافي الحجم ينهش قلبي .. لماذا أطاعواجلالته ؟ لماذا ؟
تحت خط الزواج
ابتلعت العتمة كل البيت الصغير الذي يشبه شكله أكثر ما يشبه علبة اللحمة البرازيلية، من الخارج.. أما من الداخل فهو إلى حد بعيد مثل مكعبات شوربة ماجي. هو بيت في احد مخيمات وسط قطاع غزة.. يزيد عدد سكانه في الليل عن عشرين نسمة، الأب وألام والأبناء وأبناء الأبناء،يحشرون به حشرا حين يجتمعون إذا حل المساء.. وبالكاد يصل العدد إلى خمسة أنفس في النهار. تأبى الشمس أن تزور البيت، كأنها حلفت بالله على ذلك، والهواء قليل وفاسدلا يتجدد إلا ليفسد مرة أخرى.. وليس بمقدور أنوفهم انتقاء ما يشتهون من هواء نقي وطازج ليتنفسوه، فيبذلوا أقصى جهدهم لنيل حصة أجسادهم منه، بعد كفاح مع صدروهم المليئة بالحنق على الحياة.. والزمن الذي على الدوام يلعنونه ويسبونه..
- يلعن أبا الدنيا.. حياة مثل الكندرة القديمة.. ساق الله على أيام زمان.
جلسوا مثلمااعتادوا أن يجلسوا في مساء كل يوم بعد أذان المغرب بقليل، وكان يقينهم في نيل وجبةعشاء مشبعة أو غير مشبعة بدأ يزوغ، الوجبة التي تأخر مجيئها.. وكان الجوع قد بدأيتسلل إلى أجسادهم النحيلة التي أنهكها التعب، فهمدت قواها، واسندوا ظهورهم إلىجدار مشقق مائل، جدار بحاجة إلى جدار آخر كي يسنده. كانت الوجوه العابسة تقابل العيون المكسورة في وجوم وقلق.. بعضهم مدوا أرجلهم ليريحوها، والبعض تربع على حصيرتثنت أطرافه مع مرور الأيام، ونسلت زواياه ومزقت حوافه أيد الصغار، الصغار الذين لايكفّون عن تحويل أي شيء إلى أداة لهو. كلهم ينتظرون وجبة العشاء، الوجبة التياعتادت أن تشتريها لهم في طريق عودتها من العمل الأخت الكبرى، أختهم فاطمة التي جاوزت الثلاثين.. فاطمة التي أملها في الزواج راح يتأرجح بين بطون أهلها الفارغةعلى الدوام، وبين عمرها الذي يتقدم كل يوم ويسير بها بثبات وعناد مقيت.. وهي ترغب كثيرا في الزواج وتتمنى أن تذوقه، لكنها تخشى أن تموت أسرتها من الجوع إذا تزوجت.. كأن زواجها مصيبة يهلك من هولها الجميع.. وتخشى في الوقت نفسه أن تبقى بلا زواج،فيفوتها القطار الذي قطع من عمرها مسافات طويلة.. فتبور.
طرق أذانهم نقرات حذاءفاطمة على الأرض في الخارج قرب الباب، فلمعت عيون، وراقت وجوه، وارتاحت قلوب،وتلمظت أفواه، و تململت أجساد في مجلسها واعتدلت.. وجرى الصغار نحو الباب ليفتحونه.. وامسكوا بذيل جلباب فاطمة، وبعضهم تسلل من بين رجليها، وآخرون نتشوا منبين يديها الفلافل، وخطفوا صحون الفول المدمس، المنتظرة بشوق ولهفة.. وعادوا بكل هذا جريا إلى الطبلية يهللون ويضحكون.. على الفور تحلقوا كلهم حول طبلية العشاءوراحوا يتزاحمون ويتراصون، تتلاصق الأكتاف بالأكتاف.. وتتناطح الأكف لنيل نتفه منقرص فلافل أو لقمة خبز مغمسة بالفول، يحصلون عليها بعد أن يخوضوا حروبا طاحنةمريرة، وبطلوع الروح.. حروب كلها وخز ولكز وزعق.. لأنهم في مرات كثيرة لا يشبعون.. فينامون بعد أن يطيح برءوسهم النعاس، فتتناثر أجسادهم في الغرف الضيقة أكواما من اللحم الحي الذي له فحيح متعب مؤرق وساخن.
انتهوا من تناول وجبة العشاء.
ذهب الصغار إلى النوم..
تمددت فاطمة كي تريح جسدها من تعب نهار كان طويلا.. تحدق إلى السقف ساهمة غارقة في حيرتها العويصة.. فاليوم رئيسها في العمل اخبرها أنه سيحضرغدا إلى أهلها لخطبتها منهم، وهي لا تعرف كيف تخبر أخاها الكبير بهذا الخبر المؤسف الأليم إلى قلبه.. وتخشى إن هي رفضت الزواج من رئيسها أن ينتقم منها ويطردها من العمل، العمل الذي نشف ريقها وريق أهلها من اجل الحصول عليه، وستضيع أيضا فرصةالزواج التي ربما تكون الأخيرة، ويطير العريس.. ويؤلمها أن فوق هذا كله سيفطسون كلهم من الجوع ويتهدم البيت فوق رءوسهم ويعم حياتهم الوبال. أخوها الكبير لا يرغب في تزويجها خوفا من العواقب الوخيمة التي يحاول أن ينساها كلما خطرت في باله، فهوعاطل عن العمل كبقية إخوانه القاعدين كأنهم أصحاب عاهات. أخوها هذا أيام زمان لميكن يصلي، إلا انه من وقت قريب صار يصلي خصيصا، بما في ذلك صلاة الصبح حاضرا في أوجبرد الشتاء، كي يدعو الله في صلواته الخمس أن لا تتزوج فاطمة وان يوقف الله بختهاويعثر حظها بعريس، كي تستمر في إعالتهم، وكي لا يدمر بيتهم.. لكنه ما أسرع أن يندم بعد ذلك على دعائه، فيتوب، وتسيل من عينيه الدموع حارة مريرة معذبة، ويستغفر الله بركعتين.. وما أكثر المرات التي استغفر بها الله وتاب كلما تقدم إلى فاطمة عريس.. أو إذا تكلم أحد وجاب طرف لسانه سيرة الزواج من قريب أو من بعيد.
مواصفات العريس الذي كانت تتمناه فاطمة على الدوام، وربما ما زالت تتمناها إلى الآن، هي أن يكون طويلا عريضا ابيض.. وكثيرا ما كانت تدعو الله أن يكون بلا كرش وبلا صلعة.. وما زالت تطمع في أن يكون داخل رأسه ولو قليل من مخ يفكر، وان يكون في صدره قلب حنون ورقيق.. ولكن ما يحزنها ويحيرها انه لا يتوفر في رئيسها هذا أي صفة من هذه الصفات، ولا حتىواحدة منها.. وهو على العكس من ذلك فهو قصير مثل قرن الفلفل، وأعمش، ولون بشرته بنيداكن كأنه نسي في فرن واحترق، حتى صار لونه كلون الخروب.. وفاطمة ما زالت قلقة لأنه من زمن طويل لم يتقدم أحد لخطبتها، ربما بسبب تقدمها في السن، وربما لغلظة أخيها في معاملة الخطاب، وربما لفقرها غير المعهود.. رغم أنها من فترة ليست قليلة صارت تتخلى عن الكثير من أحلامها وتتنازل عن بعض رغباتها.. أحلامها التي بدأ يخبو وهجها في ضميرها، ويشحب بريقها في عقلها مع مرور كل أسبوع وانقضاء كل شهر.
اهتز سكون البيت ورجف الصمت، وجفلت فاطمة وارتعشت على صوت عطسات شديدات متتابعات، فرقع بهاانف أخيها وفمه.. على مهل جمعت في طيات نفسها كل ما استطاعت جمعه من شجاعة، وحدثته بصوت ضئيل باهت لا رنين له..
- غدا سيتقدم لخطبتي رئيسي في العمل.
- لن أوافق.. وجهه مثل الرغيف المحروق.. وسنموت جوعا.
- الرزق على الله.. لا يموت احدمن الجوع.
- سأموت قهرا على ابني إذا طلب شيئا وعجزت عن تلبيته.
- لكن عمري جاوز الثلاثين.. سأصبح فوق سن الزواج.
- أنت تحت خط الزواج.. رغم انك فوق سن الزواج.
- أي خط هذا؟ وما الذي يحدده؟
- الظروف هي التي تحدده.. تذكري أن أبي وأمي بحاجة دائمة إلى الدواء.
- لكنك تبيع الترمس.. طوال النهار.
- بيع الترمس بالكاد يجلب لنا ثمن الخبز الحاف.. بماذا نغمس؟.. ورسوم أختك في الجامعة.. وكتب مدارس الأولاد.. والثياب.. الأحذية.
- ومتى سيكون بإمكاني أن أتزوج.
- عندما ينفك الحصار، وقتها ساجد عملا مجزيا.. حينها ستصبحين فوق خط الزواج.
- لااحد يعلم متى سينتهي هذاالحصار.. والوقت لا يرحم.
كشر أخوها وتأزمت ملامحه، لقدتجمعت كل عفاريت الدنيا أمامه كأنها في مظاهرة عارمة، وراحت كلها تتنطط في وجهه الذي أوشك أن يطفر بالدم، فأحس بأن جسده لا يتسع لروحه التي أخذت تغلي وتفور، وراح فمه يبربر بكلمات حادة كادت تمزع قلب فاطمة.. ثم تركها بسرعة واندفع إلى خارج البيت، وظل يبرطم إلى أن غادر وابتعد.
أحست فاطمة بالأسى على نفسها والشفقة علىأخيها والحزن على أهلها.. وأكثر ما يجرحها وينهش نفسها أن الزواج الحلال، على سنةالله ورسوله، انقلب إلى ما يشبه الحرام في ظل ظروفها القاهرة، أو هو الحرام بذاته،وأكيد انه من الكبائر التي من الصعب أن تغتفر مهما أكثرت من الصلوات.. وأحست في ثنايا نفسها أن زواجها بمثابة خيانة لأسرتها، وكأنها تتحول إلى مجرمة ترتكب مجزرةجماعية بزواجها الذي قد يهلكهم مرة واحدة أو بالتدريج.. وقد يدفنهم أحياء، ستكون قاتلة مع سبق الإصرار والترصد.. وعدم زواجها هو حياتهم، ومصيرهم، وحاضرهم،ومستقبلهم الذي هو بلا أمل، وبلا ملامح.. ودغدغ عقلها أنها المنقذة الوحيدة لهم،واليد الوحيدة الممدودة التي تحميهم من الغرق.. وتسأل نفسها..
- هل علىّ أن أضحي بمستقبلي من اجلهم؟
لكنها لا تجيب.. وتبقي الإجابة معلقة على مستقبل مجهولالملامح.. أو هي تتهرب من ثقل الإجابة ومرارتها.. بل تخاف حتى الاقتراب من الجواب.
جلست فاطمة بجوار والدها بعد أن كتمت مشاعرها ودفعتها بعيدا في أعماقها.. كل شيء فيها صار ساكتا، فلا جدوى من الكلام أمام والدها الذي فقد القدرةعلى الحركة والنطق، قبل سنين بعيدة، حين أصابه الشلل، والشيء الوحيد الذي يشعره انهآدمي وانه ما زال على قيد الحياة، هو قعود فاطمة إلى جواره في كل مساء.. فيحدق إليها بعينين زائغتين يشعان وهج الماضي البعيد ونيران الحاضر المشتعل بالبلايا.. حتى أمها لا تستطيع أن تساعدها، ولو بالكلام، حتى لو كان كلاما تافها فارغا بلا أي قيمة ولا أي معنى، فهي مريضة مقعدة أيضا، لا تبرح غرفتها البتة.. وطوال النهارغارقة في آهاتها، تشكو من آلام مزمنة في ركبتيها، ولا تتوقف عن الأنين بسبب وجع ظهرها، وقد يئست من علاجه، فتركت الأدوية جانبا وصارت فاطمة في كل مساء تدهنه بالزيت البلدي، فتعبق رائحته الكريهة كل أركان البيت.. وفوق هذا تبقى أمها على الدوام غارقة في أسوا أنواع الاكتئاب.
نظفت فاطمة الطبلية، ووضعتها في المطبخ.. وجلست في غرفتها تحدق إلى لعبة بلاستيكية ممدة على طاولة خشبية ليست كبيرة، هي لعبةعلى شكل عروس.. أهدتها لها إحدى صديقاتها عندما تخرجت في الجامعة، لمّا نالت مرتبةالشرف.. اللعبة لها شعر أشقر وطويل، اعتادت أن تمشطه فاطمة كل يوم.. وعيون جميلةلها رموش تقوّست أطرافها.. ويزيد الكحل الذي تضعه لها فاطمة من حلاوة عينيها، ويرقىبجمالها احمر الشفاه الذي هو طلاء كأنه ابدي لا يزول.. يلف العروسة فستان ابيض مثل فستان العروس الآدمية بالضبط.. وطرحة بيضاء.
تحولت عينا فاطمة إلى عدستي ميكروسكوب ليكبرا فستان اللعبة، والطرحة، إلى الكثير الكثير من المرات.. حتى كبرالفستان وأصبح على مقاس جسمها غير المكتنز.. تناولت فاطمة الفستان برقة وحنان بين يديها كأنما تخشى عليه من الكسر.. وارتدته على جسدها، ولم تنس إغلاق السحاب منناحية ظهرها.. ووضعت على رأسها الطرحة الطويلة التي تجر على الأرض، ووقفت تشاهدنفسها أمام ما تبقى من قطعة مرآة قديمة مكسورة ملصقة على باب خزانة الملابس.. وابتسمت.. ابتسامة واسعة شغلت معظم مساحة وجهها.. كادت الابتسامة أن تكبر وتستحيل إلى ضحكة عميقة رنانة، لكنها كتمتها خشية أن يراها أحد، فيقول أنها مخبولة.. لقدأدركت ما هي فيه على الفور.. فجلست على السرير واضعة اللعبة في حضنها.. ثم تمددت بجانبها حتى هفا بها النعاس.. راحت فاطمة في نوم لا يبدو انه عميق.. لكن اللعبة ظلت مستيقظة.. بعينيها الضيقتين تحدق صوب سقف الغرفة.. وتكاد تبتسم.. كما يبتسم الرضيع عندما يشفط ثدي أمه ويشبع.
جلسوا مثلمااعتادوا أن يجلسوا في مساء كل يوم بعد أذان المغرب بقليل، وكان يقينهم في نيل وجبةعشاء مشبعة أو غير مشبعة بدأ يزوغ، الوجبة التي تأخر مجيئها.. وكان الجوع قد بدأيتسلل إلى أجسادهم النحيلة التي أنهكها التعب، فهمدت قواها، واسندوا ظهورهم إلىجدار مشقق مائل، جدار بحاجة إلى جدار آخر كي يسنده. كانت الوجوه العابسة تقابل العيون المكسورة في وجوم وقلق.. بعضهم مدوا أرجلهم ليريحوها، والبعض تربع على حصيرتثنت أطرافه مع مرور الأيام، ونسلت زواياه ومزقت حوافه أيد الصغار، الصغار الذين لايكفّون عن تحويل أي شيء إلى أداة لهو. كلهم ينتظرون وجبة العشاء، الوجبة التياعتادت أن تشتريها لهم في طريق عودتها من العمل الأخت الكبرى، أختهم فاطمة التي جاوزت الثلاثين.. فاطمة التي أملها في الزواج راح يتأرجح بين بطون أهلها الفارغةعلى الدوام، وبين عمرها الذي يتقدم كل يوم ويسير بها بثبات وعناد مقيت.. وهي ترغب كثيرا في الزواج وتتمنى أن تذوقه، لكنها تخشى أن تموت أسرتها من الجوع إذا تزوجت.. كأن زواجها مصيبة يهلك من هولها الجميع.. وتخشى في الوقت نفسه أن تبقى بلا زواج،فيفوتها القطار الذي قطع من عمرها مسافات طويلة.. فتبور.
طرق أذانهم نقرات حذاءفاطمة على الأرض في الخارج قرب الباب، فلمعت عيون، وراقت وجوه، وارتاحت قلوب،وتلمظت أفواه، و تململت أجساد في مجلسها واعتدلت.. وجرى الصغار نحو الباب ليفتحونه.. وامسكوا بذيل جلباب فاطمة، وبعضهم تسلل من بين رجليها، وآخرون نتشوا منبين يديها الفلافل، وخطفوا صحون الفول المدمس، المنتظرة بشوق ولهفة.. وعادوا بكل هذا جريا إلى الطبلية يهللون ويضحكون.. على الفور تحلقوا كلهم حول طبلية العشاءوراحوا يتزاحمون ويتراصون، تتلاصق الأكتاف بالأكتاف.. وتتناطح الأكف لنيل نتفه منقرص فلافل أو لقمة خبز مغمسة بالفول، يحصلون عليها بعد أن يخوضوا حروبا طاحنةمريرة، وبطلوع الروح.. حروب كلها وخز ولكز وزعق.. لأنهم في مرات كثيرة لا يشبعون.. فينامون بعد أن يطيح برءوسهم النعاس، فتتناثر أجسادهم في الغرف الضيقة أكواما من اللحم الحي الذي له فحيح متعب مؤرق وساخن.
انتهوا من تناول وجبة العشاء.
ذهب الصغار إلى النوم..
تمددت فاطمة كي تريح جسدها من تعب نهار كان طويلا.. تحدق إلى السقف ساهمة غارقة في حيرتها العويصة.. فاليوم رئيسها في العمل اخبرها أنه سيحضرغدا إلى أهلها لخطبتها منهم، وهي لا تعرف كيف تخبر أخاها الكبير بهذا الخبر المؤسف الأليم إلى قلبه.. وتخشى إن هي رفضت الزواج من رئيسها أن ينتقم منها ويطردها من العمل، العمل الذي نشف ريقها وريق أهلها من اجل الحصول عليه، وستضيع أيضا فرصةالزواج التي ربما تكون الأخيرة، ويطير العريس.. ويؤلمها أن فوق هذا كله سيفطسون كلهم من الجوع ويتهدم البيت فوق رءوسهم ويعم حياتهم الوبال. أخوها الكبير لا يرغب في تزويجها خوفا من العواقب الوخيمة التي يحاول أن ينساها كلما خطرت في باله، فهوعاطل عن العمل كبقية إخوانه القاعدين كأنهم أصحاب عاهات. أخوها هذا أيام زمان لميكن يصلي، إلا انه من وقت قريب صار يصلي خصيصا، بما في ذلك صلاة الصبح حاضرا في أوجبرد الشتاء، كي يدعو الله في صلواته الخمس أن لا تتزوج فاطمة وان يوقف الله بختهاويعثر حظها بعريس، كي تستمر في إعالتهم، وكي لا يدمر بيتهم.. لكنه ما أسرع أن يندم بعد ذلك على دعائه، فيتوب، وتسيل من عينيه الدموع حارة مريرة معذبة، ويستغفر الله بركعتين.. وما أكثر المرات التي استغفر بها الله وتاب كلما تقدم إلى فاطمة عريس.. أو إذا تكلم أحد وجاب طرف لسانه سيرة الزواج من قريب أو من بعيد.
مواصفات العريس الذي كانت تتمناه فاطمة على الدوام، وربما ما زالت تتمناها إلى الآن، هي أن يكون طويلا عريضا ابيض.. وكثيرا ما كانت تدعو الله أن يكون بلا كرش وبلا صلعة.. وما زالت تطمع في أن يكون داخل رأسه ولو قليل من مخ يفكر، وان يكون في صدره قلب حنون ورقيق.. ولكن ما يحزنها ويحيرها انه لا يتوفر في رئيسها هذا أي صفة من هذه الصفات، ولا حتىواحدة منها.. وهو على العكس من ذلك فهو قصير مثل قرن الفلفل، وأعمش، ولون بشرته بنيداكن كأنه نسي في فرن واحترق، حتى صار لونه كلون الخروب.. وفاطمة ما زالت قلقة لأنه من زمن طويل لم يتقدم أحد لخطبتها، ربما بسبب تقدمها في السن، وربما لغلظة أخيها في معاملة الخطاب، وربما لفقرها غير المعهود.. رغم أنها من فترة ليست قليلة صارت تتخلى عن الكثير من أحلامها وتتنازل عن بعض رغباتها.. أحلامها التي بدأ يخبو وهجها في ضميرها، ويشحب بريقها في عقلها مع مرور كل أسبوع وانقضاء كل شهر.
اهتز سكون البيت ورجف الصمت، وجفلت فاطمة وارتعشت على صوت عطسات شديدات متتابعات، فرقع بهاانف أخيها وفمه.. على مهل جمعت في طيات نفسها كل ما استطاعت جمعه من شجاعة، وحدثته بصوت ضئيل باهت لا رنين له..
- غدا سيتقدم لخطبتي رئيسي في العمل.
- لن أوافق.. وجهه مثل الرغيف المحروق.. وسنموت جوعا.
- الرزق على الله.. لا يموت احدمن الجوع.
- سأموت قهرا على ابني إذا طلب شيئا وعجزت عن تلبيته.
- لكن عمري جاوز الثلاثين.. سأصبح فوق سن الزواج.
- أنت تحت خط الزواج.. رغم انك فوق سن الزواج.
- أي خط هذا؟ وما الذي يحدده؟
- الظروف هي التي تحدده.. تذكري أن أبي وأمي بحاجة دائمة إلى الدواء.
- لكنك تبيع الترمس.. طوال النهار.
- بيع الترمس بالكاد يجلب لنا ثمن الخبز الحاف.. بماذا نغمس؟.. ورسوم أختك في الجامعة.. وكتب مدارس الأولاد.. والثياب.. الأحذية.
- ومتى سيكون بإمكاني أن أتزوج.
- عندما ينفك الحصار، وقتها ساجد عملا مجزيا.. حينها ستصبحين فوق خط الزواج.
- لااحد يعلم متى سينتهي هذاالحصار.. والوقت لا يرحم.
كشر أخوها وتأزمت ملامحه، لقدتجمعت كل عفاريت الدنيا أمامه كأنها في مظاهرة عارمة، وراحت كلها تتنطط في وجهه الذي أوشك أن يطفر بالدم، فأحس بأن جسده لا يتسع لروحه التي أخذت تغلي وتفور، وراح فمه يبربر بكلمات حادة كادت تمزع قلب فاطمة.. ثم تركها بسرعة واندفع إلى خارج البيت، وظل يبرطم إلى أن غادر وابتعد.
أحست فاطمة بالأسى على نفسها والشفقة علىأخيها والحزن على أهلها.. وأكثر ما يجرحها وينهش نفسها أن الزواج الحلال، على سنةالله ورسوله، انقلب إلى ما يشبه الحرام في ظل ظروفها القاهرة، أو هو الحرام بذاته،وأكيد انه من الكبائر التي من الصعب أن تغتفر مهما أكثرت من الصلوات.. وأحست في ثنايا نفسها أن زواجها بمثابة خيانة لأسرتها، وكأنها تتحول إلى مجرمة ترتكب مجزرةجماعية بزواجها الذي قد يهلكهم مرة واحدة أو بالتدريج.. وقد يدفنهم أحياء، ستكون قاتلة مع سبق الإصرار والترصد.. وعدم زواجها هو حياتهم، ومصيرهم، وحاضرهم،ومستقبلهم الذي هو بلا أمل، وبلا ملامح.. ودغدغ عقلها أنها المنقذة الوحيدة لهم،واليد الوحيدة الممدودة التي تحميهم من الغرق.. وتسأل نفسها..
- هل علىّ أن أضحي بمستقبلي من اجلهم؟
لكنها لا تجيب.. وتبقي الإجابة معلقة على مستقبل مجهولالملامح.. أو هي تتهرب من ثقل الإجابة ومرارتها.. بل تخاف حتى الاقتراب من الجواب.
جلست فاطمة بجوار والدها بعد أن كتمت مشاعرها ودفعتها بعيدا في أعماقها.. كل شيء فيها صار ساكتا، فلا جدوى من الكلام أمام والدها الذي فقد القدرةعلى الحركة والنطق، قبل سنين بعيدة، حين أصابه الشلل، والشيء الوحيد الذي يشعره انهآدمي وانه ما زال على قيد الحياة، هو قعود فاطمة إلى جواره في كل مساء.. فيحدق إليها بعينين زائغتين يشعان وهج الماضي البعيد ونيران الحاضر المشتعل بالبلايا.. حتى أمها لا تستطيع أن تساعدها، ولو بالكلام، حتى لو كان كلاما تافها فارغا بلا أي قيمة ولا أي معنى، فهي مريضة مقعدة أيضا، لا تبرح غرفتها البتة.. وطوال النهارغارقة في آهاتها، تشكو من آلام مزمنة في ركبتيها، ولا تتوقف عن الأنين بسبب وجع ظهرها، وقد يئست من علاجه، فتركت الأدوية جانبا وصارت فاطمة في كل مساء تدهنه بالزيت البلدي، فتعبق رائحته الكريهة كل أركان البيت.. وفوق هذا تبقى أمها على الدوام غارقة في أسوا أنواع الاكتئاب.
نظفت فاطمة الطبلية، ووضعتها في المطبخ.. وجلست في غرفتها تحدق إلى لعبة بلاستيكية ممدة على طاولة خشبية ليست كبيرة، هي لعبةعلى شكل عروس.. أهدتها لها إحدى صديقاتها عندما تخرجت في الجامعة، لمّا نالت مرتبةالشرف.. اللعبة لها شعر أشقر وطويل، اعتادت أن تمشطه فاطمة كل يوم.. وعيون جميلةلها رموش تقوّست أطرافها.. ويزيد الكحل الذي تضعه لها فاطمة من حلاوة عينيها، ويرقىبجمالها احمر الشفاه الذي هو طلاء كأنه ابدي لا يزول.. يلف العروسة فستان ابيض مثل فستان العروس الآدمية بالضبط.. وطرحة بيضاء.
تحولت عينا فاطمة إلى عدستي ميكروسكوب ليكبرا فستان اللعبة، والطرحة، إلى الكثير الكثير من المرات.. حتى كبرالفستان وأصبح على مقاس جسمها غير المكتنز.. تناولت فاطمة الفستان برقة وحنان بين يديها كأنما تخشى عليه من الكسر.. وارتدته على جسدها، ولم تنس إغلاق السحاب منناحية ظهرها.. ووضعت على رأسها الطرحة الطويلة التي تجر على الأرض، ووقفت تشاهدنفسها أمام ما تبقى من قطعة مرآة قديمة مكسورة ملصقة على باب خزانة الملابس.. وابتسمت.. ابتسامة واسعة شغلت معظم مساحة وجهها.. كادت الابتسامة أن تكبر وتستحيل إلى ضحكة عميقة رنانة، لكنها كتمتها خشية أن يراها أحد، فيقول أنها مخبولة.. لقدأدركت ما هي فيه على الفور.. فجلست على السرير واضعة اللعبة في حضنها.. ثم تمددت بجانبها حتى هفا بها النعاس.. راحت فاطمة في نوم لا يبدو انه عميق.. لكن اللعبة ظلت مستيقظة.. بعينيها الضيقتين تحدق صوب سقف الغرفة.. وتكاد تبتسم.. كما يبتسم الرضيع عندما يشفط ثدي أمه ويشبع.
تعليق