سيدي ...أ تسمعني؟
عذرا، كنت أود ألا أتكلم، لكن، ماذا بوسعي فعله سوى أن أريح ضميري؟...
سيدي،
لقد ارتأيت، بعد أن ارتاحت نفسي إليك، أن أريح ضميري كذلك، فهل بمقدورك سماعي؟...
أخ من هذا الضجيج...
إنه يحول دون سماعك كلامي...
أريد أن أقول إني ارتحت إليك سيدي، و ليس من اللياقة و الأدب، بعد ارتياحي لمعاشرتك، ألا أريح ضميري، و أبوح لك بالسر الذي يجثم على صدري كقطعة حديد ضخمة و صدئة...
سيدي، انتبه، بركة وحل، ستوقعني فيها، انتبه !...
ما كنت أعرف أنك قليل الانتباه.
و الجميل ما تقدمه لي من فرص لأكتشف أشياء جديدة فيك كل يوم. إنك، سيدي، مثل موسوعة نادرة الوجود، تتيح لك في كل مرة تفتحها، فرصة التعرف على شيء كنت تجهله، أو كنت لا تعيره اهتماما يذكر...
حسنا،..ماذا كنت أريد أن أقول لك..
نعم، سيدي، أنا مدين لك بالكثير، فكيفما كانت الأحوال التي أنا فيها الآن، فأنت أرحتني من عذاب التقليب و التفتيش و الإهمال. أشكرك، سيدي، جزيل الشكر، فأنت نظفتني و زينت وجهي، و لولاك، لكنت الآن أعيش تحت كُبة الغبار...اشكرك، سيدي، جزيل الشكر...
أ تسمعني؟...
آي...لا تفزع، إنها حجارة، مجرد حجارة صغيرة، لكنها ذات رأس حادة...
لو أنك تنتبه قليللا و أنت تسير...
ثم لماذا أنت ترتاد مثل هذه الحارات الضيقة المليئة بالحفر و الأزبال و الحجارة الصغيرة، ذوات الرؤوس الحادة؟ !... بوسعك أن ترتاد أحياء و شوارع نظيفة، خالية من الحفر و البرك و الأزبال...
إيه...أ تسمعني؟...
لعلك لا تسمعني...الضجيج...أليس كذلك؟...إنه الضجيج، تبا لحضارة الضجيج...
عذرا إن كنت كثير الشكوى و الأنين، فأنا ما تعودت قط على مثل هذه الحياة، حياتك أعني، فمنذ أن عرفتك و عرفتني، و صرنا أصدقاء، و أنا لا أراك تتنقل إلا في الأماكن الوعرة المسالك.
حقيقة، أنت لا تستضيفني إلا مرة في الأسبوع، و طوال الأيام الأخرى، أظل منزويا في ركن من كوخك، أنعم بالهدوء و الراحة، و كأني بك تعلم أني لا أطيق صحبة شخص مثلك، طوال أيام الأسبوع.
عفوك، أنا لا أقصد إهانتك، لكن، اسمح لي صراحتي، فأنا أومن بأن شرط صداقة متينة و طويلة، هو شرط الصراحة، لذا، أنا أصارحك.
تستضيفني كل يوم سبت للنزول إلى وسط المدينة، حيث الشوارع الأنيقة المبلطة الخالية من البرك و الأوحال و القاذورات، لكن نزولي معك، يكون ثمنه باهضا، فما إن نجتز هذه المسالك المغبرة القدرة المحفرة، حتى أكاد أختنق، أو قل أكاد، لولا متانتي و صلابتي ، أتمزق إربا إربا...نسيت أن أقول لك إني من سلالة اشتهرت بقوتها و متانتها، إلا أني ،رغم قوتي و متانتي، أنفرد بحساسية مرهفة ...أنا أكره الحفر و الغبار...
أ تسمعني، سيدي...
لكن هذا لا يقلل من أهميتك، و لا يغير من المكانة التي تحتلها شخصيتك في قلبي، فأنت رجل طيب، لطيف المعشر، رقيق القلب، رغم فقرك...
أو تدري أني قبل أن أتعرف عليك، كنت أعرف شخصا آخر؟...
أوف،..هذا غباء...لماذا أطرح عليك مثل هذا السؤال، و الحياة تضع في طريقنا ، عبر مراحل العمر، أصنافا و أشكالا من البشر، فنصادق البعض ، و نتجنب البعض الآخر... أين هم أصدقاء الطفولة؟... و أين هم أصدقاء الصبا و الشباب؟...
نعم، كنت أعرف شخصا آخر، لكنه لا يشبهك في شيء، مخالف لك تمام الاختلاف...
سيدي، أ تسمعني؟...
كان رجلا ثريا، من كبار الأثرياء، و كنت في صحبته أرفل في بحبوحة العز و الهناء... لم نكن نحن الاثنين نطأ إلا الزرابي الناعمة الملمس. و من الزرابي و القطائف المخملية، إلى السيارات الفارهة، و الصالونات التي تعبق بأريج الورد، و تمتزج أضواؤها الشفافة الساقطة من ثريات البلور، بأغلى و أندر ما في الدنيا من عطور...و نادرا ما كنا نطأ أرضية معمل هنا، أو متجر هناك...
أ تسمعني، سيدي؟...
....و حين كان يزور معملا، أو متجرا، كنت أتالم كثيرا، كنت أستغرب من تحوله المفاجئ، طريقته في المشي كانت تتغير بمجرد دخوله معملا من معامله أو متجرا من متاجره. كانت خطواته تسمع لها طرقات، و أنا كنت أتالم...و كنت ألاحظ أن تلك الطريقة ، تبث الرجفة و الاضطراب في قلوب مستخدميه و الموظفين العاملين تحت إمرته...
و على هذا المنوال، سارت حياتي معه...كانت أنماط بشرية تعيش في شخصه الواحد..
و جاء يوم حدث فيه ما لم يكن يتوقعه، أو بالأقل ، ما لم أكن أنا شخصيا أتوقعه. شخص في مثل سطوته و جاهه، لا يمكن أن يتصور أي كان ، أن يحدث له ما حدث...
سيدي، أتسمعني؟...
...فلأول مرة أرى فرائصه ترتعد، فأرتعد أنا معها...
صاحبته إلى كثير من حلبات الرقص و كان فيها رائعا ، متألقا، بارعا في تحريك قدميه، و لكن، في هذه المرة ، لم تكن حركات قدميه تشبه في شيء حركات الرقص، كانت ترتعد، ... ترتعد اضطرابا و هلعا...
و منذ ذلك اليوم، فقدت فيه الشخص الذي كنت أعرفه قويا، مهاب الجانب.
أهملني فترة من الزمن منزويا في غرفته لا يبرحها. نبتت له لحية لا جمال فيها و لا أناقة، و غارت عيناه في محجريهما، اصفرت سحنته و ازرقت شفتاه بأزرق غامق يميل إلى السواد...
أ تسمعني، سيدي؟...
انتبه،..إنك تؤلمني بصمتك هذا..
في المناسبات السابقة، كنت أنزل معك إلى وسط المدينة، و فرحك البادي في ضحكتك و كلامك و مشيتك، لا يعادله إلا فرح عاشق...و لعلك كنت أنت ذاك العاشق، و حبيبتك...آخ..يا لبلادتي، لقد اكتشفت اليوم ، كم أنا بليد...عرفت الآن سبب صمتك...كيف لم أنتبه؟..أ لأن المرأة، ذات الحذاء الأبيض ، لم تأت؟...أ ليس كذلك؟...من حسن حظي، فلون حذائها لا يناسب ذوقي، و إلا كنا نحن الاثنين الآن، غارقين في صمتنا...أ لهذا السبب أنت تركل كل ما تصادفه في طريقك؟...علبة صفيح فارغة، حجر، و أحيانا الفراغ؟...تفرغ في هذه الأشياء غضبك !؟... لكن، أنت تؤلمني بتصرفاتك هذه...
تعقل يا سيدي، و إذا لم تكن تلك المرأة من نصيبك؟...
و غياب التعقل، و مواجهة الصدمة بما يليق من الحكمة و الرزانة ، هو الذي دفع بصاحبي الثري إلى أن يتسلل ذات صباح من غرفة نومه، و يسيح على وجه البسيطة، يبكي مرة، و يصرخ أخرى...يصرخ بحنجرته، و رئتيه و قلبه و عقله، إلى أن فقد السيطرة على أعصابه، فشرع يتعرى و كأنه يريد أن يكشف للملإ عن حقيقة ما...و لأول مرة أحسست بالشفقة من حاله، و أنه بحاجة إلى عطف و مساعدة. و لم يكن في قدرتي أن أفعل شيئا...
رمى كل ما كان على جسمه، و آخر ما تبقى عالقا به، هو أنا، فتخلص مني بركلة قوية، صارخا صراخا تنفطر له أشد القلوب صلابة.
لبدت في مكاني فترة لست أدري إن كانت قصيرة أم طويلة. شربت ندى الصباح، و تحملت مناوشة بعض الهوام و الحشرات التي لا هم لها سوى البحث عما تملأ به جوفها. أحسست بالضياع...
و لم يدم تحملي و صبري طويلا، دخلت في غيبوبة، لم أستيقظ منها إلا و أنا في يد معروقة، تقدمني ليد أخرى يلمع في إصبع منها خاتم من ذهب، مقابل وريقات نقدية، لترميني وسط مجموعة كبيرة من أمثالي، أعيش حياة القهر و العذاب. و كان بإمكان الشخص الذي اشتراني أن يسلك معي سلوكا حسنا، لكن الناس طبائع و أحوال...
و أتيت أنت...
سيدي، أتسمعني؟..
و لم الغضب !؟...
أنت تضرب بي الحجر، و تغرقني في الوحل...
ارأف بي سيدي...فلست أنا السبب في عدم مجيء تلك المرأة...
سيدي، تعقل... فما أنا في نهاية الأمر سوى حذاء.
تعليق