مقال : بقلم / د. مصطفى عطية جمعة
القيادي المبدع و غير المبدع
عندما نتأمل في سلوك القياديين في الكثير من الدول العربية ، نلاحظ سمة تكاد تكون عامة ، مشتركة ، منغصة بين معظم هؤلاء : أن الجميع لا إبداع لديه، لا تجديد ، بل تكلسا و ترهلا . وبالتالي ؛ فإن الشكوى موحدة بين مختلف طوائف الشعب ؛ وعنوانها : هناك تغييب للكفاءات ، قتل للإبداع ، لا مجال للمجتهدين ، لا متسع للموهوبين . بل تعمّد إقصاء كل هؤلاء ، وتتفاقم الأمور وتزداد المشكلات سوءًا ، وتظل الشكوى بلا توقف .
وتمتد الظاهرة من المستويات الدنيا إلى المستويات العليا ، من مستوى مسؤولي المخافر والمدارس والوحدات الصحية والخدمية ، مرورًا بالكليات والجامعات ومدراء الهيئات الخدمية المتعددة ، إلى الوزراء والمحافظين ورؤساء تحرير الصحف والمجلات والدوريات ، انتهاء بالحكام ( القيادات السياسية ) . فالقاسم المشترك بينهم : إعلاء المركزية ، قتل المواهب ، تطفيش المجتهدين .
وتعتري هذه الظاهرة جملة أمور؛ فالقيادي ذاته الذي أصبح يميل إلى النفاق، ويتعمد الروتين ، ويتسلح بالقرارات الإدارية ، واللوائح ، والقوانين ، كان يومًا متنفذا صغيرا ، يضيق ذرعًا بسلوكيات رؤسائه الذين يحاربون المجتهد والمجدد والمبدع ، فلما تسلم عمله القيادي ، وشعر أنه الرئيس وتحته المرؤوسون ، استخدم نفس عادات وسلوكيات من قبله ، وتعامل مع من أهم أدنى بنفس الطريقة. لذا ، نجد العجب ، وضرب الكفوف من الناس ، وهم يشيرون إلى هذا أو ذاك ، ويقولون كان يومًا يعيب الروتين واللوائح ، فصار أشد ممن كان قبله .
* * *
إنها ظاهرة معقدة ، تتداخل فيها أبعاد نفسية واجتماعية وإدارية ، فالبعد النفسي فيها أن الموظف الذي يدين رئيسه ، ويتهمه أنه لا يشجعه ولا يحفزه على العمل ، يترسخ في اللاوعي عنده أن رئيسه بقي في كرسيه بفضل تمسكه بالروتين ، وأنه لو أفسح المجال للأنشط والمجتهد ، فهذا معناه أن كرسيه في خطر ، وأنه لا يعمل بكفاءة بدليل أن مرؤوسيه تفوقوا عليه. فالتفسير النفسي (الأول ) إذن : الخوف على الكرسي من هؤلاء المجتهدين المجدّين.
أما التفسير الإداري ( الثاني ) فيتصل بتلك النظم والقوانين واللوائح التي صممت لتنظيم العمل ظاهريا ، وفي الحقيقة أنه من الممكن اختصارها وتقليصها، ولكن الميراث الوظيفي يجعل الرؤساء يتفنون في ابتكار المزيد منها من أجل التحصين الشخصي لهم في العمل ، فهم على قناعة تامة أن الأوراق مستندات حماية وأدلة إثبات لهم ، واتهام للعميل ( المواطن ) .
ويأتي التفسير الاجتماعي ( الثالث ) عاملاً حاسمًا في ترسيخ روتينية القيادي ، فالمنصب شرف وهيبة في المجتمع المحيط به ، ووسيلة لنيل المكاسب الذاتية والعائلية ، والشخص ترتفع مكانته بسمو منصبه ، إذن عليه أن يقاتل للبقاء فيه أطول فترة ممكنة ، لضمان التميز الاجتماعي والعائلي والقبلي . ولن يبقى هو إلا بمحاربة من هم دونه . ولنا في كثير من الوزراء والمحافظين نماذج ، فهم يحيطون أنفسهم بالخانعين الخاضعين المتسلقين الضعاف ضمانًا لهم . ويكفي أن أحدهم تبوّأ مشيخة قبيلته لأنه حاز منصبا قياديا فترة طويلة ، فلما خرج من الوزارة انصرف أقاربه عنه . وهو نموذج لكل من هو على شاكلته .
ولا تعني التفسيرات السابقة أن القيادي منضبط في عمله ، ولكنه يجيد فن البقاء في كرسيه ، يعامل الغرباء بالروتين ، ويحطمه مع مصالحه الخاصة ومصالح فئته ومنتفعيه ، وهو في كلتا الحالتين لديه من الأوراق والثغرات القانونية ما يحميه ويعزز وضعه أمام من هم أعلى منه .
* * *
وفي سلوك القياديين في بلادنا مفارقات ، فالقليل منهم مبدع مجتهد مخلص لله وللرعية وللوطن ، والغالبية متحصن باللوائح والقوانين ظاهريا ، ويخالفها ذاتيا ، والنادر المتفلت المهمل جدا . ولكن السؤال : لماذا لا يبدع القيادي في منصبه ويحقق المزيد من الشهرة والتفوق والبقاء ؟ خاصة أن سلطات كثيرة تحته . وللإجابة عن هذا السؤال ، لنوضح أولاً نقطة تتصل بسبل وصول القياديين ؛ فاختيارهم خاضع للتراتب الوظيفي أو ما يسمى التدرج في السلم الوظيفي ، وهذا حادث حتى درجة وكيل وزارة . والمصيبة في هذا التدرج أنه يقتصر على الوظائف القيادية الدنيا ، التي تتصل بشكل مباشر بمصالح الجمهور والناس ، وبالتالي فهؤلاء بيدهم الأمر والنهي ، فمهما كان الوزير أو رئيس الوزراء مبدعا ، سيتحطم إبداعه على صخرة هؤلاء القياديين الصغار . ولنأخذ مثالا على ذلك : وزارة الثقافة ( أو ما يعادلها في بلادنا ) ، يكون الوزير مثقفا للغاية ، ويضع الخطط الطموحة ، ولكن عندما تنزل إلى المراتب الدنيا ، تتبخر بين الأوراق والنظم والروتين وتكاسل الموظفين وتضيع فوائدها في علاوات ومكافآت للقياديين وموظفيهم ، ويتحمل اللوم الوزير المثقف ، فيتم تغييره ، ويأتي غيره ، بينما المضيعون الحقيقيون قابعون كما هم ، ومحاسبتهم نادرة .
أما اختيار الوزراء ( المستوى القيادي العالي ) فهو خاضع لاعتبارات : سياسية ، التوازن القبلي ، التوازن المذهبي ، العلاقات العامة ، إرضاء الخواطر، وأخيرا : الكفاءة والقوة والأمانة . ومن المفارقات أن الدهاء السياسي العربي ( في النظم التي تدعي الديمقراطية ) تختار نائبا معارضا مشهورا في البرلمان ، ليكون وزيرا ، فيظل المسكين يكافح للتغيير ، وهو يظن أن المسألة متوقفة عليه هو ، ويغرق في الاجتماعات واللجان المشكلة والمنبثقة ، واستعراض البحوث والتوصيات ، ثم عندما تنزل إلى أرض الواقع ، تكون النتائج أسوأ مما يتوقعه الناس ، لماذا ؟ لأن القيادي الأسفل ومتنفذوه غير مقتنعين بجدوى إصلاحات الوزير المجدد ، فهم معتادون على ما ألفوه منذ سنوات ، فيكون التطبيق خطأ ، ويخرج الوزير محترقا سياسيا وتنفيذيا والأمثلة على ذلك كثيرة .
* * *
إن موقف القيادي الأصغر أو الأعلى من منصبه يخضع لثلاثة أنماط من الشخصيات : الأول : القيادي المبدع الماهر بالفعل ، وهو إضافة حقيقية لمنصبه، وسيزيد عليه ، وسيعي المؤامرات المحاكة ضده ، وسيبرع في تنفيذ مخططاته، على جميع المستويات وهؤلاء قلة في بلادنا ؛ لسبب بسيط هو : نظرية قتل وتطفيش الكفاءات منذ شبابها إلى كهولتها ، إما بتدجينها أو بتهجيرها أو بحرقها .
الثاني : القيادي الموظف الروتيني الذي يجيد فهم النظم وتنفيذ اللوائح ، ولكن يغيب عنه الإبداع وتشجيع الكفاءات ، وقد حاز منصبه بفضل طاعته الجيدة لرؤسائه ، وتنفيذه المنضبط للتعليمات ، وهذا مساو لوظيفته ، ولكن بقاءه الحياتي مرتبط بهذا الكرسي ، فقد ناضل سنوات عمره للفوز به . وقد عبّر نجيب محفوظ في رواية " حضرة المحترم " عن هذه الفئة ، التي تحلم بالمنصب وتظهر من الفنون والمبتكرات الورقية ما يجعلها تفوز به .
الثالث : القيادي الذي هو أقل من المنصب ، وهذا مسكين حاز المنصب لقرابة أو توصية أو ترضية ، وسيكون خاضعا لمن حوله من المتنفذين والسكرتارية واللجان ، سعيدا بالتوقيعات والاجتماعات .
* * *
لو ارتفعنا إلى المستويات القيادية في الدولة ، فإننا نجد القادة السياسيين هم إفراز طبيعي لهذا المجتمع المركزي بكل ضغوطه القبلية والشعبية والروتينية ، لذا لا نتعجب عندما نجد قادة دول يمضون سنوات طويلة في مناصبهم ، يسافرون ويشاركون في اجتماعات القمم ، ويستقبلون الرؤساء والوفود ويرسلون البرقيات ، دون أن يحلوا المشكلات المزمنة للأوطان ، وهذا طبيعي ، فاختيارهم لم يتم من الشعب ، وإنما جاء لأسباب غير ديمقراطية ؛ توريثا أو ترقية أو اختيارا للأضعف من قبل الرئيس السابق ، أو اتفاقا من قبل القوى المتنفعة في المجتمع أو خارج المجتمع بأن يكون هذا الشخص واجهة سياسية لهم . ولا نستغرب ، فالمعروف أن حكومة مصدق في إيران سقطت وأحكمت قبضة شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي لأن شركات النفط الأمريكية لم ترض عن سياسية مصدق الوطنية في التأميم .
فإذا تبوأ هذا الشخص المنصب ، سيكون أقل من منصبه كفاءة وقدرة ، وبالتالي سيختار الأضعف منه حتى لا ينافسه ، ويخضع نفسه لمستشاريه ومخابراته وأجهزته الأمنية ، ويظل الأمر هكذا .
فلا نستغرب ، إنما الحاكم إفراز للشعب ، والشعب مفرزة حكامه ، هذا في النظم البيروقراطية الديكتاتورية .
* * *
والحل ؟
الأخذ بالآليات الديمقراطية في الانتخاب ، وترشيح الأكفأ ، والأقوى ، والأمين ، وهذا لا يتطلب إلا المزيد من الوعي الإداري والسياسي والاجتماعي ، ومن قبل هذا كله : إخلاص النيات لإصلاح الأوطان . ففي النظم الديمقراطية ، تغلب على نيات الشعوب المصلحة العليا للوطن فوق الاعتبارات الفئوية والقبلية ، وبالتالي يختار الأكفأ .
وهذا للعلم ليس صعبا ، فدولة مثل ماليزيا اتخذت الديمقراطية سبيلا ، فأتت بمهاتير محمد ، الذي استطاع في خلال عقدين من الزمن أن يجعلها في مصاف النمور الآسيوية ، ويكفي أن قيمة ما تصدره ماليزيا من مصنوعات يوازي ما تصدره أقطار الخليج مجتمعة من النفط ، وأقل قليلا من قيمة ما تصدره إسرائيل
وأخيرا : إن المنظور الحديث في قيادات الشعوب والدول يؤكد أن الدولة الحديثة باتت تصنع وتؤسس خلال عشر سنوات ؛ ومن النماذج : كوريا الجنوبية ، سنغافورة ، دبي ، البرازيل .
القيادي المبدع و غير المبدع
عندما نتأمل في سلوك القياديين في الكثير من الدول العربية ، نلاحظ سمة تكاد تكون عامة ، مشتركة ، منغصة بين معظم هؤلاء : أن الجميع لا إبداع لديه، لا تجديد ، بل تكلسا و ترهلا . وبالتالي ؛ فإن الشكوى موحدة بين مختلف طوائف الشعب ؛ وعنوانها : هناك تغييب للكفاءات ، قتل للإبداع ، لا مجال للمجتهدين ، لا متسع للموهوبين . بل تعمّد إقصاء كل هؤلاء ، وتتفاقم الأمور وتزداد المشكلات سوءًا ، وتظل الشكوى بلا توقف .
وتمتد الظاهرة من المستويات الدنيا إلى المستويات العليا ، من مستوى مسؤولي المخافر والمدارس والوحدات الصحية والخدمية ، مرورًا بالكليات والجامعات ومدراء الهيئات الخدمية المتعددة ، إلى الوزراء والمحافظين ورؤساء تحرير الصحف والمجلات والدوريات ، انتهاء بالحكام ( القيادات السياسية ) . فالقاسم المشترك بينهم : إعلاء المركزية ، قتل المواهب ، تطفيش المجتهدين .
وتعتري هذه الظاهرة جملة أمور؛ فالقيادي ذاته الذي أصبح يميل إلى النفاق، ويتعمد الروتين ، ويتسلح بالقرارات الإدارية ، واللوائح ، والقوانين ، كان يومًا متنفذا صغيرا ، يضيق ذرعًا بسلوكيات رؤسائه الذين يحاربون المجتهد والمجدد والمبدع ، فلما تسلم عمله القيادي ، وشعر أنه الرئيس وتحته المرؤوسون ، استخدم نفس عادات وسلوكيات من قبله ، وتعامل مع من أهم أدنى بنفس الطريقة. لذا ، نجد العجب ، وضرب الكفوف من الناس ، وهم يشيرون إلى هذا أو ذاك ، ويقولون كان يومًا يعيب الروتين واللوائح ، فصار أشد ممن كان قبله .
* * *
إنها ظاهرة معقدة ، تتداخل فيها أبعاد نفسية واجتماعية وإدارية ، فالبعد النفسي فيها أن الموظف الذي يدين رئيسه ، ويتهمه أنه لا يشجعه ولا يحفزه على العمل ، يترسخ في اللاوعي عنده أن رئيسه بقي في كرسيه بفضل تمسكه بالروتين ، وأنه لو أفسح المجال للأنشط والمجتهد ، فهذا معناه أن كرسيه في خطر ، وأنه لا يعمل بكفاءة بدليل أن مرؤوسيه تفوقوا عليه. فالتفسير النفسي (الأول ) إذن : الخوف على الكرسي من هؤلاء المجتهدين المجدّين.
أما التفسير الإداري ( الثاني ) فيتصل بتلك النظم والقوانين واللوائح التي صممت لتنظيم العمل ظاهريا ، وفي الحقيقة أنه من الممكن اختصارها وتقليصها، ولكن الميراث الوظيفي يجعل الرؤساء يتفنون في ابتكار المزيد منها من أجل التحصين الشخصي لهم في العمل ، فهم على قناعة تامة أن الأوراق مستندات حماية وأدلة إثبات لهم ، واتهام للعميل ( المواطن ) .
ويأتي التفسير الاجتماعي ( الثالث ) عاملاً حاسمًا في ترسيخ روتينية القيادي ، فالمنصب شرف وهيبة في المجتمع المحيط به ، ووسيلة لنيل المكاسب الذاتية والعائلية ، والشخص ترتفع مكانته بسمو منصبه ، إذن عليه أن يقاتل للبقاء فيه أطول فترة ممكنة ، لضمان التميز الاجتماعي والعائلي والقبلي . ولن يبقى هو إلا بمحاربة من هم دونه . ولنا في كثير من الوزراء والمحافظين نماذج ، فهم يحيطون أنفسهم بالخانعين الخاضعين المتسلقين الضعاف ضمانًا لهم . ويكفي أن أحدهم تبوّأ مشيخة قبيلته لأنه حاز منصبا قياديا فترة طويلة ، فلما خرج من الوزارة انصرف أقاربه عنه . وهو نموذج لكل من هو على شاكلته .
ولا تعني التفسيرات السابقة أن القيادي منضبط في عمله ، ولكنه يجيد فن البقاء في كرسيه ، يعامل الغرباء بالروتين ، ويحطمه مع مصالحه الخاصة ومصالح فئته ومنتفعيه ، وهو في كلتا الحالتين لديه من الأوراق والثغرات القانونية ما يحميه ويعزز وضعه أمام من هم أعلى منه .
* * *
وفي سلوك القياديين في بلادنا مفارقات ، فالقليل منهم مبدع مجتهد مخلص لله وللرعية وللوطن ، والغالبية متحصن باللوائح والقوانين ظاهريا ، ويخالفها ذاتيا ، والنادر المتفلت المهمل جدا . ولكن السؤال : لماذا لا يبدع القيادي في منصبه ويحقق المزيد من الشهرة والتفوق والبقاء ؟ خاصة أن سلطات كثيرة تحته . وللإجابة عن هذا السؤال ، لنوضح أولاً نقطة تتصل بسبل وصول القياديين ؛ فاختيارهم خاضع للتراتب الوظيفي أو ما يسمى التدرج في السلم الوظيفي ، وهذا حادث حتى درجة وكيل وزارة . والمصيبة في هذا التدرج أنه يقتصر على الوظائف القيادية الدنيا ، التي تتصل بشكل مباشر بمصالح الجمهور والناس ، وبالتالي فهؤلاء بيدهم الأمر والنهي ، فمهما كان الوزير أو رئيس الوزراء مبدعا ، سيتحطم إبداعه على صخرة هؤلاء القياديين الصغار . ولنأخذ مثالا على ذلك : وزارة الثقافة ( أو ما يعادلها في بلادنا ) ، يكون الوزير مثقفا للغاية ، ويضع الخطط الطموحة ، ولكن عندما تنزل إلى المراتب الدنيا ، تتبخر بين الأوراق والنظم والروتين وتكاسل الموظفين وتضيع فوائدها في علاوات ومكافآت للقياديين وموظفيهم ، ويتحمل اللوم الوزير المثقف ، فيتم تغييره ، ويأتي غيره ، بينما المضيعون الحقيقيون قابعون كما هم ، ومحاسبتهم نادرة .
أما اختيار الوزراء ( المستوى القيادي العالي ) فهو خاضع لاعتبارات : سياسية ، التوازن القبلي ، التوازن المذهبي ، العلاقات العامة ، إرضاء الخواطر، وأخيرا : الكفاءة والقوة والأمانة . ومن المفارقات أن الدهاء السياسي العربي ( في النظم التي تدعي الديمقراطية ) تختار نائبا معارضا مشهورا في البرلمان ، ليكون وزيرا ، فيظل المسكين يكافح للتغيير ، وهو يظن أن المسألة متوقفة عليه هو ، ويغرق في الاجتماعات واللجان المشكلة والمنبثقة ، واستعراض البحوث والتوصيات ، ثم عندما تنزل إلى أرض الواقع ، تكون النتائج أسوأ مما يتوقعه الناس ، لماذا ؟ لأن القيادي الأسفل ومتنفذوه غير مقتنعين بجدوى إصلاحات الوزير المجدد ، فهم معتادون على ما ألفوه منذ سنوات ، فيكون التطبيق خطأ ، ويخرج الوزير محترقا سياسيا وتنفيذيا والأمثلة على ذلك كثيرة .
* * *
إن موقف القيادي الأصغر أو الأعلى من منصبه يخضع لثلاثة أنماط من الشخصيات : الأول : القيادي المبدع الماهر بالفعل ، وهو إضافة حقيقية لمنصبه، وسيزيد عليه ، وسيعي المؤامرات المحاكة ضده ، وسيبرع في تنفيذ مخططاته، على جميع المستويات وهؤلاء قلة في بلادنا ؛ لسبب بسيط هو : نظرية قتل وتطفيش الكفاءات منذ شبابها إلى كهولتها ، إما بتدجينها أو بتهجيرها أو بحرقها .
الثاني : القيادي الموظف الروتيني الذي يجيد فهم النظم وتنفيذ اللوائح ، ولكن يغيب عنه الإبداع وتشجيع الكفاءات ، وقد حاز منصبه بفضل طاعته الجيدة لرؤسائه ، وتنفيذه المنضبط للتعليمات ، وهذا مساو لوظيفته ، ولكن بقاءه الحياتي مرتبط بهذا الكرسي ، فقد ناضل سنوات عمره للفوز به . وقد عبّر نجيب محفوظ في رواية " حضرة المحترم " عن هذه الفئة ، التي تحلم بالمنصب وتظهر من الفنون والمبتكرات الورقية ما يجعلها تفوز به .
الثالث : القيادي الذي هو أقل من المنصب ، وهذا مسكين حاز المنصب لقرابة أو توصية أو ترضية ، وسيكون خاضعا لمن حوله من المتنفذين والسكرتارية واللجان ، سعيدا بالتوقيعات والاجتماعات .
* * *
لو ارتفعنا إلى المستويات القيادية في الدولة ، فإننا نجد القادة السياسيين هم إفراز طبيعي لهذا المجتمع المركزي بكل ضغوطه القبلية والشعبية والروتينية ، لذا لا نتعجب عندما نجد قادة دول يمضون سنوات طويلة في مناصبهم ، يسافرون ويشاركون في اجتماعات القمم ، ويستقبلون الرؤساء والوفود ويرسلون البرقيات ، دون أن يحلوا المشكلات المزمنة للأوطان ، وهذا طبيعي ، فاختيارهم لم يتم من الشعب ، وإنما جاء لأسباب غير ديمقراطية ؛ توريثا أو ترقية أو اختيارا للأضعف من قبل الرئيس السابق ، أو اتفاقا من قبل القوى المتنفعة في المجتمع أو خارج المجتمع بأن يكون هذا الشخص واجهة سياسية لهم . ولا نستغرب ، فالمعروف أن حكومة مصدق في إيران سقطت وأحكمت قبضة شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي لأن شركات النفط الأمريكية لم ترض عن سياسية مصدق الوطنية في التأميم .
فإذا تبوأ هذا الشخص المنصب ، سيكون أقل من منصبه كفاءة وقدرة ، وبالتالي سيختار الأضعف منه حتى لا ينافسه ، ويخضع نفسه لمستشاريه ومخابراته وأجهزته الأمنية ، ويظل الأمر هكذا .
فلا نستغرب ، إنما الحاكم إفراز للشعب ، والشعب مفرزة حكامه ، هذا في النظم البيروقراطية الديكتاتورية .
* * *
والحل ؟
الأخذ بالآليات الديمقراطية في الانتخاب ، وترشيح الأكفأ ، والأقوى ، والأمين ، وهذا لا يتطلب إلا المزيد من الوعي الإداري والسياسي والاجتماعي ، ومن قبل هذا كله : إخلاص النيات لإصلاح الأوطان . ففي النظم الديمقراطية ، تغلب على نيات الشعوب المصلحة العليا للوطن فوق الاعتبارات الفئوية والقبلية ، وبالتالي يختار الأكفأ .
وهذا للعلم ليس صعبا ، فدولة مثل ماليزيا اتخذت الديمقراطية سبيلا ، فأتت بمهاتير محمد ، الذي استطاع في خلال عقدين من الزمن أن يجعلها في مصاف النمور الآسيوية ، ويكفي أن قيمة ما تصدره ماليزيا من مصنوعات يوازي ما تصدره أقطار الخليج مجتمعة من النفط ، وأقل قليلا من قيمة ما تصدره إسرائيل
وأخيرا : إن المنظور الحديث في قيادات الشعوب والدول يؤكد أن الدولة الحديثة باتت تصنع وتؤسس خلال عشر سنوات ؛ ومن النماذج : كوريا الجنوبية ، سنغافورة ، دبي ، البرازيل .
تعليق