البطل في رواية «كسبان حتة» لفؤاد قنديل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    البطل في رواية «كسبان حتة» لفؤاد قنديل

    البطل في رواية «كسبان حتة» لفؤاد قنديل (1 ـ 2)

    بقلم: أ.د. حسين علي محمد

    يُحاول الروائي فؤاد قنديل في روايته «كسبان حتة» (2006م) أن يقدم بطلاً شعبيا، من خلال زعم السارد أنه يقص عن أحد المهمشين في قريته، وهو ابن خال السارد. وهو صورة لفلاح مثالي كما يقول الروائي: «كسبان حتة صورة مثالية للفلاح المصري .. الفقير .. البسيط .. يُغطي رأسه في الغالب بطاقية وبر، ويرتدي جلباباً واحداً أو اثنيْن طوال العام، عدا يوم الجمعة حيث يرتدي الجلباب الأبيض النظيف للصلاة كما أن لديه قميصاً وبنطلوناً لزوم مشاوير البندر.
    الصديري رمادي يومض كصفحة مياه النهر تراودها أشعة الشمس، لا يخلعه أبداً إلا عند النوم، وتحته فانلة قطن بنصف كم. السروال يصل إلى الركبة أو أعلاها بقليل .. عنده حذاء مهترئ يخلعه إذا نزل الغيط. قدماه متضخمتان من كثرة الحفاء ولأن حذاءه لا يمنع من وصول الماء والهواء والتراب إلى قدميه.
    ليس في حياته ما يختلف عن حياة الآخرين»(1).
    وهو لا يقصد ـ كما يتضح من النص ـ بقوله «صورة مثالية» الإعلاء من شأنه، وإنما يقصد أنه حالة معبرة في هيئته عن الفلاح المصري الذي اعتدنا نحن ـ أبناء القرى ـ أن نراه.
    وهو لم يؤت حظا من التعليم: «مع زواج أبيه (...) من السيدة "زاهية" تخلى عن الدراسة وتوقف عند السنة الرابعة الابتدائية، وهكذا يُمكن أن يتفرّغ للضياع وقتاً، وعقلاً، وروحاً» (2).
    وأمه امرأة عادية فقيرة من أولئك النسوة اللاتي يحترفن جمع الروث من طرقات القرية، لكنه يعتز بها اعتزازاً كبيراُ، ويراها «السيدة الأولى، ليس في مصر وحدها ولكن في كل دول العالم .. ومن يمسها بربع كلمة سيكون نهار عائلته كلها أسود من قرن الخروب» (3).
    وقد بدأت خوارقه منذ مولده:
    «هل كانت البداية عندما أخرجت لهم الثعبان الذي كان في الشق الكبير، الذي لازال يفصل بيت رجب هريدي عن بيت نجية؟ لا .. ربما كانت البداية قبل ذلك بكثير، ربما كانت يوم مولدك حيث قيل إنك ضحكت، ولم تبك ككل الأطفال حديثي الولادة .. وإنك بصقتَ الماء بالسكر الذي حاولت جدتك أن تقطره في فمك، وبحثتَ مُغمض العينيْن عن الثدي، وهذا في العادة لا يكون.
    أنت إذن ولدت ومعك ولدت غرائبك .. إذ تبوّلت على كل الغرباء الذين جاءوا ليهنئوا والديْك بوصولك قادماً من المجهول إلى المجهول .. ولما حملوك صببتَ عليهم ماءك .. يُقال إن شخصاً واحداً .. رجلاً كان أو امرأة لم يفلت منك، حتى ذاع صيتك فتجنب الناس حملك .. وإذا زاروكم أو قابلوا أهلك خارج الدار .. حيوكم وقبلوك وأنت في موضعك، لكنهم كانوا يدهشون، إذ تلعب لمن يُحدق فيك حواجبك .. وتُجرك أذنيك .. كيف يفعل ذلك رضيع في الشهور الأولى؟» (4).
    وإذا كان ميلاد البطل في التراث الشعبي يكون مشهوراً بالخوارق، فإن البطل هنا له خوارقه المعروفة التي تعرفها القرية منذ ميلاده «قيل إن البداية الحقيقية كانت عند ما أمسكت في يدك القرش الذي وضعه لك العمدة، ثم تأملته لحظةً، وفوجئ الحضور الكبير المرحب بالعمدة أنك ألقيته في وجهه، ثم أطلقتَ الريح مدوياً صوتُه من مؤخرتك، وضحكت.
    تندّر الناس طويلاً بالحكايةِ، وتناقلوها» (5).
    وهذا البطل الممثل للشعب المهمش يجد من يذكرُه ويصنع له سيرة:
    «لم تغب سيرتُه تماماً عن البلد ولا عن الناس، فقد ظهرت موهبة الشعر العامي والزجل لدى شاب من أبناء القرية اسمُه رضوان الروبي، لفتت نظرَه مغامراتُ كسبان، فكتب عنه قصيدةً أعجبتْ سامعيه البسطاء، ثم كتب ثانيةً وثالثةً، وأصبحتْ مادةً من مواد السمر، وأمسى الناسُ جميعاً يطلبونها:
    ـ سمّعنا يا شاعرُ قصة الكسبان.
    حتى حفظوها، وبخاصة الأطفال .. وانتقلت إلى قرى أخرى .. ولا تزال بعضُ أبياتها المتواضعة والمكسورة تحتفظ بمقاعدها في رأسي، خاصة المقدمة التي يعقبُها وصف تفصيلي للمُغامرات، مُضافاً إليها بعضُ ما لم يقترفْه ابنُ خالي بطلُ السيرة» (6).
    وهذا النص كاشفٌ؛ فقد جعل لكسبان سيرةً كالسير الشعبية، التي كانت في القرون الوسطى تُسجل سير الأبطال الشعبيين كأبي زيد الهلالي والظاهر بيبرس وعنترة، وهي سيرٌ ظهرتْ أيام الحروب الصليبية، وظل يرويها المغني ( شاعرُ الربابة) في التجمعات والمقاهي، وظلت أزمنةً حتى ظهرت الإذاعة(7).
    والبطل هنا فرد من الشعب، لم يحقق بطولة، ولم ينتصر على عدو، ولم يُحقق إنجازاً خارقاً لأمته. وكأن الروائي ينبه إلى بطولة الشعب الذي يستطيع أن يعيش في هذا الزمن الصعب(8).
    وفي قول النص الروائي: «مُضافاً إليها بعضُ ما لم يقترفْه ابنُ خالي بطلُ السيرة» يبين أن للبطل سيرةً كالسير السابقة، وأصبح عُرضةً للتزيد والإضافة ليُعبر عن البطل النموذج، الحاملِ أحلام الشعب التي لم تحققها القرون الطوالُ الفائتة.
    وإذا كان بطل السيرة الشعبية يعمل الأعمال الخارقة، ويحقق البطولات لشعبه وينتصر على عدوه، ويحقق الأحلام الكبيرة لشعبه، فإن البطل المهمش هنا «كسبان حتة» يحقق بعض أحلامه في الرواية:
    *ومن هذه الأحلام أن يجعل الناس يأكلون اللحوم في الأعياد، وهم لم يأكلوها منذ أعوام؛ ومن ثم يسرق بقرة أنس شقيق العمدة، ويذبحها ليلة العيد ويوزع لحمها على الفقراء والمحتاجين.
    ولم يكن اختياره لأنس عشوائيا، وإنما لأنه «تأكّد بنفسه من صحة الأخبار التي تحكي عن أنس شقيق العمدة للعمال في المزارع والحظائر والمخازن التي يمتلكها على حدود الكفْر الجنوبية، كما أنه يأكل حقوقهم، ويفرض عليهم العمل ساعات طويلة من النهار والليل في مقابل قروش قليلة.
    بدأت القصة بأن كسبان كان على الطريق في المساء من بيت أخيه حمدان الساعي بمصلحة الضرائب، فعثر بشخصٍ راقدٍ على الأرض يتألم، أعانه وخفف عنه وتعرّف عليه .. كان عاملاً في مزرعة أنس، ويُقيم مؤقتاً مع سليم البكري زوجِ عمته، لكنه يُعتبر إلى حد ما غريباً عن البلد .. حمله إلى بيت سليم وهو في حالة سيئة، وبقي معه حتى تحسنت حالته، ورأى يديه ورجليه الملتهبة وجسمه الهزيل .. دار الحوار، امتلك الرجل بعد ساعة القدرة على الكلام، فحكى لكسبان جانباً مما يحدث من سوء المُعاملة وكثرة المجهود .. هذه الليلة شهدت قيام العامل بإنزال خمسة عشر طنا من العلف؛ أي ثلاثمائة شيكارة كل منها خمسون كيلو جرام علف مركز وذرة مدشوشة وقشر فول .. أنزل الكمية وحده ورصَّها جميعاً في آخر المزرعة .. وكان أنس قد كلَّف الآخرين بأعمال مُشابهة ...» (9).
    ويستخدم الروائي عدداً من الجماليات في تقديم بطله الشعبي:
    1-السخرية:
    فؤاد قنديل أحد الساخرين الكبار في كتاباته الروائية والقصصية (وقد لاحظنا ذلك أثناء الكتابة عن مجموعته «عسل الشمس»(10))، وفي هذه الرواية نجد السخرية في عدة مواضع، منها عدم تصديق الناس أن المرض من الممكن أن يحل بكسبان، يقول السارد:
    « كل من عرف أن كسبان مريض، يكون رده الوحيد:
    ـ يا راجل؟! .. قل كلام غير ده!
    كسبان في رأيهم ضدَّ العطب والكسر .. لذلك يتناقلون الأخبار في دهشة، وليس في أسف أو حزن، كأنَّ ما جرى هو من قبيل كذبة أبريل أو الفشْر .. كأن تقول إن مصريا هبط بحمارته على سطح القمر، أو أن العمدة الذي يركب على نفَسِ البلد من سنة 1983م قرر أن يستقيل ويتبرّع بجلده التخين لمصانع الشنط والأحذية، أو أن أمريكا التي تموت في الصهاينة قرّرت أن تحملهم بعيداً عن فلسطين، وتُسكنهم في إحدى ولاياتها والعالم كلُّه يرتاح، والدنيا كلها ترقص ويعمُّ السلام» (11).
    ومن هذه السخرية قوله عن أم البطل: «كان كسبان يعلم أن أمه تصحو مبكراً وتخرج قبل الكل لتجمع في قفتها روث البهائم الطازج، وتضربه ببعض القش أو التبن وتعده أقراصاً كبيره، وتنشره فوق السطح ليُصبح وقوداً لا يستغني عنه أيُّ بيت في القرية، وهي أهم من يبيع الوقود الهابط من مؤخرات البقر والجاموس» (12).
    لاحظ «روث البهائم الطازج» أي الذي أخرجته البهائم حديثاً وهي منطلقة من البيوت إلى الحقول، ولاحظ أيضاً «الوقود الهابط من مؤخرات البقر والجاموس» وهي صورة واقعية تُرينا كيف يحتالُ الفقراءُ في القرى على الحياة، ويستخرجون من مخلفات الحيوان هذا الوقود الذي يُغنيهم عن شراء المشاعل الحديثه وما تقتضيه من وجود غازٍ غالي الثمن، فيستعيضون عن كل ذلك بـ«الوقود الهابط من مؤخرات البقر والجاموس»!.
    ومن تلك السخرية المرة إشارته إلى الخبرة التي حصلت عليها أمه من هذا العمل «كان يرى والدته وهي تُتابع البقر وتحدق في مؤخراتها، وتجتهد مُحاولةً التعرف على نواياها (نوايا المؤخرات) .. هل فتحتها تنبض بالحركة وتضطرب؟ هل حركتها تعني رغبتها في التبرز حقا، أم مجرد اهتزاز ناتج عن المشي وحركة الحوض العظمية؟ هل هي محمرة قليلاً استعداداً للتخلص من فضلاتها، أم ما يزال أمامها بعض الوقت؟!
    تكونت للوالدة الكريمة خبرة على مدى خمسين عاماً من طول التحديق في مؤخرات البهائم والدواجن فقط، هذا مجال تخصصها .. حتى لتستطيع أن تعرف متى تخلصت هذه المؤخرة أو تلك من فضلاتها من مجرد النظر إليها، وبالطبع تستطيع أن تحدد موقع سقوط أي فضلات تجدها على الأرض وعمرها ونوع البهيمة.
    تمكن فريد، نابع من طول مراس وتأمل وإخلاص» (13).
    ومن سخريته قوله عند مشهد القبض على «كسبان حتة» : «اتفقت معظم الأحلام التي طافت بمنام الجميع حتى الذي لم يحلم في عمره ... »(14). وهذا معناه اتفاق الجميع على القبض على كسبان بعد أن أتعب زوجة أبيه ـ أخت العمدة ـ والتي اتهمت أخاها «ليس فقط بأنه غير قادر على ردعه، ولكن على أنه هو الذي يدفعه إلى ذلك؛ وإلا فما السر في أنه يفعل ما يشاء دون أن يجد من يردعه، وكأن البلد ليس فيها كبير!» (15).
    (يتبع)
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #2
    البطل في رواية «كسبان حتة» لفؤاد قنديل (2 ـ 2)

    بقلم: أ.د. حسين علي محمد

    2-تدخل السارد:
    يتدخّل الروائي في النص السردي ليعلق ويُضيف، وكأنه صوت الراوي في مسرحية حديثة، أو صوت المؤرخ في المدونات التاريخية القديمة.
    إنه يضع بينه وبيْن السارد مسافةً، ليرينا تعاطفه مع هذا الإنسان المهمش الذي لا يجد نصيراً له من المثقفين في واقعه المُحبط.
    «أي عالم جميل تنسجه طبيعتُك المستفزّة أبداً .. تلك الطبيعة التي جعلتني بعد جدال طويل، انتهى إلى رفض تلك القرية إلى قرية أخرى، تنفيذاً للترقية التي منحتها لي الوزارة من مدرس أول إلى وكيل مدرسة .. وشرطها الانتقال إلى بلد آخر لعدة سنوات .. كان ثمة هاجس بداخلي، يُرجح بقائي حتى ألتقط أخبارك وحكاياتك أولاً بأول، وهي طازجة تمتلك الوهج المثير للدهشة ..
    اكتشفتُ أنك بداخلي تقبع في ركن عميق بالوعي واللاوعي، وكنتُ أحسبُ أنك بعوضة أو ذبابة تُلح على وجهي وأدفعها بيدي، وأنك مجرد شخص عادي، يُحاول أن يلفت الأنظار أو يُنفس عن ضغوط ثقيلة وظروف معيشية صعبة» (16).
    ومن هذه التعليقات التي تجعل النص منفتحاً على مواجع القرية والناس:
    «يا ابن خالي .. يا كسبان حتة .. هل أنت حقا كسبان حتة؟ .. هل لك من اسمك نصيب؟ ..
    لا أستطيع أن أحكم. لعلّ والدك سمّاك بهذا الاسم أملاً في أن تكسب، وتمنياً للربح والنصر وجبر الخاطر .. لا يبقى للناس في بلدنا أمل إلا في الأسماء .. لأنه لا يوجد أمل في أي شيء على الأرض، ومازالوا ينتظرون منذ آلاف السنين، لعل الله يُحقق لهم واجداً على الألف مما يتمنون، ومما تحقق للناس في كلِّ الدنيا» (17).
    وهذا نص يمتلئ بالسخرية المرة حيث يُشير إلى جفاف الواقع، وقسوته. ومن ثم فآمال الناس محبطة، بل تنعدم فيهم الآمال.
    وقوله «مازالوا ينتظرون منذ آلاف السنين» تُشير إلى عقم الانتظار، وعدم جدوى الحُلم!
    ويُعلق على الرهان الغريب الذي جرى بين كسبان حتة وبعض أبناء قريته: أن يأكل «اتنين كيلو سمك بقشرهم .. يعني من البحر على بقك» (18) ووسط الأهالي المحتشدين وخوفهم عليه يأكل كسبان سبع سمكات، ويتدخّل صوت الروائي الواصف بصوتِ المؤرخ للحدث، العائشِ عجائبَه: «كنتُ بين الناس مذهولاً مثلهم .. ولكنهم يتمتعون ويعجبون ويتبادلون الدهشة والتعجب .. وكنتُ صامتاً أُخفي في أعماقي ذهولاً أكبر مغموساً بالأسى .. ويتعالى صوت الأسئلة ووخزها .. أمن أجل خمسة جنيهات؟ .. لا أظن .. أمن أجل تسلية العباد؟ .. لا أظن .. أمن أجل استعراض القوة والتميز؟ .. ربما ولكنه يعلم جيداً أنه يُعرِّض نفسه للخطر .. فما السبب؟ .. أمط شفتيَّ عجزاً وعجباً وأمضي» (19).
    ويتدخل الروائي هنا في نصِّه كأنه يقول: انظروا في هذه الحالة .. وفكروا!
    ويتدخَّل السارد بإشارات سياسية، لكن من حسن الحظ أن تأتي هذه الإشارات السياسية في النص سلسةً غير مفتعلة، يحملها السياقُ عفو الخاطر. يقول «كسبان حتة» عن تمني الناس الموت:
    «ما تستعجلوش .. ربنا مش ناسي .. بس بالدور .. دوركم لسه ما جاش .. أنا عارف إن الميتين بيزعلوا لأنهم ما شافوش القرش، ولا اللقمة الحلوة، ولا الفرش الناعم، لكن المؤكد حيشوفوه في الجنة .. أنا عن نفسي مش ماشي من المخروبة دي إلا لما آخد حقي تالت ومتلت» (20).
    وكأن المهمشين هنا يثورون على واقعهم، ويصرون على تفعيل دورهم في الحياة بالمشاركة، والنقد.
    ومن تدخله أيضاً إبراز موقف البطل من السلطة، حيث يقول السارد: «لا يعترف بالعمد والمسؤولين عموماً، ويرى أن جميع من يسمون بالقيادات والرؤساء وضعهم الشعب لخدمته، لكنهم لم يفعلوا شيئاً أبداً إلا أن يتحكموا فيه ويتفننوا في هذا التحكم» (21).
    ومن ثم فهو يجعله يرفض الوظائف التي عرضها عليه العمدة، بغرض احتوائه والتخلص من مشاغباته:
    «أرسل العمدة من جديد لكسبان، وطلب منه أن يعمل معه خفيراً بدل الصرمحة في الشوارع .. ساعتها سيكون موظفا رسميا في الدولة .. له مرتب وله احترام وسلطة.
    رفض كسبان بشدة، وقال إنه لا يكون عبداً لأحد.
    جدد العمدة الدعوة بعد تصعيدها:
    ـ طب شيخ خفراء.
    رد كسبان بسرعة، وبقوة:
    ـ ولا حتى عمدة .. قلت لك مستحيل أكون عبد لحد ..
    زعق فيه العمدة: وهل أنا عبد لحد يا وله؟!
    قال كسبان بثقة:
    ـ مش إنت وبس .. كل اللي زيك، وكل ما تعلى يزيد اللي فوقك في العدد وفي التحكم .. تقضي عمرك كله وإنت بتحاول ترضيهم ..
    ـ إمال إنت عايز تبقى إيه؟ .. مأمور؟ ..
    ـ أنا مش عايز حاجة .. أنا عايز أكون حر وبس.
    ـ طب رئيس جمهورية.
    ـ ولا الرئيس حر .. فيه مليون حاجة شاغلاه.
    ـ إنت مش عايز تعيش حر، إنت عايز تعيش حمار.
    ـ أيوه.
    ـ طب امشي انجر .. جتك الغم » (22).
    3-ملامح فنية:
    أ-عناقيد قصصية:
    يفيد الروائي من إمكانات النصوص القصصية القديمة (مثل ألف ليلة وليلة) فنجد القصص القصيرة جدا التي يتضمنها نصه الروائي، ومنها هذا النص القصير عن (حسن غلوش) الذي من الممكن أن نقرأه كأنه قصة قصيرة جدا، لكنه يتواشج مع النص، ويرينا نهاية مهمشٍ آخرٍ من المهمشين الذين يسرد الروائي حكاياتهم، التي يتجاهلها المؤرخون!:
    «مسكين حسن غلوش، مات وهو يتوضأ. مات في الطشت .. كان وحده بالدار، رفع رجله اليمنى وهو مقرفص، وصب عليها الماء، فاختلّ توازنه .. سقط في الطشت الممتلئ إلى نصفه ولم يقم» (23).
    ب-استعمال الموروث الشعبي:
    يستعير من الموروث الشعبي ـ أو من اللغة المحكية ـ بعض الجمل ذات الدلالات الخاصة ما يمنح روايته الصدق في التعبير عن البيئة، ومنها «نهار عائلته كلها أسود من قرن الخروب» (24) تعبيراً عن الغيظ وإرادة الانتقام, و«يطلع من هدومه» (25) كناية عن الضيق، و«من النجمة يبدأ العمل» أي من وقت مبكر جدا.
    ج-الغرائبية:
    يستخدم فؤاد قنديل في روايته بعض اللقطات الغرائبية التي لم يعرفها القارئ ولم يتعوّد عليها، وهو في ذلك واحد من الأدباء العرب، الذين أخذوا هذا التصوير الغرائبي عن «الواقعية السحرية» في روايات أمريكا اللاتينية، بعدما اطلعوا على ترجمات الأدب القصصي، ومن هؤلاء الذين لجأوا إلى الغرائبية: زكريا تامر، وفاضل السباعي، ومحمد جبريل، وخيري عبد الجواد ... وغيرهم.
    و«الغرائبية أسلوب من أساليب القص العربي، عرفته القصة في القرن العشرين، كما عرفته قديماً كتب الأخبار والنوادر والأمثال، إنه أسلوب يراعي العلاقات غير المنطقية بين الحوادث والشخصيات، ويروح يبني استناداً إليها مجتمعاً قصصياً لا ينتمي إلى مملكة التعليل والسببية، بل ينتمي إلى مملكة أخرى غير معقولة من مقاييس المنطق، وغير واضحة في معايير القصة التقليدية. إنه أسلوب ترميزي يختفي القاص وراءه من الرقيب الذي يحاسبه على الدلالات السياسية الانتقادية الواضحة المحددة المباشرة في قصصه. فإذا كانت الدلالات انتقادية غير مرغوب فيها ولكنها عصية على التفسير الأحادي حار الرقيب ونجا القاص من المساءلة. ومن ثم لم يكن للأسلوب الغرائبي صلة بالرمزية المنتمية إلى مدرسة ذات اتجاه أدبي عريق في الشعر والنثر على حد سواء. إن الغرائبية أسلوب قص لا يزدهر في المناخ الديمقراطي، ولا يعيش في مناخ حرية التعبير والتفكير، بل يزدهر كلما زادت الديمقراطية هزالاً، ويتألق كلما انحسر حق المبدع في التعبير. ولهذا السبب عرفت الآداب الأجنبية والعربية هذا الأسلوب الغرائبي في أزمنة الضيق والتضييق وحدها. وشهدت في الأزمنة نفسها وتنويعه ونقله من المحلية إلى الإنسانية»(26).
    ويرى الدكتور سمر روحي الفيصل أن الأسلوب الغرائبي «ليس نمطاً واحداً لدى أتباعه من القاصين العرب، بل هو أنماط عدة، يتزيَّا كل نمط منها بزي صاحبه، ويحمل طابعه. فالتكثيف الشديد، والإيحاء العميق، والارتفاع فوق الواقع، وتوظيف التاريخ والحيوان وأشياء الطبيعة، أبرز سمات الأسلوب الغرائبي عند زكريا تامر، ولا نعثر على هذه السمات في أسلوب فاضل السباعي، بل نعثر على حكاية واضحة مباشرة، ولكن بطلها يلاحق دون أن يعرف سبب ملاحقته، وتقطع يده دون أن يكف عن الكتابة والنقد، وتفقأ عيناه دون أن يفقد القدرة على التحديق في الأشياء الممنوعة. وعلى الرغم من التباين بين أسلوبي هذين القاصين، فإنما اشتركا في بناء علاقات قصصية غير منطقية بين حوادث قصصهما وشخصياتها"(27).
    وتمتلئ رواية «كسبان حتة» بمشاهد غرائبية، ليس من هدفنا أن نحصيها، وإنما نُشير إلى بعضها:
    يقول عن زاهية ـ أخت العمدة والزوجة الثانية لأبي كسبان ـ «في مرة حلمت أنه شدَّ لسانها بقوةٍ وإلحاح، لم ينقطع اللسان، لكنه طال معه وامتدّ، حتى إنها كانت تحس أنه سينقطع من جذوره التي تصل إلى بطنها، وأخيراً انقطع، ورأته يركبه ويطير به فوق الجبال.
    في مرة حلمت به نائماً إلى جوارها يشفط أثداءها التي كانت تتدفَّق بسائل له رائحة الثوم، وبعد أن شبع تقيّأ هذا السائل من جديد فأغرق الفراش وكان مثل ريم البرك .. وكانت تتحرك فيه بعض الديدان التي كانت تجتهد في حركتها متجهة إلى حلمات ثدييها .. كانت الديدان مُرعبةً .. مرعبة، دفعتها إلى أن تغيب عن الوعي» (28).
    ولا شك أن هذه الغرائبية أثرت الرواية، والنص الروائي، وجاءت في مكانها مُعيرةً عما أصاب هذه المرأة التي تزوّجت من أبيه، وصار هذا الطفل (كسبان حتة) يسطو على مقتنياتها، ويسرقها، دون أن يستطيع أحد اكتشافه أو اللحاق به.
    ويأتي بعد النص السابق نص أقل غرائبية، يُضيف به الروائي إلى نصه ما يجعله مفارقة تعبيرية مع النص السابق، منتمياً هنا إلى الواقعية النقدية، وإن كان يوظف الغرائبية في بعض مقاطع نصه السردي.
    «كان الخفراء قد تعبوا من مطاردة كسبان الشقي الذي لا يستطيع شخص أن يلحقه مهما كانت سرعته، ولا يستطيع أن يستمر قابضاً عليه لو حصل، فالولد لا تنفد حيله، حتى إنه ركّب مرةً في حذائه مسماراً، وضرب به الخفير في ساقه، فأطلق صرخةً ومعها أطلقت يده الشيطان الصغير، ومرة بخَّ الماء في وجهه من بالونة، ومرةً عفَّر آخر بالتراب وأفلت، ومرةً ألقى ثُعبانا جلديا على وجه القابض عليه، ومرةً ألقى عليه خنفساء، وألقى في وجه آخر ضفدعة، وما أن يضطرب للمفاجأة حتى يختفي كسبان في عُشر ثانية» (29).
    لكن هذا النص أيضاً فيه بعض الغرائبية، إذ يُشير إلى قدرة الطفل على اختراع المواقف التي يستطيع بها أن ينجو من مُطارديه، أو الذين يُريدون به شرا. ويجعل فراره من مطارديه سريعا «في رُبع ثانية».
    د-الوصف:
    يقوم الوصف بدور لافت في بناء هذه الرواية، حيث يربط بين بنى الأحداث أو يُمهد لها، أو يُقدم لمحةً عن بناء الشخصية التي يقدمها النص الروائي «كسبان حتة». ومن هذا الوصف ما نجده عند عودة كسبان من الجيش، بعد قضاء فترة تجنيد استمرت ثلاث سنوات، فشل في آخرها في محاولة البقاء في الجيش للعمل مدرباً على ضرب النار، لعدم تحمس رئيس أركان الفرقة له:
    «تساءل جنود وضباط الكتيبة:
    ـ كيف لا يتحمس لرجل موهوب كل تقاريره: امتياز؟!
    الآن يعود كسبان إلى القرية ليبدأ من جديد حيث الأنقاض والفراغ وقلة الحيلة .. يبدأ وظهره للعراء، تجوس قدماه في خلاء من ورائه خلاء ومن أمامه خلاء .. النفس كالطريق معتمة، والرأس كالطريق خالية وصامتة، لا يُهيمن على الآفاق إلا صيحات الحشرات المختلفة كأنها تشكو لخالقها ما تُعاني» (30).
    هـ-الجنس في الرواية:
    ورد الجنس في بعض مواضع هذه الرواية، في الفصل الثامن الذي عنوانه «الجميلة والخنازير»، ويدور حول فكرة الزواج عند كسبان، وقد بدأ بهذه الفقرة:
    «اضطر إلى ركوب بعض الحيوانات ليُريح في حدائقِها نخيله، لاحظ أنه في بعض الليالي وهو منقوع في نوم عميق .. كان يستيقظ، وقد اكتشف أن حيواناته تفر منه وتُغرقه في الجنابة ذات الرائحة المميزة» (31).
    بعد أن كلم بنتاً في خطبتها، وبدا عليها أنها وافقت، وقالت له «الكلام مع الأهل» (32)، خشي أن يكون قد تسرّع، و«سرعان ما هاجمته بلا رحمة فكرة شرسة .. تبادر إلى ذهنه أنها يُمكن أن تكون معطوبة .. هل يكون أحدٌ قد قطف وردتها، وتركها عُريانة الساقيْن ممزقة الثوب؟ .. هلْ زحفتْ بعضُ الحشراتِ فوقَ ثوبِها الجميل» (33).
    ومن الملاحظ على هاتين الفقرتيْن السابقتين، أنه يسوقُ الجنسَ سوقاً في لغةٍ شعريةٍ عالية، تشف عما تقصده دون أن تقوله صراحةً في غلظةٍ أو سوقيةٍ مبتذلة، كما يفعل بعضُ الروائيين.
    ويرد الجنس مرةً أخرى حينما يدوسُ ابنُ العمدة أحدَ الفلاحين الفقراء (سليم البكري) تحت عجلات سيارته، ويرى كسبان الحادثة ويُبلغ عنها، وينكر العمدةُ مجيء ابنه في تلك الليلة، لكن كسبان يُصر على شهادته ويرسل خطاباً إلى مدير الأمن ووزير الداخلية وصوراً منه للصحف «وسرعان ما تم القبضُ على «طارق» ابن العمدة في شقة تُمارسُ فيها الجنسية المثلية ... تبين للنيابة أن "طارق" ليس صحفيا وإنما يوهم أباه بذلك، وكان مولعاً بممارسة المثلية التي انسجمت مع روحه وجسده، ووجد فيها مجده الحقيقي ومستقبله .. ظل تساؤله بعد القبض عليه عن إمكانية ممارسة هوايته في السجن .. خامره شعور بالتفاؤل» (34).
    وعموماً فتوظيف الجنس عند فؤاد قنديل ـ في هذه الرواية ـ ضرورة فنية، وليس مبتذلاً، أو فجا.
    ...........................
    الهوامش:
    (1) فؤاد قنديل: كسبان حتة، الدار المصرية اللبنانية، ط1، القاهرة: ذو الحجة 1426هـ-يناير 2006م، ص 28.
    (2) السابق، ص77.
    (3) السابق، ص31.
    (4) السابق، ص19، 20.
    (5) السابق، ص20.
    (6) السابق، ص84 فما بعدها.
    (7) ملحوظة: في الفصل الأول من «زقاق المدق» لنجيب محفوظ ـ التي تدور أحداثها في الحرب العالمية الثانية ـ يستبدلُ صاحبُ المقهى المذياعَ بشاعر الربابة الذي يروي السير، وهذا دلالةٌ رمزية على انتهاء عصرٍ وبداية عصرٍ جديد: انظر: نجيب محفوظ: زقاق المدق، الكتاب الذهبي، نادي القصة، العدد (30)، مطابع روز اليوسف، نوفمبر 1954م، ص7).
    (8) سبقته في هذا المنحى رواية «من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ» لمحمد مستجاب.
    (9) الرواية، ص78، 79.
    (10) انظر دراستنا عن هذه المجموعة في كتابنا: جماليات القصة القصيرة، ط1، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1996م، ص ص45 ـ 61.
    (11) الرواية، ص114.
    (12) الرواية، ص32.
    (13) الرواية، ص31، 32.
    (14) الرواية، ص68.
    (15) الرواية، ص68.
    (16) الرواية، ص122.
    (17) الرواية، ص22.
    (18) الرواية، ص34.
    (19) الرواية، ص38، 39.
    (20) الرواية، ص23.
    (21) الرواية، ص 113.
    (22) الرواية، ص ص82، 83.
    (23) الرواية، ص20.
    (24) الرواية، ص31.
    (25) الرواية، ص31.
    (26) سمر روحي الفيصل: الغرائبية، صحيفة «الأسبوع الأدبي»، موقع الصحيفة على الإنترنت، ص1.
    (27) السابق، ص1.
    (28) الرواية، ص 63، 64.
    (29) الرواية، ص 64.
    (30) الرواية، ص104.
    (31) الرواية، ص88.
    (32) الرواية، ص90.
    (33) الرواية، ص90.
    (34) الرواية، ص111.

    تعليق

    • محمد سلطان
      أديب وكاتب
      • 18-01-2009
      • 4442

      #3
      تثبيت ... ؛؛
      صفحتي على فيس بوك
      https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة محمد ابراهيم سلطان مشاهدة المشاركة
        تثبيت ... ؛؛
        شُكراً جزيلاً للأديب المبدع الأستاذ
        محمد إبراهيم سلطان
        مع تحياتي وتقديري

        تعليق

        يعمل...
        X