البطل في رواية «كسبان حتة» لفؤاد قنديل (1 ـ 2)
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
يُحاول الروائي فؤاد قنديل في روايته «كسبان حتة» (2006م) أن يقدم بطلاً شعبيا، من خلال زعم السارد أنه يقص عن أحد المهمشين في قريته، وهو ابن خال السارد. وهو صورة لفلاح مثالي كما يقول الروائي: «كسبان حتة صورة مثالية للفلاح المصري .. الفقير .. البسيط .. يُغطي رأسه في الغالب بطاقية وبر، ويرتدي جلباباً واحداً أو اثنيْن طوال العام، عدا يوم الجمعة حيث يرتدي الجلباب الأبيض النظيف للصلاة كما أن لديه قميصاً وبنطلوناً لزوم مشاوير البندر.
الصديري رمادي يومض كصفحة مياه النهر تراودها أشعة الشمس، لا يخلعه أبداً إلا عند النوم، وتحته فانلة قطن بنصف كم. السروال يصل إلى الركبة أو أعلاها بقليل .. عنده حذاء مهترئ يخلعه إذا نزل الغيط. قدماه متضخمتان من كثرة الحفاء ولأن حذاءه لا يمنع من وصول الماء والهواء والتراب إلى قدميه.
ليس في حياته ما يختلف عن حياة الآخرين»(1).
وهو لا يقصد ـ كما يتضح من النص ـ بقوله «صورة مثالية» الإعلاء من شأنه، وإنما يقصد أنه حالة معبرة في هيئته عن الفلاح المصري الذي اعتدنا نحن ـ أبناء القرى ـ أن نراه.
وهو لم يؤت حظا من التعليم: «مع زواج أبيه (...) من السيدة "زاهية" تخلى عن الدراسة وتوقف عند السنة الرابعة الابتدائية، وهكذا يُمكن أن يتفرّغ للضياع وقتاً، وعقلاً، وروحاً» (2).
وأمه امرأة عادية فقيرة من أولئك النسوة اللاتي يحترفن جمع الروث من طرقات القرية، لكنه يعتز بها اعتزازاً كبيراُ، ويراها «السيدة الأولى، ليس في مصر وحدها ولكن في كل دول العالم .. ومن يمسها بربع كلمة سيكون نهار عائلته كلها أسود من قرن الخروب» (3).
وقد بدأت خوارقه منذ مولده:
«هل كانت البداية عندما أخرجت لهم الثعبان الذي كان في الشق الكبير، الذي لازال يفصل بيت رجب هريدي عن بيت نجية؟ لا .. ربما كانت البداية قبل ذلك بكثير، ربما كانت يوم مولدك حيث قيل إنك ضحكت، ولم تبك ككل الأطفال حديثي الولادة .. وإنك بصقتَ الماء بالسكر الذي حاولت جدتك أن تقطره في فمك، وبحثتَ مُغمض العينيْن عن الثدي، وهذا في العادة لا يكون.
أنت إذن ولدت ومعك ولدت غرائبك .. إذ تبوّلت على كل الغرباء الذين جاءوا ليهنئوا والديْك بوصولك قادماً من المجهول إلى المجهول .. ولما حملوك صببتَ عليهم ماءك .. يُقال إن شخصاً واحداً .. رجلاً كان أو امرأة لم يفلت منك، حتى ذاع صيتك فتجنب الناس حملك .. وإذا زاروكم أو قابلوا أهلك خارج الدار .. حيوكم وقبلوك وأنت في موضعك، لكنهم كانوا يدهشون، إذ تلعب لمن يُحدق فيك حواجبك .. وتُجرك أذنيك .. كيف يفعل ذلك رضيع في الشهور الأولى؟» (4).
وإذا كان ميلاد البطل في التراث الشعبي يكون مشهوراً بالخوارق، فإن البطل هنا له خوارقه المعروفة التي تعرفها القرية منذ ميلاده «قيل إن البداية الحقيقية كانت عند ما أمسكت في يدك القرش الذي وضعه لك العمدة، ثم تأملته لحظةً، وفوجئ الحضور الكبير المرحب بالعمدة أنك ألقيته في وجهه، ثم أطلقتَ الريح مدوياً صوتُه من مؤخرتك، وضحكت.
تندّر الناس طويلاً بالحكايةِ، وتناقلوها» (5).
وهذا البطل الممثل للشعب المهمش يجد من يذكرُه ويصنع له سيرة:
«لم تغب سيرتُه تماماً عن البلد ولا عن الناس، فقد ظهرت موهبة الشعر العامي والزجل لدى شاب من أبناء القرية اسمُه رضوان الروبي، لفتت نظرَه مغامراتُ كسبان، فكتب عنه قصيدةً أعجبتْ سامعيه البسطاء، ثم كتب ثانيةً وثالثةً، وأصبحتْ مادةً من مواد السمر، وأمسى الناسُ جميعاً يطلبونها:
ـ سمّعنا يا شاعرُ قصة الكسبان.
حتى حفظوها، وبخاصة الأطفال .. وانتقلت إلى قرى أخرى .. ولا تزال بعضُ أبياتها المتواضعة والمكسورة تحتفظ بمقاعدها في رأسي، خاصة المقدمة التي يعقبُها وصف تفصيلي للمُغامرات، مُضافاً إليها بعضُ ما لم يقترفْه ابنُ خالي بطلُ السيرة» (6).
وهذا النص كاشفٌ؛ فقد جعل لكسبان سيرةً كالسير الشعبية، التي كانت في القرون الوسطى تُسجل سير الأبطال الشعبيين كأبي زيد الهلالي والظاهر بيبرس وعنترة، وهي سيرٌ ظهرتْ أيام الحروب الصليبية، وظل يرويها المغني ( شاعرُ الربابة) في التجمعات والمقاهي، وظلت أزمنةً حتى ظهرت الإذاعة(7).
والبطل هنا فرد من الشعب، لم يحقق بطولة، ولم ينتصر على عدو، ولم يُحقق إنجازاً خارقاً لأمته. وكأن الروائي ينبه إلى بطولة الشعب الذي يستطيع أن يعيش في هذا الزمن الصعب(8).
وفي قول النص الروائي: «مُضافاً إليها بعضُ ما لم يقترفْه ابنُ خالي بطلُ السيرة» يبين أن للبطل سيرةً كالسير السابقة، وأصبح عُرضةً للتزيد والإضافة ليُعبر عن البطل النموذج، الحاملِ أحلام الشعب التي لم تحققها القرون الطوالُ الفائتة.
وإذا كان بطل السيرة الشعبية يعمل الأعمال الخارقة، ويحقق البطولات لشعبه وينتصر على عدوه، ويحقق الأحلام الكبيرة لشعبه، فإن البطل المهمش هنا «كسبان حتة» يحقق بعض أحلامه في الرواية:
*ومن هذه الأحلام أن يجعل الناس يأكلون اللحوم في الأعياد، وهم لم يأكلوها منذ أعوام؛ ومن ثم يسرق بقرة أنس شقيق العمدة، ويذبحها ليلة العيد ويوزع لحمها على الفقراء والمحتاجين.
ولم يكن اختياره لأنس عشوائيا، وإنما لأنه «تأكّد بنفسه من صحة الأخبار التي تحكي عن أنس شقيق العمدة للعمال في المزارع والحظائر والمخازن التي يمتلكها على حدود الكفْر الجنوبية، كما أنه يأكل حقوقهم، ويفرض عليهم العمل ساعات طويلة من النهار والليل في مقابل قروش قليلة.
بدأت القصة بأن كسبان كان على الطريق في المساء من بيت أخيه حمدان الساعي بمصلحة الضرائب، فعثر بشخصٍ راقدٍ على الأرض يتألم، أعانه وخفف عنه وتعرّف عليه .. كان عاملاً في مزرعة أنس، ويُقيم مؤقتاً مع سليم البكري زوجِ عمته، لكنه يُعتبر إلى حد ما غريباً عن البلد .. حمله إلى بيت سليم وهو في حالة سيئة، وبقي معه حتى تحسنت حالته، ورأى يديه ورجليه الملتهبة وجسمه الهزيل .. دار الحوار، امتلك الرجل بعد ساعة القدرة على الكلام، فحكى لكسبان جانباً مما يحدث من سوء المُعاملة وكثرة المجهود .. هذه الليلة شهدت قيام العامل بإنزال خمسة عشر طنا من العلف؛ أي ثلاثمائة شيكارة كل منها خمسون كيلو جرام علف مركز وذرة مدشوشة وقشر فول .. أنزل الكمية وحده ورصَّها جميعاً في آخر المزرعة .. وكان أنس قد كلَّف الآخرين بأعمال مُشابهة ...» (9).
ويستخدم الروائي عدداً من الجماليات في تقديم بطله الشعبي:
1-السخرية:
فؤاد قنديل أحد الساخرين الكبار في كتاباته الروائية والقصصية (وقد لاحظنا ذلك أثناء الكتابة عن مجموعته «عسل الشمس»(10))، وفي هذه الرواية نجد السخرية في عدة مواضع، منها عدم تصديق الناس أن المرض من الممكن أن يحل بكسبان، يقول السارد:
« كل من عرف أن كسبان مريض، يكون رده الوحيد:
ـ يا راجل؟! .. قل كلام غير ده!
كسبان في رأيهم ضدَّ العطب والكسر .. لذلك يتناقلون الأخبار في دهشة، وليس في أسف أو حزن، كأنَّ ما جرى هو من قبيل كذبة أبريل أو الفشْر .. كأن تقول إن مصريا هبط بحمارته على سطح القمر، أو أن العمدة الذي يركب على نفَسِ البلد من سنة 1983م قرر أن يستقيل ويتبرّع بجلده التخين لمصانع الشنط والأحذية، أو أن أمريكا التي تموت في الصهاينة قرّرت أن تحملهم بعيداً عن فلسطين، وتُسكنهم في إحدى ولاياتها والعالم كلُّه يرتاح، والدنيا كلها ترقص ويعمُّ السلام» (11).
ومن هذه السخرية قوله عن أم البطل: «كان كسبان يعلم أن أمه تصحو مبكراً وتخرج قبل الكل لتجمع في قفتها روث البهائم الطازج، وتضربه ببعض القش أو التبن وتعده أقراصاً كبيره، وتنشره فوق السطح ليُصبح وقوداً لا يستغني عنه أيُّ بيت في القرية، وهي أهم من يبيع الوقود الهابط من مؤخرات البقر والجاموس» (12).
لاحظ «روث البهائم الطازج» أي الذي أخرجته البهائم حديثاً وهي منطلقة من البيوت إلى الحقول، ولاحظ أيضاً «الوقود الهابط من مؤخرات البقر والجاموس» وهي صورة واقعية تُرينا كيف يحتالُ الفقراءُ في القرى على الحياة، ويستخرجون من مخلفات الحيوان هذا الوقود الذي يُغنيهم عن شراء المشاعل الحديثه وما تقتضيه من وجود غازٍ غالي الثمن، فيستعيضون عن كل ذلك بـ«الوقود الهابط من مؤخرات البقر والجاموس»!.
ومن تلك السخرية المرة إشارته إلى الخبرة التي حصلت عليها أمه من هذا العمل «كان يرى والدته وهي تُتابع البقر وتحدق في مؤخراتها، وتجتهد مُحاولةً التعرف على نواياها (نوايا المؤخرات) .. هل فتحتها تنبض بالحركة وتضطرب؟ هل حركتها تعني رغبتها في التبرز حقا، أم مجرد اهتزاز ناتج عن المشي وحركة الحوض العظمية؟ هل هي محمرة قليلاً استعداداً للتخلص من فضلاتها، أم ما يزال أمامها بعض الوقت؟!
تكونت للوالدة الكريمة خبرة على مدى خمسين عاماً من طول التحديق في مؤخرات البهائم والدواجن فقط، هذا مجال تخصصها .. حتى لتستطيع أن تعرف متى تخلصت هذه المؤخرة أو تلك من فضلاتها من مجرد النظر إليها، وبالطبع تستطيع أن تحدد موقع سقوط أي فضلات تجدها على الأرض وعمرها ونوع البهيمة.
تمكن فريد، نابع من طول مراس وتأمل وإخلاص» (13).
ومن سخريته قوله عند مشهد القبض على «كسبان حتة» : «اتفقت معظم الأحلام التي طافت بمنام الجميع حتى الذي لم يحلم في عمره ... »(14). وهذا معناه اتفاق الجميع على القبض على كسبان بعد أن أتعب زوجة أبيه ـ أخت العمدة ـ والتي اتهمت أخاها «ليس فقط بأنه غير قادر على ردعه، ولكن على أنه هو الذي يدفعه إلى ذلك؛ وإلا فما السر في أنه يفعل ما يشاء دون أن يجد من يردعه، وكأن البلد ليس فيها كبير!» (15).
(يتبع)
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
يُحاول الروائي فؤاد قنديل في روايته «كسبان حتة» (2006م) أن يقدم بطلاً شعبيا، من خلال زعم السارد أنه يقص عن أحد المهمشين في قريته، وهو ابن خال السارد. وهو صورة لفلاح مثالي كما يقول الروائي: «كسبان حتة صورة مثالية للفلاح المصري .. الفقير .. البسيط .. يُغطي رأسه في الغالب بطاقية وبر، ويرتدي جلباباً واحداً أو اثنيْن طوال العام، عدا يوم الجمعة حيث يرتدي الجلباب الأبيض النظيف للصلاة كما أن لديه قميصاً وبنطلوناً لزوم مشاوير البندر.
الصديري رمادي يومض كصفحة مياه النهر تراودها أشعة الشمس، لا يخلعه أبداً إلا عند النوم، وتحته فانلة قطن بنصف كم. السروال يصل إلى الركبة أو أعلاها بقليل .. عنده حذاء مهترئ يخلعه إذا نزل الغيط. قدماه متضخمتان من كثرة الحفاء ولأن حذاءه لا يمنع من وصول الماء والهواء والتراب إلى قدميه.
ليس في حياته ما يختلف عن حياة الآخرين»(1).
وهو لا يقصد ـ كما يتضح من النص ـ بقوله «صورة مثالية» الإعلاء من شأنه، وإنما يقصد أنه حالة معبرة في هيئته عن الفلاح المصري الذي اعتدنا نحن ـ أبناء القرى ـ أن نراه.
وهو لم يؤت حظا من التعليم: «مع زواج أبيه (...) من السيدة "زاهية" تخلى عن الدراسة وتوقف عند السنة الرابعة الابتدائية، وهكذا يُمكن أن يتفرّغ للضياع وقتاً، وعقلاً، وروحاً» (2).
وأمه امرأة عادية فقيرة من أولئك النسوة اللاتي يحترفن جمع الروث من طرقات القرية، لكنه يعتز بها اعتزازاً كبيراُ، ويراها «السيدة الأولى، ليس في مصر وحدها ولكن في كل دول العالم .. ومن يمسها بربع كلمة سيكون نهار عائلته كلها أسود من قرن الخروب» (3).
وقد بدأت خوارقه منذ مولده:
«هل كانت البداية عندما أخرجت لهم الثعبان الذي كان في الشق الكبير، الذي لازال يفصل بيت رجب هريدي عن بيت نجية؟ لا .. ربما كانت البداية قبل ذلك بكثير، ربما كانت يوم مولدك حيث قيل إنك ضحكت، ولم تبك ككل الأطفال حديثي الولادة .. وإنك بصقتَ الماء بالسكر الذي حاولت جدتك أن تقطره في فمك، وبحثتَ مُغمض العينيْن عن الثدي، وهذا في العادة لا يكون.
أنت إذن ولدت ومعك ولدت غرائبك .. إذ تبوّلت على كل الغرباء الذين جاءوا ليهنئوا والديْك بوصولك قادماً من المجهول إلى المجهول .. ولما حملوك صببتَ عليهم ماءك .. يُقال إن شخصاً واحداً .. رجلاً كان أو امرأة لم يفلت منك، حتى ذاع صيتك فتجنب الناس حملك .. وإذا زاروكم أو قابلوا أهلك خارج الدار .. حيوكم وقبلوك وأنت في موضعك، لكنهم كانوا يدهشون، إذ تلعب لمن يُحدق فيك حواجبك .. وتُجرك أذنيك .. كيف يفعل ذلك رضيع في الشهور الأولى؟» (4).
وإذا كان ميلاد البطل في التراث الشعبي يكون مشهوراً بالخوارق، فإن البطل هنا له خوارقه المعروفة التي تعرفها القرية منذ ميلاده «قيل إن البداية الحقيقية كانت عند ما أمسكت في يدك القرش الذي وضعه لك العمدة، ثم تأملته لحظةً، وفوجئ الحضور الكبير المرحب بالعمدة أنك ألقيته في وجهه، ثم أطلقتَ الريح مدوياً صوتُه من مؤخرتك، وضحكت.
تندّر الناس طويلاً بالحكايةِ، وتناقلوها» (5).
وهذا البطل الممثل للشعب المهمش يجد من يذكرُه ويصنع له سيرة:
«لم تغب سيرتُه تماماً عن البلد ولا عن الناس، فقد ظهرت موهبة الشعر العامي والزجل لدى شاب من أبناء القرية اسمُه رضوان الروبي، لفتت نظرَه مغامراتُ كسبان، فكتب عنه قصيدةً أعجبتْ سامعيه البسطاء، ثم كتب ثانيةً وثالثةً، وأصبحتْ مادةً من مواد السمر، وأمسى الناسُ جميعاً يطلبونها:
ـ سمّعنا يا شاعرُ قصة الكسبان.
حتى حفظوها، وبخاصة الأطفال .. وانتقلت إلى قرى أخرى .. ولا تزال بعضُ أبياتها المتواضعة والمكسورة تحتفظ بمقاعدها في رأسي، خاصة المقدمة التي يعقبُها وصف تفصيلي للمُغامرات، مُضافاً إليها بعضُ ما لم يقترفْه ابنُ خالي بطلُ السيرة» (6).
وهذا النص كاشفٌ؛ فقد جعل لكسبان سيرةً كالسير الشعبية، التي كانت في القرون الوسطى تُسجل سير الأبطال الشعبيين كأبي زيد الهلالي والظاهر بيبرس وعنترة، وهي سيرٌ ظهرتْ أيام الحروب الصليبية، وظل يرويها المغني ( شاعرُ الربابة) في التجمعات والمقاهي، وظلت أزمنةً حتى ظهرت الإذاعة(7).
والبطل هنا فرد من الشعب، لم يحقق بطولة، ولم ينتصر على عدو، ولم يُحقق إنجازاً خارقاً لأمته. وكأن الروائي ينبه إلى بطولة الشعب الذي يستطيع أن يعيش في هذا الزمن الصعب(8).
وفي قول النص الروائي: «مُضافاً إليها بعضُ ما لم يقترفْه ابنُ خالي بطلُ السيرة» يبين أن للبطل سيرةً كالسير السابقة، وأصبح عُرضةً للتزيد والإضافة ليُعبر عن البطل النموذج، الحاملِ أحلام الشعب التي لم تحققها القرون الطوالُ الفائتة.
وإذا كان بطل السيرة الشعبية يعمل الأعمال الخارقة، ويحقق البطولات لشعبه وينتصر على عدوه، ويحقق الأحلام الكبيرة لشعبه، فإن البطل المهمش هنا «كسبان حتة» يحقق بعض أحلامه في الرواية:
*ومن هذه الأحلام أن يجعل الناس يأكلون اللحوم في الأعياد، وهم لم يأكلوها منذ أعوام؛ ومن ثم يسرق بقرة أنس شقيق العمدة، ويذبحها ليلة العيد ويوزع لحمها على الفقراء والمحتاجين.
ولم يكن اختياره لأنس عشوائيا، وإنما لأنه «تأكّد بنفسه من صحة الأخبار التي تحكي عن أنس شقيق العمدة للعمال في المزارع والحظائر والمخازن التي يمتلكها على حدود الكفْر الجنوبية، كما أنه يأكل حقوقهم، ويفرض عليهم العمل ساعات طويلة من النهار والليل في مقابل قروش قليلة.
بدأت القصة بأن كسبان كان على الطريق في المساء من بيت أخيه حمدان الساعي بمصلحة الضرائب، فعثر بشخصٍ راقدٍ على الأرض يتألم، أعانه وخفف عنه وتعرّف عليه .. كان عاملاً في مزرعة أنس، ويُقيم مؤقتاً مع سليم البكري زوجِ عمته، لكنه يُعتبر إلى حد ما غريباً عن البلد .. حمله إلى بيت سليم وهو في حالة سيئة، وبقي معه حتى تحسنت حالته، ورأى يديه ورجليه الملتهبة وجسمه الهزيل .. دار الحوار، امتلك الرجل بعد ساعة القدرة على الكلام، فحكى لكسبان جانباً مما يحدث من سوء المُعاملة وكثرة المجهود .. هذه الليلة شهدت قيام العامل بإنزال خمسة عشر طنا من العلف؛ أي ثلاثمائة شيكارة كل منها خمسون كيلو جرام علف مركز وذرة مدشوشة وقشر فول .. أنزل الكمية وحده ورصَّها جميعاً في آخر المزرعة .. وكان أنس قد كلَّف الآخرين بأعمال مُشابهة ...» (9).
ويستخدم الروائي عدداً من الجماليات في تقديم بطله الشعبي:
1-السخرية:
فؤاد قنديل أحد الساخرين الكبار في كتاباته الروائية والقصصية (وقد لاحظنا ذلك أثناء الكتابة عن مجموعته «عسل الشمس»(10))، وفي هذه الرواية نجد السخرية في عدة مواضع، منها عدم تصديق الناس أن المرض من الممكن أن يحل بكسبان، يقول السارد:
« كل من عرف أن كسبان مريض، يكون رده الوحيد:
ـ يا راجل؟! .. قل كلام غير ده!
كسبان في رأيهم ضدَّ العطب والكسر .. لذلك يتناقلون الأخبار في دهشة، وليس في أسف أو حزن، كأنَّ ما جرى هو من قبيل كذبة أبريل أو الفشْر .. كأن تقول إن مصريا هبط بحمارته على سطح القمر، أو أن العمدة الذي يركب على نفَسِ البلد من سنة 1983م قرر أن يستقيل ويتبرّع بجلده التخين لمصانع الشنط والأحذية، أو أن أمريكا التي تموت في الصهاينة قرّرت أن تحملهم بعيداً عن فلسطين، وتُسكنهم في إحدى ولاياتها والعالم كلُّه يرتاح، والدنيا كلها ترقص ويعمُّ السلام» (11).
ومن هذه السخرية قوله عن أم البطل: «كان كسبان يعلم أن أمه تصحو مبكراً وتخرج قبل الكل لتجمع في قفتها روث البهائم الطازج، وتضربه ببعض القش أو التبن وتعده أقراصاً كبيره، وتنشره فوق السطح ليُصبح وقوداً لا يستغني عنه أيُّ بيت في القرية، وهي أهم من يبيع الوقود الهابط من مؤخرات البقر والجاموس» (12).
لاحظ «روث البهائم الطازج» أي الذي أخرجته البهائم حديثاً وهي منطلقة من البيوت إلى الحقول، ولاحظ أيضاً «الوقود الهابط من مؤخرات البقر والجاموس» وهي صورة واقعية تُرينا كيف يحتالُ الفقراءُ في القرى على الحياة، ويستخرجون من مخلفات الحيوان هذا الوقود الذي يُغنيهم عن شراء المشاعل الحديثه وما تقتضيه من وجود غازٍ غالي الثمن، فيستعيضون عن كل ذلك بـ«الوقود الهابط من مؤخرات البقر والجاموس»!.
ومن تلك السخرية المرة إشارته إلى الخبرة التي حصلت عليها أمه من هذا العمل «كان يرى والدته وهي تُتابع البقر وتحدق في مؤخراتها، وتجتهد مُحاولةً التعرف على نواياها (نوايا المؤخرات) .. هل فتحتها تنبض بالحركة وتضطرب؟ هل حركتها تعني رغبتها في التبرز حقا، أم مجرد اهتزاز ناتج عن المشي وحركة الحوض العظمية؟ هل هي محمرة قليلاً استعداداً للتخلص من فضلاتها، أم ما يزال أمامها بعض الوقت؟!
تكونت للوالدة الكريمة خبرة على مدى خمسين عاماً من طول التحديق في مؤخرات البهائم والدواجن فقط، هذا مجال تخصصها .. حتى لتستطيع أن تعرف متى تخلصت هذه المؤخرة أو تلك من فضلاتها من مجرد النظر إليها، وبالطبع تستطيع أن تحدد موقع سقوط أي فضلات تجدها على الأرض وعمرها ونوع البهيمة.
تمكن فريد، نابع من طول مراس وتأمل وإخلاص» (13).
ومن سخريته قوله عند مشهد القبض على «كسبان حتة» : «اتفقت معظم الأحلام التي طافت بمنام الجميع حتى الذي لم يحلم في عمره ... »(14). وهذا معناه اتفاق الجميع على القبض على كسبان بعد أن أتعب زوجة أبيه ـ أخت العمدة ـ والتي اتهمت أخاها «ليس فقط بأنه غير قادر على ردعه، ولكن على أنه هو الذي يدفعه إلى ذلك؛ وإلا فما السر في أنه يفعل ما يشاء دون أن يجد من يردعه، وكأن البلد ليس فيها كبير!» (15).
(يتبع)
تعليق