الرجل الذى رهن عقله (( مجموعة قصصية مختارة )) للمبدع خالد ساحلى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    الرجل الذى رهن عقله (( مجموعة قصصية مختارة )) للمبدع خالد ساحلى





    الرجل الذى رهن عقله

    مجموعة قصصية مختارة

    للمبدع
    خالد ساحلى


    اللاجىء السياسى
    كان يشاهد في التلفاز فيلما عن الصحراء بطبيعتهاالقاسية، تنفس عميقا تمنى لو كان واحدا من أولئك البدو الرحل تحت خيمة واسعة منالوبر مفتوحة الجوانب، قانعا بما يملك لا يفسد حياته أحد ولا يفسد حياة أحد، حراطليقا في ذاك الفضاء الفسيح. كان يحلم بخياله المجنّح بالرجوع لأمكنة صنعته كرجل،واحات خضراء وكثبان رمال ووديان ومراعي يعرفها كما يعرف شوارع مدينته الجديدةالبلهاء، كانت زوجته الأوربية تجلس بجانبه في وضعية شبيهة بوضعيته رجلها الأيمن علىالأيسر تمد ذراعها الأيمن على الأريكة وراء ظهره مباشرة، شعرها الحريري الذهبيمسدول للوراء في منظر رائع وراء الكتفين، تفوح منه رائحة عطر تدعو للرغبة، كانتتلتهم كيس البطاطا المجفف ــ الشيبس ــ بنهم كبير، عيناها ملتصقتان بالتلفاز قاللها:"ليتنـي هناك رفقة أولئك البدو الرحل البسطاء، رأس مالي جَمَلٌ ومتاع وبعضالماعز ما أروع حياة الترحال" استدارت نحوه بوجه باعث على الاستفهام: "الحضارة شيءنقيض البداوة كما تعرف، هل يتنازل الإنسان عن كل ما حققه من تكنولوجيا وحرية ليحيافي الماضي البعيد من جديد، إنه الموت البطيء، إنه الانتحار الذي هربت منه...لا شكالإنسان مرتبط بجذوره وأنت كعربي تحن لجذورك حيث الجمل والناقة والشعر والخيمة، أنايا عزيزي عن نفسي أرى الحياة المادية قاسية جدا نزعت ولا تزال تنزع من الإنسان روحهوضميره يوما بعد يوم، لكن هذا لا يدفعنا للهروب بالرجوع للوراء. إن شجرة الحضارةأنبتت غابة كثيفة من حقب التطور... "ثـبّـتت بصرها من جديد على شاشة التلفاز الكبير 75 ملم وصمتت. كان الجمل ذو السنام الواحد على الشاشة يفتح فاه المخيف بأسنانهالحادة القاطعة، كان البصاق يخرج من فمه مختلطا بلعابه علـّقت: "شيء مقرف رغم أنالله خلقه بطبيعته القاسية كطبيعة الصحراء، أنظر يا عزيزي إلى هذا اللّعاب الآنالجمل يقوم بعملية ضخ للماء المخزّن بداخله كلما بدأ في عملية الاجترار... " فتحتعليقها هذا مساحة واسعة للشرح خاصة وهو الخبير بهذه البيئة قال لها وهو يعتدل فيجلسته متأهبا للسرد" - عزيزتي كلنا يمارس عملية الاجترار بصورة أو بأخرى، لكن دعنامن فلسفة فعل الاجترار البشري، الجمل يا عزيزتي قوي الاحتمال كأنه مصفح بالنحاس،يهضم الشوك و السدر الذي يقترب في رقته وليونته من السلك الشائك، خلقه الله حيثيموت البغل والبقر الوحشي جوعا، يخزن الشحم ليعيش مدى أسابيع كثيرة على قليل منالطعام، خلقه الله للصحراء كما خلق لها إنسانها، لقد علمنا الجمل كيف نصبر علىالتجويع الذي عانيناه، على الظلم الذي ذقناه، إنه يشبهنا لدرجة كبيرة، بل إنه نحنفي صورته تلك...."أرادت أن تبعد هذا النقاش الذي ربطه بحنين قديم لأول مكان ترعرعفيه مع أهله وقالت: أتذكر يوم التقينا أول مرة في براغ؟
    -
    أذكر
    -
    كنت حينهالا تتقن الانجليزية ولا الألمانية، كانت لكنتك ملفتة كملامحك العربية كنت تعانيحينها الاضطهاد النفسي، تعارفنا في المتحف كبرت صداقتنا بعدها، امتزجت روحينا،توطدت علاقتنا أكثر لم يكن الائتلاف صعب علينا خاصة وقد رأيت فيك صفات افتقدتها فيغيرك.
    -
    نعم كنت المطارد اللاجئ السياسي المكره على الرحيل و الهجرة.
    غيـّرموضوع حديثه لأنه يشعر بأسى كلما كرر عملية اجترار المآسي من قتل وترويع للأهاليومجازر بين القبائل بمعية النظام و بعض الشيوخ وبمشيئة الأجانب الذين لا يتوانونلحظة على تبريك ذلك بحمل قوافل السلاح.. لقد كان شخصه شاهد إثبات. حرك رأسه ليفيقأحس أنه يعايش المشهد من جديد. قال: "عزيزتي ترين ذاك الجمل على الشاشة مهما كنتتنظرين إليه على أنه حيوان كريه الرائحة سيء الخلق العنيد، لكن مع هذا الحضارةمدانة له بالكثير، الإنسان هناك جعله مثال النبل والوفاء إنه الحيوان الأليف... ألاتعتقدين أن الاستبداد يرى في الأحرار ما ترينه أنت الآن في الجمل؟ لكن التاريخ وحدهينصفهم لأن البشرية مدانة بحريتها وكرامتها و رخائها لهؤلاء." سكت برهة ثم استرسلفي كلام طويل يعيد من خلاله سرد أحداث مؤلمة مفجعة في حياته... زوجته تعرف الظلموالقهر الذي عان منه طويلا، تعرف التهديد الذي يلاحقه في رزقه وحياته حتى هنا فيالأرض الغريبة، لقد أختار الهجرة السرية بعدما فر بجلده من الموت المحتّم، أفكارهكادت تقتله ولا زالت، أحيانا كثيرة يتحتـّم على الإنسان أن يرهن أفكاره لكي لا يحصلداعي الخطر، لكن المهادنة يعتبرها خيانة عظمى، إنه يتحدث عن نفسه كالجمل الذي خلقللشقاء... قبل أن يصل لهذه الأرض الغريبة التي منحته أرضا كاملة من الكلام كانيضيـٌق عليه الخناق هناك وتفاؤله في التغيير صار خيبة تضاف لخيباته الكثيرة لقدتبخر الحلم كما يتبخر عمود الدخان، نجا من الموت كم من مرة على يد أفراد قبيلته ومنقبائل أخرى مدسوسة مأجورة من جهات النظام قال لها و الأنة على شفتيه: "الحضارةالأوربية رضت بنا كرضانا على الجمل نتن الرائحة وسيء الطبع، قبلتنا يوم رفضتناأوطاننا بتهمة أو بأخرى ونحن من طينتها."
    لم تكن صديقته الأوربية لتفتح بابالجرح القديم، اتكأت على كتفه: "أعتذر عزيزي نكأت جرحك القديم أعرف استيائك لمايحدث للعالم خاصة هناك حيث ترعرعت لكن لا تملك غير الكتابة وسيلة للاحتجاج و الصراخعلى هذا العالم، قد يوافقك الرأي شخص ما في هذا العالم كما وافقتك أنا." كان يعلمبأن أنظمة العالم على مجملها تستعرض قوتها أكثر مما تستعرض عدلها... أخذ رأس زوجتهبين كفيه وذاب في حلم صنعه من سنين، كانت يدها اليمنى قد امتدت للريمو كنترول تطفئالتلفاز تنهي مشهد الصحراء والجمل، كانت على الأريكة حينها حضارتين تنصهر الواحدةمع الأخرى معلنة عن بداية حقبة جديدة لحياة مغترب
    قصص قصيرة جدا ــ لوحات واشية ــ
    شبح منتصف الليل
    لاك الشابالمتحمّس في السوق كلاما نفّس من خلاله عن كبت عان منه كثيرا، كلامه كان عند جهة ماتصريحا خطيرا، قال للسوقة: ــ أصبح الفقر ظلما عظيما فادحا لا يحتمل، حتى الأرض لمتعد تأتي بالمحاصيل كما كانت، بعد شهور هددّت الرعية وتوعدت باحتجاج جارف لنقمتها،سمع الأغنياء بما يحدث من غضب الجماهير المسمى عندهم نباح الجياع، الأغنياء الذينعاثوا في الأرض فسادا لم يفقدوا ما يملكون برغم تعاقب الحكـّام و الملوك، كانتالعامة تحتـّج و الأغنياء يجنون الفائدة، تم الاتفاق بعد ذلك بين ملك البلاد صاحبالوزر وبين العامة المتطلعة للنصر عن المخازن الموصدة وعن الاحتجاج صانع الفوضى،قدّم ملك الظل لملك البلاد معجزة حين أقام من رحم الشعب فئة أخرج من خلالها يدهبيضاء للناظرين، نظيفة من غير سوء، كان قلب البؤساء جيبه فارغا، خرجت الفئة تتفننفي تكريس لحظة التعسف، تسلط فيها الأغنياء بدفع الضرائب لملك الظل.... سنينا كثيرةلم يتغير من الأمر شيء من قبله ولا من بعده. أثناء تلك السنين لاكت الألسن إشاعة عنشبح رجل يظهر في منتصف الليل للحظات يعتلي جدار السوق للمدينة ثم يختفي فجأة كلمعانبرق...
    كانت الإشاعات تنتشر كالنار في الهشيم، قال الناس يخرج الشبح في نفسالمكان الذي صلب فيه شاب في منتصف الليل من سنين كثيرة ثم أحرق لا كما يحرقالهشيم... كان ذلك من سنين أتهمته العامة بنشر الكفر والخراب وإفساد أفكار أبنائهمبوجود مملكة للظل.

    لوحات واشية
    جلس في المقهى،شاهد الرجل يقود ولده ماسكا يده، تملص الطفل من يد والده، اختفى الطفل بين السيقانالطويلة للزبائن، الوالد غاب عن نظر الولد بين الأجساد الكثيرة، الطفل نظر في كلمكان ثم شهق باكيا في اللحظة أحس أنها نهاية العالم، الوالد في اللحظة نسى العالمإلا ولده، سمع الوالد البكاء، سمع الولد النداء كانت مسافة أمتار تفصلهما لما فتحالزبائن المجال لمرورهما، وقف دون تناول فنجان القهوة، راح يفكر في اختلاف الزمانفي لحظة واحدة قد يشاهد وجهيها ويجمع المترادف منها لقد كانت صورة العالم تكوّننفسها في داخله تختلق من جديد روح ذاكرة مروّعة، صورا ألتقطها من سنين طويلة،اليتيمالمتشرد قتل والده برصاص مجهول، الرجل العائد من السفر ولده دفن برصاصة قنـّاصمتهور عابث... جمع كفيه وضعهما وراءه، طأطأ رأسه،أخفى الصورة من مخيلته، بحث عنفضاء ينعدم فيه المنعكس الشرطي، وعلى مكان لا يحمل عنوانا، تكثر فيه فراغات الصمتعـلّه يجد مكانا شاغرا يعلّــق عليها لوحات صاخبة متكلمة.

    قطرات دم
    كلفه رئيسه بمهمةعقد صفقة مع زبون بإحدى ولايات الوطن، اكترى غرفة في فندق، بعدما أمضى مع زبونالشركة اتفاقا راح يتجول في أحياء و شوارع المدينة، رأى في باب زجاجي لمقهى إعلانا،حملة تبرع بالدم لصالح المرضى، قرأه على عجل ومضى. عاد للنزل، لمّا دخل البهو رأىامرأة تبكي وزوج يهدأ من روعها، صدمه المشهد رجع ثانية من حيث أتى، تأثر باللحظة،لم يأخذه الفضول في التطفل ومعرفة الذي يحدث من خادم الفندق، إنما همس للخادم: "لايبكي الآدمي بهذه الطريقة إلا إذا سكنه الوجع، ترى هل آلا لام الآخرين مسألة صحيةللمعافى والمبتهج " خرج يتنزه علّه يتخلص من ضيقه، بعد النزهة في طريق العودة رأىالمرأة الباكية، سمع توسلها، كانت تطلب دما لولدها من المارة، أخذ لقب طفلها،أتجهلمركز حقن الدم تبرع بكيس من دمه، حين خروجه من المركز، دهسته سيارة كانت تسيربسرعة جنونية، أدخل على إثرها قاعة الاستعجالات، أول قطرات دم دخلت جسمه كانت مندمه.


    الرصاصة الأخيرة
    يذكر جيدا الأيام الخوالي من عمره ، كان شريط ذكرياته يفرض عليهمشاهد بعينها دون غيرها ، أحداثا أخرى تاهت في مدن اللاشعور. الذاكرة تقرضه ما شاءتمن ذكريات كاملة أو ذكريات ناقصة ، كان عليه الاجترار بتركيز كبير ليستردها ويسترجعها كاملة غير ناقصة.
    هو الآن يرتجف من البرد القارص، كان ندف الثلجيتساقط كقطع القطن الناصعة، كانت بندقيته إلى جانبه كزوجة لا تفارقه في خير أو شر ،كادت تلتصق بكتفه لتصير عضوا من أعضائه ، كيسه الحامل لأغراضه عند رأسه ، كان لباسهالمطاطي المقاوم للبلل أبيضا للتمويه مثل الأرض التي يقاتل عليها ؛كان الوحيدالباقي على قيد الحياة ، مجموعته هلكت عن آخرها، اصطادها القناص المتواجد علىالجانب الآخر من خط المواجهة . كان مع مجموعته في دورية ليلية استكشافية لمواقعالعدو، لم يكن العدو غير أبناء الوطن الواحد، ومع هذا لا أحد يرحم الآخر أو يتهاونفي تركه على قيد الحياة إن سنحت الفرصة لذلك. تجمدت قدماه في الحذاء العسكريالقاسي، كانت الجوارب مبللة تزيد في ارتجافه وتصلب عروقه، صار لا يشعر بأصابعه،بالكاد يستطيع الاستنشاق، شعرات ذقنه صارت دبابيس واخزة، لم يكن ليقوى على الإمساكببندقيته التي تحميه الساعة من العدو. كان الكمين الذي نصب لهم محكما أوقعهم فيالحتف، لكنه استبسل مع فرقته، تمكنوا إلحاق العدو خسائر في الأرواح. ظلت المواجهةلساعات ومن ثمة قضى القناص على معظم أفراده ، لم يكن من القناصين غير واحد زرعالموت و الحتف في كل فرقته ، لقد تظاهر بالموت لكنه أصر على الانتقام لكل طاقمفرقته التي سقط جنودها الواحد تلو الآخر ، لم يتجرأ العدو الاقتراب من الضحايا وسلبما يملكون من ذخيرة و مؤن بل تريثوا إلى الصباح . ظل قناص العدو في مكانه هو وأحدالجنود فلم يتبقى من العدو الآخر سواهما و هما بعيون حذرة و قلوب متقدة يحسبون ألفحساب ، إنها الحرب وهم يخافون السجال فيها .ما المانع الانتظار للصباح حتى ينبلجالفجر و يتأكدا من حتف الجميع.
    كان قد اصطنع الموت ، لا يريد أن يتحرك في هذاالظلام حتى لا يثير الانتباه و لا الجلبة إنه الحذر أو الموت برصاصة قناص، قد تكونهناك عيون ساهرة تتابعه بمنظار ليلي بأشعة تحت الحمراء.
    كان شريط ذكرياته يعودبه إلى الصغر ، يمنحه القوة على المقاومة حتى لا يقضي عليه هذا البرد القاتل ، كاناليأس يدب في قلبه إن لم يلقى حتفه برصاصة القناص مات من الثلج كذئب جائع ، كانيائسا من بلوغ الدعم والمدد ، لا يعلم به أحد في هذا المكان المتجمد ، الخالي إلامن الله ، الهاتف اللاسلكي لا يعمل ، مجال التغطية منعدم.
    كانت الذكريات هيالوحيدة التي تصاحبه في محنته هذه ، يذكر ما معنى الحرب وهو طفل لم يبلغ العاشرة،يعرض عليه صديقه المسايفة، جاره الطفل الذي ترعرع معه في حي واحد؛ كانا جارين يزورالواحد الآخر كأنهما يجمعهما بيت واحد ، حتى والديهما كانا يتبادلان الزيارات . يذكر ذاك اليوم وهما أطفالا يتحاربا ببنادق وسيوف مصنوعة من حطب وقصدير، يذكر كيفتمكن صديقه منه بعدما وجه إليه ضربة على رأسه بذاك السيف ثم راح يحدث صوت الرصاصبفمه و هو يقول له" تمكنت منك أيها العدو مت، مت ، طووووخ، طووووخ " لم يعلم صديقهحينها بأن يده القوية أحدثت ضربة محكمة على الرأس فجّرت ينبوع دم وغرست الدوران والغثيان به .. كان المشهد رائعا و صديقه يرمي ببندقيته الخشبية و سيفه القصديريوهويضمه إلى صدره باكيا صارخا :" سامحني صديقي ، أخي سامحني لا تمت " كان على سذاجتهوعلى حقيقة طبعه الخيرّة ، لم يكن هو ليموت من ضربة شجّت رأسه ، حضّنه بقوة يديه،أحس من خلالها بحرارة الصحبة و الأخوة و العطف الإنساني ، أدخله للبيت، وهو يستعجلأمه لتسعفه ، أوقفت له نزيف جرحه ، غسلته بالمطهّر، وضعت له كمادة حماية لرأسه ،كانت أم صديقه تؤنب صغيرها أمام ناظره بل وبخته بأن أمسكته من أذنه اليمنى و صفعتهعلى دبره ، قالت له : حرام عليك ما فعلته بصديقك ألست تناديه أخي ؟
    كان يذكرجيدا جوابه : "كنا نلعب ، لعبة الحرب ." جواب أم صديقه يحفر الآن في أعماقه: "الحربليست جميلة أبدا يا ولدي إنها مميتة و الله لا يحبها." الآن يعرف معنى سذاجةالأمهات اللواتي رزقهن الرب إيمانا ملائكيا برغم أميتهن .
    يذكر حين عودته إلىالمنزل مصحوبا بأم صديقه، لقد صحبته لتتأسف عما بدر من ابنها، يذكر والدته؛ بمجردأن لمحته صاحت مذعورة ووضعت كف يدها على قلبها: ولدي، ما به ملاكي ؟ يالله ماذا حدثلروحي ؟ يذكر كيف هدّأت أم صديقه من روعة أمه وأخبرتها بالذي كان . يتذكر كيف أخرجتأمه زفيرها بمشقة و تنفست الصعداء. الآن أمه وأم صديقه قويا حضورهما، دفئهما، الأمالجنة و الملائكة المرافقة له في محنته. لا يتذكر الإنسان في محنته سوى أمه والصديق القريب إلى روحه كحبل الوريد من القلب؛ تذكر صديقه الذي لم يراه بعد ذلكثلاثين سنة لقد غادر المدينة مع أسرته، فوالده كان ضابطا عسكريا وكان استقراره فيمدينة واحدة شبه استحالة. ذكريات صديقه مانحة القوة والصمود للبقاء حيا.
    كانيغفو في سِنةٍ من نوم ثم يستيقظ مذعورا، كان يهذي من الحمى التي بدأت تسكن بدنهالخائر والجائع. الصباح بدأ شعاعه يخالط ذاك البياض فتزداد الرؤية وضوحا أكثر. أرادفتح عينيه التي لم يستطع فتحهما من جراء ندف الثلج المتساقطة التي لم تتوقف منالليل. كان يراقب الجانب الآخر من خط المواجهة بمنظار بندقيته ؛هو أيضا قناصالمجموعة التي هلكت عن آخرها، كان يرى الجثث المرمية في كل مكان، الدماء مخضبة لذاكالبياض الطاهر ، لا أحد يتحرك ، لا يبدو أن الحياة بقت على الطرف الآخر . كان يرىهذا لكنه لا زال بصبر وصمت يرقب أرض المعركة ، ربما خرجت رصاصة مميتة من بندقية أحدهؤلاء الأموات ، كان القناص الآخر يحسب الحساب نفسه و يتوقع النتائج نفسها فالحربخدعة والكل يبحث عن استمرار حياته ، الحياة تبدو عزيزة ذات قيمة في هذه المواقف ،أنها غريزة حب البقاء.
    الآن الحرب صارت حرب قناصين، حرب صبر وجلد، هو لا زاليراقب بعين ذئب ذاك المكان المقابل ، لمح جسد جندي يتحرك و معه آخر يبدو أنهماجريحان . كان الجندي المجروح يضم جسد رفيقه بقوة و يحفه أكثر بغطاء صوفي، جرح رفيقهكبير؛ هاله المشهد و ما رأى. كانت سبابته قد أخذت طريقها إلى زناد بندقيته، أقسمالبارحة أن ينتقم لأجل رفاقه الذين اصطادتهم نيران العدو واحدا واحدا. كان يرى منخلال منظاره الجندي المجروح وهو يسقي رفيقه ماء و يشعل له سيجارة إلى أن صعدت روحهلخالقها ، كان يتريث و سبابته على طارق البندقية كان يرى القناص الذي أسقط رفاقهواحدا تلو الآخر يبكي يحاول الوقوف بصعوبة مرتكزا على بندقيته ، خائرا متعبا مرتجفا، كانت السبابة على وشك سحب الزناد، نزع الجندي خوذته وهو يهيم بالعودة ضانا أنالفناء طوّق ال الأحياء بأرض القتال من الطرفين ، الآن سيطلق رصاصته التي عانىالليل من أجلها، تحقيقا لوعد قطعه على نفسه ، استدار الجندي المجروح للوراء كأنهأحس بعيون في الخلف ترصده من بين الجثث المتناثرة كأوراق الخريف، بحس المحارب مشىللأمام غير آبه بالرصاصة التي ستخترق ظهره لقد كره الحرب ويبحث عن الراحة الأبدية ،يريد من العيون التي تركـزّ على جسده تخليصه من عذاب الجرح ومن البرد القارص الذيسكن مكان اختراق الرصاصة التي أخطأته. كانت سبابته التي على الزناد قد شلّت، لقدرأى ملامح صديقه الذي لم يراه من ثلاثين سنة وهو يحضنه ذاك اليوم. من ثلاثين سنة لميره ، و قد رآه الآن بعدما استدار للوراء لقد تركه يرحل بسلام بعينين دامعتينوضميره يؤنبه لخيانة رفاقه الآخرين


    مواسم غيث وربيع
    أقرأ آيات النثر الرحيم علىالأرواح المسكونة بالأشكال، وانتحل من الشمس أعذار الغياب، أمتشق جذع الغريق وانتصبصنوبرا في وجه الخواء، البارحة قال لي وحيي في الهزيع: ازرع نفسك مواسم غيث وربيع،أعزف نبضك ألحان نسيم ينتعش بك ضيق المكان، انشر روحك بساطا للآتي على صهوة البريق،بلهفة الغريب، أرفع تراتيلك شجن ناي مقتحما المدن الجميلة، مدن يعتريها حزن ودهشة،يطوّق خصرها العذاب، تستحيل سلام ناسك تجالسه المسافة، تستحيل الشاردة إلى ذاكرة فيحلقات راهب. أرسل نارك قيثارا يستحيل سلاما وجمال، يستحيل زهدا في الحياة بما مضى وما سيأتي، اقتحم المدن الجميلة التي تحتويها السكينة ويستلذها العذاب. أرمي خلفكهشيم الفراغ غنيمة لنار الغربان والبوم، حصاد الأصوات والنقيق. أقرأ آيات النثرالرحيم على الأرواح المسكونة بالخلاء وارتسم وشما على جسد الرحيل، أنتفض شعاعا منمنتهى الوجع، أخترق تماثيل اللعنة الراقدة في مرايا الضباب، خلف الخديعة و الخطيئةتدس خنجرها الذهبي. حطّم صنم الحكايات الواهية الموغلة في الأكاذيب. البارحة قال ليوحيي في الهزيع: أقرأ آيات النثر الجميل، إن الأجساد العفنة تتقاسمها الأشكال كماالصور، تسجنها الأهواء وتحاصرها الرغبة. اقرأ آيات النثر الجميل، بداخلك صنعة الله،خير وشر؛ إن الداخل ترتسم فيه حدود الأهواء و الكبح، إن الهلاك ليرقص شطحات منتحرةفرحا، شرسا بخناجر يأس وقنوط؛ بانتصار تعلوه أعلام الضياع ووعود الغرور. إنالاندفاع فخ الرغبة متزوجة الاستعجال. أذعن للأمر الإلهي كما أذعن الملكوت، تختصرالرؤيا، ترى بنور الله، أذعن جسدك، أجعله شراع، عرّج في علياء الصفاء والطهر، تحررمن قفص النشوة والرعشة المميتة، وهل الرعشة غير تعدي الجسد حدود الروح؟ وتعدي الروححدود العقل.؟ طر واترك السجن المفتوح الأبواب؛ إن الطريق السليم فرار بوحدة؛ إدراكحكمة، تختلس هي النظر شفقة بالعبيد، المخطئون؛ نسينا المصابيح في غيابات الليل؛ قاللي البارحة وحيي في الهزيع: ألحق ذاك الضياء، اتبعه، فيه صفاء، منتهاه نبؤات ورؤى؛منتهاه شفاعة وفلاح. إن الجسد ليركع ليصير عابدا مخلصا بولاء حرب، أغرز في قلبه رمحصوم قاتل. أقرأ آيات النثر الجميل على الأرواح المسكونة بالأشباح وأرقب بيقين فتحالصباح. قال لي البارحة وحيي في الهزيع:إن السلع لكثيرة متعددة كما الأسواق و إنللأسواق لمداخل كثيرة عليها الحراس يأخذون المكوس، أدخلها لترى الخيام المنتصبةوالأعلام معلنة الحرب. إن الباعة كثيرون كما البضاعة ؛ إن الأصوات لتتصاعد مخترقةحرمة الفضاء كأنها رؤوس المفاتيح،عناوين الباعة نداء وشعارات داخلين عقول الأغبياءبسلام آمنين. كسّر المعتاد و ألبس جديدا وصراحة، أجذع أنف النفاق و تكلم هادئا،السوق عرض و طلب من لم يشتري اليوم يشتري غدا. استمع لآيات النثر الحنين؛ قال ليالبارحة وحيي في الهزيع: توجّع دون رثاء لحكا يا الأيدي المتسخة مسببة الشقاء، إنبدر كبرت في قلبه بدرة وبدر قتله غول الفناء،أمانيه هباء فغدا معذب السنين، هجرةوترحال وتيه و انفصال، صار وافر الرؤية المريعة. إن بدرا مثل زهر ماتت في حضن أسرهزهرة. قال لي البارحة وحيي في الهزيع: أغنية الشحرور أفسدها البوم، تمنت البوم لويظل الليل دون بزوغ صباح لتحي على صوتها، تمنى الصياد لو يظل النهار حتى تشبعرصاصاته من ريش الطيور الجميلة، تمنت الكلاب لو يظل الصياد باحثا عن مخابئ لتشبعأنوفها شماتة في الطريدة، تمنت الذئاب لو تتوغل الكلاب للغابة أكثر لتذل أنوفهاالواشية، وتمنت الحشرات لو تكثر الجيف حتى تشبع الأرض بسماد الجثث لتصير سخية علىالشجر والنبات، تمنى العصفور لو ينمو جذع الشجر ليناطح السماء ليرى من خلاله حقولالقمح و الشمس. قال لي وحيي البارحة في الهزيع: كن ابن آدم كما خلقك الله إن لمتنبت نباتا حسنا فلا تزهر ومضى للرحيل.


    مملكة الظلال المختفية
    كان لأحد الملوك الكثير من الوزراء يختارهم من بين العامة، كانالأقرب إلى نفسه ثلاثة وزراء أحدهم في الأصل كان يعمل جلادا ثم ازدادت شهرته وزادتواجباته إلى أن رقي إلى وزير أول، ذراع الملك الأيمن ، وحتى يضمن إخلاصه وولائهالمطلق زوّجه من إحدى ابنتيه التوأم، كان المفوّض الوحيد للتكلم باسم الملك في كلالمناسبات التي يغيب عنها وكان اسمه الزنعم. أما الوزير الثاني فقد كان جاسوسامكلفا بمراقبة الأمراء، مطلق الوفاء للملك، مشهود له بمهاراته في حبك الحيل لقدأفسد مؤامرات كثيرة حيكت ضد الملك.لأجل ذلك و لأجل تفانيه في فداء الملك من زمنطويل قربه إليه ليصير وزيرا، مهمته الإشراف على الإمارات المترامية الأطراف داخلالمملكة، حتى يضمن ولائه أكثر زوّجه بابنته الثانية التوأم فصار ذراعه الشمال كماأجزل له العطاء وكان اسمه الربطم. أما الوزير الثالث فكان اسمه الظلمشاع أمين خزانةالمملكة و الراعي على الضرائب التي تجبى من المبيعات أكثر مصادر الدخل أهمية ، كانهذا الأمين يستولي على الضياع و التركات الكثيرة ومصادرتها للملك بتلفيق تهمالإجرام لأصحابها. كثيرا ما كان يتفاخر ويزهى دون وجه حق بما أقدم عليه من عمل وماجمع للملك من ثروة . ولذلك أستحق عن جدارة وزارة حسّاسة ومن أشد الوزارات خطورة،كانت مهمته الإشراف على جهاز سري منظّم تمام التنظيم متغلغلا في جميع ميادين الحياةداخل المملكة ومراقبة كل النشاطات و إحصاء الأفراد المميزين المؤثرين في الشعب. كانشديد الاهتمام بالمعارضين على أصنافهم و أنواعهم. هذا الوزير نفسه يشرف على ضربالمئات بالهراوات حتى الموت ثم تقدّم أجسادهم لتكون أكلا للضباع والعقبان، وأحياناكانت تكسر أرجلهم و أيديهم بعد اقتيادهم لقلب الصحراء فلا يقوون على السير فتلحقبهم السباع والذئاب الجائعة لتلتهمهم وهم أحياء.كان هذا حال الوزراء و الملك فيمملكته.
    ذات يوم والملك جالس على كرسي العرش المذهّب يحمل في يده عصا مزخرفةمنقوشة إذ أفضى إليه وزيره الربطم بأمر خطير:
    ــ مولاي الملك سمعت من أحدسفرائنا أمرا يدعو للحيطة!
    قام الملك مذعورا: ــ ما هذا الأمر أفصح هيا!
    سمعت أن وزيرك الزنعم يخطط لمؤامرة مع أعدائنا للإستلاء على العرش.نزل هذاالخبر كالصاعقة، أشعل نار الشك في قلبه ، هذا الخبر يتوقف عليه أمر المملكة، هذاالنبأ الفظيع لن يتركه ينعم بالراحة ما حيى. نظر الملك للوزير الربطم نظرة ارتيابونطق بكلام غضب ، بصوت جوهري فيه نبرة التهديد و الوعيد: من حمل إليك هذا الخبرالفظيع نذير الشؤم ، هذا كذب وافتراء .. اللعنة. .. قل من؟
    تظاهر الوزير الربطمبالخوف بصوت ثعلب ماكر قال: أخبرني به سفير دولة حليفة ، أخبرني أيضا بأنه يخونك معإحدى جواريك لكن يا مولاي قد أعطيته الأمان بعدم ذكر اسمه خوفا على حياته.
    أصرّالملك بإخباره بكل ما علمه من أمر الوزير الزنعم ، ولكي يؤكد له علامة صدقه أختارله حيلة ليوقعه فيها. لقد كان الوزير الزنعم على علاقة بإحدى جواري الملك وهي جاريةجميلة ساحرة تأخذ بالألباب و القلوب اسمها بارتينة جلبها له وزيره الزنعم من بلادالروم .كان يلتقيها في ساعات غياب الملك فيفضي إليها بأسراره و تفضي إليهبأسرارها.علم الربطم بهذه العلاقة ووجد فيها ضالته للتخلص من الوزير الزنعم قاطعالطريق عليه دوما للوصول لمبتغاه . تجاهل الملك الأمر، أخبر حاشيته بسفره لإحدىإماراته للنظر في أحوال العامة ... الحقيقة أنه تخفّى. لقد رأى وسمع كل ما دار بينالعشيقين. بعد أيام والملك جالس بمفرده مهموما بالأمر الخطير الذي أصابه دخل عليهالزنعم ناقلا إليه أمرا جللا، أعاره الملك أذنه محترسا مما سيقوله وفي الوقت ذاتهكاظما له الضغينة والحقد: ــ ما ورائك يا وزيرنا يا حامي ديارنا؟
    ــ أمر جلل! واقترب من الملك هامسا : سمعت أن وزيرك الربطم دبر أمرا بليل لينزع العرش من تحتأقدام مولانا .
    ــ وما دليلك على ما تقول ؟
    ــ لقد أصرّت لي بذلك إحدىجواري مولانا و طلبت مني عدم إخبارك باسمها مخافة أن يلحق بها غضبك و يكثر عليهاسؤالك وتتهم في نفسها !
    قطب الملك حاجبيه و قال في دهشة: تعني أن إحدى جوارييلم تخبرني وأخبرتك ؟
    ــ نعم يا مولاي
    ــ و لما قامت بذلك و لم تخبرني أنامباشرة ألست المعني بالمؤامرة؟
    ــ أخبرتني أنها مراقبة من ابنتك زوجة الوزيرالربطم و تتعمد إبعادها عنك وهذا صحيح ، لقد هددتها لو أفصحت بما سمعت من الكلامالذي دار بينها وبين الوزير فسوف تصير طعما للكلاب الجائعة.
    ــ و لم تجد غيركلتخبره بذلك ؟
    ــ نعم وفـّرت لها الأمان و الحماية ووجدتني الأقرب إلى الظفربعدوك و لو كان وزيرك أو ابنتك وتعلم ولائي لك أكثر من غيري.
    أمر الملك الوزيرالزنعم أن يقص عليه كل ما أخبرته جاريته التي عرفها و لم تكن غير الجارية بارتينةالتي أهداها له وزيره الزنعم . كانت المملكة في صراع ضاري مع الرعية الذين بدؤوا فيالخروج على طاعة الملك لتفشي الظلم والتحكيم الجائر و التعذيب في نزع الاعترافاتعما ينوون فعله . بدأت الخزانة تفرغ و الرعية زادت فقرا و كثر الترف و الاكتنازواللهو وازداد شك الملك وهوسه. بعث الملك للوزير الظلمشاع الذي كان في مهمة إعادةالأمن و الاستقرار في المناطق التي شهدت أحداث الفوضى و الشغب و أخبره بما كان منأمر الوزيران الزنعم و الربطم .
    بدأ الوزير المشهود له بالشدة و البطش في تطبيقأوامر الملك للتحقق من المؤامرات التي تحاك ضده و أعطاه صلاحيات إضافية للتخلص منكل من تقع عليه الشبهة حتى و إن كان أقرب المقربين إليه. كان الوزير الظلمشاع قدجهّز حيلة للتخلص من الوزير الذي تقع عليه الشبهة بدس السم له في الطعام، لكن بقيعلى من يضع السم داخل الطعام خاصة أن الوزيران يبالغان في أخذ الحيطة والحذر، يشكانحتى في أقرب المقربين، لا يتناولان الطعام حتى يأكله من أحضره و لذا فالطهاة يحرصوندائما على سلامة رؤوسهم. كان الليل ينشر ردائه وكان القمر يمد ظله على أشجارالحديقة فيزيدها بهاءا وجمالا، و البلابل تصدح بالغناء لم تخلد للنوم كباقي الطيورربما بهرها هذا الجمال البديع، كان الوزير الزنعم تحت شجرة مع زوجته ابنة الملكيبدو للرائي أنهما أسعد زوجين على وجه الأرض. كانت هناك أعين تراقبهما دون أن يعرفاذلك، قال لها بصوت خافت: "أليس جميلا أن نخلو بعض الوقت تحت هذا الجمال الساحرنسترجع فيه ذكريات أيامنا الحلوة ؟". كانا يتناجيان في هذه الليلة الجميلة التيستكون آخر ليلة في حياته. لما طلع الصباح كان الوزير الزنعم على سرير في إحدى غرفالقصر جثة هامدة لا تتحرك ، وجده الخدم بعدما رفعوا من صراخ فجيعتهم.
    سمع الملكبموت الوزير الزنعم المحترس دائما، لم يصاوره أدنى شك أن وزيره الظلمشاع قد أدىمهمته على أحسن وجه، الدور المقبل للوزير الربطم الذي تحوم حوله الكثير من الشكوكأيضا ، الملك يريد أن يقتلهما بالريبة حتى يستريح، في اليوم الموالي كان الوزيرالربطم يلفظ آخر أنفاسه بين ذراعي زوجته ابنة الملك . أثنى الملك على عمل الوزيرالظلمشاع وتفانيه للمحافظة على الملك، أصر الملك لوزيره المخلص في رغبته للتخلص منالجارية بارتينة و ما كانت عليه من علاقة مشبوهة مع وزيره، لكن يومها سأله :" ــكيف تمكنت من قتل الوزيرين بالسم برغم حرصهما وحرص ابنتي؟" لم يجد الوزير ما يجيبهبه و بدا الاضطراب على وجهه واضحا، حتى أن لون وجهه صار أصفرا كورقة الخريفالمتساقطة وأجاب: ــ يعلم مولانا أن الحيلة لا تنقصني؟
    ــ لكن أريد معرفة من دسالسم ؟ طرح الملك السؤال و بدأ يتوجس ريبة في وزيره هذا ففراسته لا تخطأ في وزرائهفهم صناعة يده. راح الوزير يلتوي و يتموّج في إجاباته وعلم الملك أن في الأمر سر،وضع العيون ترصده. مرت أيام و جاءت العيون بالخبر اليقين للملك؛ فالوزير الظلمشاععلى علاقة بإحدى ابنتيه ولم تكن غير زوجة الزنعم. قرر الملك فتح السر مع الجاريةبارتينة التي أطالت حدادها وحزنها على الوزير الزنعم، تشجعت يومها و أخبرته بحقيقةما دار بين الوزير الربطم و ابنته في التخطيط لقلب عرشه. مرت شهور و الملك يخططلتكسير نوايا وزيره المتبقي. الملك ألحق بقصره الملكي حكيما أرغمه على أن يكونمستشاره وأقسم له إن ساعده لينظرن في حال الشعب و يصلح من أمره المهم يبقى له ملكهأمام المؤامرات الكثيرة وأمام امتعاض الشعب من سياسته التي لم تكن غير تبعات أفعالوزرائه... نصحه مستشاره بالتحقق من نوايا وزيره الذي أعطاه سلطة مطلقة و نصحه بحدصلاحياته، حينها ظهرت نواياه و أقلب عليه نظامه لكن بفضل حكمة الحكيم لم يتمكنالوزير الظلمشاع من السيطرة على القصر و الملك فانتحر و أتباعه بطريقة جماعيةغريبة. مضت أيام وأصيب الملك بوعكة صحية وقفت بنتاه لجانبه ، أما أحداهما فكانغاضبا عليها لأنها تحالفت مع زوجها لنزع ملكه أما الثانية فكانت عشيقة وزيرهالظلمشاع وهي من قتلت الوزير الزنعم، لم يعد الملك يستطيع فهم خيوط المؤامرة. كانمستشاره الحكيم قد كشف له عن أمر جاريته التي يهيم بها الملك عشقا ولا يفرط فيهابرغم الذي نقلوه له من أخبار أيام الوزير، كانت الجارية في الحقيقة إبنة الملكالأول الذي قتله الملك الحالي يوم كان وزيرا و نسب العرش لنفسه. فات الوقت فالملكيلفظ آخر أنفاسه تحت تأثير السم الذي بقى سره معلقا في الشخص الذي وضعه له فيالطعام. تحوّلت البلاد إلى فوضى عارمة جارفة ونار أكلت الأخضر واليابس وكان هذابداية زوال المملكة وظهور الفتن و الطوائف و حروب القبائل فيما بينها الكل يقولبالأحقية في الملك دون غيره... و بقى سر الوزراء كامنا في تاريخ المملكة يقول البعضأن الزنعم سليل عائلة الملك الأول المخلوع والربطم عدو الملك المخلوع وقال غيرهمالعكس. أما الظلمشاع يقولون انه كان ظل أعداء الملك والموت المرسل إليه. غيرهم قالأن الجارية بارتينة ابنة الملك الأول حصّنت نفسها بزواجها من الملك وعملت لتكونملكة بالتحالف مع الوزير الزنعم، أما ابنتا الملك المقتول فلم تكونا ابنتيهالحقيقتين لأن زوجته كانت على علاقة برجل آخر لم يكن غير قائد جنده الذي قتله و قتلزوجته معه... أغلق كتاب الحكاية و لا يعلم أحد من نصب كملك ومن كان حاجب الملكالخاص الذي أغفلته الحكاية؟ بعض المؤرخين رجحوا كتابة الرواية للحاجب الذي دبر قتلالملك بمعية الجارية التي كانت عشيقته يوم ملك أبيها وأراد إهانته بأوصاف الطاغيةالظالم، بعض النقاد رأوا أن الحكاية ينقصها الكثير من الإيضاح ليتمكن القارئ من فهمملابسات الجريمة و السم ، البعض الآخر يرجح خيال القصة وابتعادها عن الحقيقة و أنكاتبها من المدسوسين في المملكة ليفسد الشعب بحكاياته. منهم من يقول أن الحكاية فيالأصل كتبها الملك قبل موته لأنه كان يتوجس خيفة من المؤامرة التي حيكت ضده و يعلمأي جرم أقترفه لمّا نصّب الوزراء الظلمة، حذّر في وصيته من الجواري الفاتنات منأمثال بارتينة. رأي آخر يقول أن الملك كتب وثيقته هذه وحمّلها لأحد مستشاريه كماتكهن بموته بالكيفية التي رسمها لخصومه... أغلق كتاب الحكاية أيضا على اختلافالنقاد و المؤرخين في أصل الحكاية متى كانت لأن أحداثها غير محصورةبزمان


    القصّاص
    كان يدّرس بنفس المؤسسة، ينادونه بالروسي،لصقت به هذه الكنية فصار يعرف بها يوم كان بفرنسا. لقد منحه مظهره هذا تقيةوَقـتْهُ المتاعب فأنفلت بشكله من مخالب العنصرية وأبعد عيون البوليس عنه. كانترائحة العنصرية وقتها تفوح من كل مكان إبان الحرب. تعرف على ألمانية شقراء ساحرة فيإحدى شوارع المدينة لما كانت تَهََّمُ باستئجار سيارة، كان يقف لجانبها و بلباقةدعاها للركوب، النساء أولا كما تقتضي العادة خاصة مع الآنسات الجميلات الساحرات. لمتكن إلا لتبادله احتراما مقابلا لاحترامه وبلغة فرنسية مكسّرة رديئة شكرته:"ــ شكرالحضرتك أنت ظريف مهذب." هي ليست فرنسية، بل تأكد أكثر، هي مهاجرة مغتربة كما هو،أحاطها بعينيه المتقدتين النابهتين كنسر، فتحت عيناه باب إعجاب ترجمتها ابتسامتهالعريضة. هل وقع في حبها بمجرد فتحه باب سيارة الأجرة وركب لجانبها، بمجرد بادلتهالاحترام كما يجب؟ عليه اقتلاع الفكرة من رأسه، ولِمَا يقلعها؟ إذا تكلم القدر سكتالإنسان و لو كان يملك كل لغات العالم. حدوث المقدّر لابد منه. تعرّقت جبهتهالعريضة اللامعة، بيده الخشنة أخرج منديلا أبيضا من جيبه العلوي لهندامه ومسحالقطرات المتلألئة على جبينه، فتح زر ياقته، شعر بالقيد في يده، استراح قليلا الآنأو هكذا بدا له أنه مستريح، تنفس أحسن من ذي قبل. كانت السيارة مهترأة تسير ببطءكسلحفاة عجوز، أستحسن الأمر، هي من جهتها استهجنته ، ثارت ثائرتها وقالت: " مركبةيجرها حصان خير من كومة القصدير هذه بمحرك ست أحصنة." نظر السائق في مرآته العاكسةالداخلية و كأنه يتحقق من وجه المرأة وملامحها لتعلق صورتها أكثر بمخيلته، لم ينتبهلها جيدا حين استقلت سيارته وبدا جمالها أكثر وضوحا الآن، سرقت قلب السائق أيضاجعلته يرتعد ويعوي داخله كذئب" يا للفريسة الطرية و لا صيّاد لها ليست امرأة فرنسيةبالتحقيق .ربما هي متشردة أو بائعة هوى " هكذا قالها في نفسه. حوّل بصره مجددا إلىالطريق الذي كان ينعرج بين مسافة قصيرة وأخرى في أحياء المدينة الجميلة ذات البناءالتقليدي، شعر برغبته في الكلام وما المانع من الحديث إليها، يمكنه فتح موضوع بطرحهأسئلة حول الطقس البارد مثلا أو حول الكلاب المتشردة الكثيرة التي غزت المدينة، أوعلى بيادين القمامة التي صارت خاوية جرّاء الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد منجراء الحرب، يمكنه أيضا فتح موضوع حول الصعاليك والمهاجرين وقطّاع الطرق و الخارجينعن القانون في البلاد المستعمرة هناك وراء البحر لجس النبض.هذا الذي حدث لقد اهتدىلهذا وكان قلقا للغاية يلوي بذلك على سماع الجالسة لجانبه و أفلح في ذلك بشكل رهيبحيث جذب انتباهها كما رأى الفتور و الانزعاج من جانب السائق الذي ما شك لحظة فيكونه غير فرنسي، التبس عليه تحديد أصله فقد كان يتقن نطق حروف الفرنسية ومخارجهاإلى درجة مهارة الفرنسيين أنفسهم. قال له السائق بعدما سكت الاثنان عن حديث تعدىالعشر دقائق:" من أي ضاحية أنت ياصديق؟ يبدو أنك روسي وقهقه.
    ــ روسي، أه نعمروسي الأصل. قالها وهو يضمر الكذب داخله جراء الظن من كونه بوليسيا متخفيا في صورةسائق أجرة، يجب أخذ الحذر والحيطة فالبوليس و الجند رمة منتشرون كالكلاب. قال سائقالأجرة: ــ"أين أنزلك يا سيد؟
    ــ في الحي التاسع حي جان دارك القديسة.
    ــوأنت سيدتي؟
    ــ نفس الحي شكرا.
    صدفة عجيبة رتّب لها القدر و لا شك، ابتهجتأسارير وجهه و انطبع الارتياح عليه ولاح خيط نور للحظ.أوصلهما السائق و أنزلهما فيالشارع نفسه.
    ــ هنا توقف من فضلك، كم أجرك؟
    ــ عشر فرنكات للواحد.
    دفعالأجرة نيابة عنها وحمّحم لما رفع يده اليمنى و قبضها نحو فمه:" أين وجهتك يمكننيإيصالك إن شئت هذه طريقي في أي اتجاه تمضين؟
    ــ في هذا الاتجاه
    كانت لهما نفسالوجهة وكانت هذه الصدفة فاتحة العلاقة بينهما كللّت بالزواج، تعرف عليها أكثرتعرفت عليه أكثر، عرف أنها ألمانية، عرفت أنه بربري أشقر، يتقن التمويه اتقاءللعنصرية والاضطهاد، حتى أنها عرفت انخراطه في صفوف الثورة ومكّنته من تمرير السلاحكم من مرة.صارت قضيته قضيتها، لربما فعلت ذلك نصرة للقضايا العادلة للشعوب أو بطابعالانتقام. عرفت كل هذا بعد زمن طويل لماّ عدت من فرنسا بعد قضائي فيها خمس سنواتمدرّسا للمهاجرين العرب مبعوث الدولة. عرفت في الحي الذي سكنته بفرنسا حكاية شبيهةبالأسطورة عن مقهى القصّاص. لمّا رجعت للوطن عيّنت في العاصمة، هناك تعرفت علىالروسي، كان أستاذ فرنسية في نفس المدرسة التي أعمل فيها، يوم سألني عن الحي الذياشتغلت فيه بفرنسا أخبرته عن الضاحية وعن العنوان أيضا، ابتسم وقتها ولم يسألنيبعدها أبدا. بطابع الفضول عرفت عنه شبابه. كان عاملا هناك وأنه تزوج من ألمانية،حكا لي عن مقهى القصّاص وكيف أكترى غرفة في ذاك النزل القديم لسنتين حتى ألفهالجميع و أطمئنوا إليه. كان المشرف على النزل وعلى مقهاه صاحبه المسمى القصّاص،الرشاش لا يفارقه أبدا، كان صهر محافظ شرطة الضاحية قرّبه إليه، كان واشيا حقيراألحق بالكثيرين الأذى من قتل و تصفية وسجن. كان عين الشرطة السرية يستقي المعلوماتمن المهاجرين الذين يشم فيهم رائحة انتمائهم للحزب. طالت إقامة الروسي في النزل،صار يسامر القصّاص، يسكره فيفضي إليه بأسراره. في إحدى ليالي الشتاء دبّر خطةللتخلص منه بعدما جاءته التعليمات من القيادة للإجهاز عليه، قتله في ساعة متأخرة منالليل كان الصمت حينها ثقيلا يخيّم على الحي ولا تُسمع إلا قطرات المطر. فرّ معزوجته إلى حيث أفراد الحزب الذين قطعوا بهما الحدود إلى ألمانيا ومن هناك لم يسمعلهما خبر إلا بعد الاستقلال. لقد كان الروسي بطل المهمة الصعبة. الحكاية رواها ليبتفاصيلها حتى عايشت أحداثها واقتربت بخيالي ولامست حقيقتها فسكنتني.
    حدث أمرغريب فيما بعد جعلني أنسى اسم القصّاص وحكايته ألى الأبد. يوم استقبلت الخال فرحاتالقادم من بلجيكا.أخذني في جولة معه بسيارته البيجو إلى مدينتنا القديمة حيث مسقطرأسه. راح يتفقد الأمكنة و الأصدقاء القدامى. كان أحد رفاقه الأوفياء عمي رابحالإنسان الطيب الثوري كما قال لي. جلسنا في مقهى شعبي ألتفت من حوله أصدقائه الكثر،راحوا يتذكرون أيام شبابهم ومغامراتهم وجنونهم. لمّا تفرق الجميع بقى عمي رابح معالخال فرحات. لم أتفوه ببنت شفة في حضرتهم وهم يسترجعون ذكرياتهم. ولحماقتي وجدتنيأتفوه بذكر اسم القصّاص الذي شغلني كثيرا قائلا للخال فرحات: "ــ على فكرة، أتعرفيا خالي فرحات حكاية القصّاص ألم تكن وقتها في فرنسا في الجبهة؟ بغضب نهرني ، هديرصوت غاضب، احترت في أمري، لفّتني الدنيا، أصابني الدوار لو انشقت الأرض وابتلعتنيلكان أرحم لي من صراخه في وجهي بهذه الطريقة أمام عمي رابح. الخال فرحات لم يعاملنيهكذا و لو مرة واحدة في حياتي، طردني من مجلسه كما يطرد الكلب السارق بذنبه: " ــقم أغرب وجهك عني، انتظرني في السيارة."
    أذعنت للأمر كالطفل الصغير، كان سنيوقتها تعدى الخامسة والثلاثين.تحرّقت لهفة في عودة الخال حتى أتحرى سبب غضبه عليّ،كان القلق يلدغني كثعبان قاتل، الحيرة جعلت نبضي يزداد حتى تعرّقت، رأيت احمراروجهي في المرآة العاكسة داخل السيارة. أخيرا ها هو الخال قادم بعدما تصافحاالصديقان وتعانقا، رأيته ينظر في ناحيتي بعينين يتطاير منهما الشرر والغضب، فواهاتجحيم، فتح الباب، جلس وضع يده على المقوّد، أغلق باب السيارة بقوة كاد ينزع المقبض،صراحة لم أجرأ على النظر في عينيه و أدري أني لست مذنبا وقلت:ــ ماذا قلت يا خالحتى فعلت بي ما فعلته؟ قال وهو يضرب على المقود بيده التي كسا الشيب شعرها مفرغاغضبه:
    ــ لم تجد ما تقوله غير حكاية القصّاص؟ لما لم تسألني حين كنا معا طولالطريق؟
    ــ الحكاية يا خال بالكاد يعرفها الجميع
    ــ نعم يعرفها الجميع، هلتعرف من صار مكان القصّاص بعد قتله؟
    ــ الصدق لا أعرف
    ــ عمك رابح الذي كانمعي هو من أخذ مكانه، كان في صفه و صديقه في حزب المـ....قبل أن يصير في صفوفالجبهة..وهناك من كانوا في الجبهة صاروا مع..... و......وبعدما..... اختلاف..... حزب.... أعرفت الآن بأنها كانت أيام فتنة وشقاق، دع الفتنة تنام في مرقدها يا ولديو لا تيقظها لقد هدأت النفوس والله كفيل بالمغفرة والصفح عن الجميع . لا أحد يكرهوطنه يا بني كلنا معرضون للخطأ لسنا ملائكة بعض التاريخ يا ولدي يسكت عنه.
    عدتللعاصمة آخذا العبرة وفي ذهني صورة ابن خلدون حين التقى تيمور لنك زعيم التتارمقدما له الهدايا داعيا له بالنصر و الظفر.


    الحكاية الزائدة عن الليلة الألف
    تمكن من التسلل للقصر بفضل بعض أعوان الخليفةالشرفاء من أبناء الشعب العاملين في البلاط بعدما طلب منهم أن يدخلوه قاعة العرش.

    نام على سجاد الأرض للصباح وحين دخل الخليفة مصحوبا بكبير الوزراء تفاجئبهذا الماثل أمامه الحامل بيده صحيفة من جلد وسأله : من أنت وكيف وصلت إلى هنا؟أيها الجند أيها الحراس... توسله وترجاه أن يهدّأ من روعه. أمر الخليفة الجنودبالتراجع والخروج والوقوف على الباب والانتباه بتلبية النداء بسرعة لو أقتضى الأمرلذلك. وقال له الرجل النكرة: العفو يا مولاي تطاولي والدخول قبلك لمجلسك دون الإذنمنك، فلست الذي يريد السوء لك، إنما جئتك الناصح الأمين وقد فعلت بدخولي إلى هنامنكرا ولا أحسبني راضيا عن نفسي إنما الأبواب التي صُدّت في وجهي هي من جعلتني ألجألهذه الحيلة . أسمعني يا مولاي جئتك بالنصح للأمر الجلل. كانت هذه الحادثة منعطفاتاريخيا توارثها النصّاح .
    وقال له الخليفة: هات نصيحتك وهيأ نفسك للسيّافبفعلتك التي فعلت.
    وقال له : عجبا يا مولاي الأرض تخرج خيراتها والناس جياع فيكل مواسم السنة، البلاد تنام على خزائن مفاتيحها مخبئة والشعب ينام على الطوىوالغيظ ودعوات الهلاك والخراب عليكم. عجبا يامولاي وفودك تجول الحقول والأسواق تجمعنقود خبز الصغار وأجرة دواء المرضى الهلكى لأجل القصور المشيّدة، هذي الأرض يامولايالسنبلة فيها تأتي أكلها والنبؤة فيها عن السنين السمان لا زالت دعوة الأنبياءسارية فيها للأبد.
    وقال له : أأنت الناصح الأمين؟ أم الغشّاش المندّس مثلك مثلمهرجي القصر منافق يلبس الورع ويتوارى خلف الكلمات المنمقة وبهاريج سحر البيان؟ ماحاجتك فعهدي بمثلك كثير؟ ما رأيك في بستان وحديقة وقطعة أرض وقصر ليس كمثله قصر ولاكقصور حاشيتي المخلصون الوفاء للسيف والسوط ودرهم الذهب والفضة. أضف لها بعضا منجواريي الكثر فقد مللت وجوههن وفروجهن . نقربك منا، نجزل لك العطاء ونجعل لك خدما. نشركك مع التجار نضاعف لك الضياع والدواب والمتاع إن شئت أيضا منحناك سلطانا منسلطاننا اللامحدود به تهابك العامة والدهماء، تسير في بلادنا الواسعة فلا يوقفكأحد، يحفّك الحراس يمنعون عنك حتى الغبار فلا يصعد لمقامك يطوقونه فلا يلتصق بك . قد أعجبتني جرأتك.
    وقال له: عجبا يا مولاي أكل هذا لي، وما فعلت حتى أحظى بهذهالخيرات كلها، أجوائز على النصح؟ لما لا تفرقها على الضعفاء والفقراء والمحتاجين؟هم عيّال الله وأنت ظل الله المستخلف في الأرض، ألست موصل النعمة لهم، يشكرون اللهعلى نعمته بأن أستخلفهم حاكما مثلك. يا مولاي أفي دولتكم هذا العطاء للحاشيةوالرعية تنافس الكلاب إلى زبالتها وتطرد الذئاب من مخابئها ويضيق بها الفضاء بمارحب فـتـنتحر في البحار، يا مولاي شاب الصبي والأم صارت تأكل بفرج ابنتها العاهرةبعدما كانت طاهرة سرقت البراءة منها وهي لا زالت طفلة .الأب باع فلذة كبده واكتراهالمتسولة والجريمة صارت كما تقتل الكف الذباب والبعوض، يا مولاي أنا لست حكيمالزمان ولا أنت هارون الرشيد.
    وقال له : كفاك شكوى ونصح، لست يوسف ولا أنا أخوك،ليس الشعب رعية ابن الخطاب فأكون الفاروق. سأعيد عليك العرض ولا تضطرني لأقول لككما قال جلاد معاوية لمن رأى سفاهة يزيد، هذا أو هذا ... أنت لا تعرف شيئا عنمتاهات الحكم فلا وفاء ولا دين لكل ما ترى عينيك، إلا دين العطاء والمنفعة، لكل منيخرج عن طاعتنا له طمع في نعمتنا لكننا نردعه لأنه يفكر في أخذ النعمة كلها، نحنهنا نبيع ونشتري في الرجال يكون الربح بقدر قيمة المعدن... لا يخيفني الشجاع بليكبر في عيني وهو يقاد للنطع والمشنقة لأني أعرف أنه يحيا بعدما يموت ويلحق بي عارسجنه وقتله. أسمع أيها الناصح أنا لم أسألك كيف تسللت ولا كيف وصلت إلى مقام عرشيومن منحك حق الدخول قد يمنحك فرصة قتلي وهذا دليل خيانة ولا ريب لكن تأكد سيموت كلالحجاب بعد انصرافك، سيموتون بجرمك قبل هذا ستختار : أتذهب معهم إلى حيث سيذهبون،سأبعثهم لزيارة قتلاهم. أم أنك تؤثر البقاء فتكون لي عونا وعصا أتكئ عليها، قد يفيدنصحك الأعداء والغلاة والمناوئين والخصوم والخارجين عن طاعتنا والساخطين على ماانعم الله علينا من فضله، ألم يأمر الله بأن ترى نعمته على عبده، الحاسدون كثر وهذاالزمان كثر فيه الشاكون وقلّ فيه الشاكرون حتى ولو أركبتهم ظهرك بدل الدواب وطهوتلهم الشواء على أصابعك.
    وقال يا مولاي: أتريدني واشيا أغيّر الثياب قد لاتواتيني ثياب القصر ويقتلني الحرير، حبذا لو أموت على أن أحيا حياة يختارها ليغيري، أضف لذلك لم أبلغ من الحكمة لأعرف إن كان في موتي خير من الله على الحياة وماالمكان الذي سترسل إليه جلاديك بواجدين ضحاياهم فطريقهم غير تلك الوجهة، أرسلهم إنشئت لكنهم لن يجدوا وجوه ضحاياهم بل وجوه صورهم. يا مولاي لا تظن السوء بالحجّابفدخولي إليك كان شبيها بالمعجزة، فالحجّاب صناعة يدك الماهرة ومع هذا فالخير عليهممنك والشر على الرعية منهم ومن الوزراء... وما الجند غير المنفذ لأمرك فهم لايعلمون إن كان قضاتك أخطئوا الحكم أو تلاعبوا به أم لا ؟ إنما هم حماة العدل بالسيفأو هكذا يعتقدون. يا مولاي أنا من الرعية لا أنكر الولاء، أقدّس الحكم الذي به قدأظلم فالظلم حينها ليس ظلم الحكم إنما ظلم الأيدي الخفية. يا مولاي ماذا يقال عنيحينها؟ لم أتقدم بالإساءة لأحد كما لن أتقدم بالإساءة إليكم ولا لأحد مهما كان لأنفي ذلك إساءة لنفسي وإنقاصا من كرامتي ورجولتي فكيف إذن أعترف لنفسي بجهلها وضعفهاأمام الذي تعرضه علي. لكأني فهمت عنك يا مولاي ما قاله عمّالك على الولايات أمسكعليك لسانك فلا يضرك السوء حيث ارتحلت أو مكثت، لن يقربك إنس ولا جآن. أليس إن رضيتبهذا بعت نفسي للهوى وكنت حقيقا بالسوء، كنت محل استحقارك واستحقار عمّالك والرعيةعلى السواء. يامولاي أنت لا تعرفني إلا الآن، لا تعرف إلا ما تسمعه الآن مني وإنكنت فردا من ملايين الرعية ما كنت لأحمل حتفي على لساني لولا بلغ السيل الزبا، وماكنت لأحبس لساني وهو ملك لله وأمره . إن طاعة الله أولى ولا معنى لحياة الفرد إنحبس لسانه لأجل حب الحياة وخوفا من النفي والقتل والتجويع، إنه من فعل ذلك إنما عصىالله بخيانة وطنه وولي أمره. يا مولاي إن الرعية ترى فيّ وفي أمثالي المشردوالطريد، لفظني بنو وطني وأوصوا علي الغريب أيضا. ومع هذا أشتاق وجوههم وهم لايطيقون رؤيتي، أسمعهم ولا يستسيغون كلامي، إنما ذلك لأني لا أملك مالا ولا أدفع ضراولا أقرّب نفعا. لا أستطيع إرغام أحد على سماع ما أقول فهل أنا مخطئ يا مولاي حينفكرت في الوصول إليك؟
    وقال له: لم تمتحن الرعية بمثل امتحاني لها، يبيع أخاهلأجل نفسه، المنفعة والأنانية كالآخرة، يشي بكل من يحفه لأجل أن يحمي مصالحه بنسيانحقوق غيره، حتى الجائع يأكل لحمك لأجل رغيف الخبز، ستجد نفسك وحدك حينها تحصدالندم. أسمع لما أقوله لك، أتدافع عن الرعية؟ لو أصابك أذى لن يدافع عنك أحد بلسينساك أقرب الناس إليك في سهرة لهو على نغمات مغنية أو في شطح الراقصات وفيالتركيز على نهودهن القاتلة. يمكنك في هذا الزمان أن تغير الإمام وتجعله داعيةبالهلاك على من تريد شرط أن تملأ جوفه بلحم طير وغزال وتسمعه رنات الدرهم. أماالمجتمعون المنادين بالتغيير والإصلاح والكاشفون عورات دولتنا لو أعطيناهم وأذقناهمقليلا من عسل مملكتنا نسوا وحادوا وصاروا سياطا في أيدينا نضرب بها من نشاء. لكنناتركناهم كالمهرجين يثيرون الجلبة فنلهي بهم أعدائنا الحقيقيين المتواجدين فيالمملكة فلا يتوفر لهم حتى القليل من الوقت فلا نسمح لهم بالتفكير في الانفلات. فلايوصلهم شيطان طمعهم إلى مجلسنا، أتعتقد أني نائم عن كل هذا؟ ألا ترى لو شبع الشعبواكتفى ماذا سيصنع بعدها؟
    وقال يا مولاي: لا تظن في كلامي أذية لشخصك كما تراهالعامة أذية لهم حين انتقدهم باهتمامهم بالثروة والمال والزق والمزمار وما لذ وطابأكثر من اهتمامهم بالفضائل والأخلاق والطاعة للدولة لا الطاعة لشخصكم، أما أنتمفذاهبون وأما الدولة فباقية إلى يوم الدين... يا مولاي لست دعي حكمة ولا علم ولاأخلاق ولا ورع ولا دين، لا أدّعي في نفسي المختار للكلام بالنيابة ولا أدعي شيئاوأنا الضعيف وحقيقة أمري لا شيء، أوافقك الرأي في كل ما قلته يا مولاي ولكن ليسالناس كلهم من طينة واحدة. ولقد قلتم فيما سبق أن الناس معادن. يا مولاي أشتري حبهمبعطفك وإحسانك، وولائهم بمساعدتك، قدهم أكثر مما تأمر عليهم وأحكمهم بنظام تقضي علىفوضاهم. طبّق القانون على حاكميهم يطيعونك لأن ذلك طاعة لك في القوانين التي تحكمكوتحكمهم، سيكون نفعك خير على العام والخاص. حينها هم حاموك ومحاموك عقلا وقالبا،وقتها يا مولاي يساس الجميع ويكون عدلك هو ظل سيفك وليس سيفك هو ظل عدلك..
    و قالله: سمعت نصحك ولن أحتار فقد سبقك لهذا الموقف من قبلك من أبلغ منك حكمة وعلماوحديثا كما سبقني لهذا العرش من هو أشد مني قوة وبطشا وأحكم على أمور الرعية... ولكنه الحكم.
    وقال له يا مولاي : ولكنه النصح .
    حينها بدت أصوات من حناجر لاصور لها مجتمعة في صوت واحد" هو الحكم ولكنه النصح، هو النصح ولا ينفع معه الحكم،لكنه الحكم ولا ينفع الحاكمين والمحكومين النصح" تمنى لو رأى شخصهم مرة واحدة فيحياته ليحاورهم لكنهم لا يظهرون خشية الحقيقة ورفع صوته قبل خروجه"إنما اخترتالمكان الذي وضعني الله فيه فلا أجبن كما ليس من حقي تحدي أمر الله فها أنا أقول ماعرفت وأمضي لحال سبيلي مرتاح النفس قرير العين، أديت واجبي معرضا عن عطاياكم مطبباجرحي بالصبر داعيا لكم بالصلاح لا بالوزر" خرج الناصح لا منحنيا ولا متحيا ولاطالبا الحق في الانصراف. أتى كالبركان المنفجر أخرج حممه وناره وحريقه وأثقاله، معالوقت أثقاله ستصير لا شك معادن نفيسة. وهو يهيم بالخروج يدير ظهره لعرض الدنياالقليل سمع الصوت الحكم الفصل وقد اختفت فيه نبرة الخوف والفزع والجزع واللّوموالشك" ليحكم على الناصح حفيد الناصحين بالعيش غريبا في دولتنا وكل من يقترب منه أويكلمه هو شريكه في المؤامرة، هذا الحكم بدل السجن والنفي إحقاقا منا للشجاعة التيأبداها وعدم حمله الأمة على العصيان" قهقهت الأصوات الكمون من زوايا كثيرة دون ظهورصورها ولا زالت تقهقه حتى انغلقت الأبواب ووقف الحراس منكبيّن سلاحهم من جديدوسُمِعَ الهاتف" إنما النصح ماء للنار، لا تبدد الماء فالحريق يكاد يكونوشيكا".


    الرجل الذي رهن عقله
    ما الذي يريده بالضبط ؟ الفوضى تسكن عقله كما أحاسيسه، نشاطروحي متذبذب عشوائي يشعر به من زمن لا يشبه نشاط الأفراد الذين يراهم ويتعامل معهمأو هكذا بدا له. مالهم مرتاحون لا يبالون لا يأبهون لشيء، لا رباط يشدهم، هم فيفوضى إلى درجة تعديهم كل الخطوط الحمراء." أتعبه التفكير وهو لا يقوى على اقتحامالمواقف المتكررة معه. كان دائما يردد جملته السحرية كلما عجز عن تخطي أمرا فيالحياة" تمسّك بمثالك الأعلى دائما لأنك ستشعر بانحطاط شجاعتك يوما ما"

    ركبالحافلة المكتظة بالركاب، الوقوف جميعهم يكادون أو ملتصقون بالكامل كأعواد ثقاب فيعلبة. تزاحم في الممر بصعوبة حتى ضمن مكانا لقدميه. السيدات واقفات، بعضهن مدرساتتحملن محافظ و بعضهن الطالبات اللواتي تجملن. تفوح من أجسادهن رائحة الماكياج والمراهم. العطر النسائي الصارخ يجلب البلاء كثيرا . الحافلة تمتلأ في الصباح الباكرفي ذهاب الجميع للعمل. يجدها كثير من المتطفلين و المتطفلات فرصة وجب اغتنامها. الالتصاق هنا بجسد أنثى في هذا الزحام المهول متعة وغنيمة لا تتكرر. الإناث أفاعيلينة الملمس يترصدن الطريدة في هذا الالتصاق ليجنين من ورائه الكثير من النقود التيتذرها الجيوب السخية فأصحابها في غفلة لحظات النشوة، واقعون تحت تأثير سكرات عسلالعيون والأنفاس ، وحشر المؤخرات والأثداء و الابتسامات الكثيرة التي تخفي خرابالجيوب.

    ــ عذرا أذيتك بمرفقي، الرجاء لا أكون آلمتك؟

    قالها للشابالذي كان لجانبه وقد أحس يده تجول داخل جيبه، كاد يسرقه هاتفه المحمول. تأكد اللصالفنان أن حظه سيء اليوم مع هذا الرجل الطويل. كان يتصفح وجوه اللصوص الواقفينالمدققين الذين كانت وجوههم مألوفة و عيونهم تزداد تعلقا بأمل فيمن لحظوا فيه خوفاوشمّوا فيه أو فيها رائحة النقود أو الحلي.

    توقفت الحافلة عند المحطةالشرقية، "الترمينوس" صاح بها السائق البدين كثور. تمكن أخيرا بشق الأنفس من شق هذاالصف البشري. تمكن من الهبوط بعدما علقت رجلاه برجل فتاة في درجة السلم الأخيرةوقعت على أثرها فطارت المحفظة من يدها ولحسن حظها أن جسدها اللطيف تهاوى على بدنهفدفعته بصدرها ثم أمسكته بيديها، أحمّر وجهها : ــ يا له من يوم معوّج. المعذرةأخي.

    ــ لم يحدث شيء، بسيطة أمور كهذه تتكرر يوميا بصورة أو بأخرى. طاب يومكسيدتي.

    كانت خطواته متئدة، مر على الكشك المعتاد، أخذ ثلاثة عناوين جرائدكعادته وقصد الوزارة البعيدة عشرات الأمتار . أغتنم هذه الأمتار لتصفّح العناوين. فتح الصفحة المقصودة تأسف في أعماقه، شعر بجنون، تأبط الجريدة الأولى، فتح الثانية،وجهته الصفحة الداخلية تأسف مرة أخرى وكما الأولى تأبطها أيضا. الثالثة وكانت دقاتقلبه تنبض سريعا. شعر بحرارة تدب في كل جسمه وفتح الصفحة يتحرى شوقه لتصفحها كلأسبوع. لا جديد اليوم أيضا. جمع الجرائد الثلاثة حزمة أوراق في يده. لا زالت رائحةالحبر تفوح من أوراقها الملونة. لواها على شكل عصا قصيرة ومشى ضاربا بها قدمه كلماخطى خطوة. بصق عن شماله ، لم يطفأ البصاق غضبه. هذه المرة بصق بعنف حتى أحدث صوتاسمعه من كان يسير أمامه، ألتفت وطوقه بنظرة استغراب.

    ــ لا أقصدك سيديعذرا.

    دخل الوزارة، أكد حضوره على سجل عون الأمن وانصرف إلى مكتبه منهمكابعد ذلك في عمله المعتاد. كان يقول دائما "ما معنى عملك في وزارة و سومتك سومةكلب.؟"

    بعد يوم شاق من العمل و على فكرة هو مطبوع على عمله، يؤديه بإتقانلأجل تحليل دنانيره خوفا و خشية من رب العالمين كما يجيب دائما زملائه في استغبائهمذكائه و نشاطه بمقابل ما يحصل عليه من أجر زهيد.

    كان ينتظر الحافلة لكنهاتأخرت اليوم دقائق كما العادة، التأخر سمة في ثقافتنا لا استغناء عنها ومصالحالدولة لا تأبه لمراقبة أصحاب هذه الحافلات الذين جعلوا الركاب كالسمك. لا حيلة إماتركب في الحشر و إما تركب عنادك فتستقل سيارة أجرة تدفع أضعافا مضاعفة. "الميزانيةلا تسمح" قالها في نفسه و ضحك ضحكا يشبه الخيبة. أمسك بالدربز ثم بحلقة مشد الركاب. كان الزحام مقززا، كره الالتصاق و لا مفر من قدر صنعه غيره. كانت امرأة تقف أمامهتدير ظهرها ، يدها في الأعلى تمسك بالمقبض الحديدي، يدها الشمال تمسك بمحفظة، حينتحركت الحافلة وأحدث محركها خلخلة التصقت به أكثر و ألتصق بها، استدارت طلبت العذرمتأففة من هذا الالتصاق وتفّوهت منزعجة: ــ غبن و نحن فيه

    ــنعم

    عرفها، الفتاة نفسها التي كادت توقعه أرضا هذا الصباح

    ــ أنت؟قالاها معا.

    ــ كدت أوقعك صباحا.

    ــ لم يحدث شيء .

    كان الركابيأكلونهما بنظرات ريبة وخبث و سوء نية أيضا. لحظا ذلك فأوقفا الكلام . ربما هناعيون تشي بما رأت و تزيد في الإفك وقد تنهش عرضهما.

    كانت صدفة ، نزلا معا فينفس المحطة: ــ إذن تقطنين هذا الحي.

    ــ نعم، هناك في تلك العمارة، يبدوأنها من زمن الفيل أليس كذلك.؟

    ــ أما أنا فأسكن في المقلب الآخر منالحي.

    ــ متشرف.

    ودّعها ومضى لحاله، كانت واجهات المحلات تلمعبمصابيحها التزينينة وأعمدة الكهرباء أشعلت أضوائها. كان الليل يعلن قدومه ، ماأقصر أيام الشتاء و بخاصة أيام شهر جانفي. وصل لباب غرفته في العمارة المتآكلةالمتهرئة، برزت قضبان الحديد من على جوانبها وفي السلالم. دخل الغرفة الشبيهة بعشالطائر وطرد فكرة الزواج بمجرد دخوله؛ طرد معها معنى الصورة التي رآها اليوم فيالفتاة التي أخبرته بمكان سكنها و بعض التفاصيل الأخرى عن عملها كمدرسة طورابتدائي... يا لها من صدفة لكنه يستبعد الارتباط مهما وقعت في قلبه الموقع الحسن. رمى بجسده المنهك على السرير حتى سمع كزيز سريره يشكو مثله السنين. لقد رافقه منزمن طويل و لم يفرّط أحدهما في الآخر. فتح الجريدة الأولى، راح يقرأ كل ما فيها،عثر على مقال يشبه مقاله أو يكاد يكون هو، ممضي باسم مدير التحرير، ليست المرةالأولى التي يجد أفكاره هنا، يغيّرون له الكلمات فقط.

    ــ يراسلني مديرالتحرير يحثني على الكتابة و إبداء الرأي خدمة القارئ وإظهار موهبتي على حد زعمهوهو يسرقني أفكاري.؟

    لم يكن يقوى على مواجهة مدير التحرير أو إثبات سرقتههكذا فكرة مقال له. القراء يعرفون اسم مدير التحرير و الجهات الحكومية أيضا تعرفاسمه، لكن اسمه بالنسبة إليهم نكرة. فتح الجريدة الثانية، لم يجد لقبه فيها وقدوعدوه بنشر إحدى أعماله. مدراء ورؤساء التحرير ليسوا كلهم سيئين وليسوا كلهم كهنة وإن كان بعضهم يخلق الكذب ويتفنن في رسمه. لصوص المعاني . قالها بتهكم وهو ينظر إلىالعنوان العريض. بصق على الكاغط و بالضبط على مكان اسم مدير التحرير.

    رمىبالجرائد فوق طاولة خشبية فهي كل ما يملك من أثاث كان التلفاز الصغير موضوعا عليها. خرج قاصدا مقهى الانترنت في الحي. بمجرد فتحه الباب نظر فيه صاحب المقهى متضايقا ،هو لم يدفع اجر استعماله النت عشرات الساعات. الاتفاق بينهما كون الدفع بالتقسيطوقد أخلّ بالشروط لم يدفع مدة. انتظر كما الآخرين و حين لحق دوره جلس أمام الحاسوبفتح بريده الالكتروني ، رسالة من مدير التحرير يعرض فيها عليه صفقة بيعه بعضا منمقالاته بمبلغ محترم. فار الدم من رأسه وصاح يكلم نفسه ويبصق على الحاسوب وعادةالبصاق قد تقتله يوما" تجرأ هذه المرة الكلب بوقاحة الخسيس." لكن تراجع عن انفعالهماذا لو يأخذ هو المال ليعين نفسه فالآخر يريد الشهرة عساها توصله لمنصب مرموقكمستشار في وزارة أو وزير خاصة و أنه كما أفضى له أنه عضو وطني في الحزب الحاكم. مدير التحرير هذا تعرف عليه من زمن، حين بعث له بمقال و ترجاه في نشره من ثمة صارتتربطهما علاقة. ينشر له مقالاته وبالمقابل المقالات الجميلة المؤثرة يسرق روحفكرتها ولا تخرج إلا باسمه. " أصحاب الوجوه الوقحة" قالها بحنق. لكن العرض مغريلأجل الظروف القاسية التي يمر بها ، قد يعينه المبلغعلى تحسين شيء من حاله، يدخرهلأجل أن يصير كباقي خلق الله ويجد زوجة توافقه على كفاف من عيشه. كانت الصفقة مربحةللطرفين، تسير على أحسن حال دون الإخلال بشروطها زمنا " دفع لكل مقال".. إلى أنوافاه مدير التحرير برسالة الكترونية ــ هو لم يقابله و لو مرة واحدة في حياته ــيبلغه خبر ترقيته لمنصب كبير و لم يعد في حاجة لمقالاته. كانت مقالاته قد أحدثتضجيجا و أثرا طيبا في الأوساط السياسية والثقافية. ترجمت لعدة لغات ، تداولتهاالصحف الأجنبية و المجلات المختصة بالنقد، أثنت على صاحبها . جمعت الأعمال وطبعت؛نال صاحبها حظوة الجوائز وأرباحا خيالية من ديار النشر الكبيرة، إضافة إلى التكريم. المدير المرقـّى الآن ليس في حاجة إلى كتابات أخرى. الأفكار نفسها قد تتكرر، أوربما وجد كاتبا آخر أكثر مقدرة منه. كانت الغيرة تأكل قلب الرجل الطويل المملوءحقدا على مدير التحرير و على حظه المنحوس وعلى الفقر. أسقط غضبه على نفسه في هوىسحيقة من العذاب و العتاب.

    كيف يرى نجاحه يتجسد في غيره. لكنه تقاضى أجر ماعمل ووافق بمحض إرادته. استسهل الأمر بصفقة لم يكن مرغما عليها أبدا. تجرأ على بيعما لا يباع.

    كان ينتظر الحافلة التي تعج بالركاب، أخذ يتزاحم كما المعتادليجد مكانا لقدميه و لعله يحظى بابتسامة من عند الفتاة التي وعدها بالزواج ، لم يعديراها إنما لا زال يرى وجوه اللصوص المتزاحمين إنهم لا يشبهون اللصوص الخياليينلصوص المعاني و النجاح. لا زال الندم يثقب ضميره ويشغل تفكيره ، خسر الكثير من وزنهو لحقه شيء من الخبل. ذاك اليوم وهو ينزل من الحافلة قاطعا الطريق للشارع المقابلفي المقلب الآخر تخطفته سيارة سوداء من القداّم....
    sigpic
  • مجدي السماك
    أديب وقاص
    • 23-10-2007
    • 600

    #2
    تحياتي

    تحياتي
    قصص جميلة تستحق الثناء والتقدير. من الاجدر بعثها. جهد تشكر عليه اخي ربيع عقب الباب.
    مودتي
    عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

    تعليق

    يعمل...
    X