فجأة انتبه إلى شروده على صوت الخالة:
ماهذا الوجوم المسيطر عليك يا أحمد؟
باغته السؤال ،تململ قليلا،التفت يبحث عن مخرج أي مخرج:
- الحرارة لا تطاق هذه الأيام....
- قالها وهو يقوم لغسل يديه لتناول وجبة العشاء،إنه هنا لا يحس بأي حرج،يتصرف كما يريد دونما أدنى إحساس بالحرج..
- جالس إلى مائدة بسيطة رفقة خالته، لم يستسغ لقمة الطعام يدفعها بلسانه يمنة ثم يسرة فيحسها قطعة من خشب..لقمة ..لقمتان..يتوقف وبطريقة أقرب إلى الفظاظة يتنحى تماما عن المائدة..
- ليس لي شهية ياخالة فقط أريد النوم....تصبحين على ألف خي..ر
قال ذلك وهو يسير نحو الغرفة المجاورة ليخلد إلى شاشته الداخلية ،والتي كانت صاخبة بصور متداخلة ،ألقى بجسده المنهوك على السرير فداهمه حزن قاس لا يكاد يذكر أنه حزن في حياته بهذا القدر الرهيب.
إنه لا يصدق أنه الآن فريسة سهله بين فكي ذئب جائع اسمه الحزن ،وهو الذي كان يتفنن دوما في انتشال نفسه من أحزانها ليحلق بها في آفاق رحبة وفسيحة ،هاهو الآن ...يستسلم ،
ينسى وصية جده التي ظل يرددها :
- الأحزان كاليهود يخافون ولا يستحيون ،فلا تستسلم لأحزانك يا ولدي مهما عظمت..
- لكنه الآن منبطح تماما فلا منازلاته السابقة مع الحزن نفعته ولا وصية الجد التي فقدت بريقها، حركت فيه ساكنا ،منبطح تماما
- حاول أن يجد لما هو عليه تفسيرا مقنعا لكنه عبثا حاول،
- وتتوهج الصور في الذاكرة :
هواء الصباح الربيعي الطري يملأ الكون بالنعومة والرقة،يتسرب عبر مسام الجلد ليستقر في العظم،والصحراءالشرقية اللعينة ممتدة إلى ما لا نهاية تظهر بلونها الرصاصي في ذلك الصباح ،كانت يدها لا تزال تنزلق بخدر لذيذ من جبينه حتى أولى شعيرات صدره،وكانت حركة أناملها فوق شفتيه تؤجج في أحشائه شبقا لا يتوقف ...
ومن المقعد الأمامي للناقلة حتى المقاعد الخلفية،بدا الكل نائما ورؤوسهم تتمايل مع حركة الناقلة على الإسفلت الممتد في انبساط تام كما راحة اليد،ثم هاهي الشمس تبدو كقرص ذهبي يطل ليفضح متاهة الصحراء على امتدادها...سرت اليقظة في الكثير من المسافرين
أسوار المدينة تلوح عن قرب ،وقد بدت المدينة الصغيرة كمقبرة مهجورة ،هنا اخترقه وميض خاطف آت من سنوات بعيدة وغمره حنين قاتل عبر مشوار الضياع والتيه وفي داخله ندت صرخة مكتومة بعيدة القرار: عالمك القديم قد مات وعليك أن تعود إلى رحم الزمن لتولد من جديد كما أنت الآن...
على الرصيف في مقهى شعبي مقابل المحطة ،كانا جالسين القلب على القلب ،والعين في العين وبينهما دموع غير مرئية،كان يحدق في عينيها باحثا عن جواب لسؤال مشاغب :
- متى تعودين؟؟؟
إنه يعلم أنها لن تعود أبدا ولكنه يصر على أن يسكت الطفل المفجوع في داخله ولو بالكذب عليه،ويكرر السؤال....لم تجبه
ولكن الجواب جاءه من مكان أخر،من مكبر الصوت:
- نرجو من المسافرين في اتجاه مرسيليا أن يتوجهوا إلى الرصيف رقم 7
سارا على الرصيف صامتين وحين همت بالركوب نظر في عينيها كان الدمع قد غشاهما.....
عبر تموجات هذه الصور في خاطره باغته النوم،تاركا تلك الصور تتفاعل بصمت كما موجات بحر هاديء،اختطفت روحه داخل مدارات جنونها العذب واستسلم جسده النحيل لنوم مفروض...
تعليق