القرد يدخل المدينة
[align=center]
-1-
[/align][align=justify]
أثار وصوله إلى مدينتنا الصغيرة المنعزلة زوبعة من الكلام دامت طويلاً .. وجد الناس فيه القشة التي يتعلقون بها لينجوا من مستنقع الملل الذى غرقوا فيه .. عاشت مدينتنا يوم خميس لم تعشه من قبل .. الكلام كطنين النحل في بيت الحاكم .. في السوق .. في المقهى .. في الحانة .. في الحمام وحتى في المسجد.
قال الحاكم باستغراب شديد وقد أحمر وجهه من كثرة ما شرب من النبيذ: "هل كان حقاً يسلم على الناس الذين مر بهم ؟" تطوع رئيس الشرطة بالرد وهو يمسح قطرات النبيذ الأحمر التي سقطت على لحيته البيضاء: "قال حراس بوابة المدينة إنه كان يلوح بيديه بالسلام ويحرك شفتيه بكلام!!".
التف أهل السوق حول حماد الحطاب الذى دخل المدينة وقت دخول موكبه .. الكل متلهف على السماع وحماد يتأنى في الكلام وقد أطربه أن يكون موضع اهتمام الجميع: "آه لو رأيتم الفرس التي يركبها .. فرس أصيلة من الخيل العراب .. ركابها من الذهب الخالص .. أى والله من الذهب الخالص".
في الحمام نساء من المدينة كثيرات .. تضخم خبر وصوله كرغاوى صابون جيد.. "أراهن أن في الأمر امرأة" قالت امرأة عجوز بها أثار من حسن ذهب معظمه مع الأيام .. مصمصت امرأة تشبه الرجل شفتيها الرفيعتين وقالت بحسرة: "مسكين ياحبة عينى .. إن كيدكن عظيم" ردت عليها النسوة برشها بالماء والضحكات الساخرة.
فى ظل شجرة التوت العتيقة جلس "الحنش" صاحب المقهى وحوله جلس ثلاثة من رواد المقهى .. نفث "الحنش" دخان نارجيلته المعطر وتابعه وهو يتصاعد في الهواء .. لمح الشمس التي أحمر وجهها خجلاً من ترك مكانها للقمر قال بصوت يفضح وقوعه في أسر الغيبوبة : "يقولون إنه يلبس ملابس أولاد الملوك مرصعة بجواهر تبرق إذا مسها ضياء الشمس" .. قال دينار الضرير وهو يلتهم توتة سقطت في حجره والطمع يمتزج بكلماته: "يقولون إن في موكبه بغلة محملة بالذهب الأحمر والجواهر الثمينة" هلل كمن يعلن نبأ ساراً: "أتى الخير يسعى إلينا ولابد لنا من نصيب فيه".
تجرع "عنبة" الخمار كأسه وقال لمن في الحانة بثقة العارفين : "صدقوني مادام من أولاد الملوك فسيأتى إلينا ويغدق من ماله علينا .. فليس من المعقول أن يجتذبه كيف الحرافيش" .. انتهز مخمور ظامئ الفرصة فصاح راجياً: "حسناً وجب عليك أن تسقينا بالمجان فقد جاد عليك الزمان وسيأتيك بالذهب الرنان "ضحك عنبة" وأومأ لفتاة الحان أن تملأ الكؤوس من أعتق الخمر.
-2-
غزا الليل السماء والأرض وعجز نور الهلال الوليد والنجوم الصغيرة عن صد هجمة الظلام .. فانتشر ونشر ألويته السوداء في كل مكان.
فى غرفة شيخ المسجد جلس الرجل الذى تقدم الموكب يكاد يلتصق بالشيخ الكفيف .. وصلت كلماته الهامسة إلى أذن الشيخ دون أن يسقط حرف منها خارجها .. مد يده بكيس من المال منتفخ للشيخ .. أفرغه الشيخ في حجره منصتاً إلى رنين الذهب .. تجولت أصابعه تتحسس القطع الذهبية خشية أن يكون بينها ما هو زائف أو مقصوص اطمئن فطفح السرور على وجهه الذى عبثت بملامحه الأيام والليالى .. قال بلهجة خطابية: "البلاء قدر وقد ذكر السحر في القرآن الكريم".
نامت المدينة بعد طول السهر وكثرة الكلام .. نامت تعابثها الأوهام وتهدهدها الأحلام في صلاة الفجر كاد المسجد أن يكون خالياً إلا من قلة من الرجال نأت بنفسها عن حديث الموكب .. كان بينهم بهلول مدينتنا .. أخطأ شيخ المسجد أكثر من مرة في التلاوة فرده بهلول والآخرون.
حان وقت صلاة الجمعة فخرجت المدينة كلها تشهد الحدث العجيب .. ازدحم المسجد بالمصلين على غير العادة .. حتى الطرق المؤدية للمسجد امتلأت بالناس .. انقضت شعائر الصلاة ومضى موكبه صوب بوابة المدينة والناس تفسح له الطريق وكأنهم مسحورون أو نيام يشهدون حلماً عجيباً.
خرج الموكب من البوابة بعد أن أرضى الرجل الذى يتقدم الموكب حراس البوابة بما دسه في أيديهم من قطع ذهبية.
-3-
مضى البهلول يرتقى الجبل الذى يحتضن المدينة قاصداً غار شيخه "أمير الزهاد" .. حدثته نفسه بسؤال يعاوده كثيراً كسائل لحوح : "ترى هل الشيخ أسعد حالاً بعد أن تخلى عن إمارة المدينة وانقطع للعبادة في غاره ؟" وقبل أن يهتدى للإجابة لفت نظره صقر ينقض على حمامة وديعة ويعلو بها إلى السماء .. انقبضت نفسه وزاد حمل الهم عليها.
جلس الشيخ على حصير أمام غاره .. يحرك حبات مسبحته وعيناه تتابعان ما يراه هو وحده في قطعان السحاب التي تعبر السماء .. رد السلام على البهلول دون أن يتوقف عن تحريك حبات المسبحة أو التطلع إلى السماء .. جلس البهلول يحدق في السماء ولكنه لم يطق الصمت .. قال بصوت يقطر منه الشجن: "جاءوا بقرد ألبسوه لبس أولاد الملوك وأدخلوه المسجد وفرشوا له سجادة حرير ليصلى عليها .. وبعد صلاة الجمعة قالوا إنه من أولاد الملوك سحرته امرأة فحولته إلى قرد وهى تطلب مبلغاً كبيراً من المال لترفع عنه السحر .. تساقطت قطع الذهب والفضة فصارت كوماً أمام القرد وتساقطت معها الدموع قبللت الخدود وحتى سجاد المسجد .. آه كانوا يظنون أن الخير سيأتيهم من ورائه".
قال الشيخ دون أن يتوقف عن تحريك حبات المسبحة أو التحديق في السماء "يا بنى خلق الله خلقاً ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر وهم فتنة ويحار الفهم ياولدى أ بالله يغترون أم عليه يجترأون".
[/align]
تعليق