بين العقل المجرد والعقل المسدد
[size="4"]
مـدخـل : متاهات العقل المجرد :
كان الغرب إلى بداية القرن العشرين واثقا بعقلانيته, منتشيا بتجربته وقوته, حيث سمع العقل التنوير( ديكارت, اسبينوزا, كانط, هيكل) الذي تولدت عنه الفلسفة الوضعية, التي كانت تبشر بعصر العلم بعد أن طوت البشرية مرحلتي اللاهوت والفلسفة, سمح هذا العقل بزرع وهم كبير في أوربا وهو أنها قد خلفت وراءها مرة واحدة وإلى الأبد كل همجية وجهل وروحية القرون الوسطى, وإذا بأوربا تتحول فجأة إلى مسرح لأبشع الديكتاتوريات, وتصبح أوربا المتباهية بنفسها فاشية ونازية واستعمارية مرعبة وتندلع حربان عالميتان. وهنا راح فلاسفتها يتساءلون كيف أمكن للعقل أن ينتج اللاعقل وكيف أمكن للتنوير أن يرتد إلى جاهلية ؟( مجلة الوعي المعاصر, عدد 6-7, السنة الثانية, 1422, مقال لقاسم شعيب تحت عنوان : العقل الإسلامي هموم التحرير والتنوير, ص : 173.)
هكذا اهتدى الغربيون لتحرير العقل من خرافات الكنيسة ومن ظلمها وظلامها, وهكذا أيضا أدركوا تناقض نتائج ما حصده العقل المجرد.
وخاض المسلمون صراعات طائفية بين مختلف المدارس الكلامية من معتزلة وشيعة وأشعريه حول تحسين العقل وتقبيحه, وحسمت الأشعرية المعركة حيث شاطرها الرأي أغلبية أهل السنة.
جدال فكري أرضي هنا وهناك حول العقل وكيفية توظيفه لمصلحة الإنسان.
غريب أمر هذا العقل, أينطلق في تفكيره من أنانيته ؟ أم بفكر اجتماعي ؟ ثم أيكون فكره ارتجاليا أم شاملا لكل جوانب المشكل ؟ أيترك شأنه لكل من هب ودب أم لابد من طبقة أرستقراطية التفكير ؟ أيفكر بالفكر التليد أم بالفكر الحداثي؟ و ما عساه أن يقدم عند تعارض التفكير الإداري والسياسي والحزبي والقضائي ، والفومي والوطني؟ و و...؟
إنها جولات للعقل في حقول المعرفة, لكن أيا منها أجدى وأنفع وأيها أضل وأضر ؟ هل مرد ذلك إلى العقل المجرد ؟ أيكشف العقل مساتير الغيب واختراق حجب ما وراء المادة والصعود إلى الملأ الأعلى ؟
ثم أنحتكم إلى عقلي أنا – وهو حسب رأيي – ناضج ؟ أيرضى بعقلي حكما ؟
أنرتضي إمام الشيعة وهو معصوم – بحسب نظرهم – أم برأي البابا وهو معصوم على الأقل في أمور الدين ؟ ترى أترضى بآرائهم اليهود ؟ أو البوذيون أو السنيون من المسلمين ؟
إنه نموذج لمتاهات العقل المجرد ... فكيف تتخذ العقلانية مذهبا للحياة وأساسا للفكر ؟
ورحم الله إمامنا الرازي فإنه يقول في عجز العقل :
نهاية إقدام العقول عقال *** وأكثر سعي العالمين ضلال
َ ولم نستند من بحثنا طول عمرنا ***سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
(المنفذ من الضلال لعبد الحليم محمود, ص : 334 وما بعدها.)
وهنا يجدر القول هل أدركنا لماذا أنار الله لنا بنبراس الخلق والأمر : { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}الأعراف : 54] خلق الله جل جلاله الخلق وأمر ونهي فمن اتبع هداه فلا خوف عليه ولا يحزن ومن نأى عن أمره ضل ضلاله بعيدا.
لكن مهلا، هل وردت كلمة العقل في القرآن أو اعتنى القرآن بالعقل أصلا؟
]مرادفات العقل في القرآن
لئن لم يأت ذكر كلمة العقل في القرآن الكريم بصريح اللفظ رغم وجود مشتقاتها فقد جاءت مرادفات للعقل منها:
1- الحلم :
جاءت في قوله تعالى :
{ أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون }[ الطور : 32]
و مجيئ اللفظ " أحلامهم" في مقابل قوم طاغون دل على أن الحلم هو الفهم والأناة والعلم المبني على أسس, والطغيان ما يناقض ذلك, فالكفار لم يحكموا عقولهم إنما حكموا عواطفهم وأهواءهم (مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة لمحمد علي الجوزوي, دار العلم للملايين, بيروت, ط. 2, 1973, ص : 167.)
2- النهي :
{كلوا وارعوا أنعامكم، إن في ذلك لآيات لأولي النهى } [ طه : 54]
{ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى}[ طه : 128]
ومعناه ذوي العقول الصحيحة.
ا3-لحجر :
{والفجر وليال عشر والشفع والوتر, والليل إذا يسر, هل في ذلك قسم لذي حجر ؟} [ الفجر : 1-5]
وقد سئل ابن عباس عن قوله تعالى قسم لذي حجر فقال يعني الرجل ذا النهى والعقل( لحارث المحاسبي, العقل وفهم القرآن, ص : 121).
4- القلب :
- أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها [ الحج : 46]
5- الفؤاد :
{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }[ الإسراء : 36]
" والعقل عقلان : ما نسميه عقلا لغة وتعريفا للملكة المشتركة بين البشر ليس هو مسمى العقل في القرآن.
العقل في القرآن فعل حاسة باطنة في الإنسان تسمى القلب. العقل تلق لحقائق الوحي بواسطة القلب.
والفقه في القرآن علم ينشأ في باطن الإنسان في قلبه ( محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى لعبد السلام ياسين, ص)
6- اللب :
{ ولكم في القصاص حياة يأولي الألباب لعلكم تتقون }[ البقرة : 179]
واللب العقل الذي تزكى.
" إن تجارب الصالحين، مند عصور متطاولة، دلت على أن تزكية النفس وتطهيرها والالتجاء إلى الله، والتقرب إليه كل ذلك يسمو بالإنسان إلى عالم من الروحانية تستشرف فيه النفس إلى الملأ الأعلى، فتفيض عليها منه نفحات وإلهامات ومعرفة لا تتأتى لذوي النفوس المادية الذين شغلوا بالدنيا عن الدين وبالمادة عن الله...
فالشخص الذي وصل إلى هذه المعرفة لا يهمه بل لا يعنيه - في قليل ولا كثير - أعمالهم، مما يخالف شرائع أنبيائهم, وطهارة فطرهم، مما ينكره العقل الصحيح أو يمجه الذوق السليم، وانتفاعهم بباعث من الحق الناطق في سرائرهم، المتلألئ في بصائرهم، إلى دعوة من يحف بهم إلى ما فيه خير العامة وترويح قلوب الخاصة...
إنه نظام الصوفية المختارة، إنه نظام هؤلاء الذين وهبهم الله حسا مرهفا وذكاء حادا وفطرة روحانية وصفاء يكاد يقرب من صفاء " الملائكة" وطبيعة تكاد تكون مخلوقة من النور.
وتزكية النفس طريق صعب المرتقى وتركيز الانتباه في الله هو مقصود "بالذكر" : وعر المسالك - عند الصوفية- وإذا نظرنا إلى الشروط التي يجب توفرها في السالك علمنا أن النفوس الجديرة بسلوك هذا الطريق من الندرة بمكان".
أما سبيل التربية القرآنية فلا شيء أيسر منه في تزكية الأنفس، فشتان بين سبيل صعب المراس، وبين سبيل يسره الله تيسيرا.
ولا حرج، نفصح العقل لدى الجنيد رحمه الله. والخلافات الجزئية لا تفسد للود قضية.(43)
" قيل لأبي القاسم الجنيد رحمه الله ورضي الله عنه : متى يكون الرجل موصوفا بالعقل ؟ قال إذا : كان للأمور مميزا و لها متصفحا، وعما يوجبه عليه العلم باحثا ويلتمس بذلك طلب الذي هو أولى ليعمل به، ويؤثره على سواه، فإذا كان كذلك فمن صفة العقلاء ركوب الفضل في كل أحواله بعد إحكام العلم بما فرض عليه. وليس من صفة العقلاء إغفال النظر لما هو أحق وأولى، ولا من صفتهم الرضى بالنقص والتقصير، فمن كانت هذه صفته بعد إحكامه لما يجب عليه من عمله ترك التشاغل بما يزول, وترك العمل بما يفنى وينقضي، وذلك وظيفة كل من سورت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل، ويسير حائل، يصده التشاغل به والعمل به عن أمور الآخرة التي يدوم نعيمها ونفعها ويتأبد سرورها، ويتصل بقاؤها، وذلك أن الدين يدوم نفعه، ويبقى على العامل حظه، وما سوى ذلك زائل مردود، مفارق موروث يخاف مع تركه سوء العاقبة فيه، ومحاسبة الله عليه، وكذلك من صفة العاقل تصفحه للأمور بعقله، والأخذ منها بأوفره، قال تعالى :
{ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب }[ الزمر : 18]
[SIZE=4] وذوو الألباب هم ذوو العقول، وإنما وقع الثناء عليهم بما وصفهم الله به للأخذ بأحسن الأمور عند استماعها وأحسن الأمور هو أفضلها وأبقاها على أهلها نفعا في العاجل والآجل وإلى ذلك ندب الله من عقل في كتابه.(الفتوحات الإلهية لأحمد بن محمد بن عجيبة الحسني تحقيق عبد الرحمان حسن محمود, ص : 290.)
ما كانوا ليحوزوا فضيلة ثناء ربهم عليهم وبشراهم لولا حياءهم من ربهم ومراقبتهم له، فكانوا معه بالطاعة والعبودية شكرا وكان معهم بالنصرة والهداية والتوفيق والإلهام لأقوم السبل، فأنى لأهل العقل" المكوَّن" أو "المستنير" بالعلوم والمعرفة أن يضاهيهم فضلا عن غيرهم من العقول التائهة ؟
و ما أحسن ما وصف الله به أهل العقل المكون وغيرهمYباعترافهم لما أدركوا الخسران المبين :
{ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }[الملك : 10]
" قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق(تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ج.1/120,دار النشر مكتبة الرياض.)
{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [ الأنفال : 29]
وضعت العنوان أعلاه لأنطلق في تحرير المضمون وكأنه يستوقفني مستوقف :
قبل كل شيء هل من دليل عقلي أو نقلي على ما سبق من إرشاد في الصفحات السابقة بكون الدعاء كفيلا للمرء لإدراك عالم الغيب ؟
- لما كان الحوار مع الفضلاء، وعلما بأن الله أفرح برجعة عبده له فلا غرو يستجيب دعاءه، ومن هنا يدخل المرء من باب تكريم الله لعباده ويذيقهم فضله.
[SIZE=4][B] [size=4] ثم أنه لما أناط الله فضله بمن شاء، لم يكن عطاؤه جزاء بل فضلا من ربك واختصاصا لمن شاء بما شاء Y. وما ألهم الله العبد الدعاء إلا كان ممن خصه بفضله وفيضه وعطائه. ومن هنا قول القائل " من دلك على الله فقد نصحك، ومن دلك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الدنيا فقد غشك
{ والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[ آل عمران : 73-74]
أما قول القائل :
" أما أرباب النفوس العالية والعقول السامية، من العرفاء، ممن لم تدن مراتبهم من مراتب الأنبياء، ولكنهم رضوا أن يكونوا لهم أولياء، وعلى شرعهم ودعوتهم أمناء، فكثير منهم نال حظه من الأنس بما يقارب تلك الحال "حال الاتصال" في النوع أو الجنس، لهم مشارفة في بعض أحوالهم على شيء من عالم الغيب، ولهم مشاهد صحيحة في عالم " المثال" لا تنكر عليهم لتحقق حقائقها في الواقع، فهم لذلك لا يستبعدون شيئا مما يحدث به الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم- ومن ذاق عرف، ومن حرم انحراف (رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، ص : 88.).
يندرج ضمن قوله :{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }[ العنكبوت : 69]
فالمجاهدة تؤدي إلى الهداية، لكن معية الله تكون مع المحسنين، والمحسن من يعبد الله كأنه يراه؛ لكون مشاهدته لأسمائه وصفاته ملأت الأكوان فله في كل شيء آية تدل على أنه واحد. ومن هنا يدرك مدى رحمته بخلقه وغضبه عليهم، يدرك عطاءه، كما يدرك انتقامه، يدرك رأفته على خلقه، كما يدرك عزته وجبروته عليهم، فكل أمر من الأمور يحمل صفة أو صفات من صفاته جل وعلا فضلا عن اسم أو أسماء من أسمائه الحسنى وكل خلق من خلقه له فيه شؤون.
يؤدي المحسن واجباته وفرائضه ويخجل أن ينظر إليها. لكون من ُخلق من عجل لا تصدر عنه أفعال حكيمة ومن كان ظلوما جهولا فأنى يدرك لله قدرا عظيما ومن ُخلق ضعيفا أنى يصدر منه التمام والكمال
يقوم بواجب ولا يلوي عليه بل يفر إلى رحمة الله فهو الكفيل بأن يزيد فيها حسنا :
{ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور }[ الشورى : 23]
وخذ ما سبق من هذه المعاني فيما يلي من الآيات البينات من الذكر الحكيم :
{ فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين }[البقرة : 64]
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان إلا قليلا }[النساء : 83]
- ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم كم أحد أبدا [ النور : 21]
من هنا ندرك أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء فما علينا إلا أن ندخل على الله لاستمداد فضله متوسلين بأسمائه الحسنى التالية :
- الله تواب حكيم
- الله رؤوف رحيم
- الله واسع عليم
- الله ذو الفضل العظيم
وخذ هذه الأسماء من مواطنها في النصوص التالية :
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم }[ النور : 10]
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم} [ النور : 20]
{والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[ آل عمران : 73-74]
وحاشا الله أن يخيب من رجاه ، فهو الذي تعهد { قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأنعام : 63] قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام : 64]}
وإذا تعلق الوعد بالظلمات الحسية فكيف بالظلمات المعنوية؟ أليست أيسر وأهون؟؟؟
إنها بخلاصة فلسفة الفتح الرباني تقول بلسان حالها ومقالها :
{ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين} [ الذاريات : 50]
فهل لاح للعقلاء والفلاسفة كيف يمن الله بفضله على من يشاء فهل اهتزت همتهم أو تحركت نخوتهم أو اشتدت غيرتهم ممن سبقوهم بالإيمان ؟
والناس ثلاثة مراتب :
- فمنهم ظالم لنفسه, ومنهم مقتصد, و منهم سابق بالخيرات بإذن الله [ فاطر : 32]
( ربنا اجعلنا من السابقين بالخيرات بإذنك إنك أنت الله الواسع العليم تختص برحمتك من تشاء، وأنت الله ذو الفضل العظيم).
{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين ءأمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما }[ النساء : 174-175]
برهان يجلي حقيقته نور مبين، أدلة ساطعة في الآفاق والأنفس تقول بلسان الحال :
{ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني مادا خلقوا من الأرض ؟ أم لهم شرك في السماوات ؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا أو آثرة من علم إن كنتم صادقين ؟} [ الأحقاف:4]
آيات كونية في الآفاق والأنفس وآيات قرآنية تكشف عن شر أختها الكونية. تأتي الآيات القرآنية نورا ساطعا كاشفا للغز الحياة وما استودع الله فيها من أسرار.
تظافر الآيات الكونية مع الآيات القرآنية، يذهب بزيغ الأبصار واختلال العقول والشكوك في النقول وعرض القلوب بهوى النفوس برهان ساطع قاطع ونور مبين يقيما حجة الله على خلقه : ينظر المرء إلى ما يخرج منه من مني،فلا يدرك له معنى، وينظر إلى الزرع ونشوئه، وإلى الماء وعذوبته وإلى النار وشجرها، آيات بينات واضحات ويأتي نور الله ببيانه :
{ - أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ؟...
- أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ؟ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون...
- أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أو نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ؟ ...
- أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ؟
- نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم }[ الواقعة : 58-74]
نور مبين يكشف الأسرار, ويوقفك على عظمة الجبار, ويدعوك للتسبيح باسم ربك العظيم اعترافا منك وإجلالا له وتعظي
حينما يدور الحوار بين الأستاذ و التلميذ، يحاول الأول إرشاد الثاني لأمور تغيب عنه، لكن للثاني طيش وجرأة قد يسدان منافذ العقل ويحاول الأستاذ في صبر وأناة مغيرا الأسلوب لعل مدارك الطفل تنفتح، فيدرك خطأه ويستحيي ويسلس الانقياد لأستاذه.
وهكذا يأخذنا القرآن من جهلنا وطيشنا وهو يدل ويرشد لعل قلوبنا تستفيق وإلى باب ربها تنساق ذليلة طيعة بعد أن طاش بها العقل يمينا ويسارا.
وما جاء به القرآن الكريم من دعاء في سورة الفاتحة : { اهدنا صراطا المستقيم, صراط الذين أنعمت عليهم, غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [ الفاتحة : 6-7]
يستفتح به كتابه، تعليما لنا وإرشادا على العكوف بباب المولى الذي بيده الخلق والأمر ومباشرة بعد الدعاء تأتي الإجابة :
{ ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}[البقرة : 1-5]
إنه كتاب هداية خاصة للمتقين، أما الصادون في سبيل الله فقد صدهم ما يعبدون من دون الله عن إدراك الحقائق القرآنية والكونية وما بينها من اتساق وتطابق يقتضي وحدة الخالق ووحدة الخليقة.
واستلهاما لتوجيهات القرآن بدأ الحوار مع الفضلاء ، بالتوجيه إلى الله الخالق ليلهم ويسدد لعله سبيل
يطوي المراحل طيا، ويرشد للخالق مباشرة، والله أفرح بتوبة عبده من هذا بناقته(الحديث أخرجه الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود كتاب الدعوات باب التوبة قال قتادة توبة نصوحا الصادقة : الناصحة, وأخرجه الإمام مسلم عند عبد الله بم مسعود بنحوه كتاب التوبة باب في الحض على التوبة والفرح بما),
كماجاء في الحديث.
واستلهاما لإعجاز القرآن بين الخلق والأمر يأتي دور الفضلاء العقلاء ليقفوا على حقائق تسبح بحمد ربها وتدفع المشاهد ليندرج معها مسبحا بحمد ربه :
يقول عز من قائل في استفسار استنكاري موجه للأنس والجن :
- أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم. فبأي حديث بعده يؤمنون ؟[الأعراف : 185]
إنها دعوة للنظر واستعمال الفكر في ملكوت السماوات والأرض ليضع المرء يده على وحدة الخالق الذي بيده الأمر كله.
وحتى لا نتيه في غلس الفكر ونبعد عن النبع الرباني نسترشد التوجيهات الربانية في منهجنا ليكون سيرنا حثيثا ونقتصد في سيرنا والله الهادي إلى سواء السبيل وبه نستعين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كان الغرب إلى بداية القرن العشرين واثقا بعقلانيته, منتشيا بتجربته وقوته, حيث سمع العقل التنوير( ديكارت, اسبينوزا, كانط, هيكل) الذي تولدت عنه الفلسفة الوضعية, التي كانت تبشر بعصر العلم بعد أن طوت البشرية مرحلتي اللاهوت والفلسفة, سمح هذا العقل بزرع وهم كبير في أوربا وهو أنها قد خلفت وراءها مرة واحدة وإلى الأبد كل همجية وجهل وروحية القرون الوسطى, وإذا بأوربا تتحول فجأة إلى مسرح لأبشع الديكتاتوريات, وتصبح أوربا المتباهية بنفسها فاشية ونازية واستعمارية مرعبة وتندلع حربان عالميتان. وهنا راح فلاسفتها يتساءلون كيف أمكن للعقل أن ينتج اللاعقل وكيف أمكن للتنوير أن يرتد إلى جاهلية ؟( مجلة الوعي المعاصر, عدد 6-7, السنة الثانية, 1422, مقال لقاسم شعيب تحت عنوان : العقل الإسلامي هموم التحرير والتنوير, ص : 173.)
هكذا اهتدى الغربيون لتحرير العقل من خرافات الكنيسة ومن ظلمها وظلامها, وهكذا أيضا أدركوا تناقض نتائج ما حصده العقل المجرد.
وخاض المسلمون صراعات طائفية بين مختلف المدارس الكلامية من معتزلة وشيعة وأشعريه حول تحسين العقل وتقبيحه, وحسمت الأشعرية المعركة حيث شاطرها الرأي أغلبية أهل السنة.
جدال فكري أرضي هنا وهناك حول العقل وكيفية توظيفه لمصلحة الإنسان.
غريب أمر هذا العقل, أينطلق في تفكيره من أنانيته ؟ أم بفكر اجتماعي ؟ ثم أيكون فكره ارتجاليا أم شاملا لكل جوانب المشكل ؟ أيترك شأنه لكل من هب ودب أم لابد من طبقة أرستقراطية التفكير ؟ أيفكر بالفكر التليد أم بالفكر الحداثي؟ و ما عساه أن يقدم عند تعارض التفكير الإداري والسياسي والحزبي والقضائي ، والفومي والوطني؟ و و...؟
إنها جولات للعقل في حقول المعرفة, لكن أيا منها أجدى وأنفع وأيها أضل وأضر ؟ هل مرد ذلك إلى العقل المجرد ؟ أيكشف العقل مساتير الغيب واختراق حجب ما وراء المادة والصعود إلى الملأ الأعلى ؟
ثم أنحتكم إلى عقلي أنا – وهو حسب رأيي – ناضج ؟ أيرضى بعقلي حكما ؟
أنرتضي إمام الشيعة وهو معصوم – بحسب نظرهم – أم برأي البابا وهو معصوم على الأقل في أمور الدين ؟ ترى أترضى بآرائهم اليهود ؟ أو البوذيون أو السنيون من المسلمين ؟
إنه نموذج لمتاهات العقل المجرد ... فكيف تتخذ العقلانية مذهبا للحياة وأساسا للفكر ؟
ورحم الله إمامنا الرازي فإنه يقول في عجز العقل :
نهاية إقدام العقول عقال *** وأكثر سعي العالمين ضلال
َ ولم نستند من بحثنا طول عمرنا ***سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
(المنفذ من الضلال لعبد الحليم محمود, ص : 334 وما بعدها.)
وهنا يجدر القول هل أدركنا لماذا أنار الله لنا بنبراس الخلق والأمر : { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}الأعراف : 54] خلق الله جل جلاله الخلق وأمر ونهي فمن اتبع هداه فلا خوف عليه ولا يحزن ومن نأى عن أمره ضل ضلاله بعيدا.
لكن مهلا، هل وردت كلمة العقل في القرآن أو اعتنى القرآن بالعقل أصلا؟
]مرادفات العقل في القرآن
لئن لم يأت ذكر كلمة العقل في القرآن الكريم بصريح اللفظ رغم وجود مشتقاتها فقد جاءت مرادفات للعقل منها:
1- الحلم :
جاءت في قوله تعالى :
{ أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون }[ الطور : 32]
و مجيئ اللفظ " أحلامهم" في مقابل قوم طاغون دل على أن الحلم هو الفهم والأناة والعلم المبني على أسس, والطغيان ما يناقض ذلك, فالكفار لم يحكموا عقولهم إنما حكموا عواطفهم وأهواءهم (مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة لمحمد علي الجوزوي, دار العلم للملايين, بيروت, ط. 2, 1973, ص : 167.)
2- النهي :
{كلوا وارعوا أنعامكم، إن في ذلك لآيات لأولي النهى } [ طه : 54]
{ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى}[ طه : 128]
ومعناه ذوي العقول الصحيحة.
ا3-لحجر :
{والفجر وليال عشر والشفع والوتر, والليل إذا يسر, هل في ذلك قسم لذي حجر ؟} [ الفجر : 1-5]
وقد سئل ابن عباس عن قوله تعالى قسم لذي حجر فقال يعني الرجل ذا النهى والعقل( لحارث المحاسبي, العقل وفهم القرآن, ص : 121).
4- القلب :
- أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها [ الحج : 46]
5- الفؤاد :
{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }[ الإسراء : 36]
" والعقل عقلان : ما نسميه عقلا لغة وتعريفا للملكة المشتركة بين البشر ليس هو مسمى العقل في القرآن.
العقل في القرآن فعل حاسة باطنة في الإنسان تسمى القلب. العقل تلق لحقائق الوحي بواسطة القلب.
والفقه في القرآن علم ينشأ في باطن الإنسان في قلبه ( محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى لعبد السلام ياسين, ص)
6- اللب :
{ ولكم في القصاص حياة يأولي الألباب لعلكم تتقون }[ البقرة : 179]
واللب العقل الذي تزكى.
الربانيون والعقل :
" إن تجارب الصالحين، مند عصور متطاولة، دلت على أن تزكية النفس وتطهيرها والالتجاء إلى الله، والتقرب إليه كل ذلك يسمو بالإنسان إلى عالم من الروحانية تستشرف فيه النفس إلى الملأ الأعلى، فتفيض عليها منه نفحات وإلهامات ومعرفة لا تتأتى لذوي النفوس المادية الذين شغلوا بالدنيا عن الدين وبالمادة عن الله...
فالشخص الذي وصل إلى هذه المعرفة لا يهمه بل لا يعنيه - في قليل ولا كثير - أعمالهم، مما يخالف شرائع أنبيائهم, وطهارة فطرهم، مما ينكره العقل الصحيح أو يمجه الذوق السليم، وانتفاعهم بباعث من الحق الناطق في سرائرهم، المتلألئ في بصائرهم، إلى دعوة من يحف بهم إلى ما فيه خير العامة وترويح قلوب الخاصة...
إنه نظام الصوفية المختارة، إنه نظام هؤلاء الذين وهبهم الله حسا مرهفا وذكاء حادا وفطرة روحانية وصفاء يكاد يقرب من صفاء " الملائكة" وطبيعة تكاد تكون مخلوقة من النور.
وتزكية النفس طريق صعب المرتقى وتركيز الانتباه في الله هو مقصود "بالذكر" : وعر المسالك - عند الصوفية- وإذا نظرنا إلى الشروط التي يجب توفرها في السالك علمنا أن النفوس الجديرة بسلوك هذا الطريق من الندرة بمكان".
أما سبيل التربية القرآنية فلا شيء أيسر منه في تزكية الأنفس، فشتان بين سبيل صعب المراس، وبين سبيل يسره الله تيسيرا.
ولا حرج، نفصح العقل لدى الجنيد رحمه الله. والخلافات الجزئية لا تفسد للود قضية.(43)
العقل عند الجنيد :
" قيل لأبي القاسم الجنيد رحمه الله ورضي الله عنه : متى يكون الرجل موصوفا بالعقل ؟ قال إذا : كان للأمور مميزا و لها متصفحا، وعما يوجبه عليه العلم باحثا ويلتمس بذلك طلب الذي هو أولى ليعمل به، ويؤثره على سواه، فإذا كان كذلك فمن صفة العقلاء ركوب الفضل في كل أحواله بعد إحكام العلم بما فرض عليه. وليس من صفة العقلاء إغفال النظر لما هو أحق وأولى، ولا من صفتهم الرضى بالنقص والتقصير، فمن كانت هذه صفته بعد إحكامه لما يجب عليه من عمله ترك التشاغل بما يزول, وترك العمل بما يفنى وينقضي، وذلك وظيفة كل من سورت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل، ويسير حائل، يصده التشاغل به والعمل به عن أمور الآخرة التي يدوم نعيمها ونفعها ويتأبد سرورها، ويتصل بقاؤها، وذلك أن الدين يدوم نفعه، ويبقى على العامل حظه، وما سوى ذلك زائل مردود، مفارق موروث يخاف مع تركه سوء العاقبة فيه، ومحاسبة الله عليه، وكذلك من صفة العاقل تصفحه للأمور بعقله، والأخذ منها بأوفره، قال تعالى :
{ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب }[ الزمر : 18]
[SIZE=4] وذوو الألباب هم ذوو العقول، وإنما وقع الثناء عليهم بما وصفهم الله به للأخذ بأحسن الأمور عند استماعها وأحسن الأمور هو أفضلها وأبقاها على أهلها نفعا في العاجل والآجل وإلى ذلك ندب الله من عقل في كتابه.(الفتوحات الإلهية لأحمد بن محمد بن عجيبة الحسني تحقيق عبد الرحمان حسن محمود, ص : 290.)
ما كانوا ليحوزوا فضيلة ثناء ربهم عليهم وبشراهم لولا حياءهم من ربهم ومراقبتهم له، فكانوا معه بالطاعة والعبودية شكرا وكان معهم بالنصرة والهداية والتوفيق والإلهام لأقوم السبل، فأنى لأهل العقل" المكوَّن" أو "المستنير" بالعلوم والمعرفة أن يضاهيهم فضلا عن غيرهم من العقول التائهة ؟
و ما أحسن ما وصف الله به أهل العقل المكون وغيرهمYباعترافهم لما أدركوا الخسران المبين :
{ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }[الملك : 10]
" قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق(تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ج.1/120,دار النشر مكتبة الرياض.)
علاقة الدعاء بكشف حجب الغيب :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [ الأنفال : 29]
وضعت العنوان أعلاه لأنطلق في تحرير المضمون وكأنه يستوقفني مستوقف :
قبل كل شيء هل من دليل عقلي أو نقلي على ما سبق من إرشاد في الصفحات السابقة بكون الدعاء كفيلا للمرء لإدراك عالم الغيب ؟
- لما كان الحوار مع الفضلاء، وعلما بأن الله أفرح برجعة عبده له فلا غرو يستجيب دعاءه، ومن هنا يدخل المرء من باب تكريم الله لعباده ويذيقهم فضله.
[SIZE=4][B] [size=4] ثم أنه لما أناط الله فضله بمن شاء، لم يكن عطاؤه جزاء بل فضلا من ربك واختصاصا لمن شاء بما شاء Y. وما ألهم الله العبد الدعاء إلا كان ممن خصه بفضله وفيضه وعطائه. ومن هنا قول القائل " من دلك على الله فقد نصحك، ومن دلك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الدنيا فقد غشك
{ والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[ آل عمران : 73-74]
أما قول القائل :
" أما أرباب النفوس العالية والعقول السامية، من العرفاء، ممن لم تدن مراتبهم من مراتب الأنبياء، ولكنهم رضوا أن يكونوا لهم أولياء، وعلى شرعهم ودعوتهم أمناء، فكثير منهم نال حظه من الأنس بما يقارب تلك الحال "حال الاتصال" في النوع أو الجنس، لهم مشارفة في بعض أحوالهم على شيء من عالم الغيب، ولهم مشاهد صحيحة في عالم " المثال" لا تنكر عليهم لتحقق حقائقها في الواقع، فهم لذلك لا يستبعدون شيئا مما يحدث به الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم- ومن ذاق عرف، ومن حرم انحراف (رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، ص : 88.).
يندرج ضمن قوله :{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }[ العنكبوت : 69]
فالمجاهدة تؤدي إلى الهداية، لكن معية الله تكون مع المحسنين، والمحسن من يعبد الله كأنه يراه؛ لكون مشاهدته لأسمائه وصفاته ملأت الأكوان فله في كل شيء آية تدل على أنه واحد. ومن هنا يدرك مدى رحمته بخلقه وغضبه عليهم، يدرك عطاءه، كما يدرك انتقامه، يدرك رأفته على خلقه، كما يدرك عزته وجبروته عليهم، فكل أمر من الأمور يحمل صفة أو صفات من صفاته جل وعلا فضلا عن اسم أو أسماء من أسمائه الحسنى وكل خلق من خلقه له فيه شؤون.
يؤدي المحسن واجباته وفرائضه ويخجل أن ينظر إليها. لكون من ُخلق من عجل لا تصدر عنه أفعال حكيمة ومن كان ظلوما جهولا فأنى يدرك لله قدرا عظيما ومن ُخلق ضعيفا أنى يصدر منه التمام والكمال
يقوم بواجب ولا يلوي عليه بل يفر إلى رحمة الله فهو الكفيل بأن يزيد فيها حسنا :
{ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور }[ الشورى : 23]
وخذ ما سبق من هذه المعاني فيما يلي من الآيات البينات من الذكر الحكيم :
{ فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين }[البقرة : 64]
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان إلا قليلا }[النساء : 83]
- ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم كم أحد أبدا [ النور : 21]
من هنا ندرك أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء فما علينا إلا أن ندخل على الله لاستمداد فضله متوسلين بأسمائه الحسنى التالية :
- الله تواب حكيم
- الله رؤوف رحيم
- الله واسع عليم
- الله ذو الفضل العظيم
وخذ هذه الأسماء من مواطنها في النصوص التالية :
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم }[ النور : 10]
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم} [ النور : 20]
{والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[ آل عمران : 73-74]
وحاشا الله أن يخيب من رجاه ، فهو الذي تعهد { قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأنعام : 63] قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام : 64]}
وإذا تعلق الوعد بالظلمات الحسية فكيف بالظلمات المعنوية؟ أليست أيسر وأهون؟؟؟
إنها بخلاصة فلسفة الفتح الرباني تقول بلسان حالها ومقالها :
{ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين} [ الذاريات : 50]
فهل لاح للعقلاء والفلاسفة كيف يمن الله بفضله على من يشاء فهل اهتزت همتهم أو تحركت نخوتهم أو اشتدت غيرتهم ممن سبقوهم بالإيمان ؟
والناس ثلاثة مراتب :
- فمنهم ظالم لنفسه, ومنهم مقتصد, و منهم سابق بالخيرات بإذن الله [ فاطر : 32]
( ربنا اجعلنا من السابقين بالخيرات بإذنك إنك أنت الله الواسع العليم تختص برحمتك من تشاء، وأنت الله ذو الفضل العظيم).
البرهان والنور
{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين ءأمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما }[ النساء : 174-175]
برهان يجلي حقيقته نور مبين، أدلة ساطعة في الآفاق والأنفس تقول بلسان الحال :
{ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني مادا خلقوا من الأرض ؟ أم لهم شرك في السماوات ؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا أو آثرة من علم إن كنتم صادقين ؟} [ الأحقاف:4]
آيات كونية في الآفاق والأنفس وآيات قرآنية تكشف عن شر أختها الكونية. تأتي الآيات القرآنية نورا ساطعا كاشفا للغز الحياة وما استودع الله فيها من أسرار.
تظافر الآيات الكونية مع الآيات القرآنية، يذهب بزيغ الأبصار واختلال العقول والشكوك في النقول وعرض القلوب بهوى النفوس برهان ساطع قاطع ونور مبين يقيما حجة الله على خلقه : ينظر المرء إلى ما يخرج منه من مني،فلا يدرك له معنى، وينظر إلى الزرع ونشوئه، وإلى الماء وعذوبته وإلى النار وشجرها، آيات بينات واضحات ويأتي نور الله ببيانه :
{ - أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ؟...
- أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ؟ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون...
- أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أو نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ؟ ...
- أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ؟
- نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم }[ الواقعة : 58-74]
نور مبين يكشف الأسرار, ويوقفك على عظمة الجبار, ويدعوك للتسبيح باسم ربك العظيم اعترافا منك وإجلالا له وتعظي
النظر العقلي بين الخلق والأمر
حينما يدور الحوار بين الأستاذ و التلميذ، يحاول الأول إرشاد الثاني لأمور تغيب عنه، لكن للثاني طيش وجرأة قد يسدان منافذ العقل ويحاول الأستاذ في صبر وأناة مغيرا الأسلوب لعل مدارك الطفل تنفتح، فيدرك خطأه ويستحيي ويسلس الانقياد لأستاذه.
وهكذا يأخذنا القرآن من جهلنا وطيشنا وهو يدل ويرشد لعل قلوبنا تستفيق وإلى باب ربها تنساق ذليلة طيعة بعد أن طاش بها العقل يمينا ويسارا.
وما جاء به القرآن الكريم من دعاء في سورة الفاتحة : { اهدنا صراطا المستقيم, صراط الذين أنعمت عليهم, غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [ الفاتحة : 6-7]
يستفتح به كتابه، تعليما لنا وإرشادا على العكوف بباب المولى الذي بيده الخلق والأمر ومباشرة بعد الدعاء تأتي الإجابة :
{ ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}[البقرة : 1-5]
إنه كتاب هداية خاصة للمتقين، أما الصادون في سبيل الله فقد صدهم ما يعبدون من دون الله عن إدراك الحقائق القرآنية والكونية وما بينها من اتساق وتطابق يقتضي وحدة الخالق ووحدة الخليقة.
واستلهاما لتوجيهات القرآن بدأ الحوار مع الفضلاء ، بالتوجيه إلى الله الخالق ليلهم ويسدد لعله سبيل
يطوي المراحل طيا، ويرشد للخالق مباشرة، والله أفرح بتوبة عبده من هذا بناقته(الحديث أخرجه الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود كتاب الدعوات باب التوبة قال قتادة توبة نصوحا الصادقة : الناصحة, وأخرجه الإمام مسلم عند عبد الله بم مسعود بنحوه كتاب التوبة باب في الحض على التوبة والفرح بما),
كماجاء في الحديث.
واستلهاما لإعجاز القرآن بين الخلق والأمر يأتي دور الفضلاء العقلاء ليقفوا على حقائق تسبح بحمد ربها وتدفع المشاهد ليندرج معها مسبحا بحمد ربه :
يقول عز من قائل في استفسار استنكاري موجه للأنس والجن :
- أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم. فبأي حديث بعده يؤمنون ؟[الأعراف : 185]
إنها دعوة للنظر واستعمال الفكر في ملكوت السماوات والأرض ليضع المرء يده على وحدة الخالق الذي بيده الأمر كله.
وحتى لا نتيه في غلس الفكر ونبعد عن النبع الرباني نسترشد التوجيهات الربانية في منهجنا ليكون سيرنا حثيثا ونقتصد في سيرنا والله الهادي إلى سواء السبيل وبه نستعين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تعليق