الدكتور كريم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد العبدالعزيز العرفج
    عضو الملتقى
    • 28-08-2008
    • 31

    الدكتور كريم

    الدكتور كريم

    محمد العرفج

    يسير بدون هدف .. كثير الالتفات .. يغيب في تفكيرٍ عميق حدّ أن لا يعي الواقع .. لا يرد السلام أو يلقيه .. متجهم الملامح.. كئيب الطلعة .. ومطرقاً رأسه دلالة عمق الحزن ..

    كم كان سابقاً يمشي بثقة ، والكل يتنحى عنه احتراماً وهيبة .. أما الآن فإنه بات يسير في شوارع لم يكن يعرفها ، ويزور أماكن لا يعرفه فيها أحد .. ولذلك وبسبب إطراقاته الطويلة .. ينسى نفسه فيمشي ويمشي ويدخل حارات ويتجاوز شوارع علّه يخفف كآبته ، لكنه لا يفيق من التفكير إلا على اصطدامه برجل يشتم ، أو شاب يصرخ ، أو طفلاً يظنه مجنوناً نتيجة حركاته الغريبة وتصرفاته المريبة مثل تحدثه مع نفسه ، فيرميه بالأحجار .

    قرأ القرآن هذا الصباح بعد أن صلى الفجر مع الجماعة ، وبعد أن غادر المسجد ذارعاً الشوارع كعادته أنشد الشعر .. حتى الأغاني المحببة إليه شدا بها .

    استرجع عدداً من الحكم التي حفظها عن البلاء والصبر.. لا فائدة جناها .. كل شيء له سبب ، وكل شيء مقدّر .

    تراءى له أن حياته أصبحت خالية من الجمال والبهجة .. بل أصبحت لا معنى لها .. كل شيء جميل في الحياة أصبح مكروهاً لديه .

    الأفكار مثل المطارق تطرق داخل رأسه ، وأثناء ذلك قال بأسى:

    - يا إلهي سوف تموت أمي!

    رأى أن أيامه تسوء أكثر ، والحظوظ تتعثر أكثر وأكثر أراد الانتحار للخروج من هذه الأزمة ، لكن لم يمنعه ذلك سوى معرفته بدخول المنتحر للنار ، حيث أفتاه بذلك أحد رجال الدين .. حدث نفسه مرة أخرى:

    - لو أنني لم أقرض الدكتور سعد كل ما أملك لعلاج والدته لما وصلت لهذه الحالة من التعاسة .. إن والدتي أهم من والدة الدكتور سعد !

    توقف ليسند ظهره إلى جدارٍ قريب .. جلس وضم فخذيه إلى صدره وهو يتمتم:

    - لقد فات الأوان الآن .. ها أنا ذا أعضّ أطراف الندم .. فأنا المتسبب والمذنب في كل ما حدث!

    ثم غمس وجهه بين ركبتيه ، وانهار في ضجيجٍ مكتومٍ من البكاء .

    بعد أن أفرغ شيئاً من الهم مع دموعه التي بللت قليلاً بنطلونه وقميصه ، نهض واستمر يمشي ويمشي ..

    هداه سيره فجأة إلى أكبر جامع في المدينة حين حان للتو وقت صلاة الجمعة .. دخل المسجد ، ووصل الصف الأول ، وقريب من الإمام .. صلى الصلاة معهم .


    * * * *


    انتهت الصلاة ، ولم يشعر بنفسه إلا وهو قد قام مستقبلاً جمهور المصلين الغفير الذين غص بهم الجامع .. رفع بصره عالياً .. فشاهد بقية الجمهور في الطابق الثاني يحملقون فيه !

    انخفضت أصوات المهللين والمسبحين شيئاً فشيئاً ليستمعوا إليه ، حتى عم الهدوء أرجاء الجامع .. بكى متألماً حتى تأثر الناس لبكائه .. عرفه عدداً قليلاً منهم وأشاروا إليه:

    - إنه الدكتور كريم!

    كان الدكتور كريم مثالاً للأستاذ الجامعي الناجح الذي كافح طوال سنوات عمره الذي مضى ، وذلك في تخريج عددٍ من دفعات الكلية ، التي غادرت وهي تحب البحث العلمي ، وكيفية استخدام العلم لتغذية العقل وإعمال الذهن ، ومع ذلك .. فتلك السنين التي عمل فيها الدكتور كريم لم تمكنه من أن يتملك بيتاً مثل بقية زملاءه ولا سيارة أيضاً !

    تذكر أنه كان يحاضر الطلاب طوال ثلاثٍ وعشرين عاماً قضاها في الجامعة ، وأنه عدّ مثلاً للكفاح في إيصال الرسالة العلمية حتى لقّب بأبي الكفاح ، وكيف أجبرته حاله إلى أن يقف هذه المرة ذليلاً منكسراً ، مثل حال من وقف يطلب الإحسان!

    تأثر الناس لوقوفه ، وغصّت العبرة من يعرفوه ، نظراً للموقف الحزين والمؤثر ، وتساءلوا في أعماق أنفسهم :

    - ما الذي أوصل هذا الدكتور المحترم لهذا الوضع من الحال؟!

    لكنهم ما لبثوا في سؤال أنفسهم حتى صاح الدكتور كريم بأعلى صوته:

    - أيها الناس!

    ثم سكت .. الدمع يتقاطر من خدّيه النديّين ، وعبراته تمنعه من الكلام .. لكنه تحامل على نفسه في تلك اللحظة الحرجة التي نادى بها جمهور المصليّن الذين أنصتوا له باهتمام شديد ، ليقول:

    - أيها الناس .. أنا محتاجٌ دماً لوالدتي كيلا تموت!

    هبّوا جموع المصلّين لنجدت الدكتور كريم سائليه عن فصيلة دم أمه .. أخبرهم بفصيلتها ، وهي من النوع النادر ، لذلك صُدم حين تبيّن أنه لم يكن في هذا الجامع كله من يحمل الفصيلة المرادة .

    خرج منزلاً رأسه متحسرا من باب المسجد ، وقف يبحث عن نعليه فلم يجدهما ، سار حافياً ليعود لعادته اليومية بعد أن حلّت عليه ماساته الكبرى .

    ساقته قدماه إلى والدته التي وجدها أكثر شحوباً واصفراراً من قبل .. فجلس – ودمعاته تسابقه – ليقبّل يديها النحيلتين اللتين برزت فيهما العروق .. مسحت والدته على رأسه بحنان وقالت له وهي تبتسم ابتسامة احتضار :
    - لقد عملت جاهداً ما بوسعك يا ولدي .. أشهد الله أنني راضية عنك كل الرضا ..

    مكث الدكتور كريم ذلك اليوم وهو يبكي بكاءً شديداً .. أجل فلقد ماتت والدته!


    * * * *


    في أول صباح هادئ بعد أربعين يوماً على حادثة الوفاة جلس الدكتور كريم على كرسي مكتبه بالكليّة ..استغرق حينها في تفكيرٍ عميق ، مقلباً بصره ، وهو يفكّر ويفكّر .

    كانت وفاة والدته على الرغم من فاجعته وتأثره الشديد بها ، إلا أنها خفّفت عنه ما كان يعانيه من اكتئاب ، وهو يتنفس معها كل ثانية عناء المرض وعذابها وبؤسها ..

    لقد جعلته الوفاة يعيش حالة الإيمان بقدر الله في حلول أجلها ، كما جعلته يعيش على ذكرياتها المحببة إليه ، بعدما كان قد عاش حالة تأنيب الضمير أياماً وليالي متتابعة لم يهنأ بها ، ولم يذق فيها لذات أطايب الحياة الجميلة .

    وقع بصره أثناء حملقته هنا ، وتفكيره هناك ، على شيء ما أيقظه من سبات الهواجس .. إذ شاهد مظروفاً من إدارة الجامعة التي كان قد تقدم إليها قبل أشهر برسالةٍ يطلب فيها صرف تذاكر سفر له ولوالدته لعلاجها خارج البلاد ..

    تناول المظروف الذي كان موضوعاً على منضدته في المكتب ، ورأى أنه مؤرخاً بتاريخ أسبوع مضى ..

    فتح المظروف فوجد فيه تذكرتي سفر مسجلتين باسمه واسم والدته المتوفاة للذهاب إلى المملكة الأردنية الهاشمية للعلاج والعودة منها !


    * * * *
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد العبدالعزيز العرفج; الساعة 06-12-2009, 22:19.
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    #2
    سرد مشوق
    ووصف محكم للدكتور كريم وهو يصارع القدر

    أستاذ محمد عبد العزيز
    أحسنت
    فوزي بيترو

    تعليق

    • محمد العبدالعزيز العرفج
      عضو الملتقى
      • 28-08-2008
      • 31

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة فوزي سليم بيترو مشاهدة المشاركة
      سرد مشوق
      ووصف محكم للدكتور كريم وهو يصارع القدر

      أستاذ محمد عبد العزيز
      أحسنت
      فوزي بيترو
      أهلاً دكتور فوزي
      شكرا على اطراءك
      سعدت كثيراً بمرورك الأنيق

      تعليق

      • مصطفى الصالح
        لمسة شفق
        • 08-12-2009
        • 6443

        #4
        بعطبك العافية

        اعجبتني كثيرا

        سرد سلس متواصل غير ممل

        ومعان مترابطة

        وفكرة جيدة

        تحياتي
        [align=center] اللهم صل على محمد أفضل الخلق وعلى آله وصحبه أجمعين

        ستون عاماً ومابكم خجــلٌ**الموت فينا وفيكم الفزعُ
        لستم بأكفائنا لنكرهكم **وفي عَداء الوضيع مايضعُ

        رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ

        حديث الشمس
        مصطفى الصالح[/align]

        تعليق

        • محمد العبدالعزيز العرفج
          عضو الملتقى
          • 28-08-2008
          • 31

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة مصطفى الصالح مشاهدة المشاركة
          بعطبك العافية

          اعجبتني كثيرا

          سرد سلس متواصل غير ممل

          ومعان مترابطة

          وفكرة جيدة

          تحياتي
          صديقي مصطفى الصالح
          ولك الصحة دوماً

          أنا ممتن جداً لإعجابك

          واطراءك المتواصل

          شكرا لك

          تعليق

          يعمل...
          X