[align=center]
[align=center] إشكالية قهر الاغتراب (في قصائد الشعراء)
محاولة لكشف المسكوت عنه[/align]
الغربة .... وشعور القهر الذي يصاحبها وإحساس الألم الذي يعانيه الإنسان سواء بين أهله وعشيرته أو بين الناس جميعا ...غربة النفس والقلب والروح .... عبر عنها الشعراء تعبيرافنيا صادقا و راقيا على مر العصور.وهم في هذا يختلفون عن سائر البشر الذين قد لا يستطيعون التعبير عما يجيش في صدورهم وتلك هي نفحة الفن والأدب الذي يرسم المشاعر بالكلمات ويصور للناس ما لم يقدروا عليه ... فيخفف عن المبدع كما يخفف عن قرائه أضا .ولقد اختلف الشعراء في تصويرهم وحلهم لإشكالية الاغتراب عم بعضهم البعض ، وفقا لثقافة كل شاعر وظروفه الموضوعية والنفسية والاجتماعية.
ولقد اخترت عدة قصائد من أزمنة متعددة بين الحديث والمعاصر والأكثر حدائة للشعراء
أبوالقاسم الشابي
ومحمود حسن إسماعيل ..
ومها العتيبي
ود. جمال مرسي
..
فبين الرومانسية الثورية للشابي ، والصوفية المحلقة لمحمود حسن إسماعيل ، وموقف المرأة العربية في مجتمع محافظ ، وتجربة جمال مرسي كشاعر رفيق لي على الدرب ، اتضحت الفروق وتنوعت الحلول ،و برزت الأسباب الموضوعية التي يركن إليها كل منهم في قهره لإشكالية الاغتراب
فمنهم من رأي في الهروب إلى الطبيعة ملاذا من شرور البشر ، ومنهم من وجد في نفسه الرغبة في أن يكون الطبيعة ذاتها ، ومنهم من اكتفى بالشكوى والعويل وإن كان قد وصف تساؤله وصوره تصوريا فنيا راقياومنهم من اتكأ على الإيمان بالقضاء والقدر.
فتعالوا نسافر في رحلة قد تمتد طوال سبعين سنة منذ الشابي حتى الآن[/align].
[align=center]ترانيم اليأس عند الشابي[/align]
أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً فأهوي على الجذوعِ بفأسي
ليتني كنتُ كالسُّيولِ إِذا سالتْ تَهُدُّ القبورَ رمساً برمسِ
ليتني كنتُ كالرِّياحِ فأطوي كلَّ مَا يخنقُ الزُّهُورَ بنحسي
ليتني كنتُ كالشِّتاءِ أُغَشِّي كلّ مَا أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصيرِ إنْ ضجَّتْ فأدعوكَ للحياةِ بنبسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصير لكن أَنْتَ حيٌّ يقضي الحَيَاة برمسِ
أَنْتَ روحٌ غَبِيَّةٌ تكره النُّور وتقضي الدُّهُور في ليل مَلْسِ
فهو يفر للي الغاب مبتعدا عن هذا الشعب الذي لا يعرف معنى لكرامة ..
يا لها مِنْ معيشةٍ في صميمِ الغابِ تُضْحي بَيْنَ الطُّيورِ وتُمْسي
يا لها مِنْ معيشةٍ لم تُدَنّسْهَا نفوسُ الوَرَى بخُبْثٍ ورِجْسِ
يا لها مِنْ معيشةٍ هيَ في الكونِ حياةٌ غريبةٌ ذاتُ قُدْسِ
( من قصيدة : أيها الشعب ليتني كنت حطابا)
ويستمر هروبه
لو كانَ هذا الكونُ في قبضتي أَلقيْتُهُ في النَّارِ نارِ الجحيـمْ
مَا هذه الدُّنيا وهـذا الـوَرَى وذلكَ الأُفْقُ وتِلْـكَ النُّجُـومْ
النَّارُ أَوْلـى بعبيـدِ الأَسـى ومسرحِ الموتِ وعشِّ الهمومْ
يا أَيُّها الماضي الَّذي قَدْ قَضَى وضمَّهُ الموتُ وليـلُ الأَبَـدْ
يا حاضِرَ النَّاس الَّذي لم يَزُلْ يا أَيُّها الآتي الَّذي لـم يَلِـدْ
سَخَـافـةٌ دُنيـاكُـمُ هــذه تائهةٌ فـي ظلمـةٍ لا تُحَـدْ
( من قصيدة لو كان هذا الكون في قبضتي)
الغاب
العالم الحلم أو لعله اليوتوبيا
( يا أيها الغاب)
يا أَيُّهـا الغـابُ المُنَـمْ مَقُ بالأَشعَّـةِ والـوردْ
يا أَيُّهـا النُّـورُ النَّقِـيٌّ وأيُّهـا الفجـرُ البعيـدْ
أين اختفيتَ وما الَّـذي أَقْصاكَ عن هذا الوُجُودْ
آهٍ لقـدْ كانـتْ حَياتـي فيـكَ حالمـةً تَمِـيـدْ
بَيْنَ الخَمائِلِ والجَـداوِلِ والتَّـرنُّـمِ والنَّشـيـدْ
تُصغي لنجواكَ الجميلَـةِ وهـي أُغنِيَـةُ الخٌلـودْ
وربما كان يأس الشابي اجتماعيا يعود إلى يأسه من شفاء علته في القلب والتي لونت معظم بلكل قصائده بالسواد ، مما حدا به إلى أن يسب الشعب ويدمغه بالموات ويهرب مهه إلى الغابة ، وهو من هو؟ الشابي الذي قال في بداياته
إذا الشعب يوما أرادالحياة*****فلابد أن يسجيب القدر.
لكن ظروفه الصحية قد صبغت قصيده باليأس والتشاؤم.وهو هنا هارب نحو الطبيعة يأخذ منها الدفء والصدق والوفاء والملاذ. والسكن المادي أيضا.
[align=center]وها هو محمود حسن إسماعيل يعبر عن قهره واغترابه بصورة أخرىويتمنى أن يكون ماذا؟ [/align]
ليتني كنت صلاة
في كهوف الناسكينا
أتلاشى في طريق الله سوقا وحنينا
ليتني كنت غناء
تائها بين الصحاري
هزني طير غريب
فوق ركبان حيارى
وعلى الرغم من غضبه وقهره لم تكن رغبته هروبا ولا يأسا بقدر ما هي نقلة نوعية ليكون أكثر فائدة لغيره من المخلوقات
ليتنى كنت شعاعا
في ليالي الحائرينا
أسكب السلوان للدمع وأغتال الأنينا
هنا وظف الشاعر قهره وكبته توظيفا كونيا عاما وخرج من بؤرة ذاته إلى الكون كله وإن كانت هناك نبرتان مختلفتان تراوحان بين البحث عن الحرية والبحث عن دور ظلتا تتجاذبان القصيدة في رأيي إلى موضوعين مختلفين .الحرية أم البحث عن دور؟
.
ليتني كنت سكونا
خاشعا بين الجبال
تتلاقى في آيات وجودي بالزوال
ليتني كنت غدا لا
تعلم الأقدار سره
أو نشيدا ضن شادي
الغيب أن يعزف نبره
ليتنى كنت على لُج البحار الخضر زورق
كيفما شاءت بي الريح على الأمواج تخفق
ثم يعود من جديد ليكون خادما للبشر معطيا إياهم نفسه
في عطاء لا ينتظر الأجر
ليتنى كنت عصا في
كفٍ أعمى لايراها
هي تهديه ولكن
من إلى النور هداها
ليتني كنت غراما
إنه هنا ربما يفر من دور ولكنه أيضا يبحث عن دور آخر وواقع آخر يمكنه فيه من أن يكون عونا على أحزان البشر.
ومحمود حسن إسماعيل بما نعرفه عنه من رومانسية مفرطة يميل هنا إلى اللغة المتصوفة المحلقة هنا بين خيالات ما فوق الطبيعة ، هذا الخيال الجامح هو الذي رده إلى الطبيعة ليس كهارب ولكن كمندمج فيها بل أحد عناصرها بل كل عناصرها من ريح وشذا وسكون وحركة وناي وطيور تغرد بل إنرغبته وصلت إلى حلمه أن يكون جمادا ( كعصا الأعمى ) تساعد في المسير دون انتظار لشهرة أو أجر.وهو هنا عمم مشكلته الذاتية ومدها كبساط الريح فوق الكون كله ثمنا للخلاص الذي ينشده !!
إنه اغتراب نفسي وروحي شديد الوطأة لذا فترى الشاعريحل الإشكالية بالهروب ، عن طريق الذوبان والحلول في الأشياء.
وغربة أخرى للشاعرة مها العتبيبي في قصيدتها لماذا شحت الأيام
أفتش بين أوراقي
فألقى صمت حرماني
فتشت حولها فلم تجد سوى الشح والصمت ...
فماذا كان جوابها ... لرد إشكالية الاغتراب هنا؟
وأبحر في متاهاتي
وصمتي ضاق بالبحار
وتذوي شمعة خجلى
ولايبقى سوى التذكار.
الإبحار في متاهات الذكرى الخفية التي لا يعلم بها أحد من حولها ...
وهنا تتكرر نبرة الصمت والسكوت
(تمزق شهقتي صمتي)
فهي لا تملك سوى شهقة اعتراض وزفرة حارة تمزق صمتها ولا أراها شهقة ذات صوت بل هي مكتومة لا تسمعها سوى الشاعرة فقط ...
وربما تتعجل النهاية يأسا وقهرا بعد أن لاذت بالحلم فلم يأت بجديد
دقائق عمري الحيرى
تلف وشاحها عجلى
ودمعي يرسم الأحزان
وأزرع أرض أحلامي
ولا أجني سوى الآلام
وأسأل صمتي الدامي
لماذا شحت الأيام
لماذا شحت الأيام
تساؤل يتكرر في القصيدة،
ولكنها وقفت هنا عند دهشة السؤال في لحظة الحرمان والصدمة ورضيت من الغنيمة بالنواح.
ربما هي البيئة الاجتماعية أيضا التي حتمت عليها السكوت وعدم البوح، فألجمت القصيدة أن تمتد إلى شواطيء تعديد الأسباب وتشريح الواقع ، الشاعرة هنا اكتفت بالزفرة والتنهيدة الحارة وكتمت ما تبقى من مشاعر إلى حين.إنه هروب نحو الصمت.وتمنى الرحيل عن الحياة.
[align=center]واغتراب آخر في قصيدة
لوعة الغُرباء
ل د. جمال مرسي[/align]
في ليلةٍ مـن باهـرِ الأضـواءِ
فاحتْ بعطرِ الروضـةِ الغنَّـاءِ
و ترنَّمَتْ فيها عصافيرُ الهـوى
تشدو بلحـنٍ رائـعِ الأصـداءِ
خَفَقَتْ لهُ كلُّ القلوبِ ، تمايَلَـتْ
من سكرةِ الألحانِ و الصهبـاءِ
ربما كان الشاعر في جفل ما أو هي بلاد الغربة الغناء بكل غنى وثراء وحياة جديدة
لكنه القلب ما زال مشدودا إلى ماض لم ينسه أبدا ..
لكنَّ قلبي لم يـزل فـي ذِكـرةٍ
أقصَتْهُ عن نورٍ و عن ضوضاءِ
وهو قلب غريب يشعر بالوحدة والوحشة في عالم متقلب لا يعرف للوفاء معنى
مُتنحياً في ركنِـهِ عـن عالـمٍ
مُتغيِّـرِ الألـوانِ كالحـربـاءِ
وهو في عزلته ليس وحيدا ولا هي عزلة هروبية بقدر ما هو عالم جميل يخلقه بنفسه لننفسه
وهو عالم الشعراء والإبداع :
في عزلةٍ أصبو لها كالعاشقيـنَ
و زُمـرةِ الزُهّـادِ و الشعـراءِ
ورغم هذه العزلة لتي ارتآها لنفسه ورضي بها واستلذ العيش فيها
إلا أنه ناقض نفسه أو هي الوحشة كانت أكب من تحمله فراح يصفها بكل تفاصيلها ... إذن فهو ليس راضيا ولا مرتاحا في عزلته ربما كانت راحة ظاهرية ... لذا فتراه
فنا يصف شروده لحظة تذكره الماضي الحبيب ...
قد كنتُ فيها شارداً ، و كأننـي
عادتْ بيَ السنواتُ ألـفَ وراءِ
يومَ التقينا ها هنـا ، فتسللـتْ
كفّي لتقطِـفَ نجمـةَ الإمسـاءِ
و تداعب البدرَ المنيرَ فتصطلي
بالنـارِ مثـل فراشـةٍ حمقـاءِ
أو تمسح الدمعَ الذي أَهْرَقْتِـهِ
فوقَ الخدودِ يتيهُ فـي خُيـلاءِ
إلى أن يعترف
في عزلتي إني هنـا محبوبتـي
لا زلتُ أشكو لوعـةَ الغُرَبـاءِ
متسائلا إلى متى الشقاء وهي قمة المعاناة التي تدحض أنه كان في عزلته مرتاحا ربما هو الألم متوشحا بالشعر وعالم الغناء الداخلي.
و مخاطباً نفسي ، و ما بي جِنَّةٌ
حتّامَ تبقى حَيْرتـي و شقائـي
فتنصحه النفس
فتجيبني : يا صاحبي عِشْ واقعاً
لا تلتحِفْ في الليـلِ بالظلمـاءِ
داعية إياه إلى التفاؤل
اُخرجْ ، فإنَّ حياتنـا كخميلـةٍ
مرويَّـةٍ بالـمـاءِ لا بـدمـاءِ
مذكرة إياه ببهاء الحياة وجمالها
فيهـا أزاهيـرٌ تبايـن لونُهـا
و تنوَّعَت في الحُسنِ و الأسماءِ
وهي أيضا حياة رائقة لا يعيبها نعيق الغربان ولا انتشار السواد
فيها من الأطيارِ أسرابٌ ، فمـا
نعبُ الغـرابِ كرقـةِ الورقـاءِ
ثم تأخذه نفسه إلى الحكمة وتنويعاتها
أن لكل دور يجب ان يقوم به ويتحمل تبعاته وكأنه يهمز من جانب ذاته
هو التي تحاول أن تتهرب من مسؤولياتها ولعلها مكاشفة للنفس على استحياء ربما
يا صاحبي ، إن الحياةَ كمسرحٍ
و الـكـلُّ أدى دورَهُ بسـخـاءِ
وهنا يصف غنى المال والجاه والسلطان
وكيف أنه غنى زائف في نظره
هذا غنيٌّ ، هكـذا يبـدو بهـا
ليس الغِنى بجواهـرٍ و كساءِ
إنَّ الغِنى أن تطمئنَّ ، و ترتدي
ثوبَ العفـافِ مُرَصَّعـاً بإبـاءِ
وهي حكمة قارن فيها بين
الغنى ... والعفاف ... والشمم ...
وتنصحه ذاته أن يتجلد
وألا يدع همومه تسري في جسده بسم الحزن فتقتله
يا صاحِ دع عنكَ الهمومَ ، فإنها
تسري كَسُـمِّ الحيّـةِ الرقطـاءِ
وينحو نحو التفاؤل وأن يقاوم التشاؤم الذي صوره الشاعر قي سطوته على نفسه بالغمامة
وإن كنت أن الصورة في الشطر الثاني اضعف كثيرا منها من الشطر الأول
بين تشاؤم ذي سطوة
ويصفه سطوته بالغمامة السوداء والغمامة لفظ رقيق يستعمل أحيانا
لرقة الطقس وجمال السماء ورقة النسيم وخفوت سطوة الشمس
ولو قال كسحابة لكان أفضل ولم تكن لتكسر وزنا ولا تشوه صورة.
إن كان ما يقصده هو أن التشاؤم سحابة ستمر وعليه ألا يستسلم لها.
نحِّ التشـاؤمَ جانبـاً ، فكأنَّـهُ
في سطـوِهِ كغمامـةٍ سـوداءِ
وهنا حكمة دارجة تنتمي ربما لحديث العجائز والجدات وإن كان قد صاغها في لغة فصحى راقية
لكنها من موروث الشاعر الثقافي ومكنون ضميره الذي تربى عليه :
تمضي السنونُ بحُلوِها و بمُرِّها
و بما حَوَتْ من راحةٍ و عنـاءِ
ثم يأتي هنا إلى لغة خطابية استدرجته إليه فورة القصيدة أثناء كتابتها ووجود اللوازم الجاهزة في عقله وذاكرته الشاعرة السريعة اللقط والتدوين ثم المحاكاة .ولا أرى للبيت ضرورة تفاعلية تفيد قصد الشاعر في موضوع القصيدة .
و يظـلُّ أمـرُ اللهِ فينـا نافـذاً
بالحقِّ ، لا بشريعـةِ الغوغـاءِ
لكنه سرعان ما يركن إلى الإيمان بالقضاء والقدر وهو أمر يريح النفس ويبرر المعاناة ويشجع الإنسان على أن يصبر ويحتسب
وهي نفحة إيمانية تنتمي أيضا إلى الجزء الموروث في كيان تربى على الإيمان والصبر والتسامي بالهموم والأهواء فوق نوازع النفس البشرية المتلاطمة المشاعر :
فاقنع بحكـم اللهِ فـي عليائِـهِ
لا يملـكُ الإنسـانُ ردَّ قضـاءِ
وهي بلا شك وسادة يرتاح فوقها الضمير ... ويُـهدهدُ عليها نقيق نوازعنا وأحلامنا التي تستفز وجودنا بكثير من الهموم والأفكار.
وهنا كان هروب جمال مرسي إلى الإيمان كمتكأ مريح وجاهز ، ولا تشوبه شائبة الاعتراض أو التمرد وهي في نظري نهاية سريعة ومريحة وهي أيضا نوع من الا حتساب ،والسكوت عن ما يجول في النفس.
وعلى المحبة نلتقي.
[align=center] إشكالية قهر الاغتراب (في قصائد الشعراء)
محاولة لكشف المسكوت عنه[/align]
الغربة .... وشعور القهر الذي يصاحبها وإحساس الألم الذي يعانيه الإنسان سواء بين أهله وعشيرته أو بين الناس جميعا ...غربة النفس والقلب والروح .... عبر عنها الشعراء تعبيرافنيا صادقا و راقيا على مر العصور.وهم في هذا يختلفون عن سائر البشر الذين قد لا يستطيعون التعبير عما يجيش في صدورهم وتلك هي نفحة الفن والأدب الذي يرسم المشاعر بالكلمات ويصور للناس ما لم يقدروا عليه ... فيخفف عن المبدع كما يخفف عن قرائه أضا .ولقد اختلف الشعراء في تصويرهم وحلهم لإشكالية الاغتراب عم بعضهم البعض ، وفقا لثقافة كل شاعر وظروفه الموضوعية والنفسية والاجتماعية.
ولقد اخترت عدة قصائد من أزمنة متعددة بين الحديث والمعاصر والأكثر حدائة للشعراء
أبوالقاسم الشابي
ومحمود حسن إسماعيل ..
ومها العتيبي
ود. جمال مرسي
..
فبين الرومانسية الثورية للشابي ، والصوفية المحلقة لمحمود حسن إسماعيل ، وموقف المرأة العربية في مجتمع محافظ ، وتجربة جمال مرسي كشاعر رفيق لي على الدرب ، اتضحت الفروق وتنوعت الحلول ،و برزت الأسباب الموضوعية التي يركن إليها كل منهم في قهره لإشكالية الاغتراب
فمنهم من رأي في الهروب إلى الطبيعة ملاذا من شرور البشر ، ومنهم من وجد في نفسه الرغبة في أن يكون الطبيعة ذاتها ، ومنهم من اكتفى بالشكوى والعويل وإن كان قد وصف تساؤله وصوره تصوريا فنيا راقياومنهم من اتكأ على الإيمان بالقضاء والقدر.
فتعالوا نسافر في رحلة قد تمتد طوال سبعين سنة منذ الشابي حتى الآن[/align].
[align=center]ترانيم اليأس عند الشابي[/align]
أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً فأهوي على الجذوعِ بفأسي
ليتني كنتُ كالسُّيولِ إِذا سالتْ تَهُدُّ القبورَ رمساً برمسِ
ليتني كنتُ كالرِّياحِ فأطوي كلَّ مَا يخنقُ الزُّهُورَ بنحسي
ليتني كنتُ كالشِّتاءِ أُغَشِّي كلّ مَا أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصيرِ إنْ ضجَّتْ فأدعوكَ للحياةِ بنبسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصير لكن أَنْتَ حيٌّ يقضي الحَيَاة برمسِ
أَنْتَ روحٌ غَبِيَّةٌ تكره النُّور وتقضي الدُّهُور في ليل مَلْسِ
فهو يفر للي الغاب مبتعدا عن هذا الشعب الذي لا يعرف معنى لكرامة ..
يا لها مِنْ معيشةٍ في صميمِ الغابِ تُضْحي بَيْنَ الطُّيورِ وتُمْسي
يا لها مِنْ معيشةٍ لم تُدَنّسْهَا نفوسُ الوَرَى بخُبْثٍ ورِجْسِ
يا لها مِنْ معيشةٍ هيَ في الكونِ حياةٌ غريبةٌ ذاتُ قُدْسِ
( من قصيدة : أيها الشعب ليتني كنت حطابا)
ويستمر هروبه
لو كانَ هذا الكونُ في قبضتي أَلقيْتُهُ في النَّارِ نارِ الجحيـمْ
مَا هذه الدُّنيا وهـذا الـوَرَى وذلكَ الأُفْقُ وتِلْـكَ النُّجُـومْ
النَّارُ أَوْلـى بعبيـدِ الأَسـى ومسرحِ الموتِ وعشِّ الهمومْ
يا أَيُّها الماضي الَّذي قَدْ قَضَى وضمَّهُ الموتُ وليـلُ الأَبَـدْ
يا حاضِرَ النَّاس الَّذي لم يَزُلْ يا أَيُّها الآتي الَّذي لـم يَلِـدْ
سَخَـافـةٌ دُنيـاكُـمُ هــذه تائهةٌ فـي ظلمـةٍ لا تُحَـدْ
( من قصيدة لو كان هذا الكون في قبضتي)
الغاب
العالم الحلم أو لعله اليوتوبيا
( يا أيها الغاب)
يا أَيُّهـا الغـابُ المُنَـمْ مَقُ بالأَشعَّـةِ والـوردْ
يا أَيُّهـا النُّـورُ النَّقِـيٌّ وأيُّهـا الفجـرُ البعيـدْ
أين اختفيتَ وما الَّـذي أَقْصاكَ عن هذا الوُجُودْ
آهٍ لقـدْ كانـتْ حَياتـي فيـكَ حالمـةً تَمِـيـدْ
بَيْنَ الخَمائِلِ والجَـداوِلِ والتَّـرنُّـمِ والنَّشـيـدْ
تُصغي لنجواكَ الجميلَـةِ وهـي أُغنِيَـةُ الخٌلـودْ
وربما كان يأس الشابي اجتماعيا يعود إلى يأسه من شفاء علته في القلب والتي لونت معظم بلكل قصائده بالسواد ، مما حدا به إلى أن يسب الشعب ويدمغه بالموات ويهرب مهه إلى الغابة ، وهو من هو؟ الشابي الذي قال في بداياته
إذا الشعب يوما أرادالحياة*****فلابد أن يسجيب القدر.
لكن ظروفه الصحية قد صبغت قصيده باليأس والتشاؤم.وهو هنا هارب نحو الطبيعة يأخذ منها الدفء والصدق والوفاء والملاذ. والسكن المادي أيضا.
[align=center]وها هو محمود حسن إسماعيل يعبر عن قهره واغترابه بصورة أخرىويتمنى أن يكون ماذا؟ [/align]
ليتني كنت صلاة
في كهوف الناسكينا
أتلاشى في طريق الله سوقا وحنينا
ليتني كنت غناء
تائها بين الصحاري
هزني طير غريب
فوق ركبان حيارى
وعلى الرغم من غضبه وقهره لم تكن رغبته هروبا ولا يأسا بقدر ما هي نقلة نوعية ليكون أكثر فائدة لغيره من المخلوقات
ليتنى كنت شعاعا
في ليالي الحائرينا
أسكب السلوان للدمع وأغتال الأنينا
هنا وظف الشاعر قهره وكبته توظيفا كونيا عاما وخرج من بؤرة ذاته إلى الكون كله وإن كانت هناك نبرتان مختلفتان تراوحان بين البحث عن الحرية والبحث عن دور ظلتا تتجاذبان القصيدة في رأيي إلى موضوعين مختلفين .الحرية أم البحث عن دور؟
.
ليتني كنت سكونا
خاشعا بين الجبال
تتلاقى في آيات وجودي بالزوال
ليتني كنت غدا لا
تعلم الأقدار سره
أو نشيدا ضن شادي
الغيب أن يعزف نبره
ليتنى كنت على لُج البحار الخضر زورق
كيفما شاءت بي الريح على الأمواج تخفق
ثم يعود من جديد ليكون خادما للبشر معطيا إياهم نفسه
في عطاء لا ينتظر الأجر
ليتنى كنت عصا في
كفٍ أعمى لايراها
هي تهديه ولكن
من إلى النور هداها
ليتني كنت غراما
إنه هنا ربما يفر من دور ولكنه أيضا يبحث عن دور آخر وواقع آخر يمكنه فيه من أن يكون عونا على أحزان البشر.
ومحمود حسن إسماعيل بما نعرفه عنه من رومانسية مفرطة يميل هنا إلى اللغة المتصوفة المحلقة هنا بين خيالات ما فوق الطبيعة ، هذا الخيال الجامح هو الذي رده إلى الطبيعة ليس كهارب ولكن كمندمج فيها بل أحد عناصرها بل كل عناصرها من ريح وشذا وسكون وحركة وناي وطيور تغرد بل إنرغبته وصلت إلى حلمه أن يكون جمادا ( كعصا الأعمى ) تساعد في المسير دون انتظار لشهرة أو أجر.وهو هنا عمم مشكلته الذاتية ومدها كبساط الريح فوق الكون كله ثمنا للخلاص الذي ينشده !!
إنه اغتراب نفسي وروحي شديد الوطأة لذا فترى الشاعريحل الإشكالية بالهروب ، عن طريق الذوبان والحلول في الأشياء.
وغربة أخرى للشاعرة مها العتبيبي في قصيدتها لماذا شحت الأيام
أفتش بين أوراقي
فألقى صمت حرماني
فتشت حولها فلم تجد سوى الشح والصمت ...
فماذا كان جوابها ... لرد إشكالية الاغتراب هنا؟
وأبحر في متاهاتي
وصمتي ضاق بالبحار
وتذوي شمعة خجلى
ولايبقى سوى التذكار.
الإبحار في متاهات الذكرى الخفية التي لا يعلم بها أحد من حولها ...
وهنا تتكرر نبرة الصمت والسكوت
(تمزق شهقتي صمتي)
فهي لا تملك سوى شهقة اعتراض وزفرة حارة تمزق صمتها ولا أراها شهقة ذات صوت بل هي مكتومة لا تسمعها سوى الشاعرة فقط ...
وربما تتعجل النهاية يأسا وقهرا بعد أن لاذت بالحلم فلم يأت بجديد
دقائق عمري الحيرى
تلف وشاحها عجلى
ودمعي يرسم الأحزان
وأزرع أرض أحلامي
ولا أجني سوى الآلام
وأسأل صمتي الدامي
لماذا شحت الأيام
لماذا شحت الأيام
تساؤل يتكرر في القصيدة،
ولكنها وقفت هنا عند دهشة السؤال في لحظة الحرمان والصدمة ورضيت من الغنيمة بالنواح.
ربما هي البيئة الاجتماعية أيضا التي حتمت عليها السكوت وعدم البوح، فألجمت القصيدة أن تمتد إلى شواطيء تعديد الأسباب وتشريح الواقع ، الشاعرة هنا اكتفت بالزفرة والتنهيدة الحارة وكتمت ما تبقى من مشاعر إلى حين.إنه هروب نحو الصمت.وتمنى الرحيل عن الحياة.
[align=center]واغتراب آخر في قصيدة
لوعة الغُرباء
ل د. جمال مرسي[/align]
في ليلةٍ مـن باهـرِ الأضـواءِ
فاحتْ بعطرِ الروضـةِ الغنَّـاءِ
و ترنَّمَتْ فيها عصافيرُ الهـوى
تشدو بلحـنٍ رائـعِ الأصـداءِ
خَفَقَتْ لهُ كلُّ القلوبِ ، تمايَلَـتْ
من سكرةِ الألحانِ و الصهبـاءِ
ربما كان الشاعر في جفل ما أو هي بلاد الغربة الغناء بكل غنى وثراء وحياة جديدة
لكنه القلب ما زال مشدودا إلى ماض لم ينسه أبدا ..
لكنَّ قلبي لم يـزل فـي ذِكـرةٍ
أقصَتْهُ عن نورٍ و عن ضوضاءِ
وهو قلب غريب يشعر بالوحدة والوحشة في عالم متقلب لا يعرف للوفاء معنى
مُتنحياً في ركنِـهِ عـن عالـمٍ
مُتغيِّـرِ الألـوانِ كالحـربـاءِ
وهو في عزلته ليس وحيدا ولا هي عزلة هروبية بقدر ما هو عالم جميل يخلقه بنفسه لننفسه
وهو عالم الشعراء والإبداع :
في عزلةٍ أصبو لها كالعاشقيـنَ
و زُمـرةِ الزُهّـادِ و الشعـراءِ
ورغم هذه العزلة لتي ارتآها لنفسه ورضي بها واستلذ العيش فيها
إلا أنه ناقض نفسه أو هي الوحشة كانت أكب من تحمله فراح يصفها بكل تفاصيلها ... إذن فهو ليس راضيا ولا مرتاحا في عزلته ربما كانت راحة ظاهرية ... لذا فتراه
فنا يصف شروده لحظة تذكره الماضي الحبيب ...
قد كنتُ فيها شارداً ، و كأننـي
عادتْ بيَ السنواتُ ألـفَ وراءِ
يومَ التقينا ها هنـا ، فتسللـتْ
كفّي لتقطِـفَ نجمـةَ الإمسـاءِ
و تداعب البدرَ المنيرَ فتصطلي
بالنـارِ مثـل فراشـةٍ حمقـاءِ
أو تمسح الدمعَ الذي أَهْرَقْتِـهِ
فوقَ الخدودِ يتيهُ فـي خُيـلاءِ
إلى أن يعترف
في عزلتي إني هنـا محبوبتـي
لا زلتُ أشكو لوعـةَ الغُرَبـاءِ
متسائلا إلى متى الشقاء وهي قمة المعاناة التي تدحض أنه كان في عزلته مرتاحا ربما هو الألم متوشحا بالشعر وعالم الغناء الداخلي.
و مخاطباً نفسي ، و ما بي جِنَّةٌ
حتّامَ تبقى حَيْرتـي و شقائـي
فتنصحه النفس
فتجيبني : يا صاحبي عِشْ واقعاً
لا تلتحِفْ في الليـلِ بالظلمـاءِ
داعية إياه إلى التفاؤل
اُخرجْ ، فإنَّ حياتنـا كخميلـةٍ
مرويَّـةٍ بالـمـاءِ لا بـدمـاءِ
مذكرة إياه ببهاء الحياة وجمالها
فيهـا أزاهيـرٌ تبايـن لونُهـا
و تنوَّعَت في الحُسنِ و الأسماءِ
وهي أيضا حياة رائقة لا يعيبها نعيق الغربان ولا انتشار السواد
فيها من الأطيارِ أسرابٌ ، فمـا
نعبُ الغـرابِ كرقـةِ الورقـاءِ
ثم تأخذه نفسه إلى الحكمة وتنويعاتها
أن لكل دور يجب ان يقوم به ويتحمل تبعاته وكأنه يهمز من جانب ذاته
هو التي تحاول أن تتهرب من مسؤولياتها ولعلها مكاشفة للنفس على استحياء ربما
يا صاحبي ، إن الحياةَ كمسرحٍ
و الـكـلُّ أدى دورَهُ بسـخـاءِ
وهنا يصف غنى المال والجاه والسلطان
وكيف أنه غنى زائف في نظره
هذا غنيٌّ ، هكـذا يبـدو بهـا
ليس الغِنى بجواهـرٍ و كساءِ
إنَّ الغِنى أن تطمئنَّ ، و ترتدي
ثوبَ العفـافِ مُرَصَّعـاً بإبـاءِ
وهي حكمة قارن فيها بين
الغنى ... والعفاف ... والشمم ...
وتنصحه ذاته أن يتجلد
وألا يدع همومه تسري في جسده بسم الحزن فتقتله
يا صاحِ دع عنكَ الهمومَ ، فإنها
تسري كَسُـمِّ الحيّـةِ الرقطـاءِ
وينحو نحو التفاؤل وأن يقاوم التشاؤم الذي صوره الشاعر قي سطوته على نفسه بالغمامة
وإن كنت أن الصورة في الشطر الثاني اضعف كثيرا منها من الشطر الأول
بين تشاؤم ذي سطوة
ويصفه سطوته بالغمامة السوداء والغمامة لفظ رقيق يستعمل أحيانا
لرقة الطقس وجمال السماء ورقة النسيم وخفوت سطوة الشمس
ولو قال كسحابة لكان أفضل ولم تكن لتكسر وزنا ولا تشوه صورة.
إن كان ما يقصده هو أن التشاؤم سحابة ستمر وعليه ألا يستسلم لها.
نحِّ التشـاؤمَ جانبـاً ، فكأنَّـهُ
في سطـوِهِ كغمامـةٍ سـوداءِ
وهنا حكمة دارجة تنتمي ربما لحديث العجائز والجدات وإن كان قد صاغها في لغة فصحى راقية
لكنها من موروث الشاعر الثقافي ومكنون ضميره الذي تربى عليه :
تمضي السنونُ بحُلوِها و بمُرِّها
و بما حَوَتْ من راحةٍ و عنـاءِ
ثم يأتي هنا إلى لغة خطابية استدرجته إليه فورة القصيدة أثناء كتابتها ووجود اللوازم الجاهزة في عقله وذاكرته الشاعرة السريعة اللقط والتدوين ثم المحاكاة .ولا أرى للبيت ضرورة تفاعلية تفيد قصد الشاعر في موضوع القصيدة .
و يظـلُّ أمـرُ اللهِ فينـا نافـذاً
بالحقِّ ، لا بشريعـةِ الغوغـاءِ
لكنه سرعان ما يركن إلى الإيمان بالقضاء والقدر وهو أمر يريح النفس ويبرر المعاناة ويشجع الإنسان على أن يصبر ويحتسب
وهي نفحة إيمانية تنتمي أيضا إلى الجزء الموروث في كيان تربى على الإيمان والصبر والتسامي بالهموم والأهواء فوق نوازع النفس البشرية المتلاطمة المشاعر :
فاقنع بحكـم اللهِ فـي عليائِـهِ
لا يملـكُ الإنسـانُ ردَّ قضـاءِ
وهي بلا شك وسادة يرتاح فوقها الضمير ... ويُـهدهدُ عليها نقيق نوازعنا وأحلامنا التي تستفز وجودنا بكثير من الهموم والأفكار.
وهنا كان هروب جمال مرسي إلى الإيمان كمتكأ مريح وجاهز ، ولا تشوبه شائبة الاعتراض أو التمرد وهي في نظري نهاية سريعة ومريحة وهي أيضا نوع من الا حتساب ،والسكوت عن ما يجول في النفس.
وعلى المحبة نلتقي.
تعليق