عجوز صنارة وبحر .

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • م. زياد صيدم
    كاتب وقاص
    • 16-05-2007
    • 3505

    عجوز صنارة وبحر .

    دنوت حتى اقتربت منه أكثر، أصبحت على مسافة نصف متر لا يزيد، حييته بتحية السلام فرد بأحسن منها، كانت دهشتي لوجوده وحيدا على شاطئ يخلو من الناس، إلا من بعض ساحبي البحر بالحبال يتراءون من بعيد، فنحن في أجواء الربع الأول من شهر ديسمبر، توقفت جواره وظهري لأشعة الشمس النافذة من بين غيوم متناثرة، تحاول أن تتجمع استعدادا للغروب، بكل دهشتي وحيرتي وقفت ارقبه وانظر إلى ملامحه بدقة...
    كان قد تعدى سنواته السبعين لا شك في هذا، لكنه ما يزال عفي وبصحة جيده .. بدأ يتراجع إلى الوراء، ثم استدار بخفة ورشاقة باتجاه الشرق، متجها إلى جانب التل الرملي المجاور، نظرت مليا فوجدته يشعل النار مستخدما بعض عيدان من الحطب، لم تكن سوى أغصان لنباتات بحرية قذفها الموج على الشاطئ فجفت.. اخرج وعاءا معدنيا قد اسود واحترق من خارجه، فأيقنت بأنه اعتاد على عمل الشاي بالحطب، كُنت اعرف جيدا مذاقه الرائع مسبقا، فهممت بالذهاب مترددا وقد حييته بمثل تحيتي الأولى...

    فجأة سمعته ينادي: يا شيخ تمهل.. ادعوك لتناول الشاي فهذا اعمله لك، فابتسمت صدقا وشعرت براحة تسرى في أنحاء جسدي كله، مشيت باتجاه مكان جلوسه على مفرش من حصير قد افترشه لنفسه، انتظره بجانب صنارته المثبتة جيدا في الرمال والممتد خيطها إلى داخل البحر...
    كان قد نصب صنارته على الشاطئ ينتظر صيدا، أيُخرج صيدا بحرنا الحزين في معظم فصوله! كنت أتساءل دوما في قرارة نفسي وما أزال، بينما كنت بانتظار الشاي، كان نظري قد تحدق هناك في المياه المالحة التي مالت إلى البياض الباهت، مُخفيه زرقة السماء الرائعة نظرا لغيوم كانت تستعد للتجمع، تتشاور مع نفسها إن كانت ستُسقط مطرها أم تواصل طريقها كيفما قدر لها خالقها ومُسيرها، ثم لا أعلم كيف خطر ببالي أسطورة الجوهرة في جوف سمكة وكانت من نصيب صياد فقير أراد الزواج من ابنة الملك، فكأني انتظر صيدا ثمينا في اى لحظة حيث تخيلت نفسي صاحب صنارة الحظ السعيد ...

    عاد العجوز يحمل الشاي، تحدثنا طويلا وفهمت كثير من الأمور، انه الحاج أبو محمود سبع وسبعون عاما ذاكرا عام الجراد حين كان فتى صغيرا في قريته وأرضه قبل عام النكبة، وهجوم العصابات الصهيونية على القرية وتشريد أهلها، يأتي إلى هنا يتنسم هواء نقيا وهدوءا ينشده وأملا في النسيان ؟ يُسلى وقته بعد أن أصبح وحيدا بوفاة زوجته أم أولاده، اللذين تشتتوا في الخارج طلبا للقمة العيش، لم يتزوج بعدها وان مضى على وفاتها عشر سنوات، ماتت قهرا وكمدا على ابنها الأصغر، الذي سقط شهيدا في بداية الانتفاضة الأولى في مجابهة مباشرة على مفترق الشهداء المطل على مستوطنة نتساريم سابقا، كان عرسه في الإجازة الصيفية حين تنهى عروسه دراستها الثانوية...
    مضت ساعتين وأكثر برفقة أبو محمود، كان الشاي لذيذ الطعم فقد نضج بهدوء على نار الحطب، نفثنا فيها آخر ما تبقى من سجائر في علبتي، فوجدني أتململ وأتحسس جيبي عسى أن أجد علبة أخرى، فسارع إلى إخراج علبته الممتلئة بدخان " الهيشة " وبدأ يلف سيجارتين .. ما أن سحبت أول نفس منها حتى كادت أمعائي تخرج من جوفي، وتدلى لساني وجحظت عيناي جراء سعال انتابني بعنف، فسارع إلى بشربة ماء عذب من قنينة فارغة للكولا بعد أن ربت على ظهري.. و ما أن استعدت توازني، كان يبتسم محدقا بيدي اليمنى الفارغة، حيث لم تعد للسيجارة وجودا، فقد رميتها بعيدا بحركة لا إرادية في الرمال، ثم سبقني مقهقها...

    هممت بالانصراف مستأذنا منه.. فأجاب بصوت فيه نوع من خيبة أمل: انتظر لقد انتهيت اليوم يا ولدى، فانا منذ الصباح هنا أعارك البحر ويعاركني، وكالعادة فقد قهرني اليوم أيضا؟ فلم يخرج اى سمكة تكتحل فيها مقلي عشائي الليلة، قالها بنبرة حزن لكنه أردف قائلا: الأرزاق على الواحد القهار.. لملم أغراضه، وقد لف صنارته ومضى بخفة ونشاط ، كان يمشى مبتسما وأنا إلى جانبه أرقبه وما تزال الدهشة ترتسم على وجهي !!.

    إلى اللقاء.


    صور العجوز:







    أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
    http://zsaidam.maktoobblog.com
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    لقطة من كاميرا الحياة الفلسطينية
    صعوبة الحياة وشظفها تزيد هذا الشعب قوة ورغبة في المواصلة بلا كلل
    لقطة معبرة استاذ زياد
    تحيتي وتقديري
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • الشربيني المهندس
      أديب وكاتب
      • 22-01-2009
      • 436

      #3
      استاذنا ولذة القص التي اصبحت علامة مميزة لقصصكم ومعها ما يسمي الرؤية الخاصة التي ترتكز بدورها على الهروب من عالم الواقع والحقيقة الزائفة إلى عالم الأخيلة المثالية للتلذذ بالسعادة المنشودة عبرالاسترسال السردي الحجاجي، وبناء العوالم الممكنة، وإقامة التصورات على أنقاض مأساوية الواقع المترنح بالكآبة واليأس والملل ثم الارتكاز علي سعادة البساطة لرجل ( يسحب البحر كمصطلح لمهندسنا الجميل ) عركته تجارب الحياة والبحر والذي يمثل (في رأينا أبناء السواحل ) الخلاص وتغذية الصدر والقلب بالأمل مع اليود وتحياتي

      تعليق

      • م. زياد صيدم
        كاتب وقاص
        • 16-05-2007
        • 3505

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
        لقطة من كاميرا الحياة الفلسطينية
        صعوبة الحياة وشظفها تزيد هذا الشعب قوة ورغبة في المواصلة بلا كلل
        لقطة معبرة استاذ زياد
        تحيتي وتقديري
        ==================

        ** الراقية الاديبة مها..........

        نعم.

        قرائة فى عمق النص فعلا..

        شاكر لك قرائتك ومرورك..
        تحايا عبقة بالرياحين............
        أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
        http://zsaidam.maktoobblog.com

        تعليق

        • م. زياد صيدم
          كاتب وقاص
          • 16-05-2007
          • 3505

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة الشربيني المهندس مشاهدة المشاركة
          استاذنا ولذة القص التي اصبحت علامة مميزة لقصصكم ومعها ما يسمي الرؤية الخاصة التي ترتكز بدورها على الهروب من عالم الواقع والحقيقة الزائفة إلى عالم الأخيلة المثالية للتلذذ بالسعادة المنشودة عبرالاسترسال السردي الحجاجي، وبناء العوالم الممكنة، وإقامة التصورات على أنقاض مأساوية الواقع المترنح بالكآبة واليأس والملل ثم الارتكاز علي سعادة البساطة لرجل ( يسحب البحر كمصطلح لمهندسنا الجميل ) عركته تجارب الحياة والبحر والذي يمثل (في رأينا أبناء السواحل ) الخلاص وتغذية الصدر والقلب بالأمل مع اليود وتحياتي
          ====================

          ** الاديب الراقى الشربينى............

          اثراء جميل.. وقرائة راقية.. كما دوما...

          تحيا عبقة............................
          أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
          http://zsaidam.maktoobblog.com

          تعليق

          يعمل...
          X