قراءة تذوقية لبعض المحاور الإبداعية
في ديوان «غناء الأشياء» لحسين علي محمد
بقلم: بـدر بديــر
...................
صعب على قارئ مثلي أن يكتب دراسة تحليلية نقدية لعمل شعري لأسباب قد تبدو غريبة على من يمارس الكتابة النقدية، وترجع هذه الصعوبة إلى أن الشاعر الدكتور حسين علي محمد صديقي الحميم، وهذه العلاقة الحميمة قد تدفعني إلى أحد مزلقين: أحدهما ألا أرى في الديوان غير ما هو جميل وعميق ومحلق من الصور والأفكار والأخيلة على التوالي الأمر الذي يتعارض مع موضوعية الكتابة النقدية مصداقاً لقول أحدهم:
وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ولكن عين السُّخطِ تُبدي المساويا
وثاني المزلقين: أن يزداد حذري من الوقوع في المزلق السابق فأقع، فأكون أيضا غير موضوعي، أو كالمستجير من الرمضاء بالنار.
لكن وعيي بهذه المحاذير هو الذي شجعني على كتابة هذه الانطباعات التذوقية متيقظا قدر طاقتي ألا أقع في أي من المزلقين السابقين، فإن وفقت فبها ونعمت، وإلا فمبرري عندها أني لم أزعم أني سأكتب دراسة نقدية بالمعنى الاصطلاحي، وإنما هي قراءة انطباعية تذوقية لقارئ يشترك مع الدكتور حسين علي محمد في تجربة الكتابة الإبداعية الشعرية هوايةً وليست احترافا، متحملا كل ما ينتج عن هذه الهواية من تبعات ليس مجال الحديث عنها في هذه السطور.
وديوان "غناء الأشياء" للشاعر حسين علي محمد هو أحدث مجموعة شعرية صدرت له، ولذلك فهو قمة في النضج الفني لهذا الشاعر الذي لا تهدأ انفعالاته، ولا تفتر أحاسيسه لحظة من ليل أو نهار، وندعو الله أن يُبقي هذه الشعلة دائما متأججة فكرا وإحساسا وخيالا لصالح لغة القرآن، ولغة المجد العربي التليد.
وعنوان الديوان "غناء الأشياء" قد يوحي لمن يقرأ هذا العنوان بأنه سيلقي بمسامعه بين آلات فرقة موسيقية لا تعزف غير الحان السعادة وأناشيد الهناءة، فكلمة "غناء" في حد ذاتها توحي بذلك من أول لحظة، فما بالنا إذا كان الغناء للأشياء حيها وجمادها، ناطقها وأخرسها؟ ولذلك باعتباري أحد القراء فإني قد هيأت نفسي منذ البداية لاستماع لحن السعادة الغامرة المعبرة عن نفسها بالغناء، متناسيا أن الغناء فن التعبير الشامل عن الحياة بما فيها من أفراح وأتراح من آمالٍ وآلامٍ، فالتعبير عن السعادة بقري الحبيب غناءٌ، والأنين لبعد الحبيب غناءٌ، وكذلك التعبير عن أفراح الحياة وأتراحها، وهذا ما وجدته فعلا على صفحات ديوان "غناء الأشياء" للشاعر الدكتور حسين علي محمد.
لكني لست بصدد تحليل ـ عفوا ـ أقصد تذوق كل المحاور الفنية للديوان وعرضها من موضوعات وأفكار ومشاعر ولغة وأدوات وأساليب تعبيرية وصياغية وظروف حياتية ونفسية تحكّمت وتبلورت في صياغة هذه التجارب الفنية النفسية التي سماها صاحبها "غناء الأشياء"، فقد أشرت إلى ذلك من قبل.
وخلاصة القول أنه ليس من الصعب على أي قارئ لهذه المجموعة الشعرية أن يلحظ أن محوري المرأة والوطن هما أهم محورين دار حولهما غناء الشاعر في ديوانه "غناء الأشياء".
وهذا ليس أمرا غريباً ينفرد به الشاعر الدكتور حسين علي محمد عن غيره من الشعراء، لأن لامرأة والوطن هما فعلا ما يشغل أكثر الشعراء أو أحدهما على الأقل، سيما في هذه الظروف التاريخية التي يتعرض فيها الوطن لهجمة غربية إسرائيلية متعصبة، تشد أعصاب كل وطني شاعراً كان أو غير شاعر. ولننظر إلى هذا الحلم الذي يداعب خيال كل وطني تحت عنوان "نبوءة":
يوما كالأشجارِ سخيًّا سيجيء
يفتحُ أبوابَ الدّهشهْ
تبصرُ أعينُكم ما لمْ تُبصرُ من قبلْ
يحملُ مشعلَهُ ويُضيء
النارُ سيُشعلُها في الأحداقِ النائمةِ زماناً
ليُنَقِّيَكُمْ
إلى آخر هذه النبوءة الحالمة بالخير للوطن الذي يحتاج إلى المصلح العظيم أو القائد العظيم الذي يفيق الناس على يديه من هذا الخدر الهش!
وإذا كان الوطن يمثل عند الناس العاديين مجرد الأرض التي نعيش عليها، فهو يتحول عند شاعرنا إلى المرأة، أو على أقل تقدير يسكنها ويندمج بها في خيال هذا الشاعر .
وإذا كانت المرأة هي الزوجة أو الحبيبة أو الأم أو الصديقة فإني ألمح المرأة في ديوان هذا الشاعر في أحيان كثيرة وقد صارت وطنا، أو تلاحمت صورتها بصورته حتى لا يستطيع القارئ أن يتبين بسهولة إن كان الشاعر في هذه القصيدة أو تلك يصور الوطن أو يصور المحبوبة، وربما كان ذلك في نظري قمة الصفاء الروحي الذي ينتاب شاعرنا في مواطن كثيرة من الديوان. أليس القرآن الكريم وهو التعبير الإلهي الخالد الذي لا يُدانيه تعبير بشري قد صور المرأة سكنا في قوله تعالى: "وهو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً، لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة".
أليس السكن أهم وأعز ما في الوطن؟
ما أجمل وأصدق قول أحدهم:
وما وطنُ الإنسانِ إلا الذي لهُ بهِ وطنُ يشتاقُهُ وحبيبُ
فيا ضيعةَ الغرباء!! ومن هم الغرباء؟ هل هم الذين ينأوْن عن أوطانهم أم هم الذين ينأوْن عن أحبائهم؟ أم هم الذين ينأوْن عن هذا وذاك؟
وإني لأزعم أن هذه الألحان الحزينة في "غناء الأشياء" للشاعر حسين علي محمد مبعثها البعد عن الأحباء سيما "فاطم" السكن والأم والزوجة والوطن، فيالها من غربة نفسية قاسية نتجت عن غربة مكانية اختيارية
تمدّدَ ظلُّكِ فوقَ الفراشْ
يبلِّلُهُ الصوتُ
والنغماتُ العِذابْ
وهذا الغمامُ النديُّ / الرُّضابْ
وأفقُكِ ظلُّ الفراديسِ
تفتحُ في الليلِ أبوابَها
هلْ تعودينَ لي في مساءٍ
يُضمِّخُهُ الشوقُ
أيتها المهرةُ الصَّاهِلَهْ؟( ).
ومن تلك التي يقصدها الشاعر عندما يئن مناديا إياها وهو على جبال صنعاء (1985):
"يا مانحتي سرَّ التكوينِ وغيماتِ جروحي
كيف تغيبين وتبعدُ أشرعتُكِ عن مرفأِ روحي؟"
أهي المحبوبةُ "فاطم"؟ أم هي المحبوبةُ مصر؟ أم هما معاً؟ وإذا كانت الصورتان تندمجان أحيانا: صورة المحبوبة وصورة مصر، ففي أحيان قليلة تستقل كل صورة بنفسها، وذلك في حالتي الصفاء الحزين والشوق العارم:
"حين تُغنين مساءْ
عيناكِ تُشعّان بضوءٍ لا يخفتُ في الظلماءْ
أنفاسُك تحملٌني لربيعِ النشوةِ
فوقَ جوادِ الزمنِ العدَّاءْ
…
تحت سمائكِ لا أسمعُ
غيرَ ترانيمِ الحبِّ
إضاءاتِ الشوقِ
حنينِ النايِ
غناءِ الأشياءْ"
وفي قصيدة "تساؤل" يقول ـ وهو باليمن أيضا ـ بعيدا عن فاطم:
"ليستْ نافوراتُ الدمْ
في ميدانِ التحريرِ بصنعاءْ
أو ماءُ سيولِ زبيدْ
أو غيلُ الشلاَّلهْ
قادرةً أن تتشبَّهَ بمشاعِرِهِ الدفَّاقَهْ
…
من أين يباغتُكِ ـ الليلةَ ـ يا فاطمُ بالشعرِ إذَنْ؟!( )
وكنت أتوقع أن يُفاجئها بالشعر فعلا مادامت مشاعره بهذا التدفق العظيم بدلا من هذا الاستفهام الذي يفيد النفي والاستحالة.
إن البعد عن السكن سواء أكان السكن امرأة محبوبة أم ووطناً مصريا هو السبب المباشر لهذه الألحان الحزينة في "غناء الأشياء"، أقصد غناء حسين علي محمد، هذا البُعد الذي لم تستطع عوامل الإغراء من مركز أدبي مرموق في الحرم الجامعي السعودي، أو دخل مادي مقبول نسبيا أن تجعله بُعداً مقبولا .. أو حتى لم تستطع هذه العوامل أن تخفف من وطأته على أوتار قيثارة هذا الشاعر المغني للأشياء والذي غنت به الأشياء.
ذلك لأن هذا البُعد في مهاجره الاختياري باليمن أو المملكة العربية السعودية قد حرَمَهُ أولا من سكنه "فاطم" وسكنه "مصر" وأصدقائه الذين يحبونه ويحبهم، ويشاركونه اهتماماته الأدبية والحياتية:
وقفت صباحاُ عندَ أولِ غيمـــــةٍ
أســـائلُ تقويمَ المياهِ عن الصُّبحِ
عنِ الشمسِ في بُرجِ السعودِ وقدْ غدتْ
صبيحةَ هذا اليومِ تستافُ من جُرحي
عن الأوجِ هلْ يعـلوهُ في العشقِ خاطِرُ
يسائلُ أورادي عن الدمعِ في السَّفحِ
عن الطهر في الغيماتِ يسمو وقد بـدا
إلى فاطمٍ شوقٌ يزمجرُ بالبـــوْحِ
وبالكلماتِ الطفلةِ اكتَظَّ عــــالمي
أتركضُ في ميدانِـهِ مُهرةُ البوحِ؟( )
فلنقرأ حنينه إلى أصدقائه (صابر عبد الدايم، وأحمد زلط، وعبد الله شرف) الذين تركهم في مصر راضيا مؤقتا بمهاجَره بالسعودية (في الرياض 1994م):
سيَـرنو بعيداً يرقُبُ البرْقَ لحظـةً
ويكتُبُ سطراً في حواشي خوافيــهِ
أكان بياضُ الأفقِ غصَّةَ منْ هـوى
أكانَ خيالاً أم ربيعَ صحاريــــهِ
هنا العشبُ نمّامٌ هنا العشقُ والردى
هنا الرملُ صخّابٌ يبوحُ بمـا فيــهِ
وهذي فصولي تجتلي فوقَ نهْــدةٍ
من الخيْلِ ـ لا كانتْ ـ فراراً من التيهِ
فأين وجوهُ الصحبِ؟ ولّتْ إلى مدى
من البعدِ! قدْ فرّتْ، وكانتْ تُواسيهِ( )
وأخيراً لا نملك إلا أن نتوجّه إلى الشاعر الصديق حسين علي محمد برجاءين: أولهما أن يُخفف من تعقيد الصور الجزئية وكثرة ركوبها بعضها فوق بعض تخففا من تقاليد الحداثة، ولتظهر أفكاره أكثر وضوحاً حتى لا يُحرَم جمهور الشعر العريض ـ الذي كان للشعر سابقا ـ من تذوّق هذا الشعر الجميل، وذلك ضَنا مني بملكة هذا الشاعر الحسّاس المتملك لفنه أن تُهدر، وهذه الطاقات المتفجرة ألا تصل إلى متوسطي المتذوقين، وأن يستخدم الألفاظ فيما تعارف الناس على أنها ترمز إليه من المعاني حتى لا تتسع الفجوة بينه وبين متذوقيه وقارئيه!
أما ثاني الرجاءين فهو أن يستمر في عزفه وغنائه متمثلا بيته الأخير من خماسيته الرابعة، حين يقول:
دعْ روحَك الظمأى تُوالي عزفَها
أين القصيدُ فيكْتوي منْ ناريا؟
وبعد؛
فنحن لا نريد للقصيد ولا للمتلقي أن يكتوي أيهما بنار الشاعر، وإنما نطمع أن يسعد كل من الشاعر والقصيد والمتلقي بالآخر، فتجمل بذلك الحياة
بدر بدير
في ديوان «غناء الأشياء» لحسين علي محمد
بقلم: بـدر بديــر
...................
صعب على قارئ مثلي أن يكتب دراسة تحليلية نقدية لعمل شعري لأسباب قد تبدو غريبة على من يمارس الكتابة النقدية، وترجع هذه الصعوبة إلى أن الشاعر الدكتور حسين علي محمد صديقي الحميم، وهذه العلاقة الحميمة قد تدفعني إلى أحد مزلقين: أحدهما ألا أرى في الديوان غير ما هو جميل وعميق ومحلق من الصور والأفكار والأخيلة على التوالي الأمر الذي يتعارض مع موضوعية الكتابة النقدية مصداقاً لقول أحدهم:
وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ولكن عين السُّخطِ تُبدي المساويا
وثاني المزلقين: أن يزداد حذري من الوقوع في المزلق السابق فأقع، فأكون أيضا غير موضوعي، أو كالمستجير من الرمضاء بالنار.
لكن وعيي بهذه المحاذير هو الذي شجعني على كتابة هذه الانطباعات التذوقية متيقظا قدر طاقتي ألا أقع في أي من المزلقين السابقين، فإن وفقت فبها ونعمت، وإلا فمبرري عندها أني لم أزعم أني سأكتب دراسة نقدية بالمعنى الاصطلاحي، وإنما هي قراءة انطباعية تذوقية لقارئ يشترك مع الدكتور حسين علي محمد في تجربة الكتابة الإبداعية الشعرية هوايةً وليست احترافا، متحملا كل ما ينتج عن هذه الهواية من تبعات ليس مجال الحديث عنها في هذه السطور.
وديوان "غناء الأشياء" للشاعر حسين علي محمد هو أحدث مجموعة شعرية صدرت له، ولذلك فهو قمة في النضج الفني لهذا الشاعر الذي لا تهدأ انفعالاته، ولا تفتر أحاسيسه لحظة من ليل أو نهار، وندعو الله أن يُبقي هذه الشعلة دائما متأججة فكرا وإحساسا وخيالا لصالح لغة القرآن، ولغة المجد العربي التليد.
وعنوان الديوان "غناء الأشياء" قد يوحي لمن يقرأ هذا العنوان بأنه سيلقي بمسامعه بين آلات فرقة موسيقية لا تعزف غير الحان السعادة وأناشيد الهناءة، فكلمة "غناء" في حد ذاتها توحي بذلك من أول لحظة، فما بالنا إذا كان الغناء للأشياء حيها وجمادها، ناطقها وأخرسها؟ ولذلك باعتباري أحد القراء فإني قد هيأت نفسي منذ البداية لاستماع لحن السعادة الغامرة المعبرة عن نفسها بالغناء، متناسيا أن الغناء فن التعبير الشامل عن الحياة بما فيها من أفراح وأتراح من آمالٍ وآلامٍ، فالتعبير عن السعادة بقري الحبيب غناءٌ، والأنين لبعد الحبيب غناءٌ، وكذلك التعبير عن أفراح الحياة وأتراحها، وهذا ما وجدته فعلا على صفحات ديوان "غناء الأشياء" للشاعر الدكتور حسين علي محمد.
لكني لست بصدد تحليل ـ عفوا ـ أقصد تذوق كل المحاور الفنية للديوان وعرضها من موضوعات وأفكار ومشاعر ولغة وأدوات وأساليب تعبيرية وصياغية وظروف حياتية ونفسية تحكّمت وتبلورت في صياغة هذه التجارب الفنية النفسية التي سماها صاحبها "غناء الأشياء"، فقد أشرت إلى ذلك من قبل.
وخلاصة القول أنه ليس من الصعب على أي قارئ لهذه المجموعة الشعرية أن يلحظ أن محوري المرأة والوطن هما أهم محورين دار حولهما غناء الشاعر في ديوانه "غناء الأشياء".
وهذا ليس أمرا غريباً ينفرد به الشاعر الدكتور حسين علي محمد عن غيره من الشعراء، لأن لامرأة والوطن هما فعلا ما يشغل أكثر الشعراء أو أحدهما على الأقل، سيما في هذه الظروف التاريخية التي يتعرض فيها الوطن لهجمة غربية إسرائيلية متعصبة، تشد أعصاب كل وطني شاعراً كان أو غير شاعر. ولننظر إلى هذا الحلم الذي يداعب خيال كل وطني تحت عنوان "نبوءة":
يوما كالأشجارِ سخيًّا سيجيء
يفتحُ أبوابَ الدّهشهْ
تبصرُ أعينُكم ما لمْ تُبصرُ من قبلْ
يحملُ مشعلَهُ ويُضيء
النارُ سيُشعلُها في الأحداقِ النائمةِ زماناً
ليُنَقِّيَكُمْ
إلى آخر هذه النبوءة الحالمة بالخير للوطن الذي يحتاج إلى المصلح العظيم أو القائد العظيم الذي يفيق الناس على يديه من هذا الخدر الهش!
وإذا كان الوطن يمثل عند الناس العاديين مجرد الأرض التي نعيش عليها، فهو يتحول عند شاعرنا إلى المرأة، أو على أقل تقدير يسكنها ويندمج بها في خيال هذا الشاعر .
وإذا كانت المرأة هي الزوجة أو الحبيبة أو الأم أو الصديقة فإني ألمح المرأة في ديوان هذا الشاعر في أحيان كثيرة وقد صارت وطنا، أو تلاحمت صورتها بصورته حتى لا يستطيع القارئ أن يتبين بسهولة إن كان الشاعر في هذه القصيدة أو تلك يصور الوطن أو يصور المحبوبة، وربما كان ذلك في نظري قمة الصفاء الروحي الذي ينتاب شاعرنا في مواطن كثيرة من الديوان. أليس القرآن الكريم وهو التعبير الإلهي الخالد الذي لا يُدانيه تعبير بشري قد صور المرأة سكنا في قوله تعالى: "وهو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً، لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة".
أليس السكن أهم وأعز ما في الوطن؟
ما أجمل وأصدق قول أحدهم:
وما وطنُ الإنسانِ إلا الذي لهُ بهِ وطنُ يشتاقُهُ وحبيبُ
فيا ضيعةَ الغرباء!! ومن هم الغرباء؟ هل هم الذين ينأوْن عن أوطانهم أم هم الذين ينأوْن عن أحبائهم؟ أم هم الذين ينأوْن عن هذا وذاك؟
وإني لأزعم أن هذه الألحان الحزينة في "غناء الأشياء" للشاعر حسين علي محمد مبعثها البعد عن الأحباء سيما "فاطم" السكن والأم والزوجة والوطن، فيالها من غربة نفسية قاسية نتجت عن غربة مكانية اختيارية
تمدّدَ ظلُّكِ فوقَ الفراشْ
يبلِّلُهُ الصوتُ
والنغماتُ العِذابْ
وهذا الغمامُ النديُّ / الرُّضابْ
وأفقُكِ ظلُّ الفراديسِ
تفتحُ في الليلِ أبوابَها
هلْ تعودينَ لي في مساءٍ
يُضمِّخُهُ الشوقُ
أيتها المهرةُ الصَّاهِلَهْ؟( ).
ومن تلك التي يقصدها الشاعر عندما يئن مناديا إياها وهو على جبال صنعاء (1985):
"يا مانحتي سرَّ التكوينِ وغيماتِ جروحي
كيف تغيبين وتبعدُ أشرعتُكِ عن مرفأِ روحي؟"
أهي المحبوبةُ "فاطم"؟ أم هي المحبوبةُ مصر؟ أم هما معاً؟ وإذا كانت الصورتان تندمجان أحيانا: صورة المحبوبة وصورة مصر، ففي أحيان قليلة تستقل كل صورة بنفسها، وذلك في حالتي الصفاء الحزين والشوق العارم:
"حين تُغنين مساءْ
عيناكِ تُشعّان بضوءٍ لا يخفتُ في الظلماءْ
أنفاسُك تحملٌني لربيعِ النشوةِ
فوقَ جوادِ الزمنِ العدَّاءْ
…
تحت سمائكِ لا أسمعُ
غيرَ ترانيمِ الحبِّ
إضاءاتِ الشوقِ
حنينِ النايِ
غناءِ الأشياءْ"
وفي قصيدة "تساؤل" يقول ـ وهو باليمن أيضا ـ بعيدا عن فاطم:
"ليستْ نافوراتُ الدمْ
في ميدانِ التحريرِ بصنعاءْ
أو ماءُ سيولِ زبيدْ
أو غيلُ الشلاَّلهْ
قادرةً أن تتشبَّهَ بمشاعِرِهِ الدفَّاقَهْ
…
من أين يباغتُكِ ـ الليلةَ ـ يا فاطمُ بالشعرِ إذَنْ؟!( )
وكنت أتوقع أن يُفاجئها بالشعر فعلا مادامت مشاعره بهذا التدفق العظيم بدلا من هذا الاستفهام الذي يفيد النفي والاستحالة.
إن البعد عن السكن سواء أكان السكن امرأة محبوبة أم ووطناً مصريا هو السبب المباشر لهذه الألحان الحزينة في "غناء الأشياء"، أقصد غناء حسين علي محمد، هذا البُعد الذي لم تستطع عوامل الإغراء من مركز أدبي مرموق في الحرم الجامعي السعودي، أو دخل مادي مقبول نسبيا أن تجعله بُعداً مقبولا .. أو حتى لم تستطع هذه العوامل أن تخفف من وطأته على أوتار قيثارة هذا الشاعر المغني للأشياء والذي غنت به الأشياء.
ذلك لأن هذا البُعد في مهاجره الاختياري باليمن أو المملكة العربية السعودية قد حرَمَهُ أولا من سكنه "فاطم" وسكنه "مصر" وأصدقائه الذين يحبونه ويحبهم، ويشاركونه اهتماماته الأدبية والحياتية:
وقفت صباحاُ عندَ أولِ غيمـــــةٍ
أســـائلُ تقويمَ المياهِ عن الصُّبحِ
عنِ الشمسِ في بُرجِ السعودِ وقدْ غدتْ
صبيحةَ هذا اليومِ تستافُ من جُرحي
عن الأوجِ هلْ يعـلوهُ في العشقِ خاطِرُ
يسائلُ أورادي عن الدمعِ في السَّفحِ
عن الطهر في الغيماتِ يسمو وقد بـدا
إلى فاطمٍ شوقٌ يزمجرُ بالبـــوْحِ
وبالكلماتِ الطفلةِ اكتَظَّ عــــالمي
أتركضُ في ميدانِـهِ مُهرةُ البوحِ؟( )
فلنقرأ حنينه إلى أصدقائه (صابر عبد الدايم، وأحمد زلط، وعبد الله شرف) الذين تركهم في مصر راضيا مؤقتا بمهاجَره بالسعودية (في الرياض 1994م):
سيَـرنو بعيداً يرقُبُ البرْقَ لحظـةً
ويكتُبُ سطراً في حواشي خوافيــهِ
أكان بياضُ الأفقِ غصَّةَ منْ هـوى
أكانَ خيالاً أم ربيعَ صحاريــــهِ
هنا العشبُ نمّامٌ هنا العشقُ والردى
هنا الرملُ صخّابٌ يبوحُ بمـا فيــهِ
وهذي فصولي تجتلي فوقَ نهْــدةٍ
من الخيْلِ ـ لا كانتْ ـ فراراً من التيهِ
فأين وجوهُ الصحبِ؟ ولّتْ إلى مدى
من البعدِ! قدْ فرّتْ، وكانتْ تُواسيهِ( )
وأخيراً لا نملك إلا أن نتوجّه إلى الشاعر الصديق حسين علي محمد برجاءين: أولهما أن يُخفف من تعقيد الصور الجزئية وكثرة ركوبها بعضها فوق بعض تخففا من تقاليد الحداثة، ولتظهر أفكاره أكثر وضوحاً حتى لا يُحرَم جمهور الشعر العريض ـ الذي كان للشعر سابقا ـ من تذوّق هذا الشعر الجميل، وذلك ضَنا مني بملكة هذا الشاعر الحسّاس المتملك لفنه أن تُهدر، وهذه الطاقات المتفجرة ألا تصل إلى متوسطي المتذوقين، وأن يستخدم الألفاظ فيما تعارف الناس على أنها ترمز إليه من المعاني حتى لا تتسع الفجوة بينه وبين متذوقيه وقارئيه!
أما ثاني الرجاءين فهو أن يستمر في عزفه وغنائه متمثلا بيته الأخير من خماسيته الرابعة، حين يقول:
دعْ روحَك الظمأى تُوالي عزفَها
أين القصيدُ فيكْتوي منْ ناريا؟
وبعد؛
فنحن لا نريد للقصيد ولا للمتلقي أن يكتوي أيهما بنار الشاعر، وإنما نطمع أن يسعد كل من الشاعر والقصيد والمتلقي بالآخر، فتجمل بذلك الحياة
بدر بدير
تعليق