"والدك في انتظارك في غرفة المكتب ،هيّا عجّلي بالدّخول إليه".
توقّفت الحروف في حنجرتي.لذت بالصّمت.إنّني أعرف مسبقا سبب الدّعوة لكنّني لا أريد المواجهة الآن.لا أريد أن يوأد حلمي.
سبقتني والدتي تمهّد لي الطّريق كدأبها كلّ مرّة.دخلت الغرفة بهدوئها المعتاد وأنوثتها المسالمة.
وجدناه ينفث الدّخان في عصبيّة ووجنتاه المحمرّتان توحيان بانفجار مرتقب.
عليّ أن أتماسك في مثل هذه المواقف.أعرف والدي جيّدا.أعرفه أكثر من أيّ شخص آخر.
وقفت في حذر شديد أنتظر بدء المحاكمة.
انسحبت أمّي في هدوء.ساد صمت ثقيل لبعض الوقت استغرقته في ترتيب حججي للدّفاع عن نفسي.لن أعيش في جلبابه،ستصدر روايتي الأولى "حلم أنثى"،سترى النّورلتعلن تمرّد أنثى حالمة اضطهد قلبها لكن لن يضطهد قلمها.
كان لا يزال في صمته لكنّ لهيب العصبيّة خبا بل تحوّل إلى هدوء مميت.
رفعت بصري إليه فكان وقع ما رأيته موجعا ،دموع تنحدر من مآقيه.
لم أره سابقا على هذه الحالة.ازداد توتّري وكثرت هواجسي.
كان حصنا منيعا لا تتسرّب إلينا أسراره لكنّني الآن أرى شرخا أصاب أحد جدرانه فتعرّى بعض ما بداخله.
كيف يهتزّ أمامي هذا الكيان المتماسك القويّ؟
اعترتني رجفة قويّة.
كثيرا ما تذمّرت من قسوته وشكوت تسلّطه علينا.لم نكن نملك القدرة على مواجهته حتّى في صغائر الأمور بل نعيش تحت سطوة أمره ونهيه.
لم أستطع أمام هذا الصّمت الرّهيب أن أفوه بكلمة.كنت أنتظر ودقّات قلبي تتسارع في سباق محموم.
أربكتني رؤية دموعه أنا التّي لم أشهد غير قوّته.
لا شكّ أنّه كغيره من النّاس ينتابه الضّعف لكن كان يبدو باستمرار متماسكا.
خرجت كلماته في نبرة غير معهودة هي مزيج من المرارة والحنوّ"أعلم أنّ ما سأذكره موجع لكنّك ابنتي البكر وملاذي.أنت قادرة على أن تتفهّمي الأمر وتتدبّري كلّ شيء.
حططت رحالي لبعض الوقت وها أنا الآن أستعدّ للمغادرة.إنّها نهاية الرّحلة.
الأمر مفزع لا شكّ غير أنّني لم أعد قادرا على مواراته.تألّمت كثيرا،نازعت النّفس وضعفها والجراح وسقمها ،جنّبتكم مرارة الحيرة والانتظار على أمل أن تكون نتائج الفحوصات إيجابيّة لكن..."
تزلزلت الغرفة تحت قدميّ.فقدت توازني وتهالكت على المقعد مهدودة الأوصال.
اشتعلت الحرائق داخل هيكل نفسي الجريحة.عجزت أمام وقع الصّدمة الموجعة أن أقول شيئا.
"ربّما أقسو عليك الآن وأنا أحمّلك أعباء نفسي وجسدي وبيتي مثلما قسوت عليك فيما مضى.
اضطهدت قلبك المفعم بالحبّ.كنت أبحث لك عن الأفضل والأجمل.لم أكن أريدك أن تشقي لكنّني عذّبتك بقراري المجحف.
أطعتني في صمت،رضخت لأنانيّة أب رأى الأمر من زاوية واحدة.
أضطهد هذا القلب الصّغير مجدّدا وأنا أبثّه لاعج همّي.أعرف أنّك طريّة العود ،رقيقة المشاعرلكن ثقتي كبيرة في رباطة جأشك وقدرتك على تحمّل المسؤوليّة التي أنيطها بعهدتك.
اليوم صارحني الطّبيب بكلّ شيء...باتت أنفاسي معدودة بعد أن فتك بي المرض الخبيث.لقد لوّث دمي ".
تدحرج بي الخبر إلى هوّة سحيقة وقرارة سوداء.ارتسم أمام ناظريّ هول الفجيعة ،صراخ وعويل،تأبين...
استفقت على حركة والدي يضمّني إليه بشدّة.أيقظتني حرارة أنفاسه.
لماذا أخفى عنّي دفء هذه المشاعر وراء غلاف القّوة والبأس؟
احتجت في أوقات ضعفي وانكساري إلى هذا الحضن المفعم بحنان الأبوّة ورقّة الشّعور.
بات عليّ الآن أن أرتدي لباس القوّة لألملم جروحه.إنّه في حاجة إليّ.لا بدّ من التّجلّد والصّبر.
لكن هل أستطيع أن أتحامل على نفسي وأنا أرى الموت يدبّ دبيبا ليختطف أبي؟
ما أقسى هذا الامتحان الذي وضعتني فيه الأقدار...
لكن لا بدّ أن أتجلّد من أجله ومن أجل أمّي وأخويّ الصّغيرين.
طبعت قبلة حارّة على جبينه ومسحت بقايا دموع علقت بمآقيه وأنا أردّد " لا عدمناك أبي ،لا عدمناك .اللّه وحده عليم بالغيب"
بقلم نادية
توقّفت الحروف في حنجرتي.لذت بالصّمت.إنّني أعرف مسبقا سبب الدّعوة لكنّني لا أريد المواجهة الآن.لا أريد أن يوأد حلمي.
سبقتني والدتي تمهّد لي الطّريق كدأبها كلّ مرّة.دخلت الغرفة بهدوئها المعتاد وأنوثتها المسالمة.
وجدناه ينفث الدّخان في عصبيّة ووجنتاه المحمرّتان توحيان بانفجار مرتقب.
عليّ أن أتماسك في مثل هذه المواقف.أعرف والدي جيّدا.أعرفه أكثر من أيّ شخص آخر.
وقفت في حذر شديد أنتظر بدء المحاكمة.
انسحبت أمّي في هدوء.ساد صمت ثقيل لبعض الوقت استغرقته في ترتيب حججي للدّفاع عن نفسي.لن أعيش في جلبابه،ستصدر روايتي الأولى "حلم أنثى"،سترى النّورلتعلن تمرّد أنثى حالمة اضطهد قلبها لكن لن يضطهد قلمها.
كان لا يزال في صمته لكنّ لهيب العصبيّة خبا بل تحوّل إلى هدوء مميت.
رفعت بصري إليه فكان وقع ما رأيته موجعا ،دموع تنحدر من مآقيه.
لم أره سابقا على هذه الحالة.ازداد توتّري وكثرت هواجسي.
كان حصنا منيعا لا تتسرّب إلينا أسراره لكنّني الآن أرى شرخا أصاب أحد جدرانه فتعرّى بعض ما بداخله.
كيف يهتزّ أمامي هذا الكيان المتماسك القويّ؟
اعترتني رجفة قويّة.
كثيرا ما تذمّرت من قسوته وشكوت تسلّطه علينا.لم نكن نملك القدرة على مواجهته حتّى في صغائر الأمور بل نعيش تحت سطوة أمره ونهيه.
لم أستطع أمام هذا الصّمت الرّهيب أن أفوه بكلمة.كنت أنتظر ودقّات قلبي تتسارع في سباق محموم.
أربكتني رؤية دموعه أنا التّي لم أشهد غير قوّته.
لا شكّ أنّه كغيره من النّاس ينتابه الضّعف لكن كان يبدو باستمرار متماسكا.
خرجت كلماته في نبرة غير معهودة هي مزيج من المرارة والحنوّ"أعلم أنّ ما سأذكره موجع لكنّك ابنتي البكر وملاذي.أنت قادرة على أن تتفهّمي الأمر وتتدبّري كلّ شيء.
حططت رحالي لبعض الوقت وها أنا الآن أستعدّ للمغادرة.إنّها نهاية الرّحلة.
الأمر مفزع لا شكّ غير أنّني لم أعد قادرا على مواراته.تألّمت كثيرا،نازعت النّفس وضعفها والجراح وسقمها ،جنّبتكم مرارة الحيرة والانتظار على أمل أن تكون نتائج الفحوصات إيجابيّة لكن..."
تزلزلت الغرفة تحت قدميّ.فقدت توازني وتهالكت على المقعد مهدودة الأوصال.
اشتعلت الحرائق داخل هيكل نفسي الجريحة.عجزت أمام وقع الصّدمة الموجعة أن أقول شيئا.
"ربّما أقسو عليك الآن وأنا أحمّلك أعباء نفسي وجسدي وبيتي مثلما قسوت عليك فيما مضى.
اضطهدت قلبك المفعم بالحبّ.كنت أبحث لك عن الأفضل والأجمل.لم أكن أريدك أن تشقي لكنّني عذّبتك بقراري المجحف.
أطعتني في صمت،رضخت لأنانيّة أب رأى الأمر من زاوية واحدة.
أضطهد هذا القلب الصّغير مجدّدا وأنا أبثّه لاعج همّي.أعرف أنّك طريّة العود ،رقيقة المشاعرلكن ثقتي كبيرة في رباطة جأشك وقدرتك على تحمّل المسؤوليّة التي أنيطها بعهدتك.
اليوم صارحني الطّبيب بكلّ شيء...باتت أنفاسي معدودة بعد أن فتك بي المرض الخبيث.لقد لوّث دمي ".
تدحرج بي الخبر إلى هوّة سحيقة وقرارة سوداء.ارتسم أمام ناظريّ هول الفجيعة ،صراخ وعويل،تأبين...
استفقت على حركة والدي يضمّني إليه بشدّة.أيقظتني حرارة أنفاسه.
لماذا أخفى عنّي دفء هذه المشاعر وراء غلاف القّوة والبأس؟
احتجت في أوقات ضعفي وانكساري إلى هذا الحضن المفعم بحنان الأبوّة ورقّة الشّعور.
بات عليّ الآن أن أرتدي لباس القوّة لألملم جروحه.إنّه في حاجة إليّ.لا بدّ من التّجلّد والصّبر.
لكن هل أستطيع أن أتحامل على نفسي وأنا أرى الموت يدبّ دبيبا ليختطف أبي؟
ما أقسى هذا الامتحان الذي وضعتني فيه الأقدار...
لكن لا بدّ أن أتجلّد من أجله ومن أجل أمّي وأخويّ الصّغيرين.
طبعت قبلة حارّة على جبينه ومسحت بقايا دموع علقت بمآقيه وأنا أردّد " لا عدمناك أبي ،لا عدمناك .اللّه وحده عليم بالغيب"
بقلم نادية
تعليق