إن خصوصية العلاقة بين الشكل والوظيفة قد مثلت الجانب الاكبر فى البحث المعمارى وتكوين الوعى المعمارى المعاصر ، وشكلت محور النظريات المعمارية الحديثة فى القرن العشرين ، إذ انبثقت عن الجدليات التى ارتبطت بها مجموعات من النظريات التى تميل لتغليب أحد طرفى المعادلة ، وتتضمن جدلية الشكل والوظيفة فى العمارة تلك العلاقة التى تربط التشكيلات المعمارية بالبرنامج المعمارى والوظيفة التى ينبغى ان يؤديها المبنى .
وتستمد الإشكالية فى هذه العلاقة أصولها من فكرة أن العمارة تنتمى للفن التطبيقى الذى يشكل خلاصة الجانب التشكيلى من ناحية ولمجموعة العلوم التى تغذى جزءها الوظيفى من الناحية الاخرى ، ولذلك فكل الاعمال المعمارية التى يجتهد المعماريون فى تقديمها يتجاذبها هذان القطبان، وتسعى – فى أحسن الاحوال – لتحقيق توازن بين قطبى المعادلة .
وقد تطرق لمفهوم العلاقة بين الشكل وبين الوظيفة الكثير من الباحثين النظريين فى مجال العمارة بالدرجة الأساسية ، بينما اجتهد المصممون الممارسون فى بحثها والتدليل عليها من خلال أعمالهم المعمارية .
فنرى – لوكوربوزيه – قد عرف العمارة بأنها التلاعب الذكى الرائع والجميل بالكتل تحت الضوء ، وأن أعيننا مخلوقة لترى الأشكال تحت النور وما ينتج من ظل لها ، ولهذا فإن المكعب والمخروط والكرة والهرم وغيرها من الأشكال الهندسية تتميز بذاتها حال سقوط النور عليها .
وعلى النقيض نرى – ميس فان درروه – يعرفها بأنها التعبير عن الحيز الفراغى الذى يتضمن الواقع والمتغير فى إطار من الوظيفية الصرفة ، مع رفض كل ما يرتبط بمفهوم الشكل أو التشكيل ، إذ أن الشكل عنده ليس هو الغاية من عمل المعمارى ، لكنه فقط نتيجة لهذا التوجه الوظيفى الصرف .
إن الإختلاف بين هذين المفهومين ليس مقتصرا على لوكوربوزيه وميس بل يشمل الكثير من المعماريين الذين يجتهدون فى تقديم التعريفات المختلفة كل حسب منظوره وإدراكه لطبيعة العلاقات المادية بينها وبين الفراغ ذاته .
ونرى منهم من ذهب إلى أن العلاقة بين الشكل والوظيفة يصعب التطرق لها نظرا لطبيعة العمارة ذاتها ، التى تختلف عن التخصصات العملية الأخرى مثل الإنارة أو الإنشاء أو الصوتيات ، وهذه تخضع بدرجة كبيرة لقوانين ونظريات علمية مؤسسة لها ، بخلاف العمارة التى تنفرد – فى تصورهم – بشق فنى كبير قد يضعها وبقوة ضمن دائرة الفن التشكيلى .
وقد نرى بعض النظريات الأخرى التى قدمت لنا تفسيراً مغايراً ، فقد ذهب البعض الى اعتبار العلاقة بين الشكل والوظيفة علاقة بين الجزء والكل وبمعنى أخر يتحدد الشكل النهائى بالتعامل الأوحد بالمفردة التشكيلية ذاتها وعلاقتها بالتشكيل الكلى ، وعلى ذلك يكون التصميم عملية متجه من الجزء إلى الكل ، أو بمعنى أخر تنبع من الجزء مع إدراكه ضمن الكل ، وهنا تكون المفردات المستعملة فى التصميم لا تملك قيمة منفرده بذاتها ، بل هى تستمد أهميتها من علاقتها بمجاوراتها ، وبكونها جزءاً من المحتوى الكلى الذى يسعى المصمم للتوصل إليه ، أو إلى الصورة النهائية وغاية تصميمه .
وبخلاف ما سبق ذكره وغيره من الإتجاهات الاخرى صارت عملية التصميم المعمارى فى عصرنا الحديث عملية عقلية ذهنية ، تجمع بين القدرة الإبداعية التخيلية ، وبين المهارة والخبرة المكتسبة التراكمية للمعمارى ، كعملية مركبة تبدأ بمرحلة تلمسية أشبه ما تكون بالتجربة والخطأ ، لتلمس بداية الطريق باتجاه حل معادلة تتجمع بها أطراف متعددة ، ومتناقضات فى بعض الأحيان ، ولذلك فليست هناك من وسيلة لبدء هذه العملية الذهنية الشاقة إلا من خلال ما يراه المعمارى المصمم نفسه ، وبحسب قدراته وإدراكه ، وقدرته على التخيل والابداع .
وعليه أصبح واقعنا المعمارى المعاصر يقوم على عمارة المعمارى المفرد وإن تعددت الاتجاهات والمدارس ، فمهما رسمنا من اتجاهات عن طريق التحليل المنطقى وتجاربنا الشخصية ، فسوف يظل جزء كبير من عملية الخلق المعمارى خارج النطاق المرسوم لها والمحدد لها سلفا ، وسيبقى خاضعا للهوى الشخصى ، والانفعالات النفسية ، والاتجاه الفنى للمعمارى المصمم ، ولقدرته على رسم طريقه بين الثوابت والمتغيرات ، وهذا ما يفرق بين معمارى وآخر ، ويجعل من العمارة فى حاضرنا فنا متغيرا مختلف الطرز والتشكيلات ، غير منتمى لفكر حضاري راسخ ، ولا لمعنى قومى فى أغلب أحواله .
إن عملية التصميم المعمارى لجدير بها أن تحمل مضمونا عميقا ، بعيداً عن شكلية التصميم ومظهرية المكنون ، مضموناً يحوى انتماءها الحضارى بشكل واضح ومباشر ، كما تضم فى جنباتها فلسفة وجودها وحقيقة مرادها .
فيجب على التصميم أن يكون نابعاً من محيطه ومجتمعه وتاريخه ، معتزاً بأصله وأصالته ، لا يرتكز على أفكار أو عناصر تصميمية دخيلة ، أو متفرداً بأشكال ومعان غريبة على واقعه ، غير معتمد فقط فى إدراك هيئته على محصلة التباين بينه وبين الحقل المرئى والفراغ المحيط به .
لقد أفرزت الحضارة المصرية القديمة عمارة ذات طابع خاص ، لا تتأثر بشخصية المعمارى ، من خلال وضع الأسس والقيود التى تحد من شكلية التصميم وتصب به فى مضمون الفكرة وعقيدة البناء .
لقد كانت عمارة رقمية حسابية إنطلقت إلى آفاق من التطور والرسوخ نحو هدف واضح وصريح ، فإذا كانت الشكلية – Formalism – تعنى فصل الشكل عن الوظيفة كما قال بها أنصارها ، وكان المبنى الهرمى درة العمارة المصرية القديمة هو قمة الشكلية فى منتجها النهائى ، بمعنى أنه شكل هرمى صارم بدون تفاصيل ، فإن منطق الوحدة العضوية للعمارة المصرية القديمة قد استولد من هذا الشكل الصارم معنى وظيفيا صرفا فى أقوى صوره سواء كان مستترا أم ظاهراً بصورة سليمة بعيدة عن التكلف والتزيد ، وهو بذلك قد قدم لنا الجواب الشافى الذى يرد على تلك الجدليات المستمرة فى واقعنا المعمارى عن العلاقة بين الشكل والوظيفة .
إن عملية التصميم المعمارى فى المدرسة المصرية القديمة هى عملية خلق فنى متكاملة وشاملة ، محددة بمواصفات ومحددات ثابتة لعملية الإبداع الفنى ، فقد كانت الكتل نقية واضحة ، لم تفسدها تنويعات مزيدة غير متناسبة ، مضاف إليها توزيع له إيقاع واضح بنسب منتمية الى بناء الجسد البشرى والكون كله ، مما ينقل إلى الإدراك والشعور إحساسات مترابطة ذات معان عميقة ، ينال منها العقل والإحساس البشرى رضا واستكفاء .
لقد ظلت العمارة المصرية القديمة تحمل أسسها الثابتة راسخة لا يحيد عنها المعمارى طوال عمرها المديد ، فكانت عملية التصميم المعمارى فى واقع الأمر تنفيذاً لبروتوكول التصميم الموضوع سلفا من المدرسة المعمارية ، ويقوم على تنفيذه المعمارى الفرد ، تنفيذا رقميا متسلسلا وصولا الى المنتج النهائى الذى يشف حقيقة الحضارة ومفهوم العقيدة التى أسس المبنى عليها .
إن مفهوم العمارة الحسابية الرقمية التى كان يقوم عليها منهج العمارة المصرية القديمة جعلها تنطلق إلى آفاق من القدرات الراقية التى مكنتها من اختراق المحددات المعوقة فى عملية التصميم والتغلب عليها ، بواسطة توظيف المفاهيم الكونية بل والمقاييس الجيوديسية بما تمثله من نسب وعلاقات فراغية تقوم على التبسيط والتسلسل المنطقى لمفهوم المكان والفراغ ، واحترام الأحاسيس البشرية ، بل والعمل على التأثير فيها وتشكيلها بما يخدم مفهوم الفكرة المعمارية وخلق مناخ تجد فيها النفس التواءم والتلاءم مع هذا المنتج المعمارى الشامل .
إن ملمح التجريد المعمارى لتلك المدرسة المعمارية الرائدة يحمل تلك الخاصية الرائعة والتى تنفرد بها وحدها ، والتى تحيل الواقع المادى لمواد البناء إلى معان روحية سامية ، وينبعث الجمال المطلق منها من عملية الاتحاد بين الروابط الشكلية والإدراكات الحسية .
إن العمارة المصرية القديمة لجديرة بأن تدرس حق الدراسة ويخصص لها من البحوث والمعاهد المعمارية ما يوفيها قدرها من قيمة وإعتبار .
إن هذه الدراسة ليست ترفاً بحثياً أو بحثاً أثرياً تاريخياً ،أو دعوة إلى فرعونية ، بل تمثل حاجة عملية نحتاج إليها أيما احتياج لتصحح الطريق وتقوم مفاهيم واقعنا المعمارى المعاصر والذى يبحث بالتأكيد عن تلك القيمة وهذا التأصيل .
وفى اعتقادنا أن تلك البساطة والمرونة وغيرها من المميزات التى تميز عمارة مصر القديمة لا يزال من اليسير الانتفاع بها فى فقهنا المعمارى المعاصر لو توفرت العناية بدراستها ، وتوفر الفهم الصحيح لأسسها وللعوامل التى أنتجتها ،ِ لتكون بداية انطلاقة جديدة لصياغة قالب معمارى جديد متميز نفيد منه ونستفيد .
تعليق