[align=right]
رؤية اسطنبول، بمساجدها وقصورها ومتاحفها حلم طالما راودني، وسنحت فرصة تحقيقه عندما طلب مني صديقي سامح ان نذهب سوية في رحلة احتفاء بنجاحنا في المرحلة الثانوية، هو يعرفها فقد زارها عدة مرات من قبل لاسباب غامضة بالنسبة لي، كان شابا طويلا اسمر رشيقا يمشي قفزا يريد التحليق من على الارض، متفائلا لا يغتم لشيء؛ فقد كان مرفها، الابن الاكبر في عائلة مكونة من امه وابيه واخته الصغرى .
ركبت الشوق لاحقق حلمي، وما ان ولجنا اسطنبول حتى بهرتني بمبانيها وعماراتها العالية وجسورها وانفاقها التي لا تعد ولا تحصى، شوارع وطرقات على مد البصر، اناس وبشر من كافة الاشكال والالوان، مدينة كالاخطبوط مترامية الاطراف، فرص الضياع فيها عالية.
شعرت ان السائق يسير في حلقة مفرغة ، اظهرت استغرابي لكن السائق و سامح طمأنانني
بدأ يدخل في حارات وازقة غريبة قديمة، تفوح منها العفانة والنتانة، ضيقة مرصوفة بالحجارة، فيها نساء كاسيات عاريات كالعمامير (1) تقف بخلاعة على ابواب المبان القديمة المنخفضة، ضحكاتهن الماجنات تملأ المكان بالشياطين، وشبان ورجال يتفرجون ويصطفون في صفوف عوجاء، لم تكن هناك دائرة رسمية اظهرت استغرابي واستهجاني لسامح لكنه لم يحفل طالبا مني الصبر، ثم دلف بنا الى زقاق خلفي اضيق من الاول، مبانيه مسنّة قليلة الارتفاع، ازدحام الناس فيه اقل ولكن بنفس تلك الروائح البغيضة، دفع سامح مبلغا كبيرا الى السائق بعد اخذ ورد معه فثرت معترضا لكنه اخمد ثورتي بكلامه المعسول، فصبرت على مضض
نظرت حولي فلم أر لافتة لفندق ، اشار الى مدخل شبه مخفي لمبنى متهالك صغير مكون من طابقين فجاريته لأرى الروعة التي حدثني عنها، هممت بالدخول غير مطمئن فرايت المبنى يلفظ سكانه مرة واحدة فيخرجون غير مرتبين فاصطدمت بمعظمهم وانا اصعد الدرج حتى كدت اقع لولا ان بعض الشباب المرتبين ركزوني من الخلف، وكلما اوغلت في المبنى ازدادت الرائحة قسوة وايلاما، وصلنا الى غرفة في آخر الممر معتمة بلا شباك، منتنة وبدون تهوية وروائح كريهة تفوح منها، تزكم الانف . قلت ماهذا يا سامح؟ هذه مزبلة، هذا ليس فندقا ولا نزلا، ولولا ان اباك اوصاني بك لتركتك وذهبت
-دعنا نتعشى اولا ونرتاح، وسيتغير رايك مباشرة
اخذت افكر؛ كيف سيتغير رايي بعد العشاء؟ هل مجرد الطعام هو ما سيجعل هذا المكان القبيح وسيما؟ غير معقول، ما سمعته عن هذه المدينة مختلف تماما عما اراه الان، صور المتاحف والقصور والمساجد وجسر المضيق! اين كل هذا مما اراه؟ ساصبر قليلا متى نتعشى يا ترى؟ استلقى ونام فورا على السرير المتهالك القذر غير عابيء، لم اكن اعرفه غيرمبال الى هذا الحد، ركلت قطع النفايات بقدمي حتى جمعتها في مكان واحد ثم قلبت فرشة (مرتبة) السرير فبان وجهها النظيف فجلست على جمر.
انتزعني من اعماق افكاري صوت قرع الباب، فهممت ان افتح لكن سامح قفز الى الباب ففتحه معلما اياي ان العشاء قد حضر، فسحبت تربيزة الطعام وبدات بتنظيفها ، دخلت فتاتان تحملان انواع المشاوي واكياس فيها زجاجات العصير، وضعتا الطعام على الطاولة وهما تتحركان بدلع وغنج حتى تكادان ان تقعا، القت واحدة بنفسها على سامح فتلقفها، شعرت بالثانية تتجه نحوي فانسبحت الى الوراء قليلا فوقعت على السرير، وانا مشدوه تعذر نطقي مما يحصل، رتب سامح والفتيات طاولة الطعام وتحولقوا حولهاوبدأ ياكل بنهم شديد، دعاني الى الطعام ، وما ان فتح زجاجات العصير المغلفة بورق الصحف الخليعة حتى طار عقلي؛ انها خمور!
فثارت ثائرتي وتركته وخرجت كالمجنون مسرعا الى عالم مجهول
سرت في الشوارع وحيدا شارد الذهن افكرفي احتمالين؛ إما تركه او انتظار خروج المومسات من عنده ثم التحدث معه. لم استطع الوقوف لانه شبهة فظللت اسير هائما مفكرا، وماهي الا دقائق حتى وجدتني في مكان آخرفبدات اتراكض هنا وهناك مذعورا حتى انهكني الجوع والتعب، اردت ان اسأل احدا، ولكن لا اعرف اسم المكان حتى لو تكلم شخص لغتي، استمريت بالسير والبحث تائها حتى سمعت اذان الفجر، فانفرجت اساريري وتتبعت الصوت حتى وصلت الى مسجد صغير قديم، رواده ثلاثة مسنين انا رابعهم والامام الشاب الذي انتبه لي، فاقترب مني وتكلم معي بعربية فصيحة، فحدثته بما حصل معي، فسر كثيرا عندما علم اني عربي، وحزن وتاسف على ما حصل لصديقي وقال لي: هذه نتيجة حتمية لكل من يخرج من بلاده بدون سلاح العلم والدين، لكن لا تحزن! سنحاول اخراجه من هناك ان شاء الله.
ارتحت كثيرا وهدأ روعي، وبعد الصلاة اخذني الى منزله الملتصق بالمسجد وجهز لي طعام الفطور، فافطرنا سوية، وادخلني الى غرفة في المنزل طالبا مني الاستراحة لحين عودته فلديه عمل يقضيه والبيت ليس فيه احد غيري لانه اعزب.
نمت ساعتين لم انم مثلهن طوال حياتي من شدة التعب والقلق، وحضر فخرجنا سويا لانقاذ صديقي سامح، وفي الطريق عرجنا على البريد فتحدثت مع والد سامح فقال دعه فهو رجل يستطيع الاعتناء بنفسه فحزنت، ثم اتصلت باهلي واخبرتهم بما حصل واني راجع قريبا جدا، وصلنا الى زقاق تهيأ لي اني اعرفه فطلب مني الاستمرار لانه لن يستطيع الاقتراب اكثر قائلا - صاحبك في نهاية هذا الزقاق على الاكثر، اذهب وعد به وانا هنا بانتظاركما
سمعت صوت صراخ سامح وانا اصعد الدرج فاستعجلت فاذا هويصرخ على على صاحبة النزل ويخبرها ان الفتاتين سرقتا كل امواله وتركتاه نظيفا، وهي تقول له اخرج من هنا وإلا احضرت لك الشرطة، فحاولت اقناعه بترك الامر والعودة معي، فرفض بشدة واصر معاندا على ايجادهما واخذ حقه منهما، فتوجهت الى الغرفة فلملمت حقيبتي المنثورة وخرجت.
ذهبت برفقة الامام الى مكتب الطيران وحجزت مقعدا في رحلة منتصف الليل، ثم ذهب بي لزيارة بعض القصور والمتاحف والمساجد
وجاء المساء فاوصلني الى المطار وودعني فودعته داعيا اياه لزيارتي في بلدي فقال ان شاء الله.
عدت الى بلدي ، اخبرت ابي سامح بما حصل فلم يكترث مدعيا انه سيحضر بعد ان ينهي عمله
شهرين مضت سافر بعدها أبو سامح لأسطنبول وعاد يحمل جثمان ابنه!
(1) العمامير: جمع عمورة وهي انثى الشيطان او الجن، شيطانة، جنية
مصطفى الصالح
12\12\2009[/align]
رؤية اسطنبول، بمساجدها وقصورها ومتاحفها حلم طالما راودني، وسنحت فرصة تحقيقه عندما طلب مني صديقي سامح ان نذهب سوية في رحلة احتفاء بنجاحنا في المرحلة الثانوية، هو يعرفها فقد زارها عدة مرات من قبل لاسباب غامضة بالنسبة لي، كان شابا طويلا اسمر رشيقا يمشي قفزا يريد التحليق من على الارض، متفائلا لا يغتم لشيء؛ فقد كان مرفها، الابن الاكبر في عائلة مكونة من امه وابيه واخته الصغرى .
ركبت الشوق لاحقق حلمي، وما ان ولجنا اسطنبول حتى بهرتني بمبانيها وعماراتها العالية وجسورها وانفاقها التي لا تعد ولا تحصى، شوارع وطرقات على مد البصر، اناس وبشر من كافة الاشكال والالوان، مدينة كالاخطبوط مترامية الاطراف، فرص الضياع فيها عالية.
شعرت ان السائق يسير في حلقة مفرغة ، اظهرت استغرابي لكن السائق و سامح طمأنانني
بدأ يدخل في حارات وازقة غريبة قديمة، تفوح منها العفانة والنتانة، ضيقة مرصوفة بالحجارة، فيها نساء كاسيات عاريات كالعمامير (1) تقف بخلاعة على ابواب المبان القديمة المنخفضة، ضحكاتهن الماجنات تملأ المكان بالشياطين، وشبان ورجال يتفرجون ويصطفون في صفوف عوجاء، لم تكن هناك دائرة رسمية اظهرت استغرابي واستهجاني لسامح لكنه لم يحفل طالبا مني الصبر، ثم دلف بنا الى زقاق خلفي اضيق من الاول، مبانيه مسنّة قليلة الارتفاع، ازدحام الناس فيه اقل ولكن بنفس تلك الروائح البغيضة، دفع سامح مبلغا كبيرا الى السائق بعد اخذ ورد معه فثرت معترضا لكنه اخمد ثورتي بكلامه المعسول، فصبرت على مضض
نظرت حولي فلم أر لافتة لفندق ، اشار الى مدخل شبه مخفي لمبنى متهالك صغير مكون من طابقين فجاريته لأرى الروعة التي حدثني عنها، هممت بالدخول غير مطمئن فرايت المبنى يلفظ سكانه مرة واحدة فيخرجون غير مرتبين فاصطدمت بمعظمهم وانا اصعد الدرج حتى كدت اقع لولا ان بعض الشباب المرتبين ركزوني من الخلف، وكلما اوغلت في المبنى ازدادت الرائحة قسوة وايلاما، وصلنا الى غرفة في آخر الممر معتمة بلا شباك، منتنة وبدون تهوية وروائح كريهة تفوح منها، تزكم الانف . قلت ماهذا يا سامح؟ هذه مزبلة، هذا ليس فندقا ولا نزلا، ولولا ان اباك اوصاني بك لتركتك وذهبت
-دعنا نتعشى اولا ونرتاح، وسيتغير رايك مباشرة
اخذت افكر؛ كيف سيتغير رايي بعد العشاء؟ هل مجرد الطعام هو ما سيجعل هذا المكان القبيح وسيما؟ غير معقول، ما سمعته عن هذه المدينة مختلف تماما عما اراه الان، صور المتاحف والقصور والمساجد وجسر المضيق! اين كل هذا مما اراه؟ ساصبر قليلا متى نتعشى يا ترى؟ استلقى ونام فورا على السرير المتهالك القذر غير عابيء، لم اكن اعرفه غيرمبال الى هذا الحد، ركلت قطع النفايات بقدمي حتى جمعتها في مكان واحد ثم قلبت فرشة (مرتبة) السرير فبان وجهها النظيف فجلست على جمر.
انتزعني من اعماق افكاري صوت قرع الباب، فهممت ان افتح لكن سامح قفز الى الباب ففتحه معلما اياي ان العشاء قد حضر، فسحبت تربيزة الطعام وبدات بتنظيفها ، دخلت فتاتان تحملان انواع المشاوي واكياس فيها زجاجات العصير، وضعتا الطعام على الطاولة وهما تتحركان بدلع وغنج حتى تكادان ان تقعا، القت واحدة بنفسها على سامح فتلقفها، شعرت بالثانية تتجه نحوي فانسبحت الى الوراء قليلا فوقعت على السرير، وانا مشدوه تعذر نطقي مما يحصل، رتب سامح والفتيات طاولة الطعام وتحولقوا حولهاوبدأ ياكل بنهم شديد، دعاني الى الطعام ، وما ان فتح زجاجات العصير المغلفة بورق الصحف الخليعة حتى طار عقلي؛ انها خمور!
فثارت ثائرتي وتركته وخرجت كالمجنون مسرعا الى عالم مجهول
سرت في الشوارع وحيدا شارد الذهن افكرفي احتمالين؛ إما تركه او انتظار خروج المومسات من عنده ثم التحدث معه. لم استطع الوقوف لانه شبهة فظللت اسير هائما مفكرا، وماهي الا دقائق حتى وجدتني في مكان آخرفبدات اتراكض هنا وهناك مذعورا حتى انهكني الجوع والتعب، اردت ان اسأل احدا، ولكن لا اعرف اسم المكان حتى لو تكلم شخص لغتي، استمريت بالسير والبحث تائها حتى سمعت اذان الفجر، فانفرجت اساريري وتتبعت الصوت حتى وصلت الى مسجد صغير قديم، رواده ثلاثة مسنين انا رابعهم والامام الشاب الذي انتبه لي، فاقترب مني وتكلم معي بعربية فصيحة، فحدثته بما حصل معي، فسر كثيرا عندما علم اني عربي، وحزن وتاسف على ما حصل لصديقي وقال لي: هذه نتيجة حتمية لكل من يخرج من بلاده بدون سلاح العلم والدين، لكن لا تحزن! سنحاول اخراجه من هناك ان شاء الله.
ارتحت كثيرا وهدأ روعي، وبعد الصلاة اخذني الى منزله الملتصق بالمسجد وجهز لي طعام الفطور، فافطرنا سوية، وادخلني الى غرفة في المنزل طالبا مني الاستراحة لحين عودته فلديه عمل يقضيه والبيت ليس فيه احد غيري لانه اعزب.
نمت ساعتين لم انم مثلهن طوال حياتي من شدة التعب والقلق، وحضر فخرجنا سويا لانقاذ صديقي سامح، وفي الطريق عرجنا على البريد فتحدثت مع والد سامح فقال دعه فهو رجل يستطيع الاعتناء بنفسه فحزنت، ثم اتصلت باهلي واخبرتهم بما حصل واني راجع قريبا جدا، وصلنا الى زقاق تهيأ لي اني اعرفه فطلب مني الاستمرار لانه لن يستطيع الاقتراب اكثر قائلا - صاحبك في نهاية هذا الزقاق على الاكثر، اذهب وعد به وانا هنا بانتظاركما
سمعت صوت صراخ سامح وانا اصعد الدرج فاستعجلت فاذا هويصرخ على على صاحبة النزل ويخبرها ان الفتاتين سرقتا كل امواله وتركتاه نظيفا، وهي تقول له اخرج من هنا وإلا احضرت لك الشرطة، فحاولت اقناعه بترك الامر والعودة معي، فرفض بشدة واصر معاندا على ايجادهما واخذ حقه منهما، فتوجهت الى الغرفة فلملمت حقيبتي المنثورة وخرجت.
ذهبت برفقة الامام الى مكتب الطيران وحجزت مقعدا في رحلة منتصف الليل، ثم ذهب بي لزيارة بعض القصور والمتاحف والمساجد
وجاء المساء فاوصلني الى المطار وودعني فودعته داعيا اياه لزيارتي في بلدي فقال ان شاء الله.
عدت الى بلدي ، اخبرت ابي سامح بما حصل فلم يكترث مدعيا انه سيحضر بعد ان ينهي عمله
شهرين مضت سافر بعدها أبو سامح لأسطنبول وعاد يحمل جثمان ابنه!
مصطفى الصالح
12\12\2009[/align]
تعليق