مهلبية
[align=justify]لا أدري كيف تصنع المهلبية .. وكنت في صغري مولعا بها وبالسحلب وسائر اللذائذ التي كانت تصنع من الحليب الحموي اللذيذ الذي لم أذق مثله إلا في (أربيل) شمال العراق، و(أميرداغ) وسط تركيا .. وعهدي بالمهلبية قديم جدا، لكني كنت قبل أشهر أتسوق في محل بلدي في بروكسيل، فاشتريت منه جبنة بلدية وشنكليشا وزعترا أخضر وكشكا ومكدوسا وما أشبه ذلك من اللذائذ البلدية .. وهذه البضاعة كلها صناعة سورية، إلا المهليبة والسحلب، فكانا صناعة لبنانية.
ابني الصغير مهران (ست سنوات) "متعصب" لكل شيء سوري! ومبعث هذا التعصب البريء وهذه العصبية البريئة – وذلك على الرغم من أن في أسرته الصغيرة ثلاثة أجناس: الجنس العربي والجنس الأمازيغي والجنس الجرماني – هو عروس (أي سندويشة) شاورمة بلدية تذوقها في طنجة في المغرب هذا الصيف. كان ذلك في مطعم سوري في شارع طنجة الرئيسي قرب محكمتها الابتدائية، مكتوب على واجهته ما يلي: (شاورمة اختصاص سوري .. لسنا الوحيدين في المدينة، لكننا بالتأكيد الأفضل!). والحق يقال: إن الطعام الذي يقدمه هذا المطعم هو طعام بلدي أصلي دون أقلمة مع البيئة المغربية، ذلك أن أصحاب معظم المطاعم الأجنبية غالبا ما يؤقلمون أطعمتهم مع البئية التي يوجدون فيها (مثلا: الحمص في المطاعم السورية واللبنانية في الغرب قليل الطحينة .. والوجبات الإيطالية في بلجيكا ليست هي هي في إيطاليا لأن أهل أوربا الشمالية لا يستسيغون زيت الزيتون القوي، الأمر ذاته ينطبق على المطبخ الصيني وغيره الخ). حاصله: تغدينا في مطعم الشاورمة "الاختصاص سوري" و"الأفضل في المدينة"، شاورمة بلدية، ودعمناها بحمص ومتبل وتبولة بلدية معتبرة .. وشربنا لبن عيران، وذهبنا في حال سبيلنا. ومنذ ذلك الوقت ومهران يطلب الشاورمة ويضيف مؤكدا: "شاورمة سورية"! وكلما طلبنا منه أن يتمنى علينا شيئا، تمنى "شاورمة سورية"!
وأمس قال لي: أين البودينغ السوري يا أبي؟ ــ ويقصد المهلبية! وبدأنا بتحضير المهلبية، أنا وهو بعدما طلب من أمه (غير السورية!) أن تبقى بعيدة من المطبخ على أساس أن ما يجري في داخله شأن سوري داخلي لا دخل لها به .. وبدأنا نحضر المهلبية وفقا لإرشادات الاستعمال وهي:
طريقة الاستعمال:
1. توضع محتويات الملف الواحد مع خمسة أكواب من الحليب في وعاء على النار.
2. يحرك المزيج باستمرار حتى النضوج. يفضل إضافة ملعقة طعام من ماء الزهر.
تلوت على مسامع مهران خطة العمل، فقال لي بعفوية الطفل: أكواب كبيرة أم أكواب صغيرة؟! قلت لا أدري، دعنا نقرأ الترجمة الإنكليزية، فقرأنا:
1. Put the content of one sachet in a bowl on fire with five cups of milk.
2. Stir the mixtures until matured
فما استفدنا شيئا إلا ترجمة ركيكة زادت في الطنبور نغما! فبدأت أتذكر حجم الأكواب البلدية عل وعسى، فما تذكرت إلا "كاسات الهوا"! فاجتهدنا، مهران وأنا .. ووضعنا لترا من الحليب على النار وأضفنا إليه ظرفا من المهلبية وبدأنا نحرك ونحرك ونحرك حتى أصبح الحليب يغلي ولكن دون أن يصبح مهلبية .. فاقترح مهران إضافة ظرف آخر إلى الحليب .. فأضفنا ظرفا آخر واستمرّ التحريك والغليان نصف ساعة ولا مهلبية .. ولما تجاوز الوقت الثلاثة أرباع الساعة ونحن نحرك حليبا يغلي دون أن يثخن ويصبح مهلبية، أضفنا ظرفا ثالثا ورابعا حتى أفرغنا محتوى كل ظروف العلبة التي تكفي لخمسة ألتار من الحليب، وحركنا حتى وجعتنا أيادينا .. ولم نحصل على مهلبية! تذوقت الحليب فإذا هو حليب ساخن حلو مثل القطر! فعلمت – أو بالأحرى استنتجت – أن الظروف كانت تحتوي على سكر ومحلب ومستكة، وأن الذين صنعوا هذه العلبة التي اشتريتها، نسوا أن يضيفوا إلى الخليط الأرز والنشاء اللذين يحيلان الحليب والمستكة إلى مهلبية ..
استنجدنا بأم العيال فخذلتنا لأن مهران قال لها إن المهلبية شأن سوري داخلي لا دخل لها به .. وبعد الاعتذار لها بالقول إن المهلبية شأن سوري وأمازيغي أيضا .. شرحنا لها المسألة، فأشارت علينا بإضافة بعض النشاء، وأرشدتنا إلى مكانه في (غرفة المونة) في القبو، فنزلنا إلى القبو .. وبحثنا فيه ووجدنا النشاء ولكن منتهي الصلاحية منذ نصف سنة تقريبا .. أيقنا أنه لم يكتب لنا أن نطعم مهلبية في يومنا ذاك، ورمينا كل شيء، وخرجنا من المطبخ بخفي حنين ..
فقلت لمهران: هذه المهلبية ليست سورية! فالشيخ مهران في مرحلة بلورة وعي وطني نتيجة لعروس شاورمة سورية في طنجة .. والوعي الوطني مطلوب جدا في هذه البلاد .. فلا يليق بي أن أفسد عليه عملية التبلور هذه .. وأضفت له: إن المهلبية السورية كاملة الأوصاف وإننا سنتصل بجدته – أطال الله بقاءها – لنسألها كيف تحضر المهلبية على الأصول .. فانفرجت أسارير وجهه عندما علم أنها ليست مهلبية سورية .. وانبسط حتى بلغ درجة الاصطهاج .. ثم علق تعليقا بريئا لكنه ماكر .. لن أذكره خشية من أن تأتي مهلبيتنا هذه على ما تبقى من علاقات سورية لبنانية، هلامية الشكل جلاتينية الهيئة ــ مثل المهلبية!
[/align]
تعليق