قصة الزوايدي البسيطة *
بقلم عبد العزيز ضيف الله **
* صدرت لفيصل محمد الزوايدي مجموعته القصصية الاولى بتاريخ مارس 2007 عن دار قرطاج للنشر بتونس تحت عنوان طريف " قصة بسيطة جدا "
** عبد العزيز ضيف الله : قاص و ناقد تونسي .
نام طفلي بعد أن شاغب أمه و أخاه و أرهقني برغبته الملحاح في ملامسة كل ما تطاله يده و ما لا تطاله ، كانت تلك طباع أخيه حين كان في سنه ، فأهم خصائص الأطفال الفضول و تسمية الأشياء و عجمها بالأسنان.
استخرجت من مكتبي مجموعة فيصل القصصية لأقراها ففاجأني طفل آخر بين ثنايا قصصه ، إنه يحاول برغبة مشابهة أن يعيد اكتشاف ما حولنا فينبه حواسنا الكليلة إلى أدق التفاصيل منبهرا بما يرى و يسمع في لغة تشي هي ذاتها بالاندهاش و التعجب و الحيرة .
و في محاولة أرجو ألا تكون فاشلة لضبط نهجه " العابث " ها أنا ألزم ( و أنا اعتذر عن هذا ) نصوصه السائبة بأوان أخشى أنها تضيق بها .
1- تسمية هواجس الطفل و أحاسيسه :
يخاطبنا الأطفال بلغة تبدو غامضة و مفككة الأوصال و ننجح أحيانا في فهم تلك الجمل و المفردات لكن بجهد و بعد مؤالفة ، و قد حرصت لهذا الغرض على مرافقة هذه النصوص جريا على نهج النقد التكويني الذي هو محاولة لإعادة تشكيل سيمياء المشاعر و الايديولجيات و الأحاسيس كما استفدنا من جوليا كريستيفا في أطروحتها المركزية إذ ترى أن الذات البشرية عالقة بين السيميائي و الرمزي
فلاحظنا هذه الظواهر :
- عودة الطفل إلى المنابع و تجديد الأسئلة و بعثها غضة طرية تجعله يرى الأمور بعين خالية من كلل العادة و الحرام " و ما يِهمْ " و " لا جديد تحت الشمس " إلى آخر هذه العبارات الدالة على تكلس المشاعر و الأفكار و الانسحاب من العالم للاحتماء بقوقعة القطيع : الجماعة .
- رفض الامتثال إلى ما تأمرنا به الجماعة في حاضرها و تاريخها الطويل .
- تجديد النظر إلى القضايا المغفلة و المعلّقة و تلك المعتبر أمرها محسوما فهي " هكذا خِِلقة " " هذا ما صار " لا فائدة في بحثها " .
و في الحقيقة فان هذا النهج هو ما أطلقت عليه " جوليا كريستيفا " صراع الجانب النزوي السيميائي ممثلا في الطبيعة و الأم مع الجانب العقلاني الاجتماعي الرمزي ممثلا في اللغة و القوانين و الاب .
و حتى لا نغالي كثيرا فان الزوايدي في نصوصه ليس إلا رجلا يحن إلى طفولته فهو من جهة يسعى أن يكون الطفل المتحرر المتحلل من قيوده المجاهر برغباته و لكنه لا يفتأ يتذكر انتسابه إلى فئة الكهول المحكومين بالضواغط الاجتماعية و من هذا المنطلق سوف نتابع هذا التراوح بين النزق الطفولي بكل مشمولاته و الالتزام بضوابط التشريع المعهود لدى الكهل .
2- طفل يكبر قبل أوانه :
منذ صفحة الإهداء يعلمنا الزوايدي أنه ذو هموم بل هم مهتم بهموم الآخرين ضمنا " إلى الصابرين على الهم .. همي و همومهم " و أعترف بداهة بدا لي هذا الإهداء قد نحا نحو المغالاة فهو يوحي أو على الأصح يعلن سلفا أننا سنكابد مع هذه النصوص هموما ، فكان في الإهداء تزلفا و اعتذارا للقراء في آن .
و عند الارتحال بين النصوص ارتأيت أن أحصي هذه الهموم التي وعدنا بها هذا " العابث " و قد وجدت من تلك الهموم ألوانا ، فهي على سبيل المثال في :
بيني و بينك : انتظار المجهول و ازدواج الولادة و الموت إلى حد التماهي بل ان هذا التماهي تجلى في ثنائيات أخرى : لذة الإنجاب و الم الفقد بسبب الموت و قد استمر هذا التماهي إلى آخر عبارة في النص حيث يقول : "بياض شديد ناصع ، تماما مثل السواد ."
يوم مع الذئاب : همّ معاشرة الجماعة القطيع بل هو في نهج سارتري يقول معه " الآخرون هم الجحيم " حيث يسمي القصة " يوم مع الذئاب " .
قصة بسيطة جدا : هم الكتابة حيث تتمثل المشكلة في محاولته المستحيلة ملاحقة و ملامسة كل شيء ، فالحياة جبل من التناقضات و الرمزي : المقيد بضوابط لا يقدر على ملاحقة تلك التناقضات " كيف تتغير الحياة بين إقبال و إدبار ؟ "
" و لكن نقطة استفهام عقربية هذه المرة برزت لعيني عندما أزعجني سؤال فاجأني لأول مرة : و لكن لماذا اكتب ؟ "
3- أسئلة الوجود مجددا :
لعلنا نلخص هذه الأسئلة في : كيف هي ؟ و لماذا هي هكذا ؟ و من هو ؟
- كيف هي ؟ تعاود النصوص في هذا الباب مساءلة الحياة و الواقع و الزمن عن ذاته و خصائصه في شهوة دؤوب لملاحقة الكنه و الجوهر .
" هل يمكن أن يغتال الصبي أمه ؟ هل تنطلق حياته بموتها ؟ أم يموت لتحيا ؟ "
" باب صنعه نجار و هو يتابع ببصره النهم فتيات الحي في قصة بيني و بينك ( هذا الباب يفصل بين الحياة و الموت ) في إشارة غريبة إلى وقوع الإنسان في وحل الغريزة متناسيا نذير الموت أو بعبارة أخرى تزاوج اللذة و الألم المؤدي عند " بوذا " إلى " الدوخا " و الوقوع في عجلة الصيرورة أو المتاهة و سببها الأهم التكرار و فقدان المعنى بسبب هذا التكرار .
و تجسد قصة اليد اليمنى هذه الدائرية و الوقوع في الشرك حيث يستيقظ السارد فيقفز من المضجع الى المغسل و رغم ان لقاءه بنفسه في المرآة أثار فيه سؤال الماهية فإنه يسارع في عجلته المعتادة قائلا : " ما اظن في العمر متسع للسؤال " ثم يغادر الى الشارع و ما فيه و من فيه حيث يغدو مع الناس جميعا سائرا على ايقاع متكرر معناه الزيف و الخداع ، فيشارك صحبه اللغو و البغي على الآخرين و تلتبس الامور فلا يفهم كيف تعبر اللغة عن الهزائم باسماء الانتصارات مبديا عجزه " إذ لم تفده دروس اللسانيات في هذا المجال بشيء " و يتواصل هذا السير في وجوه شتى " إذ الحياة تحتاج إلى التصابي يوما و الى التغابي أياما " فإذا الحب ينشأ من التقاء ذئب شهواني بنعجة ساذجة " تقول لي أحبك سذاجة و أفول لها احبك اشتهاء و نبتسم لبعضنا مصدقين " .
هكذا إذا يغدو السارد ذئبا في جملة الذئاب الذين انتقدهم في قصة " يوم مع الذئاب " و يغدو " الآخر هو الجحيم " متطبقا على ذاته التي أنكرها و عدها في جملة الآخرين .
إن الدنيا الراحلة ظاهرا في قصة " دنيا " و التي يكتشف انه هو الذي يرحل عنها . و الموت الذي يجاور الولادة و الزمن الذي يلتبس و لا يدري الساعاتيون كنها ،و القوم الذين استغرتهم زوايا نظرهم الضيقة في " الجدار الأحمر " ففسروا الظاهرة انطلاقا من مشاغل آ نية تحيل على محدودية الأفق . و هؤلاء الناس الذين يستقبلون الربيع ( الحياة ) اعتمادا على مصالحهم الخاصة في سلوك شاذ يقود الى إيقاف الحياة عن سيرها فإذا " الربيع لم يكن ربيعا " ( كذا عنوان القصة ) و كذا حال المدينة و اهلها " التمعت الاذهان بحكايات خاصة ملأت كل البلدة " ثم تأتي التفسيرات البلهاء و الحلول المشعوَذة لهذه المشكلة دون جدوى أما الإجابة الجوهر فستأتي من مكان آخر من شخص مختلف .
- لماذا هي هكذا ؟
كلما واجهتنا الحياة بإغرابها و التبست معانيها " فالزمان يأبى الثبات و الأماكن تأبى الحركة " ( قصة الغروب ) ينبعث السؤال الحرج " لماذا ؟ " و هو سؤال مشاكس هدام عند العلمويين فيتساءل الرجل في " اليد اليمنى " " و لم اليمنى ؟ ألأني تعودت ذلك ؟ " " لماذا يظن كل عاشق دوما أن قصته لا مثيل لها ؟ " " لماذا اكتب ؟ " حتى تبلغ الحيرة مداها : " هذي المرافئ تتجاذبني "
- من هو ؟
إذا اشتدت الحيرة بالربان فلا بد له من منارة ففي بحر متلاطم الأمواج و في مجتمع يُنعت أفراده بالذئاب لابد من معيار أو ذات جوهر تخرج بنا من اللجيّ إلى ضفاف آمنة ، فإذا نظرنا في قصة انصراف نجد فيها نموذجا للهادي و هذه صفات الرجل :
- " أما هذا الرجل فوحده يسير في الاتجاه الآخر ... "
- رأسه يبدو متنافرا مع جسد ضئيل لا يكاد يبين .. "
- " لم يسأل و لم ينظر إلى الأفلاك و لا إلى بوصلة فقط استشار نفسه ."
- كان يسير بمشقة في دربه الوعر .. و لم يتساءل .. فهل يبلغ متردد غايته ؟
أما النهاية فكانت على هذه الصورة : " كان صاحبنا يسبح في بحر من نور شمس سطعت فاذا بنورها يشع في عينيه فينعكس عنهما لمعانا تضيء منه الأرض على امتداد البصيرة .. "
هذه الشواهد على كثرتها احتجنا إليها لتشكيل الصورة الكاملة لهذا المنقذ من الضلال . فهو رجل فذ لا يعول على سابق علم و لا قواعد و أعرافا مرعية ، عقله يغلب على دواعي جسده بل هو على الطريقة الصوفية و مثلها السقراطية يحيي العقل و يميت الجسد فيتحمل المشاق و طول السفر بحثا عن الحقيقة التي ستنير دربه ثم يغدو ضرورة منقذا للآخرين .
إن أخص خصائص هذا الفذ انه بلا ذاكرة و قد ترددت هذه العبارات و أشباهها في قصص مختلفة حيث نجد أن الجواب عن تساؤل أهل المدينة المفتقدين للربيع يأتي من فتاة صغيرة في عينيها" بهجة غامرة و فيض حب ظهر في إشراق وجهها المستدير ذي الملامح الطفولية البريئة " إنها من النبع الأول و في سن البراءة في عمق الغاب بعيدا عن ذئاب المدينة تهمس " إنهم لم يقبلوا على الربيع فكيف يقبل عليهم ؟ "
فالهادي أو المهتدي يجب أن يشرع نهجه مبتعدا عن " الاكليشهات " " كان يا ما كان " (قصة بسيطة جدا ) و هو إذ يباشر الحياة مع الناس ينطلق هكذا " نضوت عني أثواب الذكرى و خرجت إلى الناس عاريا .. "
4- تيمات الزوايدي في قصصه :
لاحظتُ أثناء قراءة هذه القصص أن جملة من العناصر تظهر مرارا في المجموعة فالمرآة و الساعة و مسربٌ يتخذ أسماء مختلفة و لكنه يتسم بالطول و التعرج و الظلمة .. كل هذه تتواجد في قصصه حتى انه لا يمكن إغفالها ..
ففي معظم القصص ثمة مرآة تمكن الشخصية من الترائي و الانشطار و الحوار الباطني أو المسموع كما أن ساعة أو احد لوازمها كالصوت و العقرب تظهر في أكثر من قصة ، ثم هذا النفق الذي يتجدد ظهوره بأكثر من اسم و في أكثر من مناسبة . ان هذه الأشياء تتحول إلى كناية على معان تلح على ذهن السارد و لكنها يمكن ان تعتمد كتقنية تيسر تطوير الأحداث و تجذير ملامح الشخصيات .
فمن جهة ثبت لدينا أن من بين أسئلة الوجود هذا القلق من الزمن الذي يأكلنا و يُنقص من أعمارنا " كل ثانية تنقصني " و من جهة أخرى تغدو المرآة صيغة تقنية لاستحضار شخصية إضافية في قصص ذات شخصية واحدة غالبا .
أما هذا النفق أو الدهليز أو الممر الذي في المستشفى و غير هذا المثال كثير فهو حمّال أوجه .
ففي قصة ( دنيا ) هو نفق قاد إلى العدم و الزوال .
و هو في قصة ( بيني و بينك ) قاد إلى المجهول و هيّج أسئلة عن تناقضات الحياة.
و هو في قصة ( انصراف ) انتهى إلى فضاء مضاء بنور الشمس : الحقيقة ..
و هو غالبا في قصص أخرى كناية على المتاهة و امتلاء الحياة بالمتناقضات .
5- من القضايا المعَلّقة :
تنطلق قصص الزوايدي قصصَ أفراد همهم ذاتي ووجودي ، تتذرع بتجارب شخصية و لكنها وفقا لنهج اسميناه " نزق الطفولة " تشاغب الجماعة فيتعالم الطفل و يغدو صاحب رؤى نقدية للمجتمع .
و سنحصر بحثنا في ثلاث قضايا :
الشاب و شجونه / الحيف الاجتماعي / ازدواج المعيير
أ- الشاب و شجونه :
* البداية : تعالج علاقة عاطفية يقابلها المجتمع بالنكران .
* حنين : انشطار بين رغبة شاب في استجلاب الأموال عبر الهجرة و التزوج من مطلقة فرنسية تخالفه قيما و مزاجا ، و البقاء في بلاده " حيث الرمال حارة و المياه حارة و القلوب حارة "
* الرحيل : و هذه قريبة من القصة الفارطة و لكن من الواضح أن الشاب هنا ظل في أرضه بعد أن انسكب ماؤه فيها فأنجب طفله .
ب- الحيف الاجتماعي : يتجلى هذا الحيف في قصتي " تحية الإنسان " و " هذا و أكثر " حيث يبلغ ذوو المال و الجاه أعلى المراتب و ينغرس الشاب الفقير في حفرة رغم ذكائه الذي اعترف به الأساتذة " أليس عجيبا أن يبلغ تلك الرتبة و أكون أنا في هذه الحفرة "
إن شخصية هذا الشاب قد تعرضت لأكثر من عثرة و سلط السارد أكثر من ظلم في تصوير صريح لما يلقاه الفقراء و الكادحون فالحاضر التعيس هو ابن شرعي لماض شقي فلا عجب إذًا أن " تنبعث الكرى حية كالعنقاء موجعة كالقهر "
لهذا نفذ صاحب الشغل و أبو الزميل الوجيه تهديده فحجب أجرة أيام نظير تهشيم السارد الشاب فانوسا فاخرا يزين قصره الفخم .
اما في قصة " تحية الانسان " فالحيف الاجتماعي يتجلى في التعامي عن انسان لمجرد كونه عامل تنظيف .
ج- ازدواج المعايير :
* اليد اليمنى : تمثل هذه القصة و قصة " الجدار الأحمر " و " هذا الربيع لم يكن ربيعا " و " يوم مع الذئاب " إضافة إلى غيرها أمثلة على تجذر النفاق و اختلاط القيم و اعتبار المصلحة الشخصية أساسا لكل مسلك حتى ليغدوَ الأمر نوعا من العبث. " عبثا بعدها حاولت إقناع ضابط الشرطة أن الشهامة كانت دافع تدخلي .. "
ففي " اليد اليمنى " و قد سبقت الإشارة إليها يشارك السارد الناس بغيهم و تختلط عليه المفاهيم فيغدو استعراض ساقي المطربة أهم من صوتها و يصافح التاجرَ توددا و يلعنه في سره .. إلى آخر هذا الزيف الذي لم يترك مجالا إلا لحقه كما لم يدخر الكاتب جهدا في الوقوف عنده في غلب القصص .
يمكننا دون إيغال في البحث عن المعنى أن نستنج أمرين :
الأول : أن القصص التي تتسم في مجملها بكونها اقرب إلى الخاطرة و الصوت المفرد ضاق صاحبها بهذا النفس الغنائي فأراد مشاغبة مَن حوله و الفرار " لِمَ لا " من جحيم الأسئلة الوجودية إلى نار لعلها أهون و هي نار التناقضات الاجتماعية .
الثاني : أن الخروج من متاهة الوجود نحو فضاء يتسم بالصفاء و البراءة لا ينسجم مع مجتمع كهل أثقلت كاهله أدرانُ المدينة ( انظر مثلا " تحية الإنسان " و " هذا الربيع لم يكن ربيعا " ) فحالما يهجر الناس الإنسان و الطبيعة يعاقبهم السارد بأكداس من الفضلات أمام المنازل .
6- شعرية العبارة :
تنشأ معظم القصص من تفجر الصوت المفرد منكرًا لنسقِ النثر و انتظامه فنجد شعرا غير منظوم .
" مضى الليل كما مضت ليال و اخرى على عزف نواحي كما مضى العمر كما مر الساربون على نزف جراحي ... " ( اليد اليمنى )
و هذا النهج يولّد صلة نزوية بالنص حيث ينطلق من عامل اللذة موقعا بقارئه إغرابا معولا على دفعه تدريجيا إلى جوهر القصة الذي حدث تنجزه الشخصية في إطارين مكاني زماني .
7- عودة إلى الكهل :
نرجو أن يتسع صدر طفلنا المشاكس لما نزمع قولَه فنحن نود أن نعلن من جهة ترحيبنا بهذا النزق الطفولي و لكننا نخشاه ، و من جهة أخرى نحذر من بعض الرقابة الذاتية التي ستغدو قيدا على انطلاق هذا الطفل في تعرية عيوبنا .
- تنطلق القصص جميعها من مقاربة عجول للواقع فيتحول إلى واقع موبوء و مجتمع آفن يحسُن هجره و التشهير به و إعلان إفلاسه قيما و سلوكا ..
- نمتدح في هذا الطفل مشاكسته لقضايانا الروحية و الاجتماعية لكننا نعيب فيه عدم تجذيره لأسئلته و الذهاب بها إلى أقصى حد فيها .
- نعيب على طفلنا العزيز انه يغرف من بحار ميتة طالما ادعى أو أمّلَ أن يجاوزها إلى البحار العجاجية المتلاطمة الأمواج فنشهد اقتداء ذميما بنصوص الشابي و جبران و المسعدي و المنفلوطي .
-تبدأ النصوص بعبارات تتسم بالشعرية أو بجملة من المحاكمات تكون أحيانا خاطئة أساسا أو غير ذات صلة بمتن القصة فتؤدي وظيفة مناقضة للقصد فإذا هي عامل تشويش و إيحاش بدلَ تؤنس القارئ و تجلبه نحو الدلالة : الغرض .
- حرص الزوايدي أحيانا على قول الكثير في قصة واحدة قد يجعله لا يقول شيئا أو يدخل متاهة فتغدو بعض المقاطع و الشخصيات غير ذات وظيفة .
- الإيحاء بان الجل يكمن في فلسفة باطنية غنوصية و أننا يجب أن ننتظر فردا فذًّا يستنير و ينير هو نهج قد لا يرضاه الواقع فهذا الواقع الذي طالما فضحت قصصه تناقضاته لا يحتمل انتظار هذا الكائن الأسطوري الغريب .
- يحلم الطفل و هذا من عادات كل طفل أن يكف أصحاب النفوس المريضة عمّا هم فيه من " دوخا " و يعودوا إلى الكانسان الجوهر متمثلا في منظف المدينة بمجرد إضرابه عن العمل أياما و هذا من مثاليات الأطفال حقا .
8- حقنا على الزوايدي كاتبا و صديقا :
* تتميز هذه القصص بعبارات تتسم بالشعرية و الاناقة غالبا و ينشأ الوصف ذكيا معبرا
* كثيرا ما اعتمد الزوايدي التلميح دون التصريح و الاختزال بدل الإطناب و هذا من محمود أسلوبه .
* لكننا نودّ أن يجذر أسئلته و ينوع قضاياه و يحسّن بناء شخصياته و يقارب الفن السردي الذي ينشأ من الحدث فكلمة دراما في اليونانية تعني الفعل و هذا أهم ما يغيب عن قصص صديقي الزوايدي .
* لاحظنا غياب الحوار في هذه القصص اللهم الحوار الفردي و هذا من معايب النصوص السردية فلابد من الصراع فعلا و قولا حتى تتطور الأحداث و تُمنَح الشخصيات حقها في الكلام و تتحرّر من ربقة السارد الذي بدا بحق في هذه المجموعة ساردا عليما أو بعبارة أخرى ساردا إلاها .
* إن الواقعية لا تتناقض إطلاقا مع التجريبية و لا مع الفانتازيا و لا مع الإغراب فالواقع في الحقيقة هو أغرب من الخيال و تناقضاته داعية إلى التأمل و الاندهاش و التعجب فحبذا لو اخبرنا الزوايدي بقصص يمتَح متونها وشخوصها من واقعنا حتى تتجذر أُلفتنا بنصوصه و نواصل وفاءنا لأدبه الذي نتوقع أن يغدو ينبوعا لا يجف .
بقلم عبد العزيز ضيف الله **
* صدرت لفيصل محمد الزوايدي مجموعته القصصية الاولى بتاريخ مارس 2007 عن دار قرطاج للنشر بتونس تحت عنوان طريف " قصة بسيطة جدا "
** عبد العزيز ضيف الله : قاص و ناقد تونسي .
نام طفلي بعد أن شاغب أمه و أخاه و أرهقني برغبته الملحاح في ملامسة كل ما تطاله يده و ما لا تطاله ، كانت تلك طباع أخيه حين كان في سنه ، فأهم خصائص الأطفال الفضول و تسمية الأشياء و عجمها بالأسنان.
استخرجت من مكتبي مجموعة فيصل القصصية لأقراها ففاجأني طفل آخر بين ثنايا قصصه ، إنه يحاول برغبة مشابهة أن يعيد اكتشاف ما حولنا فينبه حواسنا الكليلة إلى أدق التفاصيل منبهرا بما يرى و يسمع في لغة تشي هي ذاتها بالاندهاش و التعجب و الحيرة .
و في محاولة أرجو ألا تكون فاشلة لضبط نهجه " العابث " ها أنا ألزم ( و أنا اعتذر عن هذا ) نصوصه السائبة بأوان أخشى أنها تضيق بها .
1- تسمية هواجس الطفل و أحاسيسه :
يخاطبنا الأطفال بلغة تبدو غامضة و مفككة الأوصال و ننجح أحيانا في فهم تلك الجمل و المفردات لكن بجهد و بعد مؤالفة ، و قد حرصت لهذا الغرض على مرافقة هذه النصوص جريا على نهج النقد التكويني الذي هو محاولة لإعادة تشكيل سيمياء المشاعر و الايديولجيات و الأحاسيس كما استفدنا من جوليا كريستيفا في أطروحتها المركزية إذ ترى أن الذات البشرية عالقة بين السيميائي و الرمزي
فلاحظنا هذه الظواهر :
- عودة الطفل إلى المنابع و تجديد الأسئلة و بعثها غضة طرية تجعله يرى الأمور بعين خالية من كلل العادة و الحرام " و ما يِهمْ " و " لا جديد تحت الشمس " إلى آخر هذه العبارات الدالة على تكلس المشاعر و الأفكار و الانسحاب من العالم للاحتماء بقوقعة القطيع : الجماعة .
- رفض الامتثال إلى ما تأمرنا به الجماعة في حاضرها و تاريخها الطويل .
- تجديد النظر إلى القضايا المغفلة و المعلّقة و تلك المعتبر أمرها محسوما فهي " هكذا خِِلقة " " هذا ما صار " لا فائدة في بحثها " .
و في الحقيقة فان هذا النهج هو ما أطلقت عليه " جوليا كريستيفا " صراع الجانب النزوي السيميائي ممثلا في الطبيعة و الأم مع الجانب العقلاني الاجتماعي الرمزي ممثلا في اللغة و القوانين و الاب .
و حتى لا نغالي كثيرا فان الزوايدي في نصوصه ليس إلا رجلا يحن إلى طفولته فهو من جهة يسعى أن يكون الطفل المتحرر المتحلل من قيوده المجاهر برغباته و لكنه لا يفتأ يتذكر انتسابه إلى فئة الكهول المحكومين بالضواغط الاجتماعية و من هذا المنطلق سوف نتابع هذا التراوح بين النزق الطفولي بكل مشمولاته و الالتزام بضوابط التشريع المعهود لدى الكهل .
2- طفل يكبر قبل أوانه :
منذ صفحة الإهداء يعلمنا الزوايدي أنه ذو هموم بل هم مهتم بهموم الآخرين ضمنا " إلى الصابرين على الهم .. همي و همومهم " و أعترف بداهة بدا لي هذا الإهداء قد نحا نحو المغالاة فهو يوحي أو على الأصح يعلن سلفا أننا سنكابد مع هذه النصوص هموما ، فكان في الإهداء تزلفا و اعتذارا للقراء في آن .
و عند الارتحال بين النصوص ارتأيت أن أحصي هذه الهموم التي وعدنا بها هذا " العابث " و قد وجدت من تلك الهموم ألوانا ، فهي على سبيل المثال في :
بيني و بينك : انتظار المجهول و ازدواج الولادة و الموت إلى حد التماهي بل ان هذا التماهي تجلى في ثنائيات أخرى : لذة الإنجاب و الم الفقد بسبب الموت و قد استمر هذا التماهي إلى آخر عبارة في النص حيث يقول : "بياض شديد ناصع ، تماما مثل السواد ."
يوم مع الذئاب : همّ معاشرة الجماعة القطيع بل هو في نهج سارتري يقول معه " الآخرون هم الجحيم " حيث يسمي القصة " يوم مع الذئاب " .
قصة بسيطة جدا : هم الكتابة حيث تتمثل المشكلة في محاولته المستحيلة ملاحقة و ملامسة كل شيء ، فالحياة جبل من التناقضات و الرمزي : المقيد بضوابط لا يقدر على ملاحقة تلك التناقضات " كيف تتغير الحياة بين إقبال و إدبار ؟ "
" و لكن نقطة استفهام عقربية هذه المرة برزت لعيني عندما أزعجني سؤال فاجأني لأول مرة : و لكن لماذا اكتب ؟ "
3- أسئلة الوجود مجددا :
لعلنا نلخص هذه الأسئلة في : كيف هي ؟ و لماذا هي هكذا ؟ و من هو ؟
- كيف هي ؟ تعاود النصوص في هذا الباب مساءلة الحياة و الواقع و الزمن عن ذاته و خصائصه في شهوة دؤوب لملاحقة الكنه و الجوهر .
" هل يمكن أن يغتال الصبي أمه ؟ هل تنطلق حياته بموتها ؟ أم يموت لتحيا ؟ "
" باب صنعه نجار و هو يتابع ببصره النهم فتيات الحي في قصة بيني و بينك ( هذا الباب يفصل بين الحياة و الموت ) في إشارة غريبة إلى وقوع الإنسان في وحل الغريزة متناسيا نذير الموت أو بعبارة أخرى تزاوج اللذة و الألم المؤدي عند " بوذا " إلى " الدوخا " و الوقوع في عجلة الصيرورة أو المتاهة و سببها الأهم التكرار و فقدان المعنى بسبب هذا التكرار .
و تجسد قصة اليد اليمنى هذه الدائرية و الوقوع في الشرك حيث يستيقظ السارد فيقفز من المضجع الى المغسل و رغم ان لقاءه بنفسه في المرآة أثار فيه سؤال الماهية فإنه يسارع في عجلته المعتادة قائلا : " ما اظن في العمر متسع للسؤال " ثم يغادر الى الشارع و ما فيه و من فيه حيث يغدو مع الناس جميعا سائرا على ايقاع متكرر معناه الزيف و الخداع ، فيشارك صحبه اللغو و البغي على الآخرين و تلتبس الامور فلا يفهم كيف تعبر اللغة عن الهزائم باسماء الانتصارات مبديا عجزه " إذ لم تفده دروس اللسانيات في هذا المجال بشيء " و يتواصل هذا السير في وجوه شتى " إذ الحياة تحتاج إلى التصابي يوما و الى التغابي أياما " فإذا الحب ينشأ من التقاء ذئب شهواني بنعجة ساذجة " تقول لي أحبك سذاجة و أفول لها احبك اشتهاء و نبتسم لبعضنا مصدقين " .
هكذا إذا يغدو السارد ذئبا في جملة الذئاب الذين انتقدهم في قصة " يوم مع الذئاب " و يغدو " الآخر هو الجحيم " متطبقا على ذاته التي أنكرها و عدها في جملة الآخرين .
إن الدنيا الراحلة ظاهرا في قصة " دنيا " و التي يكتشف انه هو الذي يرحل عنها . و الموت الذي يجاور الولادة و الزمن الذي يلتبس و لا يدري الساعاتيون كنها ،و القوم الذين استغرتهم زوايا نظرهم الضيقة في " الجدار الأحمر " ففسروا الظاهرة انطلاقا من مشاغل آ نية تحيل على محدودية الأفق . و هؤلاء الناس الذين يستقبلون الربيع ( الحياة ) اعتمادا على مصالحهم الخاصة في سلوك شاذ يقود الى إيقاف الحياة عن سيرها فإذا " الربيع لم يكن ربيعا " ( كذا عنوان القصة ) و كذا حال المدينة و اهلها " التمعت الاذهان بحكايات خاصة ملأت كل البلدة " ثم تأتي التفسيرات البلهاء و الحلول المشعوَذة لهذه المشكلة دون جدوى أما الإجابة الجوهر فستأتي من مكان آخر من شخص مختلف .
- لماذا هي هكذا ؟
كلما واجهتنا الحياة بإغرابها و التبست معانيها " فالزمان يأبى الثبات و الأماكن تأبى الحركة " ( قصة الغروب ) ينبعث السؤال الحرج " لماذا ؟ " و هو سؤال مشاكس هدام عند العلمويين فيتساءل الرجل في " اليد اليمنى " " و لم اليمنى ؟ ألأني تعودت ذلك ؟ " " لماذا يظن كل عاشق دوما أن قصته لا مثيل لها ؟ " " لماذا اكتب ؟ " حتى تبلغ الحيرة مداها : " هذي المرافئ تتجاذبني "
- من هو ؟
إذا اشتدت الحيرة بالربان فلا بد له من منارة ففي بحر متلاطم الأمواج و في مجتمع يُنعت أفراده بالذئاب لابد من معيار أو ذات جوهر تخرج بنا من اللجيّ إلى ضفاف آمنة ، فإذا نظرنا في قصة انصراف نجد فيها نموذجا للهادي و هذه صفات الرجل :
- " أما هذا الرجل فوحده يسير في الاتجاه الآخر ... "
- رأسه يبدو متنافرا مع جسد ضئيل لا يكاد يبين .. "
- " لم يسأل و لم ينظر إلى الأفلاك و لا إلى بوصلة فقط استشار نفسه ."
- كان يسير بمشقة في دربه الوعر .. و لم يتساءل .. فهل يبلغ متردد غايته ؟
أما النهاية فكانت على هذه الصورة : " كان صاحبنا يسبح في بحر من نور شمس سطعت فاذا بنورها يشع في عينيه فينعكس عنهما لمعانا تضيء منه الأرض على امتداد البصيرة .. "
هذه الشواهد على كثرتها احتجنا إليها لتشكيل الصورة الكاملة لهذا المنقذ من الضلال . فهو رجل فذ لا يعول على سابق علم و لا قواعد و أعرافا مرعية ، عقله يغلب على دواعي جسده بل هو على الطريقة الصوفية و مثلها السقراطية يحيي العقل و يميت الجسد فيتحمل المشاق و طول السفر بحثا عن الحقيقة التي ستنير دربه ثم يغدو ضرورة منقذا للآخرين .
إن أخص خصائص هذا الفذ انه بلا ذاكرة و قد ترددت هذه العبارات و أشباهها في قصص مختلفة حيث نجد أن الجواب عن تساؤل أهل المدينة المفتقدين للربيع يأتي من فتاة صغيرة في عينيها" بهجة غامرة و فيض حب ظهر في إشراق وجهها المستدير ذي الملامح الطفولية البريئة " إنها من النبع الأول و في سن البراءة في عمق الغاب بعيدا عن ذئاب المدينة تهمس " إنهم لم يقبلوا على الربيع فكيف يقبل عليهم ؟ "
فالهادي أو المهتدي يجب أن يشرع نهجه مبتعدا عن " الاكليشهات " " كان يا ما كان " (قصة بسيطة جدا ) و هو إذ يباشر الحياة مع الناس ينطلق هكذا " نضوت عني أثواب الذكرى و خرجت إلى الناس عاريا .. "
4- تيمات الزوايدي في قصصه :
لاحظتُ أثناء قراءة هذه القصص أن جملة من العناصر تظهر مرارا في المجموعة فالمرآة و الساعة و مسربٌ يتخذ أسماء مختلفة و لكنه يتسم بالطول و التعرج و الظلمة .. كل هذه تتواجد في قصصه حتى انه لا يمكن إغفالها ..
ففي معظم القصص ثمة مرآة تمكن الشخصية من الترائي و الانشطار و الحوار الباطني أو المسموع كما أن ساعة أو احد لوازمها كالصوت و العقرب تظهر في أكثر من قصة ، ثم هذا النفق الذي يتجدد ظهوره بأكثر من اسم و في أكثر من مناسبة . ان هذه الأشياء تتحول إلى كناية على معان تلح على ذهن السارد و لكنها يمكن ان تعتمد كتقنية تيسر تطوير الأحداث و تجذير ملامح الشخصيات .
فمن جهة ثبت لدينا أن من بين أسئلة الوجود هذا القلق من الزمن الذي يأكلنا و يُنقص من أعمارنا " كل ثانية تنقصني " و من جهة أخرى تغدو المرآة صيغة تقنية لاستحضار شخصية إضافية في قصص ذات شخصية واحدة غالبا .
أما هذا النفق أو الدهليز أو الممر الذي في المستشفى و غير هذا المثال كثير فهو حمّال أوجه .
ففي قصة ( دنيا ) هو نفق قاد إلى العدم و الزوال .
و هو في قصة ( بيني و بينك ) قاد إلى المجهول و هيّج أسئلة عن تناقضات الحياة.
و هو في قصة ( انصراف ) انتهى إلى فضاء مضاء بنور الشمس : الحقيقة ..
و هو غالبا في قصص أخرى كناية على المتاهة و امتلاء الحياة بالمتناقضات .
5- من القضايا المعَلّقة :
تنطلق قصص الزوايدي قصصَ أفراد همهم ذاتي ووجودي ، تتذرع بتجارب شخصية و لكنها وفقا لنهج اسميناه " نزق الطفولة " تشاغب الجماعة فيتعالم الطفل و يغدو صاحب رؤى نقدية للمجتمع .
و سنحصر بحثنا في ثلاث قضايا :
الشاب و شجونه / الحيف الاجتماعي / ازدواج المعيير
أ- الشاب و شجونه :
* البداية : تعالج علاقة عاطفية يقابلها المجتمع بالنكران .
* حنين : انشطار بين رغبة شاب في استجلاب الأموال عبر الهجرة و التزوج من مطلقة فرنسية تخالفه قيما و مزاجا ، و البقاء في بلاده " حيث الرمال حارة و المياه حارة و القلوب حارة "
* الرحيل : و هذه قريبة من القصة الفارطة و لكن من الواضح أن الشاب هنا ظل في أرضه بعد أن انسكب ماؤه فيها فأنجب طفله .
ب- الحيف الاجتماعي : يتجلى هذا الحيف في قصتي " تحية الإنسان " و " هذا و أكثر " حيث يبلغ ذوو المال و الجاه أعلى المراتب و ينغرس الشاب الفقير في حفرة رغم ذكائه الذي اعترف به الأساتذة " أليس عجيبا أن يبلغ تلك الرتبة و أكون أنا في هذه الحفرة "
إن شخصية هذا الشاب قد تعرضت لأكثر من عثرة و سلط السارد أكثر من ظلم في تصوير صريح لما يلقاه الفقراء و الكادحون فالحاضر التعيس هو ابن شرعي لماض شقي فلا عجب إذًا أن " تنبعث الكرى حية كالعنقاء موجعة كالقهر "
لهذا نفذ صاحب الشغل و أبو الزميل الوجيه تهديده فحجب أجرة أيام نظير تهشيم السارد الشاب فانوسا فاخرا يزين قصره الفخم .
اما في قصة " تحية الانسان " فالحيف الاجتماعي يتجلى في التعامي عن انسان لمجرد كونه عامل تنظيف .
ج- ازدواج المعايير :
* اليد اليمنى : تمثل هذه القصة و قصة " الجدار الأحمر " و " هذا الربيع لم يكن ربيعا " و " يوم مع الذئاب " إضافة إلى غيرها أمثلة على تجذر النفاق و اختلاط القيم و اعتبار المصلحة الشخصية أساسا لكل مسلك حتى ليغدوَ الأمر نوعا من العبث. " عبثا بعدها حاولت إقناع ضابط الشرطة أن الشهامة كانت دافع تدخلي .. "
ففي " اليد اليمنى " و قد سبقت الإشارة إليها يشارك السارد الناس بغيهم و تختلط عليه المفاهيم فيغدو استعراض ساقي المطربة أهم من صوتها و يصافح التاجرَ توددا و يلعنه في سره .. إلى آخر هذا الزيف الذي لم يترك مجالا إلا لحقه كما لم يدخر الكاتب جهدا في الوقوف عنده في غلب القصص .
يمكننا دون إيغال في البحث عن المعنى أن نستنج أمرين :
الأول : أن القصص التي تتسم في مجملها بكونها اقرب إلى الخاطرة و الصوت المفرد ضاق صاحبها بهذا النفس الغنائي فأراد مشاغبة مَن حوله و الفرار " لِمَ لا " من جحيم الأسئلة الوجودية إلى نار لعلها أهون و هي نار التناقضات الاجتماعية .
الثاني : أن الخروج من متاهة الوجود نحو فضاء يتسم بالصفاء و البراءة لا ينسجم مع مجتمع كهل أثقلت كاهله أدرانُ المدينة ( انظر مثلا " تحية الإنسان " و " هذا الربيع لم يكن ربيعا " ) فحالما يهجر الناس الإنسان و الطبيعة يعاقبهم السارد بأكداس من الفضلات أمام المنازل .
6- شعرية العبارة :
تنشأ معظم القصص من تفجر الصوت المفرد منكرًا لنسقِ النثر و انتظامه فنجد شعرا غير منظوم .
" مضى الليل كما مضت ليال و اخرى على عزف نواحي كما مضى العمر كما مر الساربون على نزف جراحي ... " ( اليد اليمنى )
و هذا النهج يولّد صلة نزوية بالنص حيث ينطلق من عامل اللذة موقعا بقارئه إغرابا معولا على دفعه تدريجيا إلى جوهر القصة الذي حدث تنجزه الشخصية في إطارين مكاني زماني .
7- عودة إلى الكهل :
نرجو أن يتسع صدر طفلنا المشاكس لما نزمع قولَه فنحن نود أن نعلن من جهة ترحيبنا بهذا النزق الطفولي و لكننا نخشاه ، و من جهة أخرى نحذر من بعض الرقابة الذاتية التي ستغدو قيدا على انطلاق هذا الطفل في تعرية عيوبنا .
- تنطلق القصص جميعها من مقاربة عجول للواقع فيتحول إلى واقع موبوء و مجتمع آفن يحسُن هجره و التشهير به و إعلان إفلاسه قيما و سلوكا ..
- نمتدح في هذا الطفل مشاكسته لقضايانا الروحية و الاجتماعية لكننا نعيب فيه عدم تجذيره لأسئلته و الذهاب بها إلى أقصى حد فيها .
- نعيب على طفلنا العزيز انه يغرف من بحار ميتة طالما ادعى أو أمّلَ أن يجاوزها إلى البحار العجاجية المتلاطمة الأمواج فنشهد اقتداء ذميما بنصوص الشابي و جبران و المسعدي و المنفلوطي .
-تبدأ النصوص بعبارات تتسم بالشعرية أو بجملة من المحاكمات تكون أحيانا خاطئة أساسا أو غير ذات صلة بمتن القصة فتؤدي وظيفة مناقضة للقصد فإذا هي عامل تشويش و إيحاش بدلَ تؤنس القارئ و تجلبه نحو الدلالة : الغرض .
- حرص الزوايدي أحيانا على قول الكثير في قصة واحدة قد يجعله لا يقول شيئا أو يدخل متاهة فتغدو بعض المقاطع و الشخصيات غير ذات وظيفة .
- الإيحاء بان الجل يكمن في فلسفة باطنية غنوصية و أننا يجب أن ننتظر فردا فذًّا يستنير و ينير هو نهج قد لا يرضاه الواقع فهذا الواقع الذي طالما فضحت قصصه تناقضاته لا يحتمل انتظار هذا الكائن الأسطوري الغريب .
- يحلم الطفل و هذا من عادات كل طفل أن يكف أصحاب النفوس المريضة عمّا هم فيه من " دوخا " و يعودوا إلى الكانسان الجوهر متمثلا في منظف المدينة بمجرد إضرابه عن العمل أياما و هذا من مثاليات الأطفال حقا .
8- حقنا على الزوايدي كاتبا و صديقا :
* تتميز هذه القصص بعبارات تتسم بالشعرية و الاناقة غالبا و ينشأ الوصف ذكيا معبرا
* كثيرا ما اعتمد الزوايدي التلميح دون التصريح و الاختزال بدل الإطناب و هذا من محمود أسلوبه .
* لكننا نودّ أن يجذر أسئلته و ينوع قضاياه و يحسّن بناء شخصياته و يقارب الفن السردي الذي ينشأ من الحدث فكلمة دراما في اليونانية تعني الفعل و هذا أهم ما يغيب عن قصص صديقي الزوايدي .
* لاحظنا غياب الحوار في هذه القصص اللهم الحوار الفردي و هذا من معايب النصوص السردية فلابد من الصراع فعلا و قولا حتى تتطور الأحداث و تُمنَح الشخصيات حقها في الكلام و تتحرّر من ربقة السارد الذي بدا بحق في هذه المجموعة ساردا عليما أو بعبارة أخرى ساردا إلاها .
* إن الواقعية لا تتناقض إطلاقا مع التجريبية و لا مع الفانتازيا و لا مع الإغراب فالواقع في الحقيقة هو أغرب من الخيال و تناقضاته داعية إلى التأمل و الاندهاش و التعجب فحبذا لو اخبرنا الزوايدي بقصص يمتَح متونها وشخوصها من واقعنا حتى تتجذر أُلفتنا بنصوصه و نواصل وفاءنا لأدبه الذي نتوقع أن يغدو ينبوعا لا يجف .
تعليق