رســالة إلــى خـائـن مــات
جلست القرفصاء، أخذت ورقة وقلما، تمرّغت في صفحات ذاكرتها، بحثت بعينين مرتجفتين عن الكلمات المناسبة.. ترسم بألوان حروفها صوّر مشاعرها، نقاط أخطائه معها، تخبّط حياتها معه.. أخيرا!.. وجدت ما كانت تبحث عنه.. كتبت تقول:
"سأعدم بعد ساعتين.. وأنا سعـيدة بهذا الحكم..! لأنّه سيريحني من عذابي..
أتعلم: سأعدم بعد ساعتين.. لأنّني لبست ثوب الفظاعة..!
كنت سعيدة وأنا أفعل ذلك!..
لقد أرحت نفسي من خياناتك..
وأرحت غيري من خداعك..
أليس رائعا؟.. هه..
أنا أحس أنّني بطلة الآن! لأنّني أنقذت نفسي وغيري من شرورك..
أليس جميلا أن تموت ليعيش غيرك؟.."
فجأة! أجهشت بالبكاء، برد جسمها، شحب لونها، جفّ عودها، ذبلت نظراتها، احترقت جوارحها، مزّق النّدم أعماقها، تاهت في ظلمة الزّنزانة بأفكارها.. كتبت تقول:
"لم أعرف لليأس طريقا.. رأيت في زواجي منك مودّة ورحمة..
نثرت ابتساماتي..سلخت عمري بين ضلوع حبك.. صدّقت مكرك..
تحدّيت كلّ الأعاصير.. غرقت في بحر وهمك..
آمنت أنّ الحب والموت لا خيار فيهما..
لم أكن أبحث فيك إلا عن المبادئ والقيم..
ولم تظهر لي غير ما أردته منك.. تهت في بركة زيفك ونفاقك..
عشت معك أحلى الأيّام.. هذا ما كان يظهر!.. وثقت فيك..
سلّمتك كلّ ما أملك.."
مرّة أخرى.. أجهشت بالبكاء، لاحقتها ثورة اليأس، انكسر عمرها، ارتعشت من البرد، دخلت في دوّامة، تحوّلت لحظتها إلى بركان، أطفأت اشراقة كلماتها، لمحت طيفه أمامها.. خاطبته:
" أتذكر.. كلّما عدت باكرا.. أفرح بعودتك كالبلهاء..
يشرق وجهك قلبي الحافي..
أتباهى أمام المرآة كزهرة بنفسج بيضاء..
أهديك الحب والآمان.. أمارس معك لعبة الإغراء..
لكنّك تتعرّج أمامي.. أصدّقك.. بسخاء..
أحضّر لك الطّعام.. أسكت جوعك..أكوي ملابسك..
أهديك ابتسامات الأطفال..
تركب سيارتك.. تتوجه نحو مواعيدك..
تهديهن وردا..تدخلهن جنّة حبك..
وأبقى انتظر عودتك.. "
توقفت عن الكتابة، تمدّدت ذاكرتها إلى الوراء.. ابتسمت، استلقت قليلا، شبكت أصابع يديها تحت رأسها، تحسّست شعرها النّاعم، تذكّرت موعد إعدامها، قفزت مفزعة.. كمن ُسرق منه عمره، جلست.. كتبت:
" اتخذت من القناعة وبساطة العيش عنوانا لي،
لم أشرئب بعنقي يوما نحو موقع حياة أغنى..
عشت مشرقة الوجه.. بريئة الإحساس..
أحبني رجال كثيرون.. سمحت لك وحدك باختطافي..
أمامهم رحت تتباهى..
غامرتَ لأجلي.. أمّنتك عمري..
بعت حضن أسرتي مقابل قلبك..
فأنت كنت كلّ السّعادة في سمائي"
دمعت عيناها في هدوء، تحنّطت ابتسامتها، مسحت وجنتيها المنتفختين، بلّلت بدموعها الورقة، أمسكتها بأصابع مرتعشة، وضعتها جانبا تجف، أخذت ورقة أخرى جديدة، غصت مرة أخرى في أعماق ذكرياتها.. تكتب:
" أنت لم تحتفل معي يوما بعيد زفافنا.. أو أية ذكرى تربطنا..
كنت أنفخ الروح فيها وحدي.. احتفظت بكلّ ما يخصّنا..
حتى أشياءك التّافهة..
بعد مرور خمس سنوات على زواجنا
اكتشفت علاقتك بامرأة أخرى..
وبعدها علاقات بنساء كثيرات..
لكن كانت هناك امرأة واحدة.. أفاقت غفلتي"
تعصّر وجدانها، اهتزّ قلبها، زحفت مشاعرها، تأوّهت أحاسيسها، سمعت صراخ سجينة، شعرت بأنّه ينبثق من أعماقها، تألّمت.. مالت في جلستها.. واصلت تكتب:
" امرأة واحدة.. معها الحقّ تجلى..
وجدت رداء الخيانة على وجهك يغشى..
فرغت آمالي، تكسّرت أحلامي..
انطويت على نفسي.. زهدت في عيشي..
صرت مجرد رقم في قائمتك.. على يديك انتظرت نهايتي..
وأصبحت عقدة حياتي.."
ابتسمت ببلاهة، قبضت حاجبيها، عضّت شفتيّها، حرّكت رأسها من اليسار إلى اليمين، سقطت في صمت عميق، تنهدت.. ثم سطّرت تقول:
"لمّا واجهتك.. صدمتني صدمة عنيفة..
خيّانتك فعل ّنزيه صادق..! هو سنّة الحياة الدّنيا
هو حقّك كرجل..
يملك قلبا يتسع لحب أكثر من امرأة..!
لمّا واجهتك.. تبيّن لي كم كنت مغفّلة..!
تبيّن أن قلبك مزرعة.. تغرس فيها ما شئت من صنوف النّساء!
اتهمتني بالقاسية.. لأنّني كسرت قلب حبيبتك..
وأخبرتها أنّني زوجتك.. أمّ طفلتك.."
طأطأت رأسها، استدارت نحو الورقة الأولى تتفقّد جفافها، أزاحت خصلات شعرها، هبط ظلام حزن داكن على وجهها.. كتبت تقول:
" لمّا واجهتك.. قلت لي:
- إنك ورقة بالية.. لا تتقن فنون الحياة..!
تذوّقت منك كلّ ألوان الشّقاء والآلام.. أصبحت غريب الأطوار..
دائم الغموض.. صعب المزاج.. فقير الحب والحنان..
اعترفت بلسانك:
أنّ زواجنا خدعة من خدع الزمان..! تجرّدت من طيبة الإنسان..!
عبثت بكرامتي.. أهنت ذاتي..
سحقت مشاعري.. أرعبت أحلامي..
ترى.. أيمكن للمحب أن يتأرجح بين الحب واللاحب؟.."
تراوحت ملامحها بين دموع مالحة وقهقهات لا متناهية.. وقفت.. أخذت تروح وتأتي، جثمت عليها كآبة.. جلست.. عبثت بشعرها الأسود الطّويل، التفت إلى قلمها وسطورها، واصلت الكتابة:
" بعد ساعتين سيعدمونني..
أن يصبح ليلي هو نهاري.. لم يعد يهمّني..!
مثلما فعلت أنت.. سيسرقون ابتساماتي.. أيضا لم يعد يهمّني..!
بعد ساعتين سيعدمونني..
لأنني رفضت أن تلعب بي كما شئت
كرهت دور البليدة.. الغبيّة.. رفضت أن أعيش ممزّقة..
من حرّ شمس إلى برد ظلّ*
عشت لأجلك وبحبك.. وسأموت بسببك وبحبك.. "
ارتعش صوتها، تمالكها هيجان، اضطربت.. تألّمت.. تفوّه رحمها باسم ابنتها، تصدّعت أمومتها، لمعت دموع على خديها لمعان قطرات النّدى على بتلاّت زهرة ذابلة، سطّرت مرة أخرى:
"بعد ساعة سيقطعون رأسي..
تماما كما فعلت برأسك..
وضعت منوما في كأس عصيرك..
مارست عادات زمن الجرم والنفاق معك..
هشمت بمطرقة رأسك.. طحنت ما يسيّر قلبك،
يحدد الخير والّشر أمامك..
حطّمت أغلالك.. مزّقت صوّر نسائك..
كتبت وصية أن يدفنوني بقربك..
لن تخونني بعد اليوم.. سننام معا ولن نستيقظ..!
لا تخف..! دخلت الحمام.. اغتسلت.. تخلّصت من شظايا دمك..!
سلّمت نفسي وأنا سعـيدة بذلك..
أليس رائعا أن تبيع عمرك مقابل حبيبك؟!..
أن ترتكب جريمة حب في زمن اللاحب؟!.. "
شعرت أن قلبها سيغادر موضعه، اتكأت على الحائط.. تنهدت.. سالت دموعها بغزارة، انقطعت أنفاسها، تساقطت قطرات الدّموع على فخديها، مسحتها بكفيها، نظرت حولها، تذكّرت ابنتها، قرأت بصوت ضعيف ما كتبت لها:
"ابنتي أحبك.. أحبك..
سامحيني.. تذكريني..
لم أرغب أن ترثي ضعفي..
قبلاتي الحارة.."
ما هي إلاّ لحظات.. امتدّت أشعّة الشّمس كالقضبان، فتحت الحارسة باب زنزانتها، دخلت سيّدة قاسية الملامح، أمرتها بلهجة حادّة عنيفة:
- هيا انهضي.. حان موعدك...!
بئر خادم جانفي 2005
------
* بيت من ديوان الشّاعر ابن زيدون.
تعليق