عدتُ ذات يوم من العمل عند العصر كالعادة، سألتُ عن والدي ، فأخبروني أنه على السطح يقوم بترتيب الخردوات ، فغضبت غضبا شديدا؛ لإني لا أُريدهُ أن يقوم باي عمل فصحتُهُ لا تساعده ، رجل ناهز السبعين ويحمل على كاهله هموم آلاف السنين ، خبأ أحزانا ، وكتم هموما لعشرات السنين، فلما وجدتْ من صحته ضعفا بدأتْ تتنمردُ عليه، وتُظهرُ أمراضا مختلفة على جسده الواهن المسكين،لكنه يرفض الجلوس والاستراحة، فهو عنيد ككل المسنين
إنطلقتُ إلى السطح كالسهم ، وطلبت منه أن يستريح، فوافق بامتعاض، واحتجّتْ أمي على عناده الغير معهود وعدم مراعاته لصحته، فقد ذهب إلى السوق وأحضر بعض الخضروات،
فلم أدعْهُ حتى تأكدتُّ أنه جلس في الصالة يشاهد التلفاز
جلستُ في البيت أفكر ؛ لِمَ يفعلُ والدي ذلك ؟ لماذا يصرُّ الختيارُ على العمل؟ هل يتصرفُ لإثبات الذات؟ هل ليساعدنا؟ لكن عنده من الشباب ما يكفي لخلع المبنى ونقله إلى مكان آخر، هل يشعر أنه لم يعد مفيدا؟
صحيح أنني أجبرته على ترك العمل بسبب حالته الصحية التي تتدهور يوميا بتسارع غريب
بدأت أُعيد تجميع الآلة الحاسبة، وكانت العائلة في الطابق الارضي -دون علمي -في حالة قصوى من الهلع والارتباك، اذ ساءت حالته الصحية، وأُعلن الاستنفار العام، فاحدهم احضر السيارة والباقون حملوه اليها ، منطلقين باقصى سرعة الى قسم الطواريء في المستشفى، ومن هناك الى قسم العناية المركزة، والاطباء حوله كلٌ يحاول من جهته بأقصى طاقته.
رن جرسُ جوالي، أخي الثالث كان على الطرف الآخر ، حافظتُ على الآلة في يد والهاتف في الأُخرى أرد عليه : إنه يبكي، تكلم يا سامي ماذا أصابك؟
....
توقفتُ عن الحركة تماما أنصت لما سيقول، وقد بدأ قلبي يخفق بقوة متسارعة
اعتدنا في الأيام الأخيرة أخْذَه إلى الطبيب أو المشفى ، حتى إنني نظرت إلى وجهه قبل عدة أيام فكان كالكرة الملتهبة ، يكاد الدم ينفجر منه ، وعيناه حمرٌ لا يُرى سوادها، سألتُهُ: هل بك شيء يا أبي ؟ فأجاب نفيا فلم اقتنع وألبستُه رغما عنه وأخذتُه إلى المستوصف، فكانت المفاجاة! ضغطه تعدى المائتين وثمانين!!
مستحيل ! غير ممكن ! لا يمكن لإنسان أن يعيش تحت هذا الضغط ! سمعته لكني لم أدر هل كان يحدثنا أم يحدث نفسه ذلك الطبيب! قلت في نفسي : أنت لا تعرفه أيها الطبيب ، فهو رجل عصامي، دفن كل الخيانات والآلام خمسين سنة، في أعماق تاريخه وأخرس قلبه عن البوح به، لكن كان لا بد لهذا الكتمان أن ينفجر يوما ما
وما زلت أسألُ أخي، وأستفسرُ منه عن والدي وهو يُتأتيء ولا يتكلم .. وقد بدأت اعصابي بالتوتر
هل كان أمرا عاديا كالذي نفعله كل يوم؟؛ ضغطا وسكريا، ثم بعض الحبوب، وعد الى منزلك،
لكن كلمة واحدة من أخي لم أتوقعها كانت كفيلة بتثبيتي في مكاني وعقد لساني، لم أستطع التكلم بعدها لفترة ، تجمدت أطرافي عن الحركة فبقي الهاتف في يد و الحاسبة في اليد الاخرى، وكأني في حالة فراغ انعدام الجاذبية، تجمدتْ تقاسيم وجهي فعجزتُ عن التعبير، وتحجرتْ مآقي عيناي فبخلتْ بدمعة واحدة حتى
هل سأفقد سندي؟ ذلك الشهم الذي قدَّمَ كلَّ ما يستطيعُ من أجْلي وإخواني، ذاك الذي مازال يجمعنا منذ كنا صغارا إلى يوم وفاته، بمناسبة وبغير مناسبة، ويبدأ بقص حكايات من تاريخه الطويل، كنت افكر بكل ذلك في ذهول عميق
انتبهتْ زوجتي ، تقدمتْ بهدوء تام ، سحبت الهاتف من يدي وأخذتْ الحاسبة التي لم أجمعها بعد، أبعدتْ كل شيء من حولي، وسألتني ماذا حصل؟
لم أُجبْ ، أحضرتْ كولونيا وشممتني فانتبهتُ ، وأعادتْ السؤال،
والدي.. يرحمه الله..إنهرتُ وأجهشتُ بالبكاء
نعم ، لقد مات
كان متحدثا لبقا، مضحكا ، يجبر من يسمعه على التفكير ، وعندما كنا نطلب منه الشرح والتفسير كان يقول : اللبيب بالإشارة يفهم
رحمك الله رحمة واسعة وجعل الجنة مثواك. آمين
إنطلقتُ إلى السطح كالسهم ، وطلبت منه أن يستريح، فوافق بامتعاض، واحتجّتْ أمي على عناده الغير معهود وعدم مراعاته لصحته، فقد ذهب إلى السوق وأحضر بعض الخضروات،
فلم أدعْهُ حتى تأكدتُّ أنه جلس في الصالة يشاهد التلفاز
جلستُ في البيت أفكر ؛ لِمَ يفعلُ والدي ذلك ؟ لماذا يصرُّ الختيارُ على العمل؟ هل يتصرفُ لإثبات الذات؟ هل ليساعدنا؟ لكن عنده من الشباب ما يكفي لخلع المبنى ونقله إلى مكان آخر، هل يشعر أنه لم يعد مفيدا؟
صحيح أنني أجبرته على ترك العمل بسبب حالته الصحية التي تتدهور يوميا بتسارع غريب
بدأت أُعيد تجميع الآلة الحاسبة، وكانت العائلة في الطابق الارضي -دون علمي -في حالة قصوى من الهلع والارتباك، اذ ساءت حالته الصحية، وأُعلن الاستنفار العام، فاحدهم احضر السيارة والباقون حملوه اليها ، منطلقين باقصى سرعة الى قسم الطواريء في المستشفى، ومن هناك الى قسم العناية المركزة، والاطباء حوله كلٌ يحاول من جهته بأقصى طاقته.
رن جرسُ جوالي، أخي الثالث كان على الطرف الآخر ، حافظتُ على الآلة في يد والهاتف في الأُخرى أرد عليه : إنه يبكي، تكلم يا سامي ماذا أصابك؟
....
توقفتُ عن الحركة تماما أنصت لما سيقول، وقد بدأ قلبي يخفق بقوة متسارعة
اعتدنا في الأيام الأخيرة أخْذَه إلى الطبيب أو المشفى ، حتى إنني نظرت إلى وجهه قبل عدة أيام فكان كالكرة الملتهبة ، يكاد الدم ينفجر منه ، وعيناه حمرٌ لا يُرى سوادها، سألتُهُ: هل بك شيء يا أبي ؟ فأجاب نفيا فلم اقتنع وألبستُه رغما عنه وأخذتُه إلى المستوصف، فكانت المفاجاة! ضغطه تعدى المائتين وثمانين!!
مستحيل ! غير ممكن ! لا يمكن لإنسان أن يعيش تحت هذا الضغط ! سمعته لكني لم أدر هل كان يحدثنا أم يحدث نفسه ذلك الطبيب! قلت في نفسي : أنت لا تعرفه أيها الطبيب ، فهو رجل عصامي، دفن كل الخيانات والآلام خمسين سنة، في أعماق تاريخه وأخرس قلبه عن البوح به، لكن كان لا بد لهذا الكتمان أن ينفجر يوما ما
وما زلت أسألُ أخي، وأستفسرُ منه عن والدي وهو يُتأتيء ولا يتكلم .. وقد بدأت اعصابي بالتوتر
هل كان أمرا عاديا كالذي نفعله كل يوم؟؛ ضغطا وسكريا، ثم بعض الحبوب، وعد الى منزلك،
لكن كلمة واحدة من أخي لم أتوقعها كانت كفيلة بتثبيتي في مكاني وعقد لساني، لم أستطع التكلم بعدها لفترة ، تجمدت أطرافي عن الحركة فبقي الهاتف في يد و الحاسبة في اليد الاخرى، وكأني في حالة فراغ انعدام الجاذبية، تجمدتْ تقاسيم وجهي فعجزتُ عن التعبير، وتحجرتْ مآقي عيناي فبخلتْ بدمعة واحدة حتى
هل سأفقد سندي؟ ذلك الشهم الذي قدَّمَ كلَّ ما يستطيعُ من أجْلي وإخواني، ذاك الذي مازال يجمعنا منذ كنا صغارا إلى يوم وفاته، بمناسبة وبغير مناسبة، ويبدأ بقص حكايات من تاريخه الطويل، كنت افكر بكل ذلك في ذهول عميق
انتبهتْ زوجتي ، تقدمتْ بهدوء تام ، سحبت الهاتف من يدي وأخذتْ الحاسبة التي لم أجمعها بعد، أبعدتْ كل شيء من حولي، وسألتني ماذا حصل؟
لم أُجبْ ، أحضرتْ كولونيا وشممتني فانتبهتُ ، وأعادتْ السؤال،
والدي.. يرحمه الله..إنهرتُ وأجهشتُ بالبكاء
نعم ، لقد مات
كان متحدثا لبقا، مضحكا ، يجبر من يسمعه على التفكير ، وعندما كنا نطلب منه الشرح والتفسير كان يقول : اللبيب بالإشارة يفهم
رحمك الله رحمة واسعة وجعل الجنة مثواك. آمين
تعليق