مصطفى النجار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #16
    الزمن الاستثنائي!

    شعر: مصطفى النجار
    ..................

    قد ضاءت في مقدمك الأكوان
    وليالٍ زانتها أقمار الإيمان
    وفضاءات عطّرها نور القرآن
    وتراويح بلّلها تغريد الكروان
    ضاءت نفسي، ارتعشت روحي الآن
    في زمن استثنائي يأتي
    في أيام لا كالأيام
    «أولها الرحمة.. أوسطها مغفرة الرحمن
    وآخرها عتق من نار»
    قد ضاءت في مقدمك الصلوات
    يا زمن الاستثناء النورانيّ الخطوات
    خفقات الجسد المكدود لظل أمان
    أشواق الأرواح العطشى للطيران
    فرح الملأ الأعلى بعباد الرحمن
    وتمنى لو كان الدهر جميعاً «رمضان!»
    كم أتمنى يا زمناً يأتي
    وينادينا في عجل
    فكأن الشهر ثوان!
    لو تبقى أكثر
    لوتمكث في ظهرانينا أكثر.. أكثر
    تنمو في غسق الأرضين..
    منائر ورد وصداح
    وقناديل سماح
    ***
    قال الزمن الاستثنائي الأخضر:
    كن «ربّانياً» في كل زمان ومكان
    فتزوّدْ بالتقوى وتظلّلْ بالإحسان
    كن.. كن إنسان الإنسان!
    وعداً..لا لن أتأخر
    لا لن أهجر من متّن عروته الوثقى..
    بالله ومتّن ما بين الناس الحب الأنقى
    لا لن تبعد عنكم أنهار البركات
    «وليالي القدر» الأحلى والأعياد
    بل يورق، يزهر،
    يثمر فيكم في كل الأوقات
    «رمضان»، الطهر، الحب، الينبوع،
    الوطن الغالي، الأجداد، الأحفاد؟!

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      عضو أساسي
      • 14-10-2007
      • 867

      #17
      قراءة في ديوان «من سرق القمر؟» لمصطفى النجّار(*)

      بقلم: د. حسين علي محمد
      ......................

      (1)
      مصطفى النجار الشاعر السوري الشاب ، واحد من الجيل الذي أفرخته النكسة المريرة التي واجهتها أمتنا ذات المئة مليون أمام مليوني إسرائيلي عام 1967م.
      صحيحٌ أنه نشر ديواناً من الشعر المنثور عام 1962 بعنوان "شحارير بيضاء" كان يُغرِّد فيه كالطيور، ولكنه في الفترة السابقة على النكسة كان يبحث عن طريقه وعن ذاته. وهوى سكين الهزيمة والنكسة على الأعناق الغضَّة فأسال دماءً كثيرة، البعض هوى قتيلاً، والبعض أخذ يُضمِّدُ جراحه النازفة، ويستعدُّ للمقاومة.
      وكان شاعرنا مصطفى النجار واحداً من الذين ضمدوا جراحهم وقاوموا، وكانت "أسئلة سفر ما" التي كتبها عام 1967م واحدةً من قصائد المقاومة والإصرار على الصمود:
      أقف الغروب مُشيِّعاً
      زمناً تضرَّجَ بالسَّوادْ
      وبداخلي صرخ الحدادْ
      فلِمَ الظَّما ؟
      حرقتْْ حرارتُهُ اللهاةْ ؟
      ولِمَ الحُواةْ ؟
      هل تكونُ النكسةُ نهاية المطاف؟ وهل يفقد شعبنا العريق حضارته ذات الآلاف السبعة من الأعوام وتراثه الحضاري العظيم بهُداته ومصلحيه وقادته؟ وإلى أين ينتهي المطاف؟
      أتموتُ في الشَّجنِ الحياةْ ؟
      وتضيعُ أسئلةُ الهُداةْ ؟
      كانت الهزيمة مروِّعة، ولكنها لم تقتُل فينا الأمل، فـ ..
      الخُبزُ في زماننا القتالْ
      الحبُّ في زماننا مُحالْ
      (2)
      لم تذبل الزهور أبداً في أرضنا الطيبة المعطاء، وظل الشاعر واحداً من هذه الكتيبة المجاهدة التي ترفض اليأس لأنها مؤمنة بربها ، وتثق في قُدرة وطنها على النهوض ، وقدرتها الذاتية على الحركة ومُجابهة أسراب اليأس ووساوس النفس..لأن الغاية شريفة:
      لأنني أُريدُها الأشياءْ
      نقيَّةً بيضاءْ
      بسيطةً كالحب
      كزُرقةِ السَّماءْ !
      لأنني أُريدْ أنْ أسيرْ
      أُريدُ أنْ أكونْ
      وتستمرُّ الرحلةُ المباركة حتى يُعيدَ الإنسان العربي المسلم في تشرين(أكتوبر) وجهه المشرق، وينزع القناع، وتتحقَّق نبوءةُ الشاعر التي أطلقها عام 1972م في قصيدة "الزرافة والإنسان الآتي"، في قوله:
      فلسْتُ لسْتُ طًحلُباً جبانْ
      ولاعِناً مسيرةَ الإنسانْ
      فغايتي:
      المجْدُ للإنسانْ
      والموْتُ للغيلانْ
      وهاأنا مُزوَّدٌ بالوعْدِ والإشارهْ
      وهاأنا في رحلةِ الحضارهْ !
      ويكون نصر تشرين ، ويكون "الخروج من كهف الرماد" حيث أوقعتنا الهزيمة السوداء ! وتعود الأشياء إلى ناموسها وكل في فلكه يدور ، فهل ذهب خوف الشاعر الذي سطَّرهُ في مرحلة الهزيمة ؟
      أخافُ أنْ تضيع
      وتلعنُ الخطوطُ منْ كَتَبْ
      وتلعنُ الدروبُ منْ خطاها
      ويُنكرُ الجنينُ والديْهْ
      ويُنكرُ الآتي الذي ذَهَبْ
      ومن أجل ألاَّ يحدث هذا حارب الجندي العربي، وانتصر، ورأينا شاعرنا يحب وطنه حباً خالصاً، ويظل عاشقاً لوطنه الحبيب مُغنيا.
      (3)
      ثمة سؤال يدور في ذهني :
      إلى أين يسير الشاعر بعد تشرين؟ وما هي الرؤيا التي يطرحها هذا الديوان ؟
      إن الشاعر في قصائده التي كتبها بعد تشرين ما يزال أسير دمعه وحزنه وخوفه "يُكفكفُ دمع الغزال " ـ وهذا تعبيره ـ ولكن على أي شيء يخاف؟ ومِمَّ؟
      إنه يخاف على الإنسان، فشاعرنا إنسان بسيط، ويكتب الشعر حتى يحقق إنسانية الإنسان، وياله من هدف عالٍ للشعر حاول طوال مسيرته الإنسانية الحضارية أن يُحققه!
      إن جفَّ تيَّارُ المُحيط
      وتاه رُوَّادُ القمرْ
      وعُطِّلتْ عن المسيرْ
      كُلُّ قطارات السَّفرْ
      أهْوَنُ عندي بكثيرْ
      منْ جرحِ إنسانِ بسيطْ
      ويخافُ شاعرنا من الحضارة الأخطبوطية ، التي تلاشى فيها الإنسان وأصبحَ كمًّـا مهملا، وهو الذي صنعها، يخاف من قوى الشر في العالم التي يرمُزُ لها بـ "ميدوزا" ، ( و"ميدوزا" في الأسطورةِ مخلوقةٌ كريهةُ المنظر،من ينظر في وجهها يتحوَّلُ إلى حجر بفعل السحر). يخاطب الشاعر قوى الشر أو هذه الحضارة المجرمة في شخص "ميدوزا":
      تلعنين السَّنا
      تشربين الندى من عيونِ النَّهارْ
      تأكلين الثمارْ
      وكلَّ الجنى
      وخُبز الفقير ،حليبَ الصغارْ
      تذبحينَ الأغاني كذبْحِ الحمامْ !
      إن هذه الحضارة الأنيقة ـ كما يُسميها الشاعر ـ هي التي سرقت القمر من زماننا وجعلتنا لا نشعر به.
      وتنتهي صفحات الديوان على مصرع الباحث عن الحب والصفاء والطهر في زماننا.
      (4)
      بقي شيء نقوله في فنية هذا الديوان، وهي لجوء الشاعر إلى الصور البكر التي لم يفترسها شاعر من قبل، يقول:
      حاملاً من جراحي سلاحاً جديدا
      لمْ نر من قبل شاعراً يحملُ جراحه سلاحاً، يجاهد ويقاوم به الأعداء.
      ويقول:
      وها أنا في رحلة الحضارهْ
      مخزَّنٌ بالحبِّ والمرارهْ !
      كان يمكنه أن يقول " محمَّلٌ بالحب والمرارة"، ولكن كلمة "محمل" تفيد الحمل الطارئ، بينما كلمة " مُخزَّن" تعني أن المرارة قديمة في النفس، وكذلك الحب.
      وبالإضافة إلى التعبيرات البكر نرى بساطة الصور ، وتلقائيتها حتى إننا لنُحس أننا أمام كلام منثور، وليس شعراً؛ يقول في قصيدة "من سرق القمر":
      تصارخوا: أتسألُ الجموعُ منْ رأى القمرْ ؟
      لأنتَ أرنبٌ يدورْ
      لأنتَ ثعلبٌ خطيرْ
      أنت سارقُ القمرْ
      وفي قصيدة "الفراشة والسور":
      وكيف أقولُ كلاماً يُقالُ حزينْ ؟
      أهرولُ مثلَ صغارِ الأوزِّ النحيلْ
      وأزرعُ بالوردِ قبر الأحبة
      شيءُ واحدٌ آخذه على مصطفى النجار هو "التكرار"؛ الذي يلجأ إليه في بعض قصائده، ولعل هذه الخاصية قد تسربت إلى شعره من عمله مدرساً بالمرحلة الأولى؛ عليه أن يكرر الكلمة أحياناً أكثر من مرة حتى يفهم تلاميذُه الصغار.
      وبعد ؛
      فمصطفى النجار شاعر من أفضل شعراء جيلنا، وضع قدمه على الدرب ، وأمسك بجمرة الشعر، وكتب لنا شعرً جميلاً مؤثراً معبراً عن أزمة الإنسان المعاصر، وما أندر الشعراء في زماننا البخيل!
      .......................
      (*) نشر في صحيفة "الوطن" العُمانية ، في29/9/1980. وفي مجلة "الثقافة" ، العدد(106)، يوليو 1982م.

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #18
        الشاعر مصطفى أحمد النجار...في مجموعتيه
        (على هامش السمفونية الناقصة) و (غنائيات عصرية)

        بقلم: أحمد دوغان

        مصطفى أحمد النجار ولد أديباً وهو لم يدر أن قدره مع الكلمة الهادفة وجهاً لوجه جعله ينتصر لإنسانيته عن سابق إصرار وترصد وهو الذي يجهر بالصدق حتى لو أوصله الحق إلى مالا تحمد عقباه .
        أديب يتمتع بخلق يحسد عليه وإذا قال لي واحد من أصحاب الكار ما علاقة الأخلاق بالإبداع؟ أقول إذا كان الأديب بلا خلق فإن ما يكتبه يكون صورة عنه إلا إذا قلنا أجمل الشعر أكذبه والكذب هنا ليس كذباً أبيض وإنما هو تخييل وفن لذلك يتطلب منا تصويراً فنياً في علاقتنا مع الإبداع .‏
        ومصطفى أحمد النجار اجتاز مرحلة الاختبارات الخلقية والتربوية والأدبية وانتصر لذاته المبدعة ـ شاعراً ـ وقال للأجناس الأدبية التي كتبها من قبل (قصة، حوار، رسائل ... وغيرها) ونشرها في صحف ودوريات الستينيات والسبعينيات في القرن الماضي ـ محلياً وعربياً ـ ولم تظهر في كتاب مطبوع على الرغم من اعتزازه بها: لا تخشي بطن الغيب ربما خير من ظاهره ...!‏
        ولد الشاعر مصطفى أحمد النجار في مدينة حلب عام 1943 وقضى جزءاً من عمره في بلدة (منبج) وإذا قدر له أن يتحصل على الثانوية الزراعية إلا أنه عايش التعليم ثلاثين عاماً فأعطى الكثير لهم حتى أن هؤلاء الصغار تسللوا إلى نصوصه الشعرية وأصبحوا بوحاً جميلاً هذا البوح الذي عرفته الكتب المدرسية في أكثر من صف في التعليم الأساسي وهذا لا يعني أنه كتب للصغار فقط وإنما هو حسب لغة النحو والبلاغة (جزء من كل) فالشعر عند مصطفى أحمد النجار إن جاز لنا التعبير (من رفيف الروح) و (فلوات الرؤيا) بل كان في البدء (شحارير) ترسل إيقاعاً مختلفاً منذ عام 1963 وإذا توصل النقد الأدبي إلى قلم شاعرنا واقصد أنه هو الذي كتب النقد فإنه تمكّن وكان ذا ذائقة نقدية أو قارئاً مبدعاً أيضاً .‏
        ولا أنسى أن الشاعر مصطفى أحمد النجار لا يخشى ان تذهب نصوصه الشعرية في مهب الريح النقدية فتصدر ساحة الإبداع الشعري العربي بالمجموعات الشعرية المشتركة التي صدرت في عدد من الدول العربية (سورية، الأردن، مصر، تونس، المغرب) إلى جانب المجموعات التي حملت اسمه فقط .‏
        وإذا كان الشاعر لا يرغب في السفر فهذا لا يعني أنه يبقى أسير بيئته ـ محلياً ـ وأنا على معرفة تامة بأن مصطفى أحمد النجار دعي إلى أكثر من دولة عربية وأجنبية إلا أنه آثر عدم الذهاب مخالفاً مقولة (اغترب تتجدد) وهو الذي يحمل تأشيرة سفر إلى العديد من النوادي والجمعيات والروابط والمؤسسات الثقافية محلياً وقطرياً وعربياً ...!!‏
        ماذا يعني ذلك ؟ لا أريد أن أقول بنت الدار عورة وإنما يجب علينا أن ننصف الآخرين وخاصة أننا نواجه عولمة ثقافية تطارد من كان نظيفاً أو من كان خارج هذا السرب أو ذاك ومصطفى أحمد النجار على مبدأ (عمر أبو ريشة) (أنا واحد من هؤلاء) .‏
        صدرت له المجموعات التالية :‏
        1ـ شحارير بيضاء (قصيدة نثر ـ مجموعة) دار الرائد حلب 1963‏
        2ـ من سرق القمر (شعر) مطبعة المعري ، حلب 1977‏
        3ـ ماذا يقول القبس الأخضر (شعر) المكتبة العربية ـ حلب 1977‏
        4ـ كلمات ليست للصمت (شعر) دار المرساة ، اللاذقية 1997‏
        5ـ من رفيف الروح (شعر) دار الثريا ، حلب 2005‏
        6ـ فلوات الرؤيا (شعر) دار الثريا حلب 2006‏
        7ـ على هامش السمفونية الناقصة (شعر) ـ دار الثريا ، حلب 2007‏
        8ـ غنائيات عصرية (شعر) دار الثريا، حلب 2008‏
        على هامش السمفونية الناقصة هي المجموعة الشعرية السابعة التي صدرت عام 2008 وجاءت في /153/ صفحة من قطع (14×20) وضمت (94) نصاً شعرياً ينتمي غالباً إلى (شعر الومضة) شاء من شاء ورضي من رضي لأنها موشحة بالإيحاء والدهشة والتعبير الفني والصدق في الرؤيا وتقول ما تريد (لا عليك صديقي) هكذا أنا .‏
        ولا أريد أن أقدم النصوص على طبق وإنما يقيناً فتحت المجموعة فمط العنوان التالي (مدحلة القريب) رأسه وقدم نفسه :‏
        شاهدتها مدحلة حمقاء‏
        وتدعي بأنها هيفاء‏
        قالت لي: قد جئت الآن ... الآن‏
        فافرح بي يا اسفلت الشارع‏
        افرح بي يا إنسان‏
        مرت سنة أو سنتان‏
        قرن أو قرنان‏
        لا تدري ذاكرتي‏
        إلا شيئاً في الظلماء‏
        صارت فيه الطرقات دماء !!‏
        أما ماذا قال الشاعر في الإهداء فهذا ليس بسر:‏
        (ها هو الأفق يضيق على أحلامه ومن قناديل يريه إلى الناس مثل أشواق الطيور مثل مناديل تخفق إلى آخر رعشة لتعانق الهواء الطلق بمناقيرها رغم التراجيدي المعاصر) .‏
        أما المجموعة الأخرى التي نحن بصدد ذكرها فهي (غنائيات عصرية) الصادرة في العام نفسه 2008 من قياس (14×20) وتقع في (122) وتضم /55/ نصاً شعرياً مسربلاً بالإيقاع وتنوع الشكل وإذا ابتعدت عن الحديث النقدي فإنني أحيل المتلقي إلى ما حمله الغلاف من اسطر وردت في مطلع الديوان تحت عنوان (هوية وإهداء) ولكن من الوفاء والأمانة أن أنوه إلى أمر لا علاقة له بالشاعر إلا أنه من الواجب الإشارة إلى جمالية الإخراج الفني للنصوص وجمالية تصميم الغلاف وذلك يعود إلى البر بالوالدين فالإخراج والتصميم لولد الشاعر (عماد نجار) اقتضى التنويه.‏
        هل تسألين: من أنا وما حقيقتي ؟‏
        هل تسألين: موطني ومنبتي ؟‏
        هويتي وموجزاً عن سيرتي‏
        هويتي تحضني على كرامة الإنسان‏
        وسيرتي في الحب والإيمان‏
        في الشعر ... فيما تكتب اليدان‏


        </i>

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #19
          حوار مع الأديب الإنسان الدكتور بديع حقي

          حاوره: مصطفى النجار
          ....................

          بديع حقي رائد يشار له بالبنان في كل عطاءاته الأدبية يتصف بأسلوبه المتفرّد حيث يُعنى بموسقة الكلمة وشحنها بالطاقة الشعورية والجمالية، ورصد أدق المشاعر، وأنسنة الأشياء.
          بديع حقي اسم أدبي كبير يستحق من النقاد وطلبة الدراسات العليا وقفات إنصاف، فهو بدماثة خلقه وتواضعه الجم مثل يُحتذى.
          ففي هذا الحوار يتحدث عن الرواية بشغف، وعن صديقه عمر أبو ريشة بحب ووفاء، كما يتحدث عن عمله الدبلوماسي وغير ذلك.. فإلى التفاصيل..
          موسقة الرواية
          * بداية نرحب بك أجمل ترحيب.. ونأمل أن تحدثنا عن الرواية حيث شغلت حيزاً كبيراً من تجربتكم الأدبية المديدة.
          ** شكراً.. أحب أن أشير أن تجربتي في الرواية تتميز بمحاولتي موسقة الرواية. وتتم هذه الموسقة بالصور الشعرية التي يتّسم بها شعري. ومازلت أملك حتى الآن اللغة الشعرية التي يتلون بها نثري. هذه الموسقة أحب جلوها في الرواية فكأنها سمفونية تتردد فيها الجملة الموسيقية كما تتردد في ثنايا السمفونية.. هكذا أجد أن محاولتي في موسقة الرواية تتجلّى على نحو واضح في روايتي (همسات العكازة المسكينة) حين تترافق نظرات هذه العكازة هامسة متجاوبة في ثنايا الرواية طامحاً إلى ما طمح إليه (هكسلي) الروائي البريطاني في روايته (طباق) إذ كان رائداً في هذا المجال كما أنني حاولت هذه المحاولة أيضاً في بعض قصصي مثل قصة (حكاية النهر والجسد) حيث تتردد الحكاية بلسان النهر يحدث نفسه وبلسان الفتى والفتاة كأنها (سوناتا) موسيقية متكاملة. كما أنني أجد أن الحوار الداخلي في بعض رواياتي والذي أخذت فيه بمدرجة (جيمس جويس) الذي ابتدع الحوار الداخلي في رواية (أوليس) مجالاً آخر لموسقة الرواية، وليس من شك أن تجربتي الشعرية قد أعانتني على هذا المنحى، علماً بأن المنحى الذي كنت أضرب فيه قديماً هو المنحى الرمزي الذي يأتلف تمام الائتلاف مع الموسيقى لأن الشعر الرمزي قوامه الموسيقى على نحو ما ذكره (فرلين) الشاعر الفرنسي بقوله: الموسيقى قبل كل شيء!.
          قبلهما..
          * دكتور بديع.. حبذا لو تحدث القارئ عن تجربتك في الشعر وأنت من بشّر من خلال قصائده المبكرة بالتيار الجديد في الشعر المعاصر في سوريا؟
          ** كانت تجربتي رائدة في الشعر وأعتز بذلك كثيراً، فالشاعرة نازك الملائكة قالت: إن قصائد حقي الأولى في الشعر كانت الإرهاصات الأولى في الشعر الحر.
          وتابع الدكتور حقي قائلاً: تجلّت هذه في ديوان (سحر) الصادر عام 1953 وفيه قصائد نظمتها بمنحى الشعر الحر (التفعيلة) سابقاً بها إسهامات بدر شاكر السياب ونازك الملائكة اللذين أول ما ظهر لهما في هذا المجال كان عام 1946 إذ نشرت قصيدتي (الأرق) عام 1943 في مجلة الصباح الدمشقية وقصيدتي (ليالي بغداد) في مجلة الدنيا الدمشقية عام 1945 وقصيدة (خريف غابة بولونيا) عام 1946 في مجلة الأديب البيروتية ونوّهت نازك بهذه دون أن تعلم أن لي قصائد سابقة لها وكان لي شرف الالتقاء معها بعدئذ.
          * هل فاتحتها بالموضوع؟
          **لا.. لم أفاتحها.
          التراب الحزين
          * قال الناقد السوري سمر روحي الفيصل: نقد القصة القصيرة لا يؤرخ تاريخاً سليماً إذا لم تحلل مجموعة (التراب الحزين) الصادرة عام 1961 التي أثرت في وجدانات الطلبة السوريين سنوات طويلة وكانت في الوقت نفسه ذخراً للأدب العربي الفلسطيني. د. بديع لو تحدثنا عن التراب الحزين والدافع لكتابتها؟
          ** الشرارة التي حملتني على كتابة (التراب الحزين) أنني مضيت عضواً في الوفد السوري إلى عمان للمشاركة باجتماع مجلس الجامعة العربية بمناسبة مذبحة قبية عام 1953 مضينا بعد الاجتماع إلى (قبية) هناك شاهدت منظراً لن أنساه عمري كله: امرأة ترقص حاملة منديلها المخضّب بدم زوجها وأولادها فجعلت أبكي.. ثم مضينا بعد هذا إلى القدس وصليت في المسجد الأقصى وحين مسّت جبهتي سجادة الصلاة بكيت كما لم أبك عمري كله. وآليت على نفسي أن أكتب عن قضية فلسطين التي جعلتها جذع آمالي وحياتي الأدبية. كذلك كتبت أول قصة (التراب الحزين) التي تتصدر المجموعة ومن هنا انطلقت بقية الشرارة. هذه المجموعة التي أعتز بها نالت جائزة الدولة عام 1961 ثم قُررت في المدارس الثانوية، منذ ئذ ترادفت قصص أخرى عن الانتفاضة ضمنتها مجموعة (قوس قزح في بيت ساحور) ومقالات كثيرة ظهرت في كتاب تحت عنوان (وحين يورق الحجر) وثمة رواية لي بعنوان: (أحلام على الرصيف المجروح) عن فلسطين الشتات وهي أعز ما كتبت.
          نزهة.. رحلة
          * دكتور بديع... ما مفهومك الخاص للقصة؟
          ** إن القصة تتراءى لي أشبه بنزهة في حين أن الرواية تتراءى أشبه برحلة عبر المجهول يكتشف الذي يمضي فيها قارات جديدة مثل كولومبس حين اكتشف أمريكا ودستويفسكي حين اكتشف قارات جديدة في النفس الإنسانية.
          غرستها أمي
          * وماذا عن مسحة الأسى التي تغلّف جملة نتاجك الأدبي فهل للطفولة دخل في ذلك؟
          ** إن تجربتي الخاصة لها أثر كبير في أدبي. لقد كانت طفولتي سعيدة وشقية في آن. كانت لي والحمد لله أم رؤوم رعتني ورعت قلمي وقد خلدت فضلها في سيرتي الذاتية (الشجرة التي غرستها أمي) كما أن حباً صادقاً، كان يربطني بملهمة بعد زواجها ترك شرخاً كبيراً في نفسي، فهجرت الشعر وهجرني. في الفترة نفسها التي انكببت على القصة ورأيت في القصة والرواية منفسحاً حراً لأعبر عنها أكثر من الشعر ولعلّي مخطئ في هذا. كان في ميسوري بالشعر أيضاً أن أجلو حرقتي وألمي. توقفت عن كتابة الشعر عام 1952- 1973 وهكذا حتى عدت عام 1973 إلى كتابة (السمفونية الإفريقية) يوم كنت في (كوناكري) ولم تكن بالمستوى الذي أريد أو أحلم به وكذلك هجرت الشعر.
          الإغراق في الغموض
          * ماذا تقول في الشعر الحديث؟
          ** ما ألحظه هو الإغراق في الغموض- ولا أسمّي أحداً- وإن كنت بدأت شاعراً بالنسبة لعصري غامضاً إذ كنت رمزياً حتى إن (سعيد الجزائري) الصحفي المعروف رحمه الله نظم بيتين على سبيل السخرية قال فيهما:
          صار للرمز أصول
          جاء حقي يقول
          تفهم الرمز العقول!
          إن شرط الرمز ألا
          لا أُخفي عليك.. هناك شعراء أعجب بهم في الوقت الحاضر.
          في مقهى البرازيل
          * وماذا عن إعجابك الشديد بالشاعر عمر أبو ريشة الذي تترجمه ألقاً جديداً قولاً وكتابة؟ لو تحدثنا عن علاقتك معه ومع شعره؟
          ** كنت أشارف العشرين من عمري حين التقيته في أوائل الأربعينيات في مقهى البرازيل بدمشق وكان يرتاده بعض الكتاب والشعراء، عرفته بنفسي حين اتّخذ مجلسه قريباً من طاولتي قال لي:
          قرأت بعض ما نشرت في صحيفة (الصباح) فأعجبني.. هات ما عندك مما نظمت مؤخراً. أجبت: لا أجرؤ على أن أبسط بضاعتي المتواضعة أمام سيد الكلمة الشاعرة. واتّسعت على شفتيه ابتسامته المرحة الودود وقال: لا عليك هات ما عندك. وخيّل إليّ أنني أجوز امتحاناً عسيراً وأنشدته بعض ما قرزمت آنذاك وقال لي رحمه الله: تعجبني صورك وحسن انتقائك للكلمة. أنت بلا ريب شاعر وسيكون لك شأن ذات يوم.
          من بين الذكريات الحلوة الموصولة بعمر رحمه الله: أذكر أنني دعيت في منتصف الستينيات من قبل جمعية أدبية لإلقاء كلمة بمناسبة عيد الأم فطاب لي أن أتحدث عن شجرة نارنج كانت أمي رحمها الله قد غرستها في ميعة صباها في حديقة دارنا بسوق ساروجة، وتفيأت طفولتي ظلال الشجرة الغالية، ولما دعيت لإلقاء كلمتي أجلت طرفي في جمهور المستمعين إلي فاقتنصت نظرتي فجأة طيف عمر يرامقني بابتسامة ماكرة مستظرفة كأنها تفضي إلي: ها أنذا جئت للاستماع إليك من دون أن تدعوني وشعرت بهناءة غامرة تلفع قلبي ومضيت في قراءتي حتى شارفت المشهد الذي جلوت فيه كيف اتفق لي أن أمضي إلى بيتي القديم لأرافق الشجرة الغالية فإذا أنا أرى إلى جانبها مدحلة معدنية تهم أن تجتث جذورها من التراب ممهدة الطريق لشق شارع جديد، خاطبت تلك المدحلة التي توشك أن تغتال الشجرة التي غرستها أمي بقولي: رحماك أيها الوحش المعدني فإن جذور هذه الشجرة ماتزال موصولة بقلبي! وغصت عيوني بالدموع فلم أزجرها وتركتها تنساب فوق وجنتي.. وحانت مني التفاتة إلى عمر فإذا الشهد المتنضح من عينيه يسيل دمعاً متحدّراً على خديه لقد أبكيت إذن عمر!، وجاذبتني آنئذ مشاعر غريبة يناقض بعضها بعضاً.
          لقد سمعت عمر ذات مرة يردد قصيدة (هكذا) لا على منبر بل على سطيحة منزل في مزرعة صديقي د. أمين شريف رحمه الله الذي دعاني وعمر مع نخبة من الأصدقاء في الأشرفية وهي ضاحية من ضواحي دمشق. وانساب صوت عمر خفيضاً دافئاً كما لو كان يغازل ضوء القمر الشفاف السابح في ليلة ساجية من أحلى ليالي العمر كان هذا منذ قرابة سبعة وثلاثين عاماً ومايزال صوت عمر رحمه الله يناسم سمعي وكأن صداه ما يزال يسكن في ذاكرتي حتى الآن. وأذكر أن عمراً قال لنا بعد أن أنشدنا قصيدته: إنني أسعى في كل ما أنظم من شعر إلى أن أعتصر حروف كلماتي واهتصرها حرفاً حرفاً كما يستصفي صانع العطر كل ما يمكن في أفواف الوردة من شذا لأريقه في رئة قصيدتي.
          مع الدبلوماسية
          * بعد تجربتك المديدة في العمل الدبلوماسي.. هل أفدت من هذه التجربة أدبياً؟
          ماذا تقول في هذا المجال؟
          ** تشيخوف يقول: إن الطب هو زوجتي الشرعية وأما القصة فهي عشيقتي. أقول: إن الدبلوماسية زوجتي الشرعية والأدب هو عشيقتي وإن زوجتي وعشيقتي تفاهمتا معاً لمصلحتي لأن الدبلوماسية بسفري إلى الخارج رفدت أدبي بتجربة خلابة كما تسنّى لي أن أتقن اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية فضلاً عن الروسية وأن أترجم وأن أتأثر بما كتبه عباقرة الرواية والقصة. وقد ترجمت طاغور وغوغول وهمنجواي إلى اللغة العربية وتأثرت كثيراً بالنفحة الإنسانية التي يتحلّى بها أدب تولستوي وكتبت عنه في كتابي (قمم في الأدب العالمي). الدبلوماسية نفعتني ولم تضرني إنما الأعمال القنصلية التي كنت أعكف عليها قد شغلتني عن الانصراف إلى الأدب على النحو الذي أريد وقد امتد عملي زهاء أربعين عاماً منها ثلاثون عاماً خارج سورية تجولت خلالها في أفريقيا وآسيا وأوروبا وتعرّفت على طباع الشعوب الذين تعاملت معها.
          * دكتور بديع.. بماذا تنصح الشباب؟
          ** المزيد من القراءة وتعلّم اللغات والتردد كثيراً في نشر نتاجهم حتى تستوي تجربتهم.
          ولد د. بديع حقي في دمشق عام 1922
          درس الحقوق في باريس وحصل على الدكتوراه في الحقوق الدولية عام 1950
          انتسب إلى السلك الدبلوماسي فعمل سفيراً ووزيراً مفوضاً ابتداء من عام 1945
          من رواد الشعر الحر والرمزي العربي متفرد بأسلوبه المعروف به في مجمل نتاجه
          من مؤلفاته:
          - سحر - ديوان شعر صدر عام 1954 عن مجلة الأديب
          - التراب الحزين- قصص قصيرة نالت جائزة الدولة عام 1961 وقرر تدريسها في ثانويات سورية.
          * وله عدة روايات:
          - جفون تسحق الصور- دار العلم للملايين 1968
          - أحلام على الرصيف المجروح- دار الآداب 1973
          - حين تتمزق الظلال- اتحاد الكتاب بدمشق 1980
          - همسات العكازة المسكينة- دار العلم للملايين 1987
          * وله في السيرة:
          - الشجرة التي غرستها أمي- صدر عن اتحاد الكتاب العرب 1986
          * وفي الترجمة:
          - روائع طاغور (6 مؤلفات)، وغير ذلك من الكتب.
          .................................................. ....................
          *المصدر: مجلة الموقف الأدبي - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 351 ـ تموز 2000م.

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            عضو أساسي
            • 14-10-2007
            • 867

            #20
            الحزن في ديوان «على هامش السيمفونية الناقصة» لمصطفى النجار

            بقلم: أ.د. حسين علي محمد
            .......................

            مصطفى أحمد النجار شاعر سوري معروف، وهو واحدٌ من كبار المبدعين في عالمنا العربي، وله العديد من الدواوين السابقة التي أصدرها من مطلع الستينيات الميلادية من القرن الماضي. وها هو يواصل عطاءه ويقدم ديوانه الأخير «على هامش السيمفونية الناقصة» محتوياً أربعاً وتسعين قصيدةً، في نحو (150) مائةٍ وخمسين صفحة.
            وقد سبق أن تناولنا بعض دواوينه السابقة، وأجريْنا معه بعض الحوارات، وأعددنا ملفا عنه في أحد الأعداد المبكرة من سلسلة «أصوات مٌعاصرة»، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
            ومن الملاحظ على هذا الديوان شيوع نبرة الحزن في قصائده، ولعل وراء شيوع الحزن ما يجده الشاعر حوله من صور المفارقة في الحياة، ومن الصفحة الأولى التي تحمل عنوان «بقعة ضوء وإهداء» يقول: «ها هو الأفق يضيق على أحلامه، على حكمته التي أسرت من رأسه إلى يديه.. »؛ فكأن الشاعر يشير منذ العتبات الأولى لديوانه أن الأفق يضيق على الأحلام التي كانت متسعة، وعلى الحكمة ـ وهل الشعرُ إلا الحكمة في موروثنا الأدبي ـ التي انشغل بها وأسرته جميعاً (من رأسه إلى يديه)، وضيق الأفق على الأحلام والحكمة وراء ما نلمح من حزنٍ يُغطي معظم قصائد الديوان.
            ومن مظاهر هذا الحزن التي قدَّمها تقديماً فنيا لافتاً ما يتصل بالحياة، ولما كان الماء أساس الحياة فإننا نرى التغير قد أصابه، وها هو الشاعر يجعل الجموع التي ترمز (إلى الجماعة والحياة الدافقة) تتجه للنبع لتروي عطشها الطويل، فتجد النبع لا يسيل ماءً، وإنما يسيلُ دماً!
            يقول في قصيدة «خاتمة العطش»:
            وردتْ للنَّبْعِ لتشربَ ماءْ
            وردتْ للنبعِ، حقولٌ، أطفالٌ ونساءْ
            وقرى، مُدُنٌ نائيةٌ عجْفاءْ
            فحريقُ الظمأ شديدٌ وشديدٌ وشديدٌ
            والأرضُ العطشى آهاتٌ وصديدْ
            وردتْ للدَّمعِ لتشربَ ماءْ
            والنبعُ دماءْ!(1)
            ولاحظ أن مفردات النص هنا تدل على حقولٍ دلاليةٍ تشمل الحياة جميعاً: (حقول، أطفال، نساء، قرى، مدن)، فهذه الأشياءُ جميعاً
            وإذا كان الماء الذي هو شريان الحياة كما قال الله تعالى في كتابه الكريم  وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ  (2)، قد صار دماً فأي حياة تلك التي يعيشها الإنسان ـ في عصرنا ـ وفيها من القهر والظلم والتشويه ما فيها؟! وأي مستقبل يرجوه الشاعر في حياة تفتقد الأساس الآمن لها (الماء)، بينما تمتلئ بالدماء والجراح؟
            إن القصائد تكشف عن حزنٍ يتمدَّدُ؛ قد يسُدُّ منافذ الأفقِ ويُغلق كوّة الأمل الواهي!، وقد صوَّر ذلك من خلال استدعاء شخصية محبة للحياة والسفر واكتشاف المجهول، هي شخصية السندباد، التي استدعاها من قبل كثير من الشعراء.
            يقول مصطفى النجار في قصيدة «عودة سندباد»:
            قدْ قرَعْتُ البابَ .. بابَ الذكرياتِ .:. ألفُ إحساسٍ هُنا في غَوْرِ ذاتي
            ليلُ خَـوْفٍ .. وكثيرٌ منْ عَذَابٍ .:. خِلْتُ أنَّ النَّــارَ تقْتاتُ حياتي
            سندباداً عُـدتُ والبحْرُ ورائي .:. فوجدْتُ البَحْرَ من كُلِّ الجِهاتِ (3)
            وشخصية سندباد (التي تمثل شخصية الإنسان الذي يحب السفر والتجريب وركوب السفن ويسكنه حب جوب العـالم بغية الاستكشاف)(4) تعود من الرحلة الشاقةِ المُضنيةِ .. فترى البحر (الذي يرمز إلى الغموض والمجهول وفقدان الأمْن والخوف الدائم؛ وهي كلُّها مسببات للحزن) يحوطها من كل الجهات، وأنه لم يُخلفه وراءه.
            ومعروف أن شخصية السندباد من الشخصيات التي استدعاها الشعر العربي المعاصر كثيراً، يقول الدكتور علي عشري زايد: «وقع شعراؤنا على هذه الشخصية الغنية من شخصيات تراثنا وهم منكبون عليها كما لم ينكبوا على شخصية تراثية أخرى. بحيث أصبحت هذه الشخصية هي أكثر شخصيات التراث شيوعاً في الشعر العربي الحديث، حتى لانكاد نفتح ديواناً من دواوين شعرائنا المحدثين إلا ويطالعنا وجه السندباد من قصيدة أو أكثر من قصائده، ومامن شاعر عربي معاصر إلا وقد اعتبر نفسه سندباداً في مرحلة من مراحل تجربته الشعرية» (5).
            وقد كان السندباد يحب الأسفار «استجابة لنزعة فطرية في نفسه...وكان يصادف في كل رحلة من الأخطار والأهوال ماكان حرياً أن يصرفه عن التفكير في تكرار مثل هذه المغامرة ، ولكن نزعته المغامرة الغلابة كانت تنتصر دائماً على عوامل التردد ، وكان يدعم هذه النزعة أنه كان في كل مغامرة يتغلب على كل ما يصادفه من مخاطر ويتعرض له من أهوال ، ليعود في نهاية كل رحلة محملاً بالكنوز والجواهر والنفائس التي كان ينفقها بسرف على أقاربه وأصدقائه وندمان» (6)، لكن الستدباد في نص مصطفى النجار سندباد آخر: سندباد مُحبط، مهزوم من الداخل، يرى البحر يحيط به من كل جانب!
            وإذا كانت الشخصية المستدعاة هنا ـ وكأنها الشاعر الجوّاب ـ تجسِّد صورةَ الحزن، فإننا نجد كثيراً من قصائد الديوان تتناول بعض المرائي التي تدفع للحزن، ومنها المطاردة غير المتكافئة بين الجبارين المتنفذين القادرين والصغار الضعفاء .. الذين «لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً» (7) ساقها من خلال صورةٍ دالة في قصيدةٍ تحمل عنوان «الطقس»:
            بينما الجزارُ: سكينٌ تُطاردْ
            والعصافيرُ شتاتْ
            أو ضحايا في المصائدْ
            تجد الأشياء تمضي بهوادةْ
            نحمدُ الطقسَ على هذي السعادهْ! (8)،
            ومن ثم فوسط هذه المثبطات المُجهضات ـ في حياتنا ـ لا يجد إلا عند الله الملجأ والملاذ، يقول في نص «الوردة الأنقى»:
            فتَّشَ قلبي عنْ وردتِهِ الأنْقى
            في غبشِ الفجْرِ الدامعِ
            عنْ نغمتِهِ وشذاها
            اعقِدْ يا ربَّ الورْدِ رباطاً
            ما بيْنَ جراحي ورؤاها (9)
            وفي قصائد الديوان ـ وهي قصائد قصيرة ـ نلمح خيطاً سرديا لا تُخطئه عين القارئ، ومن هذه القصائد القصيرة نرى إحدى قصائده القليلة التي تنبض بالأمل، وهي قصيدة «العروس» التي تشي بالسعادة الآتية والأمل في المستقبل:
            ينامُ الجميعُ
            ولا ترضخينَ لنومِ الجميعْ
            سيأتي قريباً
            سيأتي .. ويأتي الربيعْ
            سيأتي رهيفاً إلى مُقلتيكِ
            ليُشعلَ فيكِ ابتهاجَ السنينْ (10)
            إن العروس في هذا النص تنتظرُ فرحتها التي لمْ تكتمل، وعاقها عائق ما! .. ربما لم يأت الحبيب الذي تحبه، ويكحل عينيها باللقاء الوارف الأخضر، وقدْ ملَّ الجمعُ المحيطون بها، وسئموا الانتظار فناموا، ولكن الشاعر يؤكد في هذا النص الشعري / السردي القصير أن هذا الحبيب الذي تأخَّر موكبه سيأتي كما يأتي الربيع، ليملأ حياتها بالبهجة.
            وأرى في هذه القصيدة دعوة للأمل وسط ركام الحزن والإحباط الذي يلف جنبات الديوان.
            ..........................
            الهوامش:
            (1) مصطفى النجار: على هامش السيمفونية الناقصة، دار الثريا، حلب 2007م، ص16.
            (2) الأنبياء: 30.
            (3) الديوان، ص78.
            (4) انظر ما كتبه د. عبد الله السويكت عنه في كتابه: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر السعودي، ط1، وزارة الثقافة والإعلام، دار المفردات، الرياض 1430هـ-2009م، ص 151 فما بعدها.
            (5) د. علي عشري زايد: الرحلة الثامنة للسندباد ، دراسة فنية عن شخصية السندباد في شعرنا المعاصر، ط1، دارثابت للنشر، القاهرة 1404هـ - 1984م، ص 48.
            (6) السابق، ص27.
            (7) سورة النساء: 98.
            (8) الديوان، ص18.
            (9) السابق، ص72.
            (10) السابق، ص56.

            تعليق

            يعمل...
            X