دلالات الكتابة
...........
الكلمات تدوم أكثر من الأحجار كثيراً
كاميلو خوسيه ثيلا
أتفق مع تشيخوف فى قوله " إن الفنان يكتب قصة عندما يريد التعبير عن فكرة " . أختلف ـ فى المقابل ـ مع ألان روب جرييه فى أن الحدوتة لم يعد لها قيمة فى رواية اليوم ، وألح فى رفض الرأى بأن رواية القرن العشرين قد انعدم فيها المغزى . إن أهم المشكلات التى تعنى بها البنيوية ـ مع تحفظى المعلن على إمكانية تعبيرها عن مشروعنا الإبداعى أو النقدى ـ هى معنى النص ، أو قدرته على الدلالة . المعنى ، أو الدلالة ، هى كذلك المشكلة الأهم للمشروعات النقدية النى ظهرت عن الحداثة . وإذا كان رامان سلدن يذهب إلى أن مهمة الفن هى أن يعيد الينا الوعى بالأشياء التى أصبحت موضوعات مألوفة لوعينا اليومى المعتاد ( ت . جابر عصفور ) فإن الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ـ المسميات كثيرة ـ تظل هى نواة العمل الروائى ، بعداً رئيساً لها . اذا حاول المبدع أن يستغنى عنها ، فإنه يستغنى عن عمود مهم فى أساسات عمارته الروائية . أرفض قول فورد مادوكس بأنه على الفنان أن يحتفظ برأسه ، فلا يمنح تعاطفه لأحد من البشر ، ولا لقضية من القضايا ، وإنما عليه أن يظل ملاحظاً بلا مشاعر فياضة ولا شفقة . الفنان ينتهى ـ كما يقول مادوكس ـ إذا تحول إلى داعية . وهو قول صحيح تماماً . فللداعية وسيلته ، ولعالم الاجتماع وسيلته ، وللفنان وسيلته كذلك ، وهى ـ ببساطة ـ وسيلة الفن . وإذا كان تشيخوف يرفض أن يكون الكاتب قاضياً يحكم على شخصيات عمله الإبداعى ، ويطالب الكاتب بأن يكون شاهداً غير متحيز ، فإنى أجد انحياز الكاتب لقضية ما ، لوجهة نظر معينة ، لموقف أو مجموعة مواقف ، مسألة مهمة ومطلوبة ، ولعلى أتصورها ـ للفنان الحقيقى ـ بديهية . الفنان لا يجدف فى الفراغ ، ولكن يجب أن تكون له وجهة نظر ، رؤية معينة ، أو ما يسمى ـ بالنسبة للفنان المتكامل الثقافة والموهبة والخبرة ـ " فلسفة حياة " . ولعلى أذكرك بقول كازنتزاكس إن الكتابة ربما كانت ممتعة فى وقت التوازن واعتدال الأمزجة . أما الآن ، فالكتابة واجب حزين لتحفيز الآخرين على أن يتخطوا الوحش الكامن فى داخل الإنسان .
***
ثمة رأى أنه يجب أن تقدم القصة القصيرة فكرة فى الدرجة الأولى ، ثم وجهة نظر مخلصة فى الطبيعة الإنسانية ، ثم يأتى الأسلوب فى النهاية . بل إن وت بيرنت الذى يرى أن قصة بلا وجهة نظر مع فنية متفوقة لا تساوى شيئاً ، يفضل أن يكون للمبدع مقولة دون بناء فنى ، على أن يكون لديه بناء فنى دون مقولة . النص المغلق ودعناه فى قصص أمين يوسف غراب ، النهاية الباترة الحاسمة التى تحرص أن تهب المتلقى دلالة واحدة ، وحيدة . والحق أنه لا يشغلنى شخصياً إن كان تعدد الدلالة مما يذهب إليه النقاد الجدد أم لا ، لكننى أومن بتعدد دلالة العمل الإبداعى . كلما تفوقت فنية العمل الإبداعى تعددت دلالاته ، والعكس ـ بالطبع ـ صحيح . الاختلاف بين النص العلمى والنص الأدبى أن النص العلمى يعنى بتحقيق معنى محدد ، دلالة واضحة لا مجال فيها للمجاز أو البلاغة . أما النص الأدبى فهو يرفض ـ فى دلالته أو دلالاته ـ المعنى المحدد . إن قيمته ـ فى تقديرى ـ فى تعدد معانيه ، فى تعدد دلالاته ، وبتعبير آخر : فى تعدد مستويات القراءة . ولعلى أضيف إن النص الإبداعى ليس نصاً واحداً ، ولكنه نصوص متعددة بتعدد القراءات والتأويلات . لا أقصد التفكيكية ، وإنما أقصد ما يجب أن تكون عليه النهاية الجيدة للنص الجيد . إساءة القراءة كما يذهب التفكيك ، معنى لا أفهمه ، ولا يهمنى ، بل أعنى القراءة الواعية الفاهمة التى تتعدد بها مستويات التلقى . ولعل الاختلافات النقدية حول روايتى " الصهبة " ما يبين عن تعدد الدلالات . ثمة من اعتبرها تصويراً للعلاقات الأسرية فى تشابكاتها المحيرة ، ومن وجد فيها تناولاً لضغوط الواقع الاقتصادى وتأثيراتها ، وثمة من اعتبرها رواية واقعية ، ومن اعتبرها فانتازيا يختلط فيها الواقع بالحلم .. واجتهادات أخرى كثيرة ، تنتهى إلى دلالات عابرة تصل ـ فى تباينها ـ إلى حد التضاد !
الرواية ـ فى رأى روجر ب. هينكلى ـ يمكن أن تكون وسيلة ادراك معرفى ، بمقدورها أن تزودنا برؤية صحيحة عن عالم الحياة والأحياء والعلاقات الإنسانية تفوق فى قدرتها على التأثير فينا مايمكن أن نحصّله من علم الاجتماع والتاريخ والنفس والإنسان ( قراءة الرواية ) . وأتذكر قول ميشيل بوتور : " أنا لا أكتب الروايات لأبيعها ، بل لأحصل على وحدة فى حياتى . إن الكتابة بالنسبة لى هى العمود الفقرى " .
***
تقول سيمون دى بوفوار : " ان الرواية الفلسفية إذا ماقرئت بشرف ، وكتبت بشرف ، أتت بكشف للوجود لا يمكن لأى نمط آخر فى التعبير أن يكون معادلاً له . انها وحدها التى تنجح فى احياء ذلك المصير الذى هو مصيرنا ، والمدون فى الزمن والأبدية فى آن واحد ، بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهرى " .. مع ذلك فإن الرواية التى أعنيها هى التى تعبر عن فلسفة الحياة ، وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقى . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . أرفض تحول الروائى إلى مفكر جدلى ، كما أرفض أن يتحول المفكر الجدلى الى روائى . ذلك نوع من الخلط يسئ الى الفلسفة والى الرواية فى آن . أعرف أن تولستوى يواجه اللوم ـ حتى الآن ـ للفقرات الفلسفية المقحمة على رواياته . إن أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة ، لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردد كالنغم عبر أعماله جميعاً ، وتربطها كلها فى وحدة عضوية متماسكة " ( صبرى حافظ : المجلة ـ مارس 1964 ) على الرغم من ـ أو مع الإشارة إلى ـ تحفظ فورد مادوكس أن تعقد الحياة المعاصرة ، قد يتيح لنا تأمل الحياة طويلاً ، ولكن من المستحيل أن نراها فى صورتها الكلية . ولعلى أشير كذلك إلى قول ألان روب جرييه " الفن ليس فيه شئ معروف قبلاً ، فقبل العمل الأدبى لا يوجد شئ ما ، لا يقين ولا دعوى ولا رسالة . والزعم بأن الروائى لديه شئ يقوله ، وأنه يبحث بعد ذلك عن كيفية قوله . زعم فاحش الخطأ ، فإن هذه الكيفية ، أو طريقة القول ، هى ـ بالتحديد ـ التى تكون مشروعه بوصفه كاتباً ( ت . شكرى عياد ) .
***
الأدب هو الأسبق دائماً فى النظرة ، فى محاولة استشراف آفاق المستقبل . إنه يسبق فى ذلك حتى العلم نفسه . وكما يقول كافكا : " فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية . أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ماهو متفق مع القانون العام . ان رسالة الكاتب نبوية " . كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوى هى الترديد المستمر للأفكار العامة ، للنظرة الشاملة ، لفلسفة الحياة ، فى مجموع تلك الأعمال . وكان ذلك هو الذى أعطى أعمال تولستوى ـ كما يقول أدينكوف ـ " تكاملاً وتماسكاً داخلياً " . وعلى حد تعبير تولستوى ، فإن الكاتب الذى لا يمتلك نظرة واضحة ، محددة وجديدة للعالم ، ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة ، لن يستطيع تقديم عمل فنى حقيقى . وإذا كان الموت هو المصير الإنسانى ، فإن العمل هو سلاح الإنسان ضد الموت " بالعمل وحده سيبزغ الفجر ، ولو فى القبر " . وقد حاول كل من تولستوى وديستويفسكى أن يجيب عن السؤال : هل الحياة جديرة بأن تحيا ؟. وكان تقديرهما أن الحياة التى نحياها ليست مجرد جسر إلى حياة أخرى ، أو أنها تنتهى بالعدم . ثمة ما ينبغى أن نتطلع إليه ، وأن نحاول صنعه حتى ننتزع للإنسانية أملاً من ظلمة المستقبل . وكان الإيمان بالعمل هو البعد الأهم فى الفلسفة الحياتية لأنطون تشيخوف . كان الطب مهنة تشيخوف ، وكان الأدب هوايته ، لكنه أخلص فى العناية بحديقته الصغيرة ، كأنه يحترف الزراعة ، وكان رأيه أنه لو أن كل إنسان فى العالم فعل كل ما بوسعه فى الرقعة التى تخصه ، فسيكون العالم جميلاً . يقول : " إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل المستمر ليل نهار ، والقراءة الدؤوبة ، والدراسة ، والسيطرة على الإرادة ، فكل ساعة من الحياة ثمينة " . ويذهب إيتالو كالفينو إلى أننا كلما تقدمنا فى قراءة تشيخوف ، التقينا بشخصيات تقرر ـ فى نهاية الأمر ـ أن تعمل بجدية ، أو تتكلم عن تلك الحياة الرائعة التى ستقوم على لأرض بعد مائة عام ، أو بعد مائتين ، أو عن تلك الزوبعة التى سوف تجتاح كل شيء " . ويقول الدكتور أستروف بطل مسرحية " الخال فانيا " : " كل ما فى الإنسان يجب أن يكون جميلاً ، وجهه ، ملابسه ، روحه ، أفكاره ، ما أمتع لذة احترام الإنسان وتقديره " . والقيمة الأهم فى روايات الروسى إيفان جونتشاروف هى " الدعوة الموضوعية إلى العمل الذى تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى : التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنسانى وروحى " . أما رؤية د . هـ . لورنس المتكاملة فتعنى بعزلة الإنسان فى العالم الحديث ، والانفصام الحاد بينه وبين الطبيعة ، فى مقابل تشويه الثورة الصناعية ، وتأثيرها بالسلب على المدينة والقرية فى آن . والحرية هى النبع الذى تنهل منه أفكار سارتر وكتاباته الفلسفية ، وإبداعاته . إنها المحور فى فلسفة حياته ، حرية الفرد والجماعة والوطن . أما همنجواى فقد تمحورت رؤيته الحياتية فى أن العالم قادر على تحطيم أى انسان ، لكن كثيرين يستعيدون قواهم ، وينهضون . الحياة ـ فى نظر شخصيات همنجواى ـ معركة خاسرة ، لكن الهزيمة تصبح نصراً إذا واجهها المرء بنفس شجاعة ومقاومة ، أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان . وبتعبير آخر ، فإن الإنسان ـ فى فلسفة همنجواى الحياتية ـ قد يتحطم ، لكنه لا ينهزم . أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان ، ولعل ممارسة الجنس فى أتون المعارك الحربية ، والتلذذ بمصارعة الثيران ، وبالصيد .. لعل ذلك يمثل تحدياً ـ ولو عبثياً ـ لحتمية الموت . وعلى حد تعبير جارثيا ماركيث فإن شخصيات همنجواى لم يكن لها الحق فى الموت قبل أن يعانوا ـ لبعض الوقت ـ مرارة الانتصار . الإنسان ـ عند كامى ـ يكتشف عبثية الحياة ، لا معقوليتها ، وليس بوسعه الاّ أن يتحدى كل شئ فى هذا العالم . شجاعة الإنسان ـ فى تقدير كامى ـ ليست فى غياب اليأس ، وإنما فى القدرة على التحرك ضد اليأس ، ضد عبثية الحياة . إن العادلين فى مسرحية كامى يحملون رسالة تعطى لحياتهم معنى ، فهم يحيون من أجل أدائها ، ويجعلونها قضيتهم . وباختصار ، فإنه لكى يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقى على شعور العبث فى داخله كى يستمد منه طاقة التحدى اللازمة للبقاء .
***
(يتبع)
...........
الكلمات تدوم أكثر من الأحجار كثيراً
كاميلو خوسيه ثيلا
أتفق مع تشيخوف فى قوله " إن الفنان يكتب قصة عندما يريد التعبير عن فكرة " . أختلف ـ فى المقابل ـ مع ألان روب جرييه فى أن الحدوتة لم يعد لها قيمة فى رواية اليوم ، وألح فى رفض الرأى بأن رواية القرن العشرين قد انعدم فيها المغزى . إن أهم المشكلات التى تعنى بها البنيوية ـ مع تحفظى المعلن على إمكانية تعبيرها عن مشروعنا الإبداعى أو النقدى ـ هى معنى النص ، أو قدرته على الدلالة . المعنى ، أو الدلالة ، هى كذلك المشكلة الأهم للمشروعات النقدية النى ظهرت عن الحداثة . وإذا كان رامان سلدن يذهب إلى أن مهمة الفن هى أن يعيد الينا الوعى بالأشياء التى أصبحت موضوعات مألوفة لوعينا اليومى المعتاد ( ت . جابر عصفور ) فإن الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ـ المسميات كثيرة ـ تظل هى نواة العمل الروائى ، بعداً رئيساً لها . اذا حاول المبدع أن يستغنى عنها ، فإنه يستغنى عن عمود مهم فى أساسات عمارته الروائية . أرفض قول فورد مادوكس بأنه على الفنان أن يحتفظ برأسه ، فلا يمنح تعاطفه لأحد من البشر ، ولا لقضية من القضايا ، وإنما عليه أن يظل ملاحظاً بلا مشاعر فياضة ولا شفقة . الفنان ينتهى ـ كما يقول مادوكس ـ إذا تحول إلى داعية . وهو قول صحيح تماماً . فللداعية وسيلته ، ولعالم الاجتماع وسيلته ، وللفنان وسيلته كذلك ، وهى ـ ببساطة ـ وسيلة الفن . وإذا كان تشيخوف يرفض أن يكون الكاتب قاضياً يحكم على شخصيات عمله الإبداعى ، ويطالب الكاتب بأن يكون شاهداً غير متحيز ، فإنى أجد انحياز الكاتب لقضية ما ، لوجهة نظر معينة ، لموقف أو مجموعة مواقف ، مسألة مهمة ومطلوبة ، ولعلى أتصورها ـ للفنان الحقيقى ـ بديهية . الفنان لا يجدف فى الفراغ ، ولكن يجب أن تكون له وجهة نظر ، رؤية معينة ، أو ما يسمى ـ بالنسبة للفنان المتكامل الثقافة والموهبة والخبرة ـ " فلسفة حياة " . ولعلى أذكرك بقول كازنتزاكس إن الكتابة ربما كانت ممتعة فى وقت التوازن واعتدال الأمزجة . أما الآن ، فالكتابة واجب حزين لتحفيز الآخرين على أن يتخطوا الوحش الكامن فى داخل الإنسان .
***
ثمة رأى أنه يجب أن تقدم القصة القصيرة فكرة فى الدرجة الأولى ، ثم وجهة نظر مخلصة فى الطبيعة الإنسانية ، ثم يأتى الأسلوب فى النهاية . بل إن وت بيرنت الذى يرى أن قصة بلا وجهة نظر مع فنية متفوقة لا تساوى شيئاً ، يفضل أن يكون للمبدع مقولة دون بناء فنى ، على أن يكون لديه بناء فنى دون مقولة . النص المغلق ودعناه فى قصص أمين يوسف غراب ، النهاية الباترة الحاسمة التى تحرص أن تهب المتلقى دلالة واحدة ، وحيدة . والحق أنه لا يشغلنى شخصياً إن كان تعدد الدلالة مما يذهب إليه النقاد الجدد أم لا ، لكننى أومن بتعدد دلالة العمل الإبداعى . كلما تفوقت فنية العمل الإبداعى تعددت دلالاته ، والعكس ـ بالطبع ـ صحيح . الاختلاف بين النص العلمى والنص الأدبى أن النص العلمى يعنى بتحقيق معنى محدد ، دلالة واضحة لا مجال فيها للمجاز أو البلاغة . أما النص الأدبى فهو يرفض ـ فى دلالته أو دلالاته ـ المعنى المحدد . إن قيمته ـ فى تقديرى ـ فى تعدد معانيه ، فى تعدد دلالاته ، وبتعبير آخر : فى تعدد مستويات القراءة . ولعلى أضيف إن النص الإبداعى ليس نصاً واحداً ، ولكنه نصوص متعددة بتعدد القراءات والتأويلات . لا أقصد التفكيكية ، وإنما أقصد ما يجب أن تكون عليه النهاية الجيدة للنص الجيد . إساءة القراءة كما يذهب التفكيك ، معنى لا أفهمه ، ولا يهمنى ، بل أعنى القراءة الواعية الفاهمة التى تتعدد بها مستويات التلقى . ولعل الاختلافات النقدية حول روايتى " الصهبة " ما يبين عن تعدد الدلالات . ثمة من اعتبرها تصويراً للعلاقات الأسرية فى تشابكاتها المحيرة ، ومن وجد فيها تناولاً لضغوط الواقع الاقتصادى وتأثيراتها ، وثمة من اعتبرها رواية واقعية ، ومن اعتبرها فانتازيا يختلط فيها الواقع بالحلم .. واجتهادات أخرى كثيرة ، تنتهى إلى دلالات عابرة تصل ـ فى تباينها ـ إلى حد التضاد !
الرواية ـ فى رأى روجر ب. هينكلى ـ يمكن أن تكون وسيلة ادراك معرفى ، بمقدورها أن تزودنا برؤية صحيحة عن عالم الحياة والأحياء والعلاقات الإنسانية تفوق فى قدرتها على التأثير فينا مايمكن أن نحصّله من علم الاجتماع والتاريخ والنفس والإنسان ( قراءة الرواية ) . وأتذكر قول ميشيل بوتور : " أنا لا أكتب الروايات لأبيعها ، بل لأحصل على وحدة فى حياتى . إن الكتابة بالنسبة لى هى العمود الفقرى " .
***
تقول سيمون دى بوفوار : " ان الرواية الفلسفية إذا ماقرئت بشرف ، وكتبت بشرف ، أتت بكشف للوجود لا يمكن لأى نمط آخر فى التعبير أن يكون معادلاً له . انها وحدها التى تنجح فى احياء ذلك المصير الذى هو مصيرنا ، والمدون فى الزمن والأبدية فى آن واحد ، بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهرى " .. مع ذلك فإن الرواية التى أعنيها هى التى تعبر عن فلسفة الحياة ، وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقى . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . أرفض تحول الروائى إلى مفكر جدلى ، كما أرفض أن يتحول المفكر الجدلى الى روائى . ذلك نوع من الخلط يسئ الى الفلسفة والى الرواية فى آن . أعرف أن تولستوى يواجه اللوم ـ حتى الآن ـ للفقرات الفلسفية المقحمة على رواياته . إن أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة ، لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردد كالنغم عبر أعماله جميعاً ، وتربطها كلها فى وحدة عضوية متماسكة " ( صبرى حافظ : المجلة ـ مارس 1964 ) على الرغم من ـ أو مع الإشارة إلى ـ تحفظ فورد مادوكس أن تعقد الحياة المعاصرة ، قد يتيح لنا تأمل الحياة طويلاً ، ولكن من المستحيل أن نراها فى صورتها الكلية . ولعلى أشير كذلك إلى قول ألان روب جرييه " الفن ليس فيه شئ معروف قبلاً ، فقبل العمل الأدبى لا يوجد شئ ما ، لا يقين ولا دعوى ولا رسالة . والزعم بأن الروائى لديه شئ يقوله ، وأنه يبحث بعد ذلك عن كيفية قوله . زعم فاحش الخطأ ، فإن هذه الكيفية ، أو طريقة القول ، هى ـ بالتحديد ـ التى تكون مشروعه بوصفه كاتباً ( ت . شكرى عياد ) .
***
الأدب هو الأسبق دائماً فى النظرة ، فى محاولة استشراف آفاق المستقبل . إنه يسبق فى ذلك حتى العلم نفسه . وكما يقول كافكا : " فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية . أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ماهو متفق مع القانون العام . ان رسالة الكاتب نبوية " . كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوى هى الترديد المستمر للأفكار العامة ، للنظرة الشاملة ، لفلسفة الحياة ، فى مجموع تلك الأعمال . وكان ذلك هو الذى أعطى أعمال تولستوى ـ كما يقول أدينكوف ـ " تكاملاً وتماسكاً داخلياً " . وعلى حد تعبير تولستوى ، فإن الكاتب الذى لا يمتلك نظرة واضحة ، محددة وجديدة للعالم ، ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة ، لن يستطيع تقديم عمل فنى حقيقى . وإذا كان الموت هو المصير الإنسانى ، فإن العمل هو سلاح الإنسان ضد الموت " بالعمل وحده سيبزغ الفجر ، ولو فى القبر " . وقد حاول كل من تولستوى وديستويفسكى أن يجيب عن السؤال : هل الحياة جديرة بأن تحيا ؟. وكان تقديرهما أن الحياة التى نحياها ليست مجرد جسر إلى حياة أخرى ، أو أنها تنتهى بالعدم . ثمة ما ينبغى أن نتطلع إليه ، وأن نحاول صنعه حتى ننتزع للإنسانية أملاً من ظلمة المستقبل . وكان الإيمان بالعمل هو البعد الأهم فى الفلسفة الحياتية لأنطون تشيخوف . كان الطب مهنة تشيخوف ، وكان الأدب هوايته ، لكنه أخلص فى العناية بحديقته الصغيرة ، كأنه يحترف الزراعة ، وكان رأيه أنه لو أن كل إنسان فى العالم فعل كل ما بوسعه فى الرقعة التى تخصه ، فسيكون العالم جميلاً . يقول : " إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل المستمر ليل نهار ، والقراءة الدؤوبة ، والدراسة ، والسيطرة على الإرادة ، فكل ساعة من الحياة ثمينة " . ويذهب إيتالو كالفينو إلى أننا كلما تقدمنا فى قراءة تشيخوف ، التقينا بشخصيات تقرر ـ فى نهاية الأمر ـ أن تعمل بجدية ، أو تتكلم عن تلك الحياة الرائعة التى ستقوم على لأرض بعد مائة عام ، أو بعد مائتين ، أو عن تلك الزوبعة التى سوف تجتاح كل شيء " . ويقول الدكتور أستروف بطل مسرحية " الخال فانيا " : " كل ما فى الإنسان يجب أن يكون جميلاً ، وجهه ، ملابسه ، روحه ، أفكاره ، ما أمتع لذة احترام الإنسان وتقديره " . والقيمة الأهم فى روايات الروسى إيفان جونتشاروف هى " الدعوة الموضوعية إلى العمل الذى تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى : التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنسانى وروحى " . أما رؤية د . هـ . لورنس المتكاملة فتعنى بعزلة الإنسان فى العالم الحديث ، والانفصام الحاد بينه وبين الطبيعة ، فى مقابل تشويه الثورة الصناعية ، وتأثيرها بالسلب على المدينة والقرية فى آن . والحرية هى النبع الذى تنهل منه أفكار سارتر وكتاباته الفلسفية ، وإبداعاته . إنها المحور فى فلسفة حياته ، حرية الفرد والجماعة والوطن . أما همنجواى فقد تمحورت رؤيته الحياتية فى أن العالم قادر على تحطيم أى انسان ، لكن كثيرين يستعيدون قواهم ، وينهضون . الحياة ـ فى نظر شخصيات همنجواى ـ معركة خاسرة ، لكن الهزيمة تصبح نصراً إذا واجهها المرء بنفس شجاعة ومقاومة ، أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان . وبتعبير آخر ، فإن الإنسان ـ فى فلسفة همنجواى الحياتية ـ قد يتحطم ، لكنه لا ينهزم . أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان ، ولعل ممارسة الجنس فى أتون المعارك الحربية ، والتلذذ بمصارعة الثيران ، وبالصيد .. لعل ذلك يمثل تحدياً ـ ولو عبثياً ـ لحتمية الموت . وعلى حد تعبير جارثيا ماركيث فإن شخصيات همنجواى لم يكن لها الحق فى الموت قبل أن يعانوا ـ لبعض الوقت ـ مرارة الانتصار . الإنسان ـ عند كامى ـ يكتشف عبثية الحياة ، لا معقوليتها ، وليس بوسعه الاّ أن يتحدى كل شئ فى هذا العالم . شجاعة الإنسان ـ فى تقدير كامى ـ ليست فى غياب اليأس ، وإنما فى القدرة على التحرك ضد اليأس ، ضد عبثية الحياة . إن العادلين فى مسرحية كامى يحملون رسالة تعطى لحياتهم معنى ، فهم يحيون من أجل أدائها ، ويجعلونها قضيتهم . وباختصار ، فإنه لكى يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقى على شعور العبث فى داخله كى يستمد منه طاقة التحدى اللازمة للبقاء .
***
(يتبع)
تعليق