النص الكامل لكتاب الروائي الكبير محمد جبريل «للشمس سبعة ألوان»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #16
    دلالات الكتابة
    ...........

    الكلمات تدوم أكثر من الأحجار كثيراً
    كاميلو خوسيه ثيلا

    أتفق مع تشيخوف فى قوله " إن الفنان يكتب قصة عندما يريد التعبير عن فكرة " . أختلف ـ فى المقابل ـ مع ألان روب جرييه فى أن الحدوتة لم يعد لها قيمة فى رواية اليوم ، وألح فى رفض الرأى بأن رواية القرن العشرين قد انعدم فيها المغزى . إن أهم المشكلات التى تعنى بها البنيوية ـ مع تحفظى المعلن على إمكانية تعبيرها عن مشروعنا الإبداعى أو النقدى ـ هى معنى النص ، أو قدرته على الدلالة . المعنى ، أو الدلالة ، هى كذلك المشكلة الأهم للمشروعات النقدية النى ظهرت عن الحداثة . وإذا كان رامان سلدن يذهب إلى أن مهمة الفن هى أن يعيد الينا الوعى بالأشياء التى أصبحت موضوعات مألوفة لوعينا اليومى المعتاد ( ت . جابر عصفور ) فإن الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ـ المسميات كثيرة ـ تظل هى نواة العمل الروائى ، بعداً رئيساً لها . اذا حاول المبدع أن يستغنى عنها ، فإنه يستغنى عن عمود مهم فى أساسات عمارته الروائية . أرفض قول فورد مادوكس بأنه على الفنان أن يحتفظ برأسه ، فلا يمنح تعاطفه لأحد من البشر ، ولا لقضية من القضايا ، وإنما عليه أن يظل ملاحظاً بلا مشاعر فياضة ولا شفقة . الفنان ينتهى ـ كما يقول مادوكس ـ إذا تحول إلى داعية . وهو قول صحيح تماماً . فللداعية وسيلته ، ولعالم الاجتماع وسيلته ، وللفنان وسيلته كذلك ، وهى ـ ببساطة ـ وسيلة الفن . وإذا كان تشيخوف يرفض أن يكون الكاتب قاضياً يحكم على شخصيات عمله الإبداعى ، ويطالب الكاتب بأن يكون شاهداً غير متحيز ، فإنى أجد انحياز الكاتب لقضية ما ، لوجهة نظر معينة ، لموقف أو مجموعة مواقف ، مسألة مهمة ومطلوبة ، ولعلى أتصورها ـ للفنان الحقيقى ـ بديهية . الفنان لا يجدف فى الفراغ ، ولكن يجب أن تكون له وجهة نظر ، رؤية معينة ، أو ما يسمى ـ بالنسبة للفنان المتكامل الثقافة والموهبة والخبرة ـ " فلسفة حياة " . ولعلى أذكرك بقول كازنتزاكس إن الكتابة ربما كانت ممتعة فى وقت التوازن واعتدال الأمزجة . أما الآن ، فالكتابة واجب حزين لتحفيز الآخرين على أن يتخطوا الوحش الكامن فى داخل الإنسان .
    ***
    ثمة رأى أنه يجب أن تقدم القصة القصيرة فكرة فى الدرجة الأولى ، ثم وجهة نظر مخلصة فى الطبيعة الإنسانية ، ثم يأتى الأسلوب فى النهاية . بل إن وت بيرنت الذى يرى أن قصة بلا وجهة نظر مع فنية متفوقة لا تساوى شيئاً ، يفضل أن يكون للمبدع مقولة دون بناء فنى ، على أن يكون لديه بناء فنى دون مقولة . النص المغلق ودعناه فى قصص أمين يوسف غراب ، النهاية الباترة الحاسمة التى تحرص أن تهب المتلقى دلالة واحدة ، وحيدة . والحق أنه لا يشغلنى شخصياً إن كان تعدد الدلالة مما يذهب إليه النقاد الجدد أم لا ، لكننى أومن بتعدد دلالة العمل الإبداعى . كلما تفوقت فنية العمل الإبداعى تعددت دلالاته ، والعكس ـ بالطبع ـ صحيح . الاختلاف بين النص العلمى والنص الأدبى أن النص العلمى يعنى بتحقيق معنى محدد ، دلالة واضحة لا مجال فيها للمجاز أو البلاغة . أما النص الأدبى فهو يرفض ـ فى دلالته أو دلالاته ـ المعنى المحدد . إن قيمته ـ فى تقديرى ـ فى تعدد معانيه ، فى تعدد دلالاته ، وبتعبير آخر : فى تعدد مستويات القراءة . ولعلى أضيف إن النص الإبداعى ليس نصاً واحداً ، ولكنه نصوص متعددة بتعدد القراءات والتأويلات . لا أقصد التفكيكية ، وإنما أقصد ما يجب أن تكون عليه النهاية الجيدة للنص الجيد . إساءة القراءة كما يذهب التفكيك ، معنى لا أفهمه ، ولا يهمنى ، بل أعنى القراءة الواعية الفاهمة التى تتعدد بها مستويات التلقى . ولعل الاختلافات النقدية حول روايتى " الصهبة " ما يبين عن تعدد الدلالات . ثمة من اعتبرها تصويراً للعلاقات الأسرية فى تشابكاتها المحيرة ، ومن وجد فيها تناولاً لضغوط الواقع الاقتصادى وتأثيراتها ، وثمة من اعتبرها رواية واقعية ، ومن اعتبرها فانتازيا يختلط فيها الواقع بالحلم .. واجتهادات أخرى كثيرة ، تنتهى إلى دلالات عابرة تصل ـ فى تباينها ـ إلى حد التضاد !
    الرواية ـ فى رأى روجر ب. هينكلى ـ يمكن أن تكون وسيلة ادراك معرفى ، بمقدورها أن تزودنا برؤية صحيحة عن عالم الحياة والأحياء والعلاقات الإنسانية تفوق فى قدرتها على التأثير فينا مايمكن أن نحصّله من علم الاجتماع والتاريخ والنفس والإنسان ( قراءة الرواية ) . وأتذكر قول ميشيل بوتور : " أنا لا أكتب الروايات لأبيعها ، بل لأحصل على وحدة فى حياتى . إن الكتابة بالنسبة لى هى العمود الفقرى " .
    ***
    تقول سيمون دى بوفوار : " ان الرواية الفلسفية إذا ماقرئت بشرف ، وكتبت بشرف ، أتت بكشف للوجود لا يمكن لأى نمط آخر فى التعبير أن يكون معادلاً له . انها وحدها التى تنجح فى احياء ذلك المصير الذى هو مصيرنا ، والمدون فى الزمن والأبدية فى آن واحد ، بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهرى " .. مع ذلك فإن الرواية التى أعنيها هى التى تعبر عن فلسفة الحياة ، وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقى . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . أرفض تحول الروائى إلى مفكر جدلى ، كما أرفض أن يتحول المفكر الجدلى الى روائى . ذلك نوع من الخلط يسئ الى الفلسفة والى الرواية فى آن . أعرف أن تولستوى يواجه اللوم ـ حتى الآن ـ للفقرات الفلسفية المقحمة على رواياته . إن أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة ، لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردد كالنغم عبر أعماله جميعاً ، وتربطها كلها فى وحدة عضوية متماسكة " ( صبرى حافظ : المجلة ـ مارس 1964 ) على الرغم من ـ أو مع الإشارة إلى ـ تحفظ فورد مادوكس أن تعقد الحياة المعاصرة ، قد يتيح لنا تأمل الحياة طويلاً ، ولكن من المستحيل أن نراها فى صورتها الكلية . ولعلى أشير كذلك إلى قول ألان روب جرييه " الفن ليس فيه شئ معروف قبلاً ، فقبل العمل الأدبى لا يوجد شئ ما ، لا يقين ولا دعوى ولا رسالة . والزعم بأن الروائى لديه شئ يقوله ، وأنه يبحث بعد ذلك عن كيفية قوله . زعم فاحش الخطأ ، فإن هذه الكيفية ، أو طريقة القول ، هى ـ بالتحديد ـ التى تكون مشروعه بوصفه كاتباً ( ت . شكرى عياد ) .
    ***
    الأدب هو الأسبق دائماً فى النظرة ، فى محاولة استشراف آفاق المستقبل . إنه يسبق فى ذلك حتى العلم نفسه . وكما يقول كافكا : " فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية . أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ماهو متفق مع القانون العام . ان رسالة الكاتب نبوية " . كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوى هى الترديد المستمر للأفكار العامة ، للنظرة الشاملة ، لفلسفة الحياة ، فى مجموع تلك الأعمال . وكان ذلك هو الذى أعطى أعمال تولستوى ـ كما يقول أدينكوف ـ " تكاملاً وتماسكاً داخلياً " . وعلى حد تعبير تولستوى ، فإن الكاتب الذى لا يمتلك نظرة واضحة ، محددة وجديدة للعالم ، ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة ، لن يستطيع تقديم عمل فنى حقيقى . وإذا كان الموت هو المصير الإنسانى ، فإن العمل هو سلاح الإنسان ضد الموت " بالعمل وحده سيبزغ الفجر ، ولو فى القبر " . وقد حاول كل من تولستوى وديستويفسكى أن يجيب عن السؤال : هل الحياة جديرة بأن تحيا ؟. وكان تقديرهما أن الحياة التى نحياها ليست مجرد جسر إلى حياة أخرى ، أو أنها تنتهى بالعدم . ثمة ما ينبغى أن نتطلع إليه ، وأن نحاول صنعه حتى ننتزع للإنسانية أملاً من ظلمة المستقبل . وكان الإيمان بالعمل هو البعد الأهم فى الفلسفة الحياتية لأنطون تشيخوف . كان الطب مهنة تشيخوف ، وكان الأدب هوايته ، لكنه أخلص فى العناية بحديقته الصغيرة ، كأنه يحترف الزراعة ، وكان رأيه أنه لو أن كل إنسان فى العالم فعل كل ما بوسعه فى الرقعة التى تخصه ، فسيكون العالم جميلاً . يقول : " إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل المستمر ليل نهار ، والقراءة الدؤوبة ، والدراسة ، والسيطرة على الإرادة ، فكل ساعة من الحياة ثمينة " . ويذهب إيتالو كالفينو إلى أننا كلما تقدمنا فى قراءة تشيخوف ، التقينا بشخصيات تقرر ـ فى نهاية الأمر ـ أن تعمل بجدية ، أو تتكلم عن تلك الحياة الرائعة التى ستقوم على لأرض بعد مائة عام ، أو بعد مائتين ، أو عن تلك الزوبعة التى سوف تجتاح كل شيء " . ويقول الدكتور أستروف بطل مسرحية " الخال فانيا " : " كل ما فى الإنسان يجب أن يكون جميلاً ، وجهه ، ملابسه ، روحه ، أفكاره ، ما أمتع لذة احترام الإنسان وتقديره " . والقيمة الأهم فى روايات الروسى إيفان جونتشاروف هى " الدعوة الموضوعية إلى العمل الذى تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى : التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنسانى وروحى " . أما رؤية د . هـ . لورنس المتكاملة فتعنى بعزلة الإنسان فى العالم الحديث ، والانفصام الحاد بينه وبين الطبيعة ، فى مقابل تشويه الثورة الصناعية ، وتأثيرها بالسلب على المدينة والقرية فى آن . والحرية هى النبع الذى تنهل منه أفكار سارتر وكتاباته الفلسفية ، وإبداعاته . إنها المحور فى فلسفة حياته ، حرية الفرد والجماعة والوطن . أما همنجواى فقد تمحورت رؤيته الحياتية فى أن العالم قادر على تحطيم أى انسان ، لكن كثيرين يستعيدون قواهم ، وينهضون . الحياة ـ فى نظر شخصيات همنجواى ـ معركة خاسرة ، لكن الهزيمة تصبح نصراً إذا واجهها المرء بنفس شجاعة ومقاومة ، أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان . وبتعبير آخر ، فإن الإنسان ـ فى فلسفة همنجواى الحياتية ـ قد يتحطم ، لكنه لا ينهزم . أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان ، ولعل ممارسة الجنس فى أتون المعارك الحربية ، والتلذذ بمصارعة الثيران ، وبالصيد .. لعل ذلك يمثل تحدياً ـ ولو عبثياً ـ لحتمية الموت . وعلى حد تعبير جارثيا ماركيث فإن شخصيات همنجواى لم يكن لها الحق فى الموت قبل أن يعانوا ـ لبعض الوقت ـ مرارة الانتصار . الإنسان ـ عند كامى ـ يكتشف عبثية الحياة ، لا معقوليتها ، وليس بوسعه الاّ أن يتحدى كل شئ فى هذا العالم . شجاعة الإنسان ـ فى تقدير كامى ـ ليست فى غياب اليأس ، وإنما فى القدرة على التحرك ضد اليأس ، ضد عبثية الحياة . إن العادلين فى مسرحية كامى يحملون رسالة تعطى لحياتهم معنى ، فهم يحيون من أجل أدائها ، ويجعلونها قضيتهم . وباختصار ، فإنه لكى يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقى على شعور العبث فى داخله كى يستمد منه طاقة التحدى اللازمة للبقاء .
    ***
    (يتبع)

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      عضو أساسي
      • 14-10-2007
      • 867

      #17
      إن ما يغيب عن ابداعاتنا هو الفلسفة المتكاملة ، فلسفة الحياة التى تستطيع أن تربط الأفكار بالانطباعات . فمعظم روائيينا يرون أن العمل الإبداعى يجب أن يقتصر على المتعة ، على تحقيقها ، واستثارة اهتمام القارئ ومتابعته ، ومشاعره . أذكر قول أستاذنا زكى نجيب محمود : " ان الكاتب فى مصر ، انما يكتب فى غير قضية أساسية تكون فى حياتنا الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى " . حيادية الإبداع مسألة يصعب تقبّلها . بعض الأصدقاء المبدعين يعتز بحيادية ابداعاته . وهـو قول ينطوى على قدر من المبالغة ، أو من النية الحسنة . المبدع ـ فى تقديرى ـ يجب أن يكـون منحازاً لقيمة ، أو لقضية ، أو لقيم ، أو لجماعة . هذا الانحياز يبين عن نفسه على نحو ما فى مجموع أعمال المبدع ، وهو ماسميته بفلسفة الحياة ، تلك الفلسفة التى تطالعنا ـ بصورة مؤكدة ـ فى أعمال نجيب محفوظ ، بينما تغيب ـ أو تكاد ـ فى أعمال غالبية مبدعينا
      يوماً ، سألت يوسف السباعى عن فلسفته فى أعماله . وتطرقت المناقشة إلى توفيق الحكيم . قلت : عبّر الحكيم عن فلسفته نظرياً فى كتابه " التعادلية " ، وعبر عنها تطبيقياً فى الإبداعات التى أصدرها ، ونحن نجد فارقاً كبيراً بين النظرية والتطبيق عندما نفتقد التعادلية فيما قرأناه للحكيم . إنه يتحدث عن فلسفة أخرى يمكن تسميتها " الزمانية " ، الزمن فى حياة الإنسان المصرى ، وانعكاسه على قيمه ومعاملاته ونظرته إلى الأمور . قال السباعى فى تحيّر : الواقع أننى لم أفكر فى الزمنية هذه فى أعمال الحكيم ، ولم أبحث عنها . ولعلى أستعيد قول أحمد بهاء الدين إننا إذا جمعنا أعمال الحكيم الفكرية والآراء التى عبر عنها ، فسنجد أنه عبر عن كل رأى ، ودعا الى الشئ ونقيضه .
      واللافت أن الزمن هو نبض العديد من الأعمال الإبداعية العالمية ، مثل عوليس لجيمس جويس ، والبحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست ، والجبل السحرى لتوماس مان إلخ .. وبالطبع ، فإن الفكرة الفلسفية تصبح ـ فى اللحظة التى تدخل فيها إلى العمل الفنى ـ خاضعة لقوانينه ، وليس لقوانين العمل الفلسفى .
      ***
      بالنسبة لى ، فإنى أكاد أتصور أن الكتابة خلقت من أجلى ، قبل أن أخلق أنا للكتابة . لا أتصور نفسى فى غير الكتابة ، وفى غير القراءة والتأمل وتسجيل الملاحظات والإبداع . الكتابة عندى جزء من حياتى اليومية . جزء من تكوينى الجسدى والنفسى ، وهى مثل احتياجات الإنسان الضرورية ، مثل الطعام والجنس والنوم والحرية . أذكر قول رايومونى Rayaumoni " لقد أصبحت روائياً بالضرورة ، وما استطعت تجنب ذلك " .
      لقد بدأت فى المعايشة والملاحظة والاختزان من سن باكرة للغاية ، ربما لأنى كنت مهموماً بكتابة القصة فى تلك السن . لم أتعمد أى شئ ، لكن ما أختزنه ـ دون تعمد ـ من قراءات ، وتجارب لى ، وتجارب للآخرين ، ورؤى ، وخبرات ، وملاحظات ، يظهر فى لحظة لا أتوقعها أثناء فعل الكتابة . ثمة مشكلة ، أو مشكلات ، تلح على وجدان الكاتب ، وتبين عن ملامحها فى مجموع أعماله ، هذه المشكلة أو المشكلات ، هى محصلة خبرات شخصية ، وتعرف إلى خبرات الآخرين ، وقراءات وتأملات يحاول التعبير عنها من خلال قدرة إبداعية حقيقية . وحتى الآن ، فإنى أستعير من توماس هاردى قوله ، فى إجابته عن السؤال ، عن فلسفة الحياة فى أعماله ، بأنه ليس له فلسفة بعد ، وإنما هى كومة مختلطة من الانطباعات ، مثل انطباعات طفل حائراً أمام عرض سحرى . أنا أحاول أن أفيد من قراءاتى ، وخبراتى ، وخبرات الآخرين ، صوغ وجهة نظر متكاملة . ولعلى أزعم أن عالمى الإبداعى يتألف من " تيمات " أساسية يدور حولها ما أكتبه من رواية وقصة . من يريد تناول أعمالى ، أو حتى يكتفى بقراءتها ، أن يقرأ كل هذه الأعمال ، مجموع ما كتبت . ثمة وجهات نظر ، نظرة شمولية ، إطار عام ، أحاول أن أعبر ـ من خلاله ـ عن فلسفة حياة مكتملة ، بالإضافة إلى محاولات التجريب تقنياً ، ربما أعدت تناول التيمة الواحدة فى أكثر من عمل . لا يشغلنى التكرار بقدر ما يشغلنى التعبير عما أتصوره من أبعاد فلسفية حياتية .
      وطبيعى أن نظرة الكاتب الى الهموم التى تشغله ، موقفه الكامل منها ، يصعب أن تعبر عنـه قصة واحدة أو قصتان ، لكننا نستطيع أن نجد بانورامية نظرة الفنان فى مجموع أعماله ، وفى كتاباته وحواراته التى تناقش تلك الأعمال . لذلك فإن الكثير من أعمالى تنويع على لحن سبق لى عزفه فى أعمال سابقة ، وربما مهدت لعمل ما بعملين أو ثلاثة ، أعتبرها إرهاصاً لذلك العمل ، أو أنها استكمال له . إنى أفضل أن أُقْرأ كعمل كلى ، وليس كأعمال منفصلة . أن يقرأ الناقد مجموع أعمالى ، ويتأمل دلالاتها المنفصلة ، ودلالاتها الكلية ، يحاول أن يتعرف فيها إلى فلسفة حياتى ، إلى نظرتى الشاملة . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمّن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . وقد حاولت ـ فى مجموع كتاباتى ـ أن أعبر عن القضايا الأساسية التى تلح على ذهنى ، وأعتبرها قضية حياة . لست الكاتب البريطانى أنتونى باول الذى يؤكد أن هدفه من الكتابة ، هو إعادة تشكيل العالم ، أو تحقيق النظام فيه .. ولا أريد ـ مثل الألمانى ستيفن هيرمان ـ أن أترك أثراً ، بل ولا أريد ـ بقصد ـ تغيير العالم اليومى للمتلقى ، الذى هو واحد ممن تتجه إليهم إبداعاتى . ما أريده أن أتخطى حواجز المكان ، بل وحواجز الزمان ، فأتخذ من الإنسان موضوعاً ، ومن العالم موضعاً ، وأجعل وقتى هو العصر الآنى . أتفهم قول أندريه موروا إنه ليس على الرواية أن تبرهن على شيء ما ، فالعمل الفنى ليس جدلاً ، ولا برهاناً ، وخصيصته ـ بالعكس ـ هى أن يبعث على الإقناع ، بمجرد التأمل " إنه هناك ، هذا كل شيء " .
      إن تجربتى الإبداعية ـ على تعدد أبعادها وتنوعها ـ تحاول الخضوع لوجهة نظر شاملة ، لفلسفة حياة تحاول التكامل ، وإن استخدمت فى كل عمل ـ الأدق : يستخدم كل عمل ـ ما يناسبه من تقنية . إن القارئ المتأمل يستطيع أن يتعرف إلى المبدع ، فى مجموع ما كتب .
      ظنى أن القضية الأساسية فى خلفية كل القضايا هى الوجود الإنسانى : الحياة ، المصير ، الموت ، ما بعد الموت ، وما قد يخلفه الإنسان من أثر فى هذا العالم . ثمة الحب ، والموت ، والإحساس بالمطاردة ، والوحدة ، والحنين إلى الماضى ، والعزلة عن الجماعة ، وصلة المثقف بالسلطة ، والقهر فى الداخل ، والغزو من الخارج . لكن العنوان العريض الذى أتناول ـ من خلاله ـ تلك القضايا هو المقاومة ، مقاومة كل مظاهر القهر والمطاردة والتسلط والعبث .
      من المؤكد أنى لا أميل ، بل أرفض دعائية الفن وجهارته وتقريريته ومباشرته ، لكننى لا أنفى القيمة ، لا أرفضها . أجد فيها بعداً مهماً فى العمل الإبداعى ، وإلاّ تحول إلى ثرثرة لا معنى لها ، لا قيمة فيها ولها . ربما أكون محمّلاً بفكرة ، أو مقتنعا بها ، وربما حاولت أن أعبّر عن ذلك فى كتاباتى ، لكنى أفضّل أن يتم على نحو فنى ، فلا تقريرية ، ولا جهارة ، و لامباشرة ، وإنما حرص مؤكد على فنية العمل الإبداعى من حيث هو كذلك ..
      ***
      كانت الأسوار هى روايتى الأولى . كتبتها بعد إنهاء الأجزاء الثلاثة من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " [ أفردت لذلك مقالة مستقلة ] . ثم شغلتنى إمام آخر الزمان . حاورت فيها أصدقاء ، أذكر منهم سامى خشبة الذى سألنى وهو يودعنى فى رحلة عمل الى منطقة الخليج : لماذا تشغلك دائماً فكرة المخلص ؟..
      تقول أسطورة يونانية ان الآلهة تهجر المدن المهجورة . ويقول مالرو : " إننا نعلم أننا لم نختر أن نولد ، وإننا لن نموت باختيارنا ، وأننا لم نختر أبوينا ، وأننا لا نستطيع أن نفعل شيئا ضد الزمان " . الموت هو الحقيقة التى تواجهنا ، تصدمنا ، منذ بواكير حياتنا . يموت الأب أو الأم ، فنبدأ بالقول الكاذب : لقد سافر . ثم نعلم الإبن السائل بالحقيقة ـ فيما بعد ـ فيبدأ فى إلقاء الأسئلة : ما الموت ؟ ما الآخرة ؟ ما الجنة والنار ؟ إلخ . نحن نمضى فى الطريق إلى الموت دون أن تكون لنا إرادة . إنه ـ كما يقول مالرو ـ يحيل الحياة إلى مصير . من الأصوب أن نواجه الموت باسم غاية نحيا من أجلها . يتساءل مالرو : ماقيمة حياة لا يقبل المرء أن يموت فى سبيلها ؟ . إن الإنسان يقامر بحياته فى سبيل ما يؤمن به من قيم ، ويتحدى الموت بوصفه التأكيد النهائى لشخصيته الحقة . سيكون للبذل ، للتضحية ، معنى : لو أنه اكتفى بما قدمه دون أن ينتظر جزاء إيجابياً ، ولا يفاجأ بأن الجزاء سلبى . وقد فضّل الحسين ـ كما تعلم ـ أن يستشهد ، على أن يتنازل عن الفكرة التى يؤمن بها . المثقف الحقيقى مطالب ـ دوماً ـ بأن يغلب الموضوعى على الذاتى . إنه يرضى بالمنطق الذى ترفضه العلاقة بين حبيبين ، فهو يحب من طرف واحد ، لا ينتظر من المحبوب اعترافاً بالجميل ولا مساندة ، وربما انتظر جزاءً سلبياً . إنه قد يموت وهو يهتف باسم من دفع حياته ثمناً لخذلانه ، لخذلان المثقف !
      ***
      القهر فى الداخل ...
      أتذكر كلمات خوان جويتيسولو ـ بعد وفاة فرانكو ـ " لقد عشنا احتلالاّ طويل الأمد وغير ملحوظ من الخارج ، احتلالاً بلا خوذ ولا بنادق ودبابات ، وليس احتلالاً للأراضى ، بل احتلال للعقول " . الإنسان مطارد منذ الميلاد إلى الموت . إنه ـ كما يقول سارتر ـ مخلوق يطارده الزمن ، لكن المطارد فى رواياتى ليس الزمن وحده . إنه قد يكون السلطة ، أو قيم الجماعة ، أو غيرها مما قد يضيع حياته فى محاولة الفرار منه . قد يكون البطل مطارِداً ، وقد يكون ـ فى الوقت نفسه ـ مطارَداَ . ذلك ما يسهل تبينه فى شخصية منصور سطوحى فى الصهبة ، أو شخصية السلطان خليل بن الحاج أحمد فى قلعة الجبل ، أو أبى الطيب المتنبى فى أوراقه ، أو زهرة الصباح ، أو رءوف العشرى فى الخليج ، أو الحاكم بأمر الله فى سيرته الروائية ، إلخ.
      وإذا كان المصريون القدماء يسمّون الموت " النزول من البحر " ، فإن محمد قاضى البهار نزل الى البحر ، ولم ينزل منه ، فهو اذن قد نزل الى الحياة . وبالإضافة الى محاولة قاضى البهار الفرار من القهر ، فإنى أتصور حياته قد أظهرت الهوة التى تفصل بين عالم المثالية الذى كان يحيا فيه ، والواقع القاسى الذى يريد أن يفرض عليه طقوسه وقوانينه وأحكامه ، وهو واقع لا يستند إلى قيم نبيلة ، ويلجأ الى الزيف والخداع ونكران الحقيقة ..
      والآن ، فإن التيمة الأساسية التى تلح فى غالبية أعمالى ، هى مواجهة الآخر ، سواء بالمقاومة الجسدية ، أو بتفعيل التحدى الحضارى ..
      إن الصراع العربى الإسرائيلى ليس مجرد مواجهات سياسية وعسكرية ، إنما هو صراع ذو إبعاد تاريخية وحضارية وثقافية . إنه تواصل واستمرارية حياة ، وتناول الإبداع لجوانب من ذلك الصراع لا يعنى السقوط فى هوة المباشرة أو الجهارة ، بل إن الإعمال الكبيرة هى التى تناولت قضايا كبيرة . المثل : خريف البطريرك " لجارثيا ماركيث ، والحرب والسلام لتولستوى والطاعون لكامى ، والحرافيش لمحفوظ ، والحرام لإدريس ، وسمرقند لمعلوف ، وغيرها . وبالنسبة للصراع العربى الصهيونى ـ تحديداً ـ فمن الصعب إغفال أعمال غسان كنفانى المهمة ، مثل رجال فى الشمس ، وعائد إلى حيفا ، و " ما تبقى لكم " وغيرها . ذوى إعجابى القديم بعبقرية زفايج ، وروايات كافكاا ، واجتهادات فرويد ، ونظرية إينشتين ، ولوحات شاجال . شحبت الملامح الجميلة فى مرآة الصهيونية . فرض التوجس نفسه حتى فيما لم يعد يحتمل ذلك .
      ***
      ماذا يبقى من ذلك كله ؟..
      بالطبع فإن المتلقى قد ينشد الدلالة فى العمل الإبداعى . وقد يكتفى فحسب بمتعة التلقى ، بمتعة القراءة أو السماع أو المشاهدة . لكن الكتابة بقصد التسلية ـ على حد تعبير جورج مور ـ سوف تنتهى بالفن إلى لا شىء .
      أوافق على الرأى بأن الإنسان إذا تعلم أن ينظر إلى الفن على أنه شىء لا ينتمى إلى الجمال والحق ، بل إلى الرأى وحده ، فإنه ـ كما قيل ـ سيفقد بصيرته ، ويصبح كما يريده رجال العصابات ، حيواناً ينتمى إلى قطعان "
      وإذا كان رامان سلدن يرى أن العمل الإبداعى الجيد هو الذى يخبرنا بالحقيقة عن الحياة الإنسانية ، بالكيفية التى تكون عليها الأشياء ، فإنى أستعير قول بورخيس : " المهم أن يبقى أربع أو خمس صفحات من كل ما يكتبه الكاتب " .
      ...........................
      الأسبوع الأدبى ـ 13/5/2006م.

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #18
        القـــــراءة
        .............

        إن المرء هو حصيلة ما يقرأه . وكما يقول كارلوس فوينتس : " أنت تتكون من الشىء الذى تأكله ، كما أنك المجلات المصورة التى تمعنت فيها وأنت طفل " ..
        كانت مكتبة أبى ، التى تعلمت فيها القراءة ـ بالإضافة إلى الكتاب المدرسى ـ باعثاً لأن أقرأ كتب " الكبار " قبل أن أقرأ كتب " الأطفال " . قرأت طه حسين والحكيم والجبرتى والأصفهانى والمقريزى والماوردى وأجاثا كريستى وألكسندر دوماس ، قبل أن أقرأ كتب سعيد العريان وفريد أبو حديد وكامل كيلانى . أقصد كتبهم التى صدرت للأطفال . أتاح لى زميلى فى الفرنسية الابتدائية ممدوح الطوبجى ، قراءة كل تلك الأعمال . قام بدور مكتبة الإعارة ، فهو يعيرنى رواية ، أعيدها فى اليوم التالى ، وأحصل على رواية أخرى ، وهكذا ..
        والحق أن مكتبة الطوبجى لم تقتصر على كتب الأطفال ، فقد تعرفت فيها ـ للمرة الأولى ـ إلى صلاح جاهين . طالعنى عالمه الإبداعى الجميل فى قصائده الأولى . ولازلت أذكر ـ حتى الآن ـ ترديدى لأسطر القصيدة : القمح مش زى الدهب .. القمح زى الفلاحين .. عيدان نحيله .. جدرها مغروس فى طين ..
        المؤكد أن القراءة صرفتنى عن شواغل وهوايات كثيرة . استولت على كل وقتى ، فانصرفت عما عداها . فتحت أمامى نوافذ وأبواباً ، وسلطت الضوء على فضاءات متسعة ، امتدت آفاقها بتنوع القراءة وخصوبتها وجدواها ، وتعبيرها عن الأنا والهو والوطن والعالم . أذكر وصف هنرى ميلر لرامبو بأنه كان يقرأ وهو واقف ، ويقرأ وهو فى طريقه إلى العمل . حتى كرة القدم والجمباز وتنس الطاولة وغيرها من الألعاب التى أحببتها ، ما لبثت أن انصرفت عنها لاعباً ، واكتفيت بالفرجة على مبارياتها إن أتيح لى ذلك ..
        وفى مطالع الستينيات ، فى الأيام الأولى لعملى بالصحافة ، كنت أركب الترام أو الأوتوبيس إلى ميدان القلعة . أصعد فى شارع المحجر . يطل ـ فى أسفل ـ على أحواش المقابر ، وفى امتداد النظر على أحياء القاهرة . أصل إلى دار المحفوظات ، فأضغط على الجرس المثبت بالباب . يعلو الرنين فى المكان بكامله . هذا زائر ربما يكون لصاً ، فاحذروا !. أرقى السلالم إلى القاعة العلوية . فسيحة ، فى جوانبها كتب ومجلدات . أطلب ما يعن لى قراءته . يجتذبنى اسم الصحيفة ، وقِدم تاريخ صدورها ، فأطلبها . زادت تلك الفترة من حبى القديم للتراث . بدأت بقراءة ما كانت تضمه مكتبة أبى من كتب تراثية ، ثم بدت لى صحف دار المحفوظات عالماً ينتسب إلى العالم الذى كنت أحياه ..
        النسيان هو ما أعانيه فى القراءة . أتبين ـ فى فقرة ما ـ قد تتضمنها الصفحات الأخيرة ـ أن هذا الكتاب قد سبق لى قراءته ، وأقبل عليه كأنى أقرأه للمرة الأولى . ما يثبت فى الذاكرة مما أقرأه قليل ، لا أتمتع بالذاكرة الحافظية التى كان يمتلكها العقاد وكامل الشناوى . ثباته فى الذاكرة لأنه يهمنى ، أو لأنه عمق من فهمى لقضية ما .
        أمضيت معظم حياتى فى ثنايا الكتب . ثمة كتب أقرأها فلا أذكر أنى قرأتها إلا عندما أصل إلى معلومة ما ـ ربما فى نهاية الكتاب ـ بما يذكرنى أنى قرأته من قبل . وثمة ـ فى المقابل ـ كتب تظل فى داخلى ـ الذهن والوجدان معاً ـ تناوشنى ، وأستعيد ما بها من شخصيات ومواقف وأحداث . القيمة الأهم عندى هى معايشة آلاف الشخصيات والأحداث والتواريخ والمعالم والأفكار . الوجود الإنسانى منذ بداياته : عهود ما قبل التاريخ . أيام الإسلام الأولى . مؤامرات القصور . حكايات الحب العذرى . اكتشافات المناطق المجهولة . نشأة الزراعة . عصر البخار . أعماق المحيطات والبحار وضفاف الأنهار . الأسواق العتيقة والقيساريات . لحظات التاريخ الحرجة . محاكم التفتيش . حضارات الفراعنة . عقود العرب فى الأندلس . معاناة المقيدين فى الأقبية والزنازين . شخصيات شكسبير . حكايات شهرزاد . رحلة الإسراء والمعراج . رسالة الغفران . الكوميديا الإلهية . إبداعات الواقعية الطبيعية . سير الملوك والقاصرة والأكاسرة وقطاع الطرق والجوارى والزهاد وقادة الجيوش ، وبنو هلال والخليفة الزناتى والظاهر بيبرس وأبو الحسن الشاذلى والسيد البدوى وإبراهيم الدسوقى وكليوباترة وشجر الدر . غزوات الإسكندر . الفايكنج . الغزوات الصليبية . الثورة الفرنسية . الانقلابات العسكرية .. إلخ .
        ومع أنه قد أتيح لى قراءة الكثير من الكتب ، فإن الكثير من الكتب لم يتح لى قراءتها . أوزع ساعات اليوم ـ بصرامة ـ بين القراءة والكتابة وأمور الحياة اليومية . وإن كان أغلب الوقت للقراءة ، لكن مشروعى القرائى لم يتحقق على النحو الذى كنت أتطلع إليه . ما كنت أتصور أنى سأقرأه فى يوم واحد ، ربما استغرقت قراءته أسبوعاً أو أكثر . وثمة كتب أعيد قراءتها مرة ثانية ، وثالثة ، وفى كل مرة يبين الكتاب عن جوانب لم أكن قد تنبهت إليها . وأحياناً فإنى أقرأ النص الإبداعى ـ فى المرة الأولى ـ لمجرد المتعة ، ثم أناقش ـ فى المرة أو المرات التالية ـ ما يحمله النص من دلالات . فى النص الواحد قابلية لبضع دلالات ، وليس ثمة قراءة يمكن أن تستنفد أبداً كل المعانى المطروحة فيه . ما يشغلنى هو النص . لا شأن لى بحياة المؤلف ولا بموته ، ولا بأن إزاحة المؤلف تؤدى إلى القراءة " التى هى فى الأثر الأدبى قراءة استهلاكية تقيّد القارئ بالمعنى الحرفى للنص " ، ولا لتقريب القراءة من الكتابة بحيث يصبح القارئ كاتباً . النص هو الكتابة التى أقرأها ، العالم الذى يلح الكاتب فى اجتذابى إليه ، أو تنفيرى منه ..
        أعترف إنى أفضل أن أقتنى الكتاب . أشتريه ، أو أحصل عليه بالإهداء ، ولا أستعيره ، الكتاب الذى أبدأ فى قراءته ـ إن كان يستحق القراءة بالفعل ـ أبدأ معه ـ فى الوقت نفسه ـ علاقة صداقة . وقد يتحول إلى صديق جميل ، فأنا لا أتصور أنى أستغنى عن صداقته ، لا أستطيع أن أستغنى عنه !. وحين أقرأ عملاً إبداعياً ، فإن قراءتى له تختلط باستعادة ذكريات شخصية ، وتخيل ، وتأمل . أحب الكتاب الذى يحتفظ برونقه . يضايقنى اتساخ الصفحات أو تمزقها . أرمقها ـ فى لحظات القراءة ـ بنظرة مستاءة ، متكررة . والحق أنى أحب الكتب بعامة . أحبها مصفوفة فى داخل الأرفف ، أو على طاولة ، أو فى واجهات المكتبات ، أو عند باعة الصحف . تجتذبنى فأتأمل العناوين ، وربما قلبت الصفحات بسرعة قبل أن يراجعنى البائع فيما أفعل ، أو يبدى تذمره . أجد نفسى بين الكتب كالمتصوف فى الحضرة . تجتذبنى حتى الرائحة . تمنيت أن أعمل فى مكتبة . أقضى الوقت فى مهنة تتصل بالقراءة . أقلب الكتب بيدى ، أبيعها ، أشتريها ، أقرأها .
        إن رواية جيدة قد تصرفنى عن أشياء كثيرة . لا أتابع المناقشات ، ولا أشاهد التليفزيون ، ولا أتناول الطعام فى موعده ، ولا أذهب إلى النوم . أسلم نفسى لسحر القراءة الجميل . القلم الرصاص فى يدى ، أخط به تحت التعبيرات التى تستلفت نظرى ، فهى تحتاج إلى التأمل ، أو إلى المناقشة . لا أميل إلى الحرف الكبير ، لأنه قد يصلح للكتب المدرسية ، ولا أميل إلى الحرف الصغير لأنه يجهد العين . الحرف المتوسط لا يزيد صفحات الكتاب أكثر مما ينبغى ، ويريح العين فى القراءة . وأفضل أن تكون فقرات النص متصلة ، منفصلة ، بمعنى أن يظل السياق متصلاً ، تقطعه ـ لتسهيل القراءة ـ فواصل ، كالعناوين الفرعية ، أو الموتيفات الصغيرة ..
        ولاشك أن الكلمات التى تكتب للقارئ ، تختلف عن الكلمات التى تطالع مشاهد المسرح ، وعن الكلمات التى تخاطب الأذن المستمعة . والحق إنى لا أحسن الإصغاء ، ولا أحسن الاستماع عموماً . أهب سمعى لمحدثى لحظات ، ثم أطير إلى جزر بعيدة وقريبة ، تعزلنى عن محدثى وعن كل ما حولى . أنسى مجرد وجوده . أكتفى بهزة من رأسى بما يعنى المتابعة . المصيبة لو أنه قطع حديثه وسألنى فى أجزاء مما قال . يعرونى ارتباك ، وأغمغم بما لا يعبّر عن معنى محدد . حتى الإبداعات التى أستمع إليها ، أغمض عينى ، وأحاول التركيز حتى لا أشرد ، فأفقد القدرة على المتابعة ..
        النص ـ كما نعرف ـ ما هو مكتوب . ويقول والتر سلاف : " إن الأعمال الأدبية تكتب لكى تقرأ " . ومع أن مصطفى ناصف يشدد على أن كل نص مقدس يراعى فيه قراءة الجهر لا قراءة العين ، وأن إهدار القراءة الجهرية إهدار لمعنى الرسالة أو البلاغ أو البطولة أو الخطاب الحى البرىء ، فإن طريقتى الوحيدة فى القراءة هى الصمت . القراءة سراً . لا أتصور أن القراءة بصوت مرتفع تساعد على التركيز ، ومن ثم على الاستيعاب . [ ثمة رأى يقول : من المهم أن تسرع فى القراءة لكى تتفادى الملل ] . قيل إن " القراءة فى الصمت الذى يرافقها ليست إلاّ امتداداً للعمل الأدبى نفسه " . وعندما أستغرق فى القراءة ، فإنى أمارس فعل الاستغراق ، لا أقرأ لمجرد أن أتعرف إلى تفصيلات الحدث ، ولا حتى إلى الملامح الظاهرة أو النفسية للشخصيات ، إنما أحاول التعرف إلى جماليات العمل الإبداعى : اللغة ، الفنية ، السرد ، الحوار ، الدلالة .. كل ما يتصل ببنية العمل الإبداعى . وبالتحديد ، فإنى أبحث فى العمل الإبداعى ـ ربما لأنى أحاول الإبداع ـ عن كل ما يهبه ـ أو لا يهبه ـ من خصوصية . وبالطبع ، فإن المروى عليه ، أو المخاطب ، يختلف عن القارئ . المخاطب جزء فى العملية الإبداعية . أما القارئ فهو جزء فى عملية التلقى . القارئ متابع للحدث الذى يشارك فيه الراوى والمروى عليه . القارئ مخاطب غير مشارك ، بمعنى أنه لا يسهم فى صياغة الأحداث ولا تنميتها . يتخيل ، ويناقش ، ويوافق ، ويرفض ، وإن تحدد دوره فى متابعة ما يقوله النص . أما المخاطب فى داخل العمل الإبداعى فهو قد يكون مشاركاً أو غير مشارك ، لكنه يتصل على نحو ما بصميم العمل . المخاطب المشارك يملك الفعل ، مثل شهريار الذى لم يلغ إنصاته لحكايات شهرزاد توقع إنهائه للعبة الحكى . كانت شهرزاد راوية ، وكان شهريار مروياً عليه ، أو مخاطباً مشاركاً . أما القارئ فهو يتابع ما يدور بين الراوى والمروى عليه . مشاركته تتحدد فى المتابعة ، وانعكاس الأحداث على وجدانه . قد يكون المروى عليه مشاركاً ، فالراوى يتحدث عن مواقف شاركا ـ الراوى والمروى عليه ـ فى صنعها ، أو فى تلقيها . وقد يكون المخاطب ، أو المروى عليه ، غير مسمى . لا يعرف القارئ اسمه ، ولا مهنته ، بل ولا دوره فى أحداث العمل الإبداعى . هو أشبه بالموضع الذى يعيد إلى القارئ صدى الحدث . إنها قراءة ـ كما يصفها رولان بارت " لا تترك شيئاً يمر ، تزن النص وتتشبث به " . إن القراءة ـ بما تحمله من معلومات وخيال وآراء ـ تحرّك مخزون الذاكرة ، تستدعى ما كان غائباً ، أو مفتقداً . وكما يقول أندريه موروا ، فإن القراءة فن يستطيع المرء عن طريقه أن يلتقى من جديد بالحياة نفسها لكى يتفهمها على غير حقيقتها عبر الكتاب نفسه .
        ***
        الإنسان ـ فى تقدير أفلاطون ـ يحول ما يقرأ إلى صورة منطوقة . الكلام هو الصورة الأصلية للغة . ويقول جمال الدين بن الشيخ إن القراءة لا تنحرف بالحكاية [ القصة ] لكنها تتولد فيها . إنها ترتكز على اختيار دلالة معينة ، توجه مجموع النص فى اتجاه منظوره الخاص ، وفى اتجاهه فقط . إن القارئ هو الذى ينتج النص من خلال فعل القراءة ، يسقط عليه وعيه وفهمه وخبراته وثقافته ، وربما حالته النفسية فى لحظات القراءة . ومن جماع ذلك كله ينتج أبعاد النص الشكلية والمضمونية ، ويسقط دلالته أو دلالاته . إن قراءة أى نص هى ـ على نحو ما ـ قراءة ثقافة القارئ وفهمه ووعيه وخبراته . طبيعى أن تختلف دلالة العمل الإبداعى باختلاف قرائه ، باختلاف ثقافتهم ومستواهم التعليمى وأمزجتهم وحالتهم النفسية وانتمائهم الطبقى . قد أجد فى القصة دلالة ما ، تختلف عن الدلالة التى تتحقق فى لحظة أخرى مغايرة ، بل إن النص قد لا يتكيف مع كل قارئ يدخل فى اتصال معه . القارئ الذى يطرح دلالة يتصورها للعمل ، يختلف فى ثقافته ووعيه وحسه الفنى والجمالى عن القارئ الذى يكتفى بالبحث عن الدلالة فى ثنايا العمل ، أو فى نهايته . قد يفاجأ القارئ غير المتخصص ، أو الذى ألف قراءة الجريدة اليومية ، يصده عن المتابعة أو المواصلة . القارئ الحقيقى هو القارئ المبدع . إنه يقرأ بجماع الحواس ، وليس بالعينين وحدهما . يقرأ بعينيه ، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفى وتأملاته . يحيا فى داخل النص ، ولا يكتفى بالحياة على هامشه . القراءة التى تعى خصائص العمل الإبداعى ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن القراءة التى لا تدرك تلك الخصائص ، فهى تقرأ النص الأدبى بالكيفية نفسها التى تقرأ بها التحقيقات الصحفية ، أو أخبار الحوادث ..
        وبالنسبة لى ، فإن قراءتى لنص ما ، ترافقها ـ بالضرورة ـ قراءات سابقة فى نصوص أخرى . تنقّل غير محسوب بين تجارب وخبرات ورؤى ، قد لا تتصل بالموضوع الذى يتناوله النص ، لكنها تستدعى نصوصاً غائبة ، تختلط وتتقاطع وتتشابك ، فيغيب بعضها حالاً ، ويناوشنى بعضها لحظات ، وربما استقر بعضها فى الذاكرة ، أفيد منه ـ فيما بعد ـ فى عمل أكتبه . وفى تقديرى أن القارئ المبدع هو قارئ إيجابى . إنه يقرأ بعينيه ، ويقرأ بعينيه ، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفى وتأملاته . ويصف جورج أورويل محاولاته النقدية بأنها مجرد هواية . ويضيف ـ بنص كلماته ـ " القراءة هى النشاط الطبيعى لأى إنسان مهتم بالعالم الذى يحيا فيه . وحين يمارس المرء القراءة ، فلا بد له من أن يفضل بعض الكتب على غيرها ، وأن يكره بعض الكتب أكثر من غيرها . وبديهى ـ فى هذه الحالة ـ أن يكتب وجهة نظره فى تلك القراءات " .
        (يتبع)

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #19
          النص لا يتحقق إلا إذا وجد من يقرأه . ثمة نصوص لا تهب نفسها من القراءة الأولى . تظل مغلقة ، لا تسلم مفاتيحها إلاّ بعد تعدد القراءات . وثمة كتب أبذل وقتاً طويلاً فى قراءتها ، ثم أتبين ـ وأنا أطوى الكتاب ـ أنى كنت كالذى دخل حجرة خالية ، تضم جدرانها الفراغ ، وأنى لم أفد منها بشئ ، لا فى المعلومة ، ولا فى إثارة الذهن أو الوجدان . مجرد سطور توالت ، فلم تخلف ـ فى النهاية ـ شيئاً . لا تهبنى الشعور بأنى قرأتها . وربما تجتذبنى كلمات لكاتب لم أقرأ له من قبل . تستفزنى بالكثير من الأسئلة والإجوبة والفكر المتوهج والإبداع الجميل . أتذكر القول : " النص الأدبى يساعد قراءه على تجاوز حدود موقفهم فى الحياة الحقيقية " . لازلت أحيا تلك اللحظات التى تعرفت إليها ـ للمرة الأولى ـ إلى دنيا نجيب محفوظ . كيف بدا لى أحمد عاكف فى خان الخليلى بجسده المكدود وصلعته التى تفصد العرق منها بحرارة شمس الظهيرة ، وتبدّل طريقه من السكاكينى إلى حى الحسين ، لتبدأ قصة حبه الاستثناء للصغيرة نوال .
          من المهم أن يجارى القارئ خيال المؤلف . يتخيل ملامح الشخصيات والأحداث . وكما يقول شتيرن فإن النص الأدبى أشبه بالميدان الذى يشترك فيه المؤلف والقارئ فى لعبة التخيل . تغيظنى الإبداعات التى تبين عن ملامحها منذ الصفحات الأولى . النص الذى يبين عن كل أبعاده ، ربما أهمل القارئ استكمال قراءته ، لشعوره بأنه قد تحول فى عملية التلقى إلى عنصر سلبى وليس عنصراَ مشاركاً . الإسراف فى وضوح النص يساوى الإسراف فى غموضه ، لأنه ـ فى الحالين ـ قد يصرف القارئ عن لعبة التواصل والمتابعة . النص والقارئ شريكان فى عملية تواصل ، هى عملية الإبداع والتلقى التى تقوم على مشاركة المبدع بالكلمات ، فى حين يشارك القارئ باستنباط المعنى أو الدلالة . لا أميل إلى التلقى السلبى من قارئ العمل . ما يهمنى أن يتحول القارئ إلى صديق يتحاور مع ما أكتب ، ولا يكتفى بمجرد التلقى السلبى . وكما يقول ديفيد بليتش فإن القارئ يحول ـ فى أثناء عملية القراءة ـ إدراكه الحسى للكلمات إلى سياق أو نظام تخيّلى ضمن نظام ذاتيته الخاصة . إن تراثنا القصصى ـ على المستويين العربى والعالمى ـ له جذوره القديمة ، وامتداداته ، وتواصله . لذلك فأنا أرفض الأعمال التى لا تحترم هذا التراث ، ولا تحترم ذكاء القارئ . ما كان يطالع قارئ بدايات القرن العشرين يجب أن يختلف ـ بالتأكيد ـ عما يطالعه قارئ بدايات القرن الحادى والعشرين . الفن إضمار ..

          كاميلو ثيلا يرى أن العمل الأدبى يكتب من جديد فى كل قراءة له . من الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ فى تقديرى ـ أن تتطابق قراءتان لكتاب واحد . ولعلى لا أتعاون فى إعادة الإبداع ـ كما يقول اللاتينى أندريس أمورس ـ لكننى أتخيله ، أتخيل الشخصيات والأحداث ، توصلاً إلى المعنى والدلالة . القصة المنفلوطية التى لا تكاد تترك للقارئ شيئاً يتخيله ، القصة التى يحرص الكاتب على تمامها . لم تعد مما يتقبله القارئ الحالى . إنه يميل إلى القراءة الإبداعية ، القراءة التى تتخيل . القراءة تساوى النص الإبداعى + خيال القارئ . العلاقة بين المبدع والمتلقى طرفاها نص إبداعى من ناحية المبدع ، ومحاولة للاكتشاف والتعرف واستكناه الدلالات من ناحية المتلقى .
          أوافق على القول إنه إذا كان الأدب هو ما يحدث فى أثناء القراءة ، فإن قيمته تعتمد على قيمة عملية القراءة . وحين أبدأ فى قراءة نص ما ، فأنا لا أمارس عملية القراءة وأنا خالى الذهن من المخزون المعرفى ، ومن وجهة النظر ، ومن الحس الجمالى ، ومن الذكريات الشخصية التى ربما استدعاها الذهن فى أثناء عملية القراءة . قراءة عمل إبداعى ما ، لا تستطيع أن تفصله عن قراءات أعمال إبداعية أخرى ، سبقته ، واتفقت ، أو اختلفت ، معه ، من حيث التجربة التى تعبر عنها ، أو التقنية ، أو الدلالة التى تستهدفها . حتى ما قد يبدو أنه فراغات فى السرد القصصى أو الروائى ، على القارئ أن يملأه بخياله وثقافته وخبراته وتجاربه ورؤيته لطبيعة ما ينبغى أن تمضى إليه الأحداث .
          أحببت وصف خوليو كورتاثر لقارئ إبداعه بأنه رفيق سفر . القارئ هنا فى لحظة مشاركة ، طرفاها هما الكاتب والقارئ . أرفض زعم البعض أن القارئ لا يعنيه ، والناقد بالتالى . أتذكر قول ميشيل بوتور : " أنا أكتب لكى أقرأ ، وما قصدى من الكلمات التى أكتبها إلا أن يقع عليها النظر ، حتى لو كان نظرى " . الثقة هى العلاقة الضرورية بين الكاتب والقارئ . وإذا لم يتصل بينهما جسر الثقة ، فإن ذلك ينعكس بالضرورة على نظرة القارئ الى معطيات الكاتب ، وأغلب الظن انه سيرفضها . أذكرك بشتاينبك الذى أعلن ـ يوماً ـ فى استوكهلم ان الكاتب الذى لا يؤمن ايماناً حازماً بقدرة الإنسان على الكمال غير جدير بعضوية الأدب وتفانيه . ثم أعلن ـ فيما بعد ـ تأييده للعدوان الأمريكى فيتنام ، فزال احترامه من نفوس الملايين الذين قرءوا له عناقيد الغضب واللؤلؤة وشارع السردين المعلب وغيرها..
          وبصرف النظر عن اتفاق المبدع والمتلقى ، أم اختلافهما ، عن إعجاب القارئ بالعمل الذى قرأه أو رفضه له ، فلعلى أذكّر المبدع بقول هالى بيرث : " قد تعيش حياة جيدة ، حتى لو لم تصل كتبك لمعدل أفضل المبيعات ، وحتى لو لم ير زملاؤك النقد الجيد الذى كتب عنك ، بل النقد الذى يسئ اليك . وحتى لو سألك أعز أصدقائك أو زوجتك : لماذا لا تكتب الروائع فى ساعة أو أكثر قليلاً ، بدلاً من أن تمكث شهراً أو سنة فى كتابة ماتكتبه . ضع قناعاًَ صلباً على وجهك فى مواجهة الأصدقاء والأقارب المنتقدين . خذ التجربة كما تأتى ، واستمر فى عملك " (ت . أحمد عمر هاشم )

          ***
          النسيان هو أخطر ما أعانيه فى عملية القراءة . أقرأ الكتاب ، فأتصور أنه لم يسبق لى قراءته من قبل . أثبّت ملاحظات على الهوامش . أتفق وأختلف ، ثم أتبين ـ قبل أن أتم قراءة الكتاب ـ من خلال سطر أو بضعة أسطر ـ أنه قد سبق لى قراءته . لذلك فإنى أحاول التغلب على مشكلة النسيان بمعاودة القرءة . أتحقق من الأسماء ، والأرقام ، ومواقع الأحداث ، والصلة بين كل حدث وآخر . العامل الأهم فى عبقرية العقاد ـ فى تقديرى ـ ذاكرته الحافظية . العديد من كتبه قراءات : الله .. فى بيتى .. مراجعات فى الآداب والفنون .. إبليس .. ساعات بين الكتب .. فلسفة الثورة فى الميزان .. هو لا يقدم قائمة بالمصادر والمراجع ، لأنه قرأ جيداً ، وثبّت ـ بتشديد الباء ـ ما قرأه فى ذهنه . تحول إلى رف فى الذاكرة يستخرجه فى توقيته المحدد ..
          قد يحمل المبدع بعض التأثيرات من تنوع قراءاته ، لكنه لابد أن يذيب تلك القراءات فى بوتقته ، يصهرها فى ذاتيته الفنية ، فتعبّر عنها .

          ***
          الفن هو عالمى الذى أحبه . ولأنى ـ منذ سنوات ـ أحيا فى عزلة اجتماعية ، لا أغادر البيت ـ كل يوم ـ إلاّ بضع ساعات ، ثم أعود لأخلو إلى كتبى وأوراقى وقلمى ،
          ولأن الكتابة الإبداعية مما يصعب ممارسته طيلة يوم العمل ، فإنى أحاول الإفادة من قراءاتى بملاحظات . نوع من القراءة الإيجابية ، على حد تعبير صديقى يوسف الشارونى . الفنان ـ فى نصيحة جورج مور ـ يجب أن يمارس الكتابة كل يوم . حين يواتيه الإلهام ، وحين يبتعد عنه ، عليه ألا ينتظر الإلهام ، بل يستدعيه ، ويلح عليه . وهذا ما أفعله حين أسرف فى القراءة ، لا أقرأ فى الفن وحده ، وإنما أقرأ فى كل ما تصادفه يداى . حتى العلوم البحتة والرياضيات ، ربما أجد ـ فى مواضع منها ـ ما يستفز ملكة الإبداع فى داخلى .
          العمل الإبداعى يصنع علاقة ما بين المبدع والمتلقى . وكما تقول هالى بيرنت ، فإن المبدع لا يكتب لنفسه مع أن الكتابة تحقق له اشباعاً ذاتيا يصعب التهوين منه ، ولا تكتمل القصة الاّ اذا خاطبت ـ على نحو ما ـ عقل المتلقى . يرى ولفجانج ايزر Wollfgang Iser ان تجربة القارئ فى القراءة هى مركز العملية الأدبية ، فالقارئ يأخذ النص الى وعيه ، يحوله الى تجربة خاصة به ، فهو يوفق بين التناقضات فى وجهات النظر التى تظهر فى النص ، ويشارك فى ذلك مخزون التجربة الذى يملكه القارئ . وكما يقول ايزر فإن القراءة تمنحنا الفرصة لصياغة ماليس مصوغاً ( ت . جابر عصفور )
          أذكر ـ فى قراءاتى الباكرة ـ أنى لم أكن أصبر على توالى أحداث الكثير من الروايات ، بل كنت أقفز الى الصفحة الأخيرة لأعرف ماذا انتهت اليه الأحداث . هل كان ذلك لتعثرى فى قراءات البداية ، أو لتشويق فى الرواية ، أو لملل أغرانى بالتعرف الى النهاية ، خلاصاً من بطء الأحداث وتلكؤها ؟.. لكننى بعد أوافق روجر ب . هينكلى على أن الروايات التى لا تمدنا بالشعور بالحياة ، ولا نتجاوب معها بشحذ مكاتنا ، قد تستحق بعض البحث ، لكنها ـ بالتأكيد ـ لا تستحق طبعة ثانية ، وان كنت أختلف مع هينكلى فى أن تحليل الرواية بإعادة تقديم أحداثها بعبارات الناقد الخاصة ، عمل ليس له أدنى قيمة ، فإعادة رواية الأحداث ـ بذكاء وتفهم ـ وسيلة لحمل أفكار الناقد ، وتحليله للعمل الإبداعى . ولعلنا نذكر وصف بيرسى لوبوك "للقارئ الجيد بأنه فنان . ولايخلو من دلالة قول سارتر : " لا وجود للفن الاّ من أجل الغير ، وعن طريق الغير " ..
          ان بداية النقد ـ والقول لبيرسى لوبوك ـ هى القراءة السليمة ، أو بعبارة أخرى : الدخول الى الكتاب قدر المستطاع . إن التقاط الملاحظات ، وتسجيلها ، يخلق نوعاً من الحوار المؤكد بين الكاتب وقارئه . لذلك فإنى أوافق أنور المعداوى على أن " النقد يعتمد على الذوق المرهف قبل أن يعتمد على أداة أخرى من أدوات الناقد " .
          واذا كان بوب يطالب القارئ بأن ينظر الى مايريد الكاتب أن يعبر عنه ، لا يطلب المزيد ، فإن أحداً لا يبلغ بالتعبير شيئاً لم يقصد الوصول اليه ، فإنى أوافق على أن يكون مشاركاً بالقراءة ، على ألا تبلغ هذه المشاركة ـ بالطبع ـ حد تدخل المبدع فى النص ليقدم أحكاماً شخصية من عندياته ، ويتباهى بأن النص هو من عندياته ، وعلى القارئ أن يتابع أو ينصرف عن القراءة ، مما يسئ الى العملية الإبداعية ويحيلها الى تظرف مرفوض ، كما فعل طه حسين فى " المعذبون فى الأرض " ، كما يجب ألاّ تبلغ حد القاء المبدع للأسئلة على المتلقى مثلما فعل ترولوب حين اتجه الى القارئ فى نهاية رواية له : والآن أيها القارئ .. هل نجعل القسيس يتزوج الآنسة جونز ، أو ترفض أن تتزوجه ؟ ..
          أما الملاحظات التى أسجلها فى هيئة دراسات ، فمن الصعب أن أسميها كذلك ، ولا هى ترقى إلى مستوى النقد بما يجب أن تحرص عليه من علمية أكاديمية ، فإن لقيت قبولاً لدى القارئ ، اعتبرت ذلك من قبيل المصادفة الحسنة ، ليس إلاّ ..

          ***
          من ملاحظاتى القرائية ، أن العديد من الأدباء يكتبون فى كشكول أو كراسة ذات أسطر ، لا يبدّلون ما يكتبونه ، بل ولا يعودون إليه [ محمود البدوى وعبد الحميد السحار ، مثلاً ] . رحلة تمضى إلى الأمام ، لا يشغلها التلفت . وبالنسبة لى ، فإن عملية الكتابة الإبداعية قد تستغرق وقتاً قصيراً أو طويلاً ، معايشة وتأملاً واختماراً واحتشاداً واستعداداً ، ثم تفرض لحظة الكتابة نفسها . الزمن الفعلى لعملية الكتابة تستغرق ما بين الساعتين والساعات الثلاث . تتصل منذ الحرف الأول ، فى الكلمة الأولى ، فى الجملة الأولى ، إلى الحرف الأخير فى القصة ، أو الفصل من الرواية . ثم أعيد قراءة ما كتبت . أنا أكتب العمل الإبداعى ، وأنا أول من يقرأه ، وهى قراءة نقدية وليست للمتعة . متعتى ـ إن كان التعبير دقيقاً ـ فى عملية الكتابة . القراءة عندى جزء متمم للعملة الإبداعية . إنها تلى عملية الكتابة . يخلى المبدع موضعه للناقد فى داخلى ، يطيل التأمل إلى العمل فى مجمله ، وفى اللغة والأسلوب والتكنيك . حتى الجملة والكلمة والحرف ، أتأملها ، وأجرى فيها بالحذف والإضافة حتى أطمئن إلى أنه بوسعى أن أدفع بها إلى المطبعة . عموماً ، فإن الذهن هو جسر التعامل مع النص الإبداعى . إنه يشير بما ينبغى أن يظل فى موضعه ، وما ينبغى أن يحذف ، وينصح بالإضافة والحذف حتى يضع القلم فى النهاية ، فيدفع ـ من ثم ـ بعمله الإبداعى إلى المطبعة . ربما أعدت قراءة بعض الفقرات حتى أحفظها ، وربما حذفتها ، أو حذفت منها ، أو أضفت إليها . وقد أبدّل حرفاً أو كلمة أو عبارة ، مثل وضع الرسام للمسات الأخيرة بالريشة ، فى لوحة بعد أن يتمّها . باختصار ، فإنى أصبح القارئ المثالى لما كتبت ، وإن كنت أوافق على رأى ميشيل بوتور : " الروائى هو قارئ نفسه ، لكنه قارئ غير كاف ، يتألم من عدم كفايته ، ويرغب كثيراً فى العثور على قارئ آخر يكمله ، حتى لو كان قارئاً مجهولاً "
          ولعل جزءاً من حرصى على أن أنقل ما أكتبه على الكمبيوتر ، مبعثه الإفادة من علامات الترقيم : الفاصلة ، النقطة ، نقطتى الكلام ، الشرطة ، القوس ، علامة الاستفهام ، علامة التعجب .. أحرص فأضع كل علامة فى موضعها . أثق أن ذلك ما تتطلبه فنية القصة ..
          وتختلف أبناط الطباعة فى الكمبيوتر بما يعيننى ـ بصورة مؤكدة ـ فى فنية القصة : الحجم الأصغر ، أوالأكبر ، الفراغات ، إمالة الحروف [ أذكرك بروايتى زمان الوصل ] ، اللون الأسود .. ذلك كله لم يكن بوسعى الإفادة منه فى فنية القصة أو الرواية ، لولا الكمبيوتر .. ذلك كله لم يكن بوسعى الإفادة منه فى فنية القصة أو الرواية لولا الكمبيوتر . صنعته فى الأسوار وفى النظر إلى أسفل و من أوراق أبى الطيب المتنبى و رباعية بحرى ، بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة ..
          مراجعة ما أكتب مهمة لا تنتهى ، مادام فى موضعه على الكومبيوتر . أراجعه ، فأضيف إليه ، وأحذف منه . مهمة ـ كما قلت ـ لا تنتهى إلا بعد أن أنقل المادة المكتوبة على الطابعة . خطوة نهائية قبل أن تدور بها المطبعة . لا أعود إلى العمل المطبوع ثانية ، ولو من قبيل مراجعة ما فات .
          ................

          1993 بإضافات

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            عضو أساسي
            • 14-10-2007
            • 867

            #20
            الفن إضمار .. ولكن ..
            ......................

            " إذا كان المعنى شريفاً ، واللفظ بليغاً ، وكان صحيح الطبع ، بعيداً عن الاستكراه ، ومنزّهاً عن الاختلال ، مصوناً عن التكلف ، صنع فى القلب صنيع الغيث فى التربة الكريمة "

            الجاحظ

            " الفن ليس طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة ، بل طريقة بسيطة لقول أشياء معقدة "

            جان كوكتو

            " كلما كان الإنسان أقل ثقافة .. كانت كتابته أكثر غموضاً "

            كونتليان Quintilian
            " فليكن الروائيون صادقين مع ضمائرهم الفنية ، وسيتبعهم الذوق الجماهيرى فيما بعد "

            الروائى الإنجليزى جورج جيسينج

            أوافق ألان روب جرييه فى أن " الحديث عن مضمون القصة وكأنه شئ مستقل عنها ، يعنى محو هذا اللون الأدبى كله من عالم الفن " . وأثق أيضاً أن مضمون العمل الإبداعى هو الذى يفرض صورته الفنية . وكما يقول كيتور فإن " الصلة بين الشكل والمضمون فى أى عمل فنى عظيم ـ سواء أكان مسرحية أو لوحة تصوير أو قطعة موسيقية ـ صلة حيوية جداً ، حتى ليمكن القول بأنهما متوحدان توحداً كليا " ..
            وفى المقابل ، فإنى أخالف الرأى بأن تعقيد التقنية هو العامل الكبير فى كتابة القصة القصيرة . يخطئ البعض حين يتصور أن وظيفة التقنية جمالية أو زخرفية ، وأنها تدليل على موهبة الفنان ، وإجادته ترتيب الأحداث ، بما يحدث فى نفسية المتلقى أكبر قدر من الانبهار أو الدهشة أو التوتر . التقنية تختلف عن ذلك تماماً ، بل إنها فى النقيض من ذلك تماماً . العمل الإبداعى يفرض تقنيته ، يحددها . التقنية تتخلق فى داخل العمل لحظة بدء ، وأثناء الكتابة ، بحيث يمكن القول إن التقنية تكمل المادة ، مثلما إن المادة تكمل التقنية . وبمعنى آخر ، فإن المضمون والشكل وجها عملة واحدة ..
            لقد واجه ت . إس . إليوت اتهام النقاد له بالغموض بأنه ليس عليه أن يكون واضحاً ، وأن عليه أن يقدم أفكاره ومشاعره وتخيلاته ، وعلى المتلقى أن يبذل جهده ، ويتعب ذهنه ، فى فهم المادة الإبداعية . ومع ذلك فإن إليوت قد حذر من " ذلك الغموض الذى لا يعدو نوعاً من الادعاء ، فالكاتب يحاول أن يخدع نفسه ، ويحاول أن يقنعها بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما قاله بالفعل ..
            المشكلة التى يعانيها بعض " المؤلفين " ـ فى تقدير إليوت ـ هى أن يحاول إقناع نفسه بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما كتبه . وربما جاء الغموض تعبيراً عن صعوبة الكتابة ، أى أن الأفكار أكبر من القدرة على صياغتها ، وقد يأتى الغموض من طبيعة الموضوع فيسيطر على ما كتبه المؤلف !
            أتفهم السؤال الذى طرحه سارتر : هل تعتقد أن قارئاً من بلد فقير يستطيع أن يقرأ ألان روب جرييه ؟..
            نحن نعجب بكافكا وجويس وساروت وجرييه ، لكننا ـ فى الوقت نفسه ـ قرأنا ـ وسنظل نقرأ ـ لتشيكوف وادريس وتولستوى ومحفوظ وديستويفسكى وبلزاك وزولا .. هؤلاء العظماء أصحاب الإبداعات الكلاسيكية !. بل إن كارل راداك ينصح من يكتب روايات ، أن يتعلم كتابتها من تولستوى وبلزاك وليس من جيمس جويس .
            إن طلبك من الشاعر ـ والقول لهنرى ميلر ـ أن يتحدث بلغة رجل الشارع ، يماثل انتظارك من النبى أن يوضح نبوءاته . إن ما يبلغنا من من ممالك سابقة ، بعيدة ، يأتى مسربلاً بالسر والغموض " . وفى المقابل ـ والقول لميلر أيضاً ـ فإن " عبادة الشعر تبلغ نهايتها حين لا توجد إلاّ لحفنة ثمينة من الرجال والنساء ، فلن يعود الشعر فناً ، وإنما لغة شفرة لجمعية سرية مهمتها الدعوة إلى الفردية الفارغة " ( ت . سعدى يوسف ) .
            وعلى الرغم من أن طبيعة الشعر تجعله أميل إلى الغموض ، بل إن القصيدة الجديدة هى غامضة من حيث شاعريتها ، وطبيعة لغتها التى تختلف بالضرورة عن لغة حياتنا اليومية ، فإن رأى الصديق الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى ـ وهو شاعر متفوق ـ أن " القصيدة التى يعجز القارئ المثقف عن أن يجد دلالاتها أو معناها هى قصيدة رديئة " .
            وبالطبع ، فإن الوضوح يختلف عن السطحية تماماً ..
            أما إحالة الغموض إلى الرمز ، فإن كل فن حقيقى هو ـ فى الدرجة الأولى ـ فن رمزى . وإن كان العمل الإبداعى ـ كما يقول جارودى ـ لا يتخذ شكل الرمز إلا لأن الكاتب لا يستطيع أن يعبر بطريقة أخرى عما يريد أن يقول . إن مضون الرمز هو الواقع نفسه ، ذلك لأن الرمز تشغله مناوأة السلطة . قد تكون سلطة قبلية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية إلخ . وهو لا يتجه إليها بالخطاب المباشر ، وإنما يجعل الخطاب على لسان الطير أو الحيوان ، أو حتى النبات . ويستعمل الصور البلاغية والمجازية . وإذا كانت الرواية الرمزية قد برزت ـ كما يقول روجر ب . هينكلى ـ نتيجة لارتقاء التفكير الأدبى فى الشكل الروائى ، فإن العمل الإبداعى يفقد الكثير من مقوماته إن تحول إلى معادلة رياضية .
            إذا كان الكاتب الراحل مصطفى لطفى المنفلوطى قد بدأ ريادته فى القصة والرواية بأعمال تستهدف وجدان القارئ بما تتضمنه من عبارات رومانسية ، وتناول لأحوال المحبين ، ومواقف تبرز التناقض فى الأوضاع الطبقية داخل المجتمع .. فإن جيل طه حسين والحكيم والمازنى وغيرهم لم يلجأوا إلى التعريب مثلما فعل المنفلوطى ، وإنما حاولوا أن يتناولوا مظاهر الحياة فى البيئة المصرية من خلال أعمال يسهل نسبتها إلى سوسولوجيا الأدب ، مثل شجرة البؤس ، والأيام ، وزينب ، وهكذا خلقت ، وإبراهيم الكاتب ، وعودة الروح إلخ ..
            ثم جاء جيل الوسط الذى أصّل فن الرواية والقصة القصيرة فى حياتنا ، وأهم ممثليه : نجيب محفوظ والسحار وعبد الحليم عبد الله والبدوى وغراب وصلاح ذهنى . تعرفنا إلى الفن الروائى والقصصى فى صورته العالمية من خلال أعمال تقف على أرضية المحلية . ثم توالت الأجيال بدءاً بجيل يوسف إدريس إلى جيل التسعينيات الذى يحاول الآن أن يرسم ملامحه فى الخارطة ا[داعية المصرية ..
            وبالتأكيد ، فإن التناول القصصى للمنفلوطى يختلف بالضرورة عن التناول الذى أبدعته الأجيال التالية ، وإلى الآن ..
            ثمة تراث متراكم من الأعمال القصصية والروائية ، منذ تحققت للقصة القصيرة صورتها الفنية فى ما تراه العيون لمحمد تيمور ، وللرواية صورتها الفنية فى عذراء دنشواى لمحمود طاهر حقى . وهذا التراث يعنى أن المبدع يتجه الآن إلى قارئ جديد ، أشد تمرسا بفنية القصة والرواية ، فهو يصدم بالشروح والتبسيطات التى تلغى ذكاءه ، وتحاول مساعدته على تلقى العمل
            فما فائدة مئات القصص وعشرات الروايات التى سبق له قراءتها ؟..
            الفن إضمار مقولة صحيحة ، ويجب أن نؤكد عليها ، وإن كنت أتحفظ كذلك ، فأوكد ـ فى الوقت نفسه ـ أنه على المبدع أن يحترم ثقافة القارئ ووعيه .. وأبشع الأعمال الأدبية تلك التى قد لا يفهمها كاتبها ، لكنه يدفع بها إلى المطبعة تصوراً أن القارئ ربما وجد فيها ما غمض عنه هو .. مثل تلك الأعمال يجب أن يعاقب كاتبها باعتباره مدلساًً أو مزيفاً ، وأن يواجه الحكم الذى يواجه به هؤلاء !..

            ***
            أوافق أستاذنا الدكتور الطاهر مكى فى أن " المبدعين الحقيقيين يجب أن يسبقوا عصرهم ، وأن يكونوا بالضرورة غير مفهومين من معاصريهم " .
            الفن اضمار .
            أنا أعنى بتصوير الأحاسيس الغامضة ، أو التى لم تتبلور بعد ، بحيث يبذل المتلقى جهداً مسواياً لما قد تنطوى عليه من اضمار حتى يميزها أو يدركها ..
            الإضمار ، أو حتى الغموض ليس عيباً ، بل إنه قد يضيف إلى العمل الفنى ، بل إن أبا أسحاق الصابى يرى أن أفخر الشعر ما غمض " . ومع ذلك ، فإنه من المفروض أن يتضمن العمل مفاتيحه الداخلية ، التى تعين على الفهم واستكناه الدلالات .
            والحق أنه إذا لم يكن ثمة ما يوجب على الفنان أن يكون غامضاً ، فإن المتلقى ـ بالتالى ـ غير مطالب بأن يسرف فى الجهد كى يستبين المعانى التى يقصدها الكاتب . أذكر قول روبرت فروست لأحد الشعراء الشباب ، اتسمت قصيدة له بالغموض : " إن كانت قصيدتك سراً من أسرارك ، فأولى بك أن تحتفظ بها لنفسك " .
            البعض يعانى افتقاد الموهبة ، أو فقر اللغة ، أو نقص الإمكانات ، فهو " يضطر " ـ أعنى التعبير ـ إلى الغموض . أذكر قول سومرست موم : " أن يكون الكاتب نفسه غير متأكد من معناه ، فهو يشعر شعوراً غامضاً بما يريد أن يقوله ، لكنه لم يكوّن له صورة واضحة فى ذهنه ، إما لنقص فى قواه عقلية ، أو من الكسل ، ومن الطبيعى فى هذه الحالة ، ألا يجد التعبير الدقيق للفكرة المشوشة " . ويضيف شوبنهاور إلى هذه الكلمات قوله : " إن أسلوب التعبير المسرف فى الغموض ، يأتى فى تسع وتسعين حالة من مائة حالة ، نتيجة لغموض الفكرة عند المبدع " .
            إن المبدع يواصل الكتابة دون أن تتضح أمامه ملامح العمل الذى يكتبه ، يكتفى بالشعور الغامض ، أو غير المحقق . يريد أن يعبر عن أشياء محددة ، لكنها تشحب وتتضاءل ، وتتحول إلى هلاميات عند محاولة الفنان لأن يسطرها على الورق ، فهو يترك ما عجز عن التعبير عنه لذكاء القارئ ، يفسّره على النحو الذى يراه . ولأنه هو نفسه لم يفهم ، فإن القارئ بالتالى لن يفهم . لقد تصور أنه لجأ إلى ذكاء القارئ ، لكنه ـ فى الحقيقة ـ لجأ إلى نقيض ذلك ، أو ما تصور أنه كذلك ، لأنه من المستحيل أن أطالب الآخرين بفهم العمل ، الذى لم يفهمه كاتبه !. وكما يقول سومرست موم ، فإن من أسباب الغموض أن يكون الكاتب نفسه غير متأكد من معناه ، فهو يشعر شعوراً غامضاً بما يريد أن يقوله ، لكنه لم يكوّن له صورة واضحة فى أذنه ، إما لنقص فى قواه الذهنية ، أو من الكسل " .
            وباختصار ، فإنه لا يمكن ـ بمشاعر كاذبة ـ أن أنتج فنا صادقاً . ولعلى أضيف قول كونتليان " إن الأشياء التى يقولها الرجل المثقف ثقافة عالية ، فى الأغلب الأعم ، أيسر فهما وأكثر وضوحاً . وكلما كان الإنسان أقل ثقافة ، كانت كتابته أكثر وضوحاً " ..

            ***
            العمل الإبداعى علاقة بين المبدع والمتلقى . إنه لا ينطلق فى فراغ ، وإنما هو يتجه إلى قارئ أو مشاهد أو مستمع ، يشغله الاستمتاع ـ فى الأقل ـ بهذا العمل .. لكن معظم الأعمال الأدبية الحديثة تتجه إلى الغموض بلا سبب ، وبغير ضرورة فنية . وهو ما انعكس على قاعدة المتلقين ، فتقلصت بصورة واضحة ، حتى أن المجلات الأسبوعية التى كانت تخصص ـ على سبيل المثال ـ مساحة ثابتة للقصة ، ملأت هذه المساحة بمواد صحفية أخرى ، يسهل على القارئ فهمها وتقبّلها ، بدلاً من اللوغاريتمات الذى يحفل به الكثير من إبداعاتنا القصصية المعاصرة . ولقد كنت ـ أعترف ـ واحداً من الذين انساقوا ـ دون استعداد نفسى ولا فنى ـ لذلك التيار . بدأت فى الماهية ، ويا سلام ، والصورة ، وموقف ـ قصصى القصيرة الأولى ـ بما يقرب من اللقطة التسجيلية التى تشى بدلالات . ثم صرفنى ـ وهذا هو خطئى الأعظم ـ تيار الغموض الذى جرف العديد من أبناء جيلى ..
            وأذكر أن مجلة " سنابل " التى كانت تصدرها محافظة كفر الشيخ بإشراف الصديقين محمد عفيفى مطر ومحمود بقشيش قد أثارت نقاشاً حول قضية الغموض ، أيد فيه معظم المشاركين وجود الظاهرة ، وإن اختلفوا فى تبين بواعثها . وكان رأيى ـ كما أوردته المجلة ـ أن العمل الفنى لا يتسم بالغموض لذاته " حتى اللامعقول لابد أن يصدر فى الدرجة الأولى عن رؤية معقولة ، وإلاّ تحولت الكلمات إلى شئ آخر لا يمت إلى الفن بصلة ، لكن المعاناة التى يتطلبها العمل من كاتبه ، تريد معاناة مقابلة من قارئ العمل . وأحياناً يساوى الغموض عدم فهم القارئ ، أو قراءته للعمل الإبداعى بنفس طريقة قراءة الجريدة اليومية . وأحياناً أخرى ، يعانى البعض افتقاد الكلمة التى يريد أن يقولها ، لكنه يصر أن يكتب ، والبعض تعجز حصيلته اللغوية عن صوغ كلماته ، فلجأ إلى الهلاميات اللغوية ( سنابل 15/4/1971 ) .

            ***
            ثمة رأى يذهب إلى أن الفهم عند القارئ ، والوضوح عند المبدع ، هما شيئان أساسيان للأدب ، ويتضمنان التزامات من كل منهما . ولعل المثل الذى يحضرنى ، أن المبدع أشبه بجهاز إرسال ، وواجبه دائماً أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، التى تتحدد فى حرصه على الصدق مع نفسه ، ومع فنه ، فلا يتعمد شيئاً ، لكن يترك العمل الفنى هو الذى يكتب نفسه ، لا يلوى ذراع القصيدة أو القصة سعياً وراء الإبهار أو التلغيز ، وإنما يترك للعمل الإبداعى اكتساب ملامحه وقسماته أثناء عملية الإبداع . أما المتلقى فهو أشبه بجهاز استقبال ، عليه هو أيضاً أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، وتتمثل فى تسلّحه بالثقافة والوعى والفهم ، بحيث يمكنه استقبال العمل الفنى بصورة جديدة . لا أفهم أن يكون الغموض هدفاً فى ذاته ، من أجل أن يثار النقاش حول المعنى الذى يقصده الكاتب ، ثم لا يصل النقاش إلى أى شئ . ذلك أقرب إلى مسابقة الكلمات المتقاطعة التى تزجى بها الصحف اليومية فراغ وقت قرائها ..
            إن الغموض الذى يصدر عن عمق الفكرة وطرافتها ، والتأبّى على التعبير الأوضح ، يختلف عن الغموض الذى لا يعدو تعبيراً عن قصور الأدوات ، وعدم تمكن الكاتب من الجنس الأدبى الذى حاول إبداعه . وكما يقول إليوت فهناك غموض هو فى الواقع نوع من الادعاء ، فالمؤلف يحاول أن يخدع نفسه ، ويعمل على أن يقنع نفسه بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما عنده ..
            حتى أعمال بيكيت التى نسب لمؤلفها انه يستطيع فهمها تماماً .. هذه الأعمال لا يمكن أن تكون بلا معنى ، لأننا قد نطلق على مثل هذا العمل أى شئ ، إلاّ أن نسميه فناً !.. وأذكر عندما قدم مسرح الجيب مسرحية بيكيت لعبة النهاية ، أن أقلام النقاد استراحت إلى الرأى القائل باستحالة فهمها ـ ألم يعلن ذلك الفنان نفسه ؟! ـ وطالبت بأن تكون نظرة المشاهد إليها مثل نظرته إلى اللوحة التجريدية . لكن نجيب محفوظ رفض ذلك التفسير ، وأصر على أن مسرحية بيكيت عمل فنى ، لابد أن يكون للفن معنى . ثم قدم تفسيراً رائعاً ، وذكياً ، للعبة النهاية

            ***
            إذا كان من عمل الناقد ـ كما يقول ستانلى هايمان ـ " عندما تتسع الهوة بين الأدب الجاد وذوق القراء ، هو أن يكون همزة وصل بين العمل الغامض ، أو الصعب ، وبين المتلقى " فإن للمباشرة عيوبها ، والغموض ـ إذا كان وليد الضعف ، أو الضحالة ـ عيوبه أيضاً . يغيظنى أن يكون الغموض بلا ضرورة فنية ، يفرضه الكاتب من خارج العمل ، ولا يأتى من داخله . فإذا حاول الناقد تفسير العمل الفنى ، فإن عليه أن يكشف المباشرة الزاعقة ، أو الوعظية ، أو يوضح دلالات الغموض إن كان مما يفرضه العمل الفنى ويتحمله . أضيف : أنى لا أميل إلى التقنية التى تبلغ ـ على حد تعبير كارل راداك Karl Radak درجة التعقيد المتشنج ، ولا أميل ـ فى الوقت نفسه ـ إلى التقنية المتفوقة التى تؤطر عملاً تافهاً ..
            المقولة الشهيرة تعلن أنه إذا طالب المتلقى المبدع أن يكتب ما يفهم ، فإن على المتلقى أن يفهم ما يكتب . وفى المقابل ، فثمة من يرفضون ـ رغم ثقافتهم المرتفعة ـ تلك الأعمال التى تكلّف القارئ جهداً لتفهّمها ، وهو ما يعبر عنه كلثوم بن عمرو العتابى " إن كل من أفهمك حاجة من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة ، فهو بليغ "
            لقد كان رأى ت . إس . اليوت أنه ليس هناك ما يوجب على الفنان أن يكون واضحاً . إن الإبداع مهمته ، وبذل الجهد فى الفهم واستبانة المعانى مهمة المتلقى . إيفور براون يرفض هذا الرأى ، يرى فيه دليلاً على الكسل أو التكلف ، وتنازلاً من الفنان عن رسالة الفن . يضيف : " إن الشائع فى هذه الأيام فى عالم الأدب هو أن لا تعرف ماذا تعنى . فإذا تحداك إنسان ، فما عليك إلاّ أن تهز كتفك غير حافل ، وتقول إنك كتبت ما كتبت ، وأن على القارئ أن يتبين المعنى ، وأن ما يبديه المؤلف من الملحوظات يحمل الكثير من المعانى ، والقارئ يقوم مقام القابلة التى تستولد هذه المعانى ، وليس من عمل العبقرى أن يجعل كلامه واضحاً مفهوماً " ( ت . على أدهم ) .
            والواقع أن الغموض ـ أو البساطة ـ مسألة لا تصدر عن الأديب بقرار ، بمعنى أنى لا أتصور أن أديباً يتعمد التلغيز أو التبسيط الزائد ، لكن العمل الفنى ـ بما ينبغى أن ينبض به من تلقائية ـ هو الذى يفرض الصورة التى تطالع القارئ . وكما يقول همنجواى : فقد " تبدأ فى كتابة القصة دون أن تكون لديك أية فكرة مسبقة عن الطريقة التى ستنتهى بها ، فكل شئ يتبدّل ويتغير ، كلما تقدمت القصة . وهكذا نجد أن الحركة قد تبدو بطيئة للغاية فى بعض الأحيان ، حتى ليصعب على الإنسان أن يصدّق أن هناك حركة على الإطلاق "..
            الغموض ـ أو العكس ـ مسألة نسبية . فما يراه البعض غموضاً ، يراه البعض الآخر عملاً سهل التلقى . والقضية أساساً فى جدّية الفنان وصدقه من ناحية ، ووعى المتلقى وثقافته ، بل وفهمه لخصائص العمل الفنى من ناحية ثانية . وكما يقول يحيى بن حمزة العلوى فإن " المقصود إذا ورد فى الكلام مبهماً ، فإنه يفيده ببلاغة ، ويكسبه إعجاباً وفخامة ، وذلك إذا قرع السمع على وجهة الإبهام ، فإن السامع له يذهب فى إبهامه كل مذهب " .
            الفن إضمار ، والفن تكثيف وإيماء بدلالات [ يقول جين ب . تومبكنز إنه تكفى كلمات قليلة لتيسير تأويل حالة معقدة ] لكنه يفقد صفة الفن إذا بلغ حد الغموض ، وللغموض ـ فى تقديرى ـ أكثر من سبب ، فقد يصدر عن ادعاء ساذج ، أو قصور فى التعبير ، أو عدم استطاعة للوسيلة الفنية ـ وهو ما يعانيه الكثير من الأدباء الشباب فى أعمالهم الأولى ـ وقد يكون السبب عمق المقولة بما يهمل وضوح التعبير ..

            ***
            يضايقنى قول البعض : هذا كاتب صعب ..
            أنا لا أتعمد الغموض ولا التلغيز . أبدأ الكتابة وليس فى داخلى سوى فكرة ، هى ـ فى الأغلب ـ غير مكتملة .. لكن العمل الأدبى الجيد ـ والقول ليحيى بن حمزة العلوى ـ يتطلب قراءات عديدة . فأنت كلما قرأته اكتشفت فيه معان جديدة ، فهو إذن يتطلب جهداً موازياً لجهد المبدع ، جهداً لا حد له . من المهم أن تكون قراءة المتلقى خلاّقة ، بمعنى أن يتصور الأحداث والشخوص التى يتضمنها العمل الفنى . بغير هذه المشاركة الفعالة فإن المتلقى لن يخرج بشيء.
            ...............

            1988 ـ بإضافات

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              عضو أساسي
              • 14-10-2007
              • 867

              #21
              المثقف والمجتمع والسلطة

              لا تحلموا بعالم سعيد ..

              فخلف كل قيصر يموت ..

              قيصر جديد .

              أمل دنقل

              " الذئب ما كان ذئباً ، لو لم تكن الخراف خرافاً "

              مثل أيرلندى

              " إن الروايات العظيمة لا يكتبها أناس خائفون "

              جورج أوريل

              ننحن فى عصر أصبح من واجب الأعمال الفنية فيه أن تطلق الرصاص


              مشكلة بعض النقاد مع روايتى " من أوراق أبى الطيب المتنبى " أنهم توقفوا أمام ما تصوروه انعكاسات أحداث قريبة ، مثل فترة السادات وما صحبها من تطورات . والحق إنى لم أكتب الرواية لمناسبة وقتها ، لم أقصد أن أتناول قضية ذات أهمية بالغة ، لكن الحل ـ على أى نحو ـ ماثل فى مدى الأفق ..
              إذا كان المبدع يكتب من أجل عصره ، من أجل الآنية ، فإنه يكتب من أجل الإضافة والتطوير والتقدم . إنه لا يكتب للمجتمع الآنى وحده ، وإنما يكتب لكل الأزمنة ، وللإنسان بعامة . الإبداع الحقيقى هو الذى يمتلك حيوية المواصلة والتأثير والحس الإنسانى ، حتى بعد انتهاء المناسبة التى كتبت فيها ، أو ـ ربما ـ عبّر عنها . يهمنى أن تخترق شخصيات أعمالى زمانها ، فلا تستقر فى زمان محدد ، وتتلاشى من ثم بتلاشيه . أرفض شخصية المناسبة ، مثلما أرفض ـ فى الشعر ـ قصيدة المناسبة . نحن نقرأ ديكنز ، لا لأن أعماله تناولت إصلاح السجون ، ونقرأ تورجنيف لا لأنه كتب عن قضايا التحرر فى روسيا ، وهوجو لا لأنه انتقد نابليون الثالث . تلك مهام المؤرخين أو المصلحين الاجتماعيين . إن هؤلاء الأدباء ـ وغيرهم ـ وظفوا تلك " التيمات " الاجتماعية أو السياسية ـ إن جاز التعبير ـ فى أعمال إبداعية ، بعدها الإنسانى يتيح لها الحياة بعيداًُ عن الأحداث التى تناولتها ، بعيداً عن الآنية الطارئة التى يزول تأثيرها بزوال الحدث ..
              ثمة قضايا محددة تشكل الرؤية الشاملة ، فلسفة الحياة ، لعالمى الإبداعى . ومن بين تلك القضايا : المطاردة ، الغزو من الخارج ، القهر فى الداخل ، صلة المثقف بالسلطة ، وبمجتمعه ، وما يتصل بها من قضايا الحرية والعدل ..
              من أوراق أبى الطيب المتنبى ـ فى تصور كاتبها ـ لا تناقش قضايا آنية ، لكن القضية المحور هى علاقة المثقف بالسلطة من ناحية ، وعلاقته بجماهير شعبه من ناحية ثانية ، وهى قضية تلح فى الكثير من أعمالى الروائية والقصصية ، مثل " الأسوار " و " من أوراق أبى الطيب المتنبى " و " النظر إلى أسفل " و " قاضى البهار ينزل البحر " و " زهرة الصباح " وغيرها ..
              العاشق الحق ـ فى رأى أبى الطيب المتنبى ـ هو الذى لا يطمع ، لا يريد مقابلاً من معشوقه ، وإنما هو يضحى فحسب ، ولا يتوقع المقابل .

              ***
              كان إلهامى [ رواية البوسنى رشاد قاضيتش رحلة إلهامى إلى الموت ] يعرف المصير الذى ستنتهى إليه رحلته . بعث الحاكم الجلالى فى طلبه ، ومن يطلبه الجلالى فهو لابد أن يموت . وأهمل إلهامى ـ فى طريقه إلى قصر الجلالى ـ كل النصائح التى دعته إلى الاختفاء بعيداً عن أعين الجلالى " إذا كان كأس الموت ينتظرنى ، فأنا على استعداد " . ولم يكن إلهامى يقبل على الموت لذاته . لم يتقبل فكرة الموت باعتبارها انتحاراً ، لكن كان لديه ما يقوله للجلالى قبل أن يأمر بإعدامه . كان يدرك فداحة الثمن الذى يجب أن يدفعه مقابلاً للفكرة التى يحملها ، للكلمات التى يريد أن يوجهها إلى الحاكم . كان يستطيع الاعتذار عن كلماته ـ كما أسرف الجلالى فى مطالبته بذلك ـ والعودة إلى مألوف حياته ، لكنه رفض أن يعتذر عن القصيدة التى عرّضته للموت . وزاد فنصح بما جعل من الحتم إعدامه . ويهمس إلهامى بينه وبين نفسه : يا رب !.. أنت أفضل من يعرف لماذا يستدعوننى ، وماذا ينتظرنى هناك . إذا كان هذا بسبب ما قلته ، فلا تجعل الخوف يهزنى ، فيدفعنى إلى أن أنكر أو أندم على ما صنعته ، ولا تسمح بأن يتسلل الخوف إلى عينى ، وبأن يتم الإحساس بالرجفة فى صوتى . ساعدنى على أن أظل صلباً ، ثابتاً ، على طريق الحقيقة ، وأن أغمض عينى واسنمك فى قلبى . ويحلم إلهامى بمن يسأله : من هم أولئك الأبرياء الذين قتلوا على طريق الحقيقة ؟ . يجيب : الشهداء ..
              ـ وأين مثواهم ؟
              ـ فى الجنة !
              ويقف إلهامى أمام الجلالى . يقول له : إن الإمبراطورية ـ العثمانية ـ مديدة شاسعة ، بحيث لا يمكن رؤية نهايتها . والماء صاف فى منبعه . ولكن إلى أن يصل إلى أولئك الذين ينتظرونه فى عطش ، فلا يمكن ـ فى بعض الأحيان ـ غسل الأقدام فيه . ويتحدث إلهامى عن أولئك الذين يجب أن يكونوا فى المقدمة ، وأن يحددوا ماهية العدالة ، ويوزعوها ، بدءاً من رجال الإمبراطور والأعيان ، وانتهاء بالعلماء . إنهم يتحدثون عن شئ ، ويفعلون شيئاً آخر . إنهم يفكرون فى أنفسهم فحسب . ويضيف إلهامى قوله : يا باشا ، إن الناس أهم من السلطان ، من الإمبراطورية . ولم ينبت شئ طيب من الدماء . إن الإنسان هو أكمل ما خلقه الله ، وويل لمن يمتهنه !
              ويدفع إلهامى حياته ثمناً لهذه الكلمات !

              ***
              إنسان " ، رواية للإيطالية أوريانا فالاتشى ، صدرت بعد روايتى الأسوار بعدة سنوات . فقد صدرت الأسوار فى 1973 ، بينما صدرت إنسان بالإيطالية ـ للمرة الأولى ـ فى 1983 [ فى الروايتين موقف واحد عن التمثال الذى ينطقه رجال السلطة . فى الأسوار أنطقوا تماثيل أبو سمبل ، وفى إنسان أنطقوا تمثالاً يونانياً قديما . توارد خواطر كما ترى ] . شدنى فى رواية فالاتشى إنها تعبّر ـ من خلال تجربة حقيقية ـ عن الدور الذى أتصوره للمثقف / المناضل فى مجتمعه . مثقف ليس ـ بالضرورة ـ فى حجم الحسين وجيفارا والليندى وغيرهم ، لكنه لابد أن يكون مؤمناً ـ بالضرورة ـ بأن التضحية هى ما يجب أن يبذله دون أن يتلقى مقابلاً من إعجاب ، أو ثناء ، أو حتى مساندة . بل إنه قد يلقى جزاء سلبياً من هؤلاء الذين بذل عمره فدية عنهم ! [ زال تقديرى للكاتبة بعد أن أعلنت مناصرتها للصهيونية ، وأنكرت على الفلسطينيين حقهم فى الحرية ! ] . يقول باناجوليس للكاتبة : " الناس فى الحقيقة هم القلائل الذين يكافحون ويأبون الخضوع . أما الآخرون فليسوا ناساً . إنهم قطيع " (ت محمود مسعود ) . يقول باناجوليس ـ مصدوماً ـ " ما الفائدة من المعاناة والكفاح ، إذا كان الناس لا يفهمون ، إذا كان الناس لا يهتمون ؟.. كل ما فعلته كان غلط فى غلط " . وتقول أوريانا لحبيبها بعد أن تحيفه اليأس : " إذا قضيت نحبك ، فإنهم ـ مواطنوه ـ سوف يجلونك ، وربما يحاكونك ، ولن تبقى وحدك بعد ذلك"
              لقد بذل باناجوليس حياته من أجل أن تسترد بلاده ـ اليونان ـ حريتها من الحكم الديكتاتورى ، لكن الرصاصة التى أردته تأخرت طويلاً ، بحيث أتاحت له الظروف أن يخطط ، ويقاوم ، ويعتقل ، ويعانى التعذيب ، ويدخل البرلمان ممثلاً للملايين من البسطاء ، حياة خصبة ، وعميقة ، على الرغم من أنه اغتيل قبل أن يبلغ الأربعين ..
              ويدرك باناجوليس ـ قبل أن يلقى مصرعه على أيدى أعوان الديكتاتورية ـ إن " أغنية التحية للمقاتل الحقيقى هى حشرجة الموت التى يصدرها عندما تطلق النار من قبل فريق الإعدام فى حكم الطغيان " ، وإنه يتوجه إلى عالم يلحق فيه بأبطال آخرين ، بدونهم لا يكون للحياة معنى ، ويثقون أن التوقف عن النضال هو الجنون بعينه ، وأن البذرة التى غرسوها فى الهباء سوف تذكو وتتشكل فى أوانها المقسوم " ..

              ***
              (يتبع)

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                عضو أساسي
                • 14-10-2007
                • 867

                #22
                يقول أرسطو : " كل من كان غير قادر على العيش فى المجتمع ، أو لا حاجة له بذلك لأنه مكتف بنفسه ، فإنه إما وحش أو إله " . وفى كليلة ودمنة : ثلاثة مهلكات : القرب من السلطان ، وإفشاء السر للنساء ، وتذوق السم على سبيل التجربة . لذلك فإن المثقف يحرص ـ عادة ـ على أن يضع مسافة بينه وبين السلطة ، ربما لكى يتاح له الرؤية جيداً ، ويتاح له التحليل والتقويم بالتالى . ولعلى أضيف أن البديهى قيام نفور ـ أو عداء ـ بين السلطة والمثقف . السلطة تعبر عن الفوق ، أما المثقف فهو يعبر ـ أو هذا هو المفروض ـ عن التحت ، عن القاعة الأوسع من المواطنين . أدين ذلك المثقف الذى وصفه باناجوليس بأنه ينحنى أمام أية قوة ، أية سلطة ، أى عات مستبد . يحيا كل من يحكم بشرط ألا تقع متاعب ، والديكتاتوريات تولد منه ، والأنظمة الشمولية يدعمها ويؤازرها .
                وإذا كان جيتان بيكون قد عاب على أندريه مالرو أنه لم ينضم إلا إلى الثورات التى كانت على وشك النجاح ، وأن مالرو لم يكن على استعداد لأن يظل مخلصاً لوضع سياسى تغيب عنه الفرصة الحقيقية ، فإن الكاتب النيجيرى كين سارو ويوا ـ فى المقابل ـ حقق أرباحاً طائلة من مؤلفاته ، شجعته على الهجرة إلى بريطانيا ، وشراء بيت ريفى فاخر فى إحدى المقاطعات هناك ، لكنه عاد إلى وطنه ليقف إلى جانب مواطنيه من قبيلة " أوجونى " ذات الأقلية العددية ، وأسهم سارو فى تأسيس حركة " من أجل بقاء الشعب الأوجونى " . وبصرف النظر عن صواب النزعة الانفصالية من عدمه فى إنشاء تلك الحركة ، فقد دفع سارو حياته ـ وكانت حياة مرفهة بكل المقاييس ـ مقابلاً لإيمانه بما يرى أنه حق لأبناء قبيلته ..


                ***
                والحق أنه من الصعب تصنيف المثقفين باعتبارهم طبقة . إنهم نسيج متداخل فى كل طبقات المجتمع . ثمة المثقف المبدع ، والمثقف العامل ، والمثقف الموظف ، والمثقف العالم ، والمثقف الفلاح ، إلخ .. المثقف مواطن يمتلك المعرفة والوعى ، ويحاول من ثم أن يدافع ـ بمعرفته ووعيه ـ عن مجتمعه الذى قد يعانى الكثير من السلبيات ، فى مقدمتها ـ غالباً ـ قهر السلطة !
                وعادة ، فإن البسطاء يتعاطفون مع آراء المثقفين التى يجدون فيها تعبيراً عن واقعهم ، ومناصرة لقضاياهم ، وإن كان ذلك لا يحدث فى كل الأحوال . يقول تشيكوف على لسان أحد أبطاله " إن أقسى الأمور على المرء هو أن يعمل دون أن يلقى الود والتعاطف من أى إنسان " ، كم تأثرت ، وقهرنى الحزن ، حين قرأت كلمات مصطفى كامل اليائسة التى كتبها إلى جولييت آدم عن " هذه الأمة التى بلانى الله بأن أكون واحداً من أبنائها " . وفى المقابل ، فقد وجدت ما يستحق التقدير فى قول القاضى الهولندى فان بملن " يخطئ من يظن أن المصريين المثقفين لا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة ومصالح عائلاتهم ، فإنهم ـ على العكس ـ يكرهون الحكم التركى والحكم الأروبى على السواء ، ويريدون حكومة وطنية بكل معنى الكلمة ، وهم يحبون مصر الحديثة ، ومصر التاريخية ، ويهتمون بمصير الشعب ، ويتألمون لمصائبه التى لانهاية لها " ( نقلاً عن الرافعى : عصر إسماعيل ص 123 )
                يقول الفنان فى قصة محمود تيمور السماء لا تغفل أبداً : " نحن الآن نعمل وكلنا يسعى لغرض أسمى ، ولإسعاد البشرية ، ولكن : هل تحس البشرية بعملنا ، وما نلاقيه من صعاب ؟ أبداً ! أبداً ! . ويسأل الراوى فى قصة رفعت السعيد السكن فى الأدوار العليا : ماذا يجدى الأمر كله ؟ الشعب نائم ، بل هو صوت يتظاهر ضدنا ، ضدنا نحن الذين نهب نسمات حياتنا من أجله . تبدو الأمور جميعاً بغير معنى . نحن نضحى من أجل من لا يريد ... لو أن الناس تحس بعذاباتنا لهان الأمر ، لهانت كل العذابات ، لكن الناس بعيدون عنا ، وكلماتنا : ماذا تجدى ؟ هل تقنع أحداً ؟ ( رفعت السعيد : السكن فى الأدوار العليا ) . أما باناجوليس فإنه يعيد النظر إلى ما حوله : " فى الخارج الحياة ، والفضاء ، والناس ، والحب ، والغد . ما أشق أن تكون بطلاً ! ما أقسى هذا وأبعده عن الكينونة البشرية ، وما أشد بلادته وأقل جدواه ! هل يتهيأ لأحد قط أن يثنى عليك لأنك برهنت على أنك بطل ؟ هل يمكن أن يقيموا لك نصباً ، ويطلقوا اسمك على الشوارع والميادين ؟ وإذا هم فعلوا ذلك ، فما الذى يجدى عليك شبابك المضيّع ؟ وحياتك التى لم تعشها ؟ كلا! كف عن هذا . إنه لكفران ! فأنت لا تؤدى واجبك لمجرد أن يلقاك إنسان بالحمد والشكران ، وإنما تؤديه بدافع العقيدة ، لنفسك ، ولكرامتك الذاتية ! من يدرى كم من الكائنات البشرية من الشرق والغرب فى غياهب السجون ، فى المعتقلات الانفرادية ، مدفونين أحياء بسبب كرامتهم الذاتية ، ودون ارتقاب لأى شكر ؟!.. منهم أناس لا تعرف حتى أسماؤهم ، ولن تعرف أبداً ! أبطال مجهولون ، لا يشاد بهم ، وهم أيضاً متعطشون للشمس والسماء والحب ورفقة الناس ، مضطهدون كذلك ، محرومون من الفضاء والضياء ، معذبون أيضاً بزبانية من أمثال زاكاكيس ، يعاقبونهم بتجريدهم من الأحذية والسجائر والكتب والصحف والأقلام والورق ، ويصادرون قصائدهم الشعرية ، ويلبسونهم قمصان المجانين : هو مجنون ! هو مجنون ! " .
                لكن المثقف هو الحقيقى هو الذى يعمل دون أن ينتظر المقابل . وعلى الرغم من الإحباط الذى تملك الراوى فى رواية رفعت السعيد ، فإن المثقف ـ المهموم بمشكلات الوطن ـ لا ينتظر المقابل لما يبذله ، حتى لو كان تضحية جسدية .
                المثقف الحقيقى لديه رؤية نقدية للمجتمع الذى ينتمى إليه ، وللمجتمع الإنسانى الأوسع ، بحيث لا ينغلق على العالم ، ويأخذ من التجارب المتنوعة بلا عقد ولا حساسيات ، ومن منطلق الفهم والتفهم والثقة بالذات والقدرة على الفعل . لن يمارس المثقفون / الصفوة دورهم المطلوب ، ما لم يدركوا أن هذا الدور لصالح المجموع ، وليس ضد الحاكمين فى الوقت نفسه ، وكما يقول بولاك Polak فإن ما يؤدى إلى تقدم مجتمع ما ، هو الصور المستقبلية التى يكونها الصفوة من مواطنيه . فإذا تباينت المصالح بين الحاكم والمحكوم فإن قيمة المثقف فى ابتعاده عن السلطة الحاكمة بقدر اقترابه من مواطنيه المحكومين . دور المثقف الإيجابى ـ فى كل الأحوال ـ هو الإضافة والتطوير والتقدم . والحديث عن مشروع ثقافى عربى يبدو حلماً وردياً وصعب المنال ، ما لم تتحقق ديمقراطيات ـ أو حتى شبه ديمقراطيات ـ تتيح للثقافة الحقيقية أن تتنفس ، وتؤدى دورها المأمول لصالح الجماعة . وكما تقول أوريانا فالاتشى فإن الجناة الحقيقيين فى الأنظمة الديكتاتورية هم أولئك الذين يختفون خلف ستار من المسئولية " هم السادة الأجلاء الذين يستغلون أى إنسان ، ويبرزون دائماً إلى القمة ، مهما تكن نظم الحكم التى ترتقى إلى السلطة ، ومهما تكن نظم الحكم التى تهوى " . وقد دخل أبو نصر الطائى على سليمان بن عبد الملك ، فقال : تكلم يا أعرابى . قال : يا أمير المؤمنين ، إنى مكلمك بكلام ، فاحتمله ، وإن كرهته فإن وراءه ما تحب ، إن قبلته . قال : يا أعرابى ، إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ، ولا نأمن غشّه ، فكيف بمن نأمن غشّه ، ونرجو نصحه ؟. قال الأعرابى : يا أمير المؤمنين ، إنه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم ، واتبعوا دنياهم بدينهم ، ورضاك بسخط ربهم ، خافوك فى الله تعالى ، ولم يخافوا الله فيك ، حرب الآخرة ، سلم الدنيا ، فلا تأتمنهم على مائتمنك الله تعالى عليه ، فإنهم لم يألوا فى الأمانة تضييعاً ، وفى الأمة خسفاً وعسفاً ، وأنت مسئول عما اجترحوا ، وليسوا بمسئولين عما اجترحت ، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك ، فإن أعظم الناس غباء من باع آخرته بدنيا غيره . قال سليمان : يا أعرابى ، أما إنك قد سللت لسانك ، وهو أقطع سيفيك . قال الرجل : أجل يا أمير المؤمنين ، ولكن لك لا عليك . وفى مسرحية على أحمد باكثير " مأساة أوديب " يقول أوديب لترزياس : " لا تؤاخذنى بجريرة دبرها غيرى وأحكم تدبيره ، فلم يكن لى من الوقوع فيها بد . أتريد يا تزرياس أن تحمّلنى تبعة هذا الجرم الشنيع ، دون أولئك الذين دفعونى دفعاً إليه " .

                ***
                المثقف ـ فى رأى سارتر ـ ليس مسئولاً عن نفسه فحسب ، وإنما هو مسئول عن كل البشر . والإنسان الذى يرك قيمة الاختيار ، لا يستطيع الاّ أن يختار الخير ، والخير لا يكون كذلك الاّ إذا كان للجميع . المثقف قائد للجماعة ، والثوار بعض الجماعة التى يقودها بأفكاره . إنه يوجه ، وينصح ، ويحذر ، وبقدر وعى مواطنيه تأتى استجاباتهم لأقواله ، وهى استجابات تذكرنا بحديث الرسول ( ص ) الذى يطلب من الناس أن يغيّروا ما فسد ، بدءاً بالسيف ، وانتهاء بالقلب ، وهو أضعف الإيمان ..
                ولعل أخطر ما يعانيه المثقف هو الانفصام بين الفكر والفعل ، بين الرأى والمبادرة إلى نقيضه . الحكمة اليونانية تقول : " إذا أراد الله بقوم سوءاً ، جعل عشقهم الأول للسلطة السياسية " . وهذا هو المرض الذى يعانى تأثيراته معظم مثقفى الوطن العربى . السلطة شاغلهم ، وربما توسلوا إليها بمغازلتها ، بمداهنة الحاكم وتملقه ، ومعاونته ـ فى أحيان كثيرة ـ على القيام بأدوار سلبية فى حياة شعوبهم . وكما يقول بوردو ، فإن السلطة لا تحكم ولا تأمر إلا بمساعدة من تحكمهم ..
                إن المثقفين ـ فى تقدير ميشيل فوكو ـ طرف من السلطة ، مجرد كونهم عناصر وعى وخطاب يجعل منهم طرفاً فى لعبة السلطة . دور المثقف الحقيقى ـ المطلوب ـ هو النضال ضد أشكال السلطة . لكن المثقفين ـ فى أحيان كثيرة ـ يمثلون القوة الخفية ، الحقيقية ، فى مواقع السلطة . تبدو السلطة لملك أو سلطان أو رئيس جمهورية ، لكن السلطة الفعلية تظل فى أيديهم ، يمسكون بكل خيوط اللعبة ، ويتحول الحاكم إلى مجرد واجهة . يصفهم عبد النبى المتبولى فى " زهرة الصباح " : " لا أحد يعرف وظائفهم ، ولعلهم بلا وظائف محددة ، لكنهم أخطر من خاصة الملك " .
                لقد أظهر عبد الرحمن الجبرتى حيرته ، عندما قارن بين أى مملوك محسوب على الإسلام ، يقطع رقاب أخوته فى الدين ، دون جريرة حقيقية ، وبين قيادة الاحتلال الفرنسى التى حرصت على تقديم سليمان الحلبى إلى المحاكمة ، بعد أن قتل كليبر ، واعترف بما فعل . وانتدب له محام ، وأجريت المحاكمة فى العلن ، قبل أن يصدر الحكم بالإعدام ..
                فأى فارق ؟!

                ***
                الصفوة هى التى تمسك فى يدها بمقاليد الأمور فى المجتمع من خلال إمساكها بمقاليد الأمور فى مراكز البحث العلمى والجامعات ووسائل الإعلام ودور النشر واستديوهات السينما والمسارح . الصفوة هى القيادة الحقيقية للرأى العام ، هى التى تشير وتوجه وتؤثر وتحرك . أذكر قول توفيق الحكيم : " إن انقراض طائفة الخاصة التى تفكر بعقلها الممتاز ، وتقود الشعب ، وتبصّره وتنهضه وتهديه ، معناه زوال الرأس من جسم الأمة . هل رأيت جسماً يسير بلا رأس ؟! " .
                يطالب صلاح الدين حافظ " الصفوة " المثقفة ، أو " النخبة " بأن تجيب عن السؤال : أى مصر تريد ، وأية صورة تتخيل وتعمل من أجلها ، الآن ، وفى المستقبل ؟..
                هذا هو ـ فى تقدير صلاح الدين حافظ ـ دور النخبة المثقفة ، بدلاً من الدور الذى تتزاحم عليه الآن بتهالك شديد ونفاق قبيح ، طلباً لمنصب زائل ، أو طمعاً فى مال سائب " ، فهى " تعزف لحن الانهيار ، وترقص على أنغام الفرقة ، وتبيع المحرمات الوطنية والقومية فى سوق النخاسة بأبخس الأسعار " .
                أخطر الأمور حين تصبح الأحزاب والمؤسسات الدستورية مجرد واجهة ، كومبارس ، لحاكم فرد ، ديكتاتور ، يملى إرادته فلا راد لها ، ولا معقب على ما يصدر عنها من قرارات . وحسب التعبير الشائع ، فإن الطاعة تؤمن النظام . أما المقاومة فهى تؤمن الحرية .
                لقد ورثت أيام الاحتلال قوى " وطنية " ركبت الموجة ، أو أفادت من تاريخها النضالى فى الحصول على مكاسب طارئة ودائمة ، بصرف النظر عن عدم مشروعية الوسائل . خرج الوطن من سلطة الاحتلال الأجنبى ، ليقع فى قبضة سلطة أخرى ، تنتمى إلى الوطن نفسه ، باعتبار أن قادتها هم من أبناء الوطن ، لكن ممارسات هذه السلطة ـ فى الحقيقة ـ أشد قسوة من سلطة الاحتلال . وإذا كان عسف سلطة الاحتلال يسهم فى تجميع كل القوى سعياً لاستقلال الوطن ، فإن تفتت القوى الوطنية ما بين معارض لسلطة الحاكمين من أبناء الوطن ، ومؤيد لهذه السلطة ، يعنى ـ ببساطة ـ تفتت الوطن جميعاً ، غياب الوحدة التى يفرضها وجود محتل أجنبى ..

                ***
                الحكمة العربية تقول : " خير الأمراء الذين يأتون العلماء ، وشر العلماء الذين يأتون الأمراء " ..
                والحق أنه من الظلم للمثقف إهمال محاولات السلطة لاحتوائه ، إدماجه داخل جهازها الحكمى ، يتحول إلى مجرد حاشية ، بطانة ، بوق دعاية أو أداة تسلط ، يتحول ـ باختصار ـ إلى خصم مناوئ للجماعة ، وليس جزءاً منها ، ومتفاعلاً معها . دوره ـ ببساطة ـ يقتصر على تجميل الأحداث ، وليس المشاركة فى صنعها . تبرير الشرعية ، وليس الحكم عليها . أذكرك بدور بعض المثقفين فى من أوراق أبى الطيب المتنبى و النظر إلى أسفل و زهرة الصباح وقلعة الجبل وغيرها . كان دورهم أشبه بدور المحلل . والمعنى الذى أقصده ، دور المثقف فى وصل ما ينقطع بين السلطة والمواطنين ..
                من الصعب ـ على سبيل المثال ـ إغفال الدور السلبى الذى قامت به الصفوة العربية فى إسقاط تجربة دولة الوحدة . تغاضى مثقفو مصر وسوريا عن سلبيات القيادة فى الممارسة . لم يرتفع الصوت الشجاع بالنقد ، أو حتى بالملاحظة ، فبدأت عناكب التآمر ـ وهى محسوبة ـ للأسف ـ على الصفوة ـ فى نسج خيوطها ، حتى فاجأت القيادة والعالم العربى بتقويض التجربة . والطريف ـ والمؤسف ـ أنها احتفظت بعلم الوحدة ، وذرفت الدمع ـ فيما بعد ـ على ما واجهته التجربة الوحدية ، بل إن الوقفات تتجدد كل عام فى مناسبة إعلان قيام دولة الوحدة !

                ***
                إن ديمقراطية الانتخابات فى عالمنا العربى ، وفى معظم دول العالم الثالث ، تصطدم ـ غالباً ـ بثلاث عقبات :
                ـ غياب الوعى الجماهيرى ، وهو ما ينعكس على صندوق الانتخاب . فالأكثر شهرة أو تأثيراً مادياً أو اجتماعياً ، هو الأشد إمكانية فى الفوز بأصوات الناخبين ..
                ـ تزييف الانتخابات بواسطة الحكومة ، خاصة إذا كانت هذه الحكومة تابعة للحزب الحاكم ..
                ـ اللامبالاة الجماهيرية ، وبالذات ـ وللأسف ـ بين الفئات المثقفة ، وهو ما يتبدى فى عزوف أفرادها عن الإدلاء بأصواتهم ..
                وغالباً ، فإن الحاكم فى عالمنا العربى يأتى بالقوة المسلحة ، ولا يذهب إلاّ بالقوة المسلحة ، وقد اكتسبت قصة الجواتيمالى أوجستو مونتوسو " الديناصور " شهرتها كواحدة من أهم القصص القصيرة فى أمريكا اللاتينية فى القرن العشرين ، ليس لمجرد أنها أقصر قصة قصيرة فى العالم ، فهى لا تزيد عن جملة واحدة ، وإنما لأن الديناصور الذى استيقظ بطل القصة ، فوجده ممدداً إلى جانبه ، هو السلطة التى تحرص أن تظل فى موضعها . بالإضافة إلى ذلك ، فإن معظم الحكام العرب ذوو نزعة كارزمية ، بمعنى أنهم هبة أرسلتها العناية الإلهية لإنقاذ الأمة ، والصفات الخارقة التى يتحلون بها إنما تفجرت من نبع إلهى ..
                وقد أعلن أحمد بهاء الدين ـ يوماً ـ بصراحته الذكية ـ أنه كان أقل الصحفيين نفاقاً للسلطة الحاكمة ، فهو يدرك جيداً أن السلطة لن تظل صامتة ، مقابلاً للإصرار على مناقشة تصرفاتها ، فضلاً عن رفض تلك التصرفات . إنه قد يلجأ إلى وضع " الدسم فى العسل " ، يغلف الدواء بالقليل من السكر ، حتى يسهل على السلطة ابتلاع النصيحة !.. لكن أحمد بهاء الدين لم يكن يشغل ـ مع من يماثلونه فى الفهم ـ إلاّ حيزاً محدداً ومحدوداً . فثمة من رفضوا حتى إعلان رأس السلطة انه يرفض النفاق وأغنيات الإشادة به . اعتبروا رفض رأس السلطة نفاقاً للجماهير . وزادوا من إيقاع النفاق بما تعجز الكلمات عن وصفه !..

                ***
                إن الإبداع ـ بطبيعته ـ انحياز . فهو ينحاز إلى مبدأ ، أو إلى فكرة أو قضية ، والمبدع لابد أن ينحاز إلى مواطنيه ، وإلى الإنسان بعامة ، فى تعامله مع القيادات التى تحكمه . هذه بديهية لا تقتصر على شعبنا العربى وحده ، وإنما تشمل كل شعوب الدنيا فى علاقاتها بأنظمتها ..
                من هنا ، فإن تصور استمرارية الوفاق بين المبدع العربى ، والمثقف العربى عموماً ، وبين السلطة ، هو ضرب من التمنى المستحيل ، لأن المثقف يطلب المطلق فى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والرفاهية لكل المواطنين . أما السلطة ، فإنها تضع القوانين والقواعد التى ترى أنها لازمة للحفاظ على كيان المجتمع . وتصور العلاقة المثلى بين المثقف العربى والسلطة فى المستقبل ، يجب أن يستند إلى الموضوعية ما أمكن ، بحيث يدرك كل طرف طبيعة هذه العلاقة منذ تشكلت بين حاكم ومحكوم ، وبحيث ينشأ الفهم والتفهم ، ومحاولة الاقتراب ، والسعى إلى الغاية المشتركة ، وهى صالح الوطن والمواطن ..
                إن علاقة المثقف والسلطة يحكمها ـ فى الأغلب ـ الشك والتوجس وعدم الثقة . وهى نظرة متبادلة بالطبع . فإذا أسرفت العلاقة فى اتجاهها السلبى ، ربما خضعت للعداء والعنف من كلا الطرفين كذلك !
                ومن المؤكد أن الثمن لا يدفعه الحاكم وحده ، ولا المثقف فحسب ، وإنما يدفعه المواطن العادى فى كل الأحوال . بل إن الثمن الذى يدفعه المواطن العادى يكون ـ بالضرورة ـ أكثر فداحة على المستوى الاقتصادى فى أقل تقدير .
                المصيبة أن المثقف يتحول بصورة مأساوية إذا التحم بالسلطة ، إذا أصبح قيادياً فى السلطة ، رئيساً أو وزيراً ، أو مسئولاً على أى مستوى . وكما تقول إيزابيل الليندى ، فإن المشكلة فى الثوريين هى أنهم ـ بعد نجاحهم ـ يصبحون متصلبين ، ومن ثم يصبحون هم السلطة . وعند ذلك نواجه المشكلة نفسها مع السلطة " .
                ولعله يجدر بنا أن نشير إلى أن المثقفين الذين اقتربوا من السلطة ـ على نحو أو آخر ـ فى امتداد تاريخنا العربى ، قد واجهوا محناً كانوا فى غنى عنها ، لو أنهم أدركوا التباس العلاقة بين السلطة وبينهم ، وأن الإطار الذى ينبغى أن تصدر ـ من خلاله ـ آراؤهم ، هو الإعجاب بقرارات صدرت فلا شأن له بها ، وتبريرها ، وليس إبداء الملاحظات مهما تسربلت بالرقة . ونتذكر المئات ، بداية من ابن خلدون وانتهاء بمحمد مزالى [ الظاهرة عربية ، والجنسية التونسية مجرد مصادفة ! ]
                إن حق المثقف ، وواجبه ـ ومسئوليته فى كل الأحيان ـ أن يرفض ما يراه خطأ ، ويقاومه ، فلا يلجأ إلى إيثار السلامة ، حتى لو أخذ صورة تصفية الذات . وهو ما فعله سقراط ، وأدانه عليه نيتشة عندما خضع لقهر الدولة ، فتجرع كأس السلم ، وأنهى حياته ليظل ـ بعد موته ـ مواطناً صالحاً .

                ***
                تبقى حقيقة يجدر بى تأكيدها : ثمة فارق بين السلطة والتسلط . وممارسات الحكام العرب فى أمور بلادهم هى مجرد تسلط ، من مظاهره القهر والسعى إلى المصالح الفردية والمحسوبية . الصوت الوحيد الذى يستطيع أن يسمعه الخطاب السلطوى / التسلطى هو صوت القوة ، وعندما يسمع هذا الصوت فى النهاية ، فإن صوت السلطة يلوذ بالصمت . قد تفلح السلطة فى السيطرة على المثقف ، بالترغيب الذى يتطلع إلى المظهرية ، ووجاهة الادعاء بأنه ينتمى إلى قبيلة المثقفين بكل ما لديها من تأثير على المواطن العادى . وقد تفلح السلطة فى السيطرة على المثقف بالترهيب الذى يصل إلى حد التصفية الجسدية ..
                ولأن السلطة حين تصاب بالرعب فإنها تتبنى الرعب ، فإن على المثقف أن يصمد ، وأن يناضل . أذكرك بمقولة غاندى " أفضل للإنسان أن يناضل بدلاً من أن يخاف " ..

                أدب ونقد ـ إبريل 2001 بإضافات

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  عضو أساسي
                  • 14-10-2007
                  • 867

                  #23
                  الصحافة .. والأدب

                  " ليتنى أجعلك تحب الكتب أكثر مما تحب أمك ، وليت فى استطاعتى أن أظهر جمالها أمام وجهك ، فالكتابة أعظم حرفة فى الوجود "
                  من تعاليم الحكيم الفرعونى خيتى داووف


                  ـ 1 ـ
                  ربما اعتبر بعض الأدباء من الصحفيين وصف أساليبهم بأنها صحفية ، نوعاً من تهوين القيمة الأدبية . والحق أن همنجواى كان يعتز بهذه الصفة ، فأسلوبه بسيط . وكان يعتز بأنه تعلم من الصحافة : الموضوعية ، والإيجاز ، والوضوح . مع ذلك ، فإن قارئ الأدب يختلف عن قارئ الجريدة . قارئ القصيدة والقصة والرواية يختلف عن قارئ الحادثة والتحقيق الصحفى . وإذا كان قارئ الأدب يقرأ ـ غالباً ـ معظم ما تحويه الجريدة من مواد ، فإن قارئ الجريدة يكتفى بالنظرة العابرة إلى المواد الأدبية ، أو لا يلتفت إليها .
                  سئل أرسكين كالدويل : هل العمل فى الصحافة يساعد أو يعوق كتابة القصة القصيرة ؟..
                  أجاب : لا أعرف شخصاً واحداً أضرّ به التمرين على الكتابة من أى نوع . ان الصحافة ، فضلاً عن أنها تفيد فى التمرين الدائب على الكتابة ، فإنها تساعد أيضاً على تكوين عادة الكتابة كل يوم . إن انتظار الوحى عذر قلّما تجده لدى المؤلفين الذين تمرّسوا بالصحافة .
                  وحتى الآن ، فإن جارثيا ماركيث يحرص على العمل فى الصحافة ، ذلك لأن الصحافة ـ فى تقديره ـ تحميه ، وتحرسه ، وتجعله متصلاً بالعالم الحقيقى . كانت الخبرات الصحفية ـ باعتراف ماركيث ـ وراء العديد من أعماله الروائية ، مثل قصة غريق ، حكاية موت معلن ، نبأ اختطاف . بل إن رائعته خريف البطريرك استلهمها من تغطيته لوقائع محاكمة شعبية لجنرال أمريكى لاتينى اتهم فى جرائم حرب ..
                  تمنيت ـ منذ الصبا ـ أن تقتصر حياتى على كتابة القصة . لا تشغلنى شواغل أخرى من أى نوع . لكن الأمنية ظلت فى إطارها لم تجاوزه . لابد ـ لكى أكتب ـ أن آكل وأقرأ وأسكن فى شقة ، وأمتلك قلماً وورقاً ، ولابد ـ لتحقيق ذلك كله ـ أن أحصل على مال ، وحتى أحصل على مال ، فإنه يجب أن أعمل . وكان وقت العمل ـ الذى لم أحبه دائماً ـ هو المتهم دوماً فى السطو على الوقت الذى تمنيت أن يكون خالصاً للإبداع .
                  تبلورت خططى القريبة فى ضرورة أن أظل فى عملى بالصحافة ، باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية ، وأن أحصل منها على مورد يتيح لى تلبية احتياجات العيش ، فلا أنشغل بأعمال أخرى تنتسب إلى الكتابة ، لكنها قد تصرفنى عن القراءة والكتابة ، وأن ألزم نفسى بنظام صارم ـ مثلى فيه أستاذنا نجيب محفوظ ـ يحرص على الجهد والوقت . وأخيراً ، أن يكون لى بيت زوجية ، فلا تواجه مشاعرى العاطفية ولا الحسية ما يمكن أن أسميه بالتسيب . وهو الأمر الذى كاد يضيع مستقبلى جميعاً ، فى الفترة القصيرة التى أمضيتها فى بنسيون شارع فهمى ، أول قدومى إلى القاهرة . وهو ما سأحدثك عنه فى أوراق أخرى ..
                  أذكر أنى مارست فى العمل الصحفى جميع أنواع الكتابة . كتبت الخبر والتحقيق والمقال والدراسة . أهب كل نوع ما يحتاجه من مفردات لغوية وصياغة وتقنية ، باعتبار القارئ الذى أتجه إليه فيما أكتب . وبالتأكيد ، فإن قارئ التحقيق الصحفى يختلف عن كاتب المقال الأدبى ، واللغة القصصية تختلف عن لغة الصحافة . أتاحت لى الصحافة أن أكتب فى كل الظروف ، لا أطلب الإضاءة الباهرة ، أو الخافتة ، ولا الموسيقا الخافتة ، وعلمتنى إلقاء الأسئلة ، واتصال التقليب فى المصادر والمراجع ، وإهمال التعبيرات التى لا معنى لها ، ومخاطبة قراء ينتمون إلى مستويات ثقافية مختلفة . كما يسّرت لى الصحافة سبل اقتناء الكتب التى تعجز مواردى عن شرائها جميعاً . فأنا أكتب فى صفحة أدبية . فى هذه الصفحة باب للكتب ، فأنا أكتب عن كل كتاب يهديه صاحبه ـ أو ناشره ـ للجريدة ، ثم أحتفظ به لنفسى ، وفى بريدى اليومى نصوص أدبية ما بين شعر وقصة ودراسات ، تطلب النشر فى الجريدة ، وهو ما يجعلنى فى حالة تواصل مع الكتابات الجديدة . وأتاحت لى الصحافة مجالات ربما لم أكن أستطيع أن أقترب منها فى الوظيفة العادية . سافرت إلى مدن وقرى داخل مصر وخارجها ، والتقيت بشخصيات تمتد من قاعدة الهرم الاجتماعى إلى قمته ، وبثقافات متباينة ، وإن لم يتح لى عملى فى الصحافة امتيازاً من أى نوع . كانت جيرتى للشيخ بيصار شيخ الأزهر الأسبق ، ولوزير سابق لا أذكر اسمه ، مبعث اعتزازى بأنى أجاور ناساً مهمين فى غياب أصدقاء من السلطة . وحتى لا أبدو فى موضع سىء الحظ ، فإنى أعترف بحرصى على الوقوف فى الطابور ، فضلاً عن عدم ميلى إلى مصادقة السلطة ، حتى لو تمثلت فى اكتفائى باجترار صداقات أتيح لطرفها المقابل بلوغ مراكز متفوقة فى السلطة . وكان عملى الصحفى ، الحياة فى الصحافة ، الأحداث والشخصيات التى تعرفت ـ بواسطتها ـ إليها ، وراء العديد من أعمالى الروائية ، بداية من الأسوار ـ روايتى الأولى ـ وانتهاء بزوينة ، مروراً بالنظر إلى أسفل وبوح الأسرار والخليج وغيرها . بل إن الصحفى هو الشخصية الرئيسة فى هذه الأعمال ..


                  ـ 2 ـ
                  قد ترضى الصحافة بالكاتب قاصاً أو روائياً أو شاعراً فى بعض الأحيان ، لكنها تريده صحفياً فى كل الأحيان . إنها تريده كاتب مقال أو تحقيق أو خبر إلخ .. مما يتفق مع وطبيعة العمل الصحفى الذى يعد الأدب ـ فى تقدير القيادات الصحفية ـ جزءاً هامشياً فيه . أصارحك بأنى نشرت روايتى " قلعة الجبل " فى الجريدة التى أعمل بها . نقلت المسودات على الآلة الكاتبة ، وصورتها ، ونشرتها فى جريدتى ، فلم أتقاض فى ذلك كله مليماً واحداً ، فى حين أن الزميل الذى يسبق الآخرين بخبر فى بضعة أسطر ، يتقاضى مكافأة تبلغ عشرات الجنيهات !.. انعكاساً واضحاً ، ومفزعاً ، للنظرة إلى العمل الأدبى ، قيمته ضمن مواد العمل الصحفى ..
                  وكما يقول كونديرا ، فإن التفكير الصحفى تفكير سريع ، ولا يسمح بالتفكير الحقيقى . كما أن تصوره للعالم فى غاية التبسيط .
                  أما تشيخوف ـ الذى عمل بالكتابة الصحفية زمناً ، فهو يقول : " أن يكون المرء صحفياً ، معناه على أحسن تقدير أن يكون وغداً " . وقيل إن الصحفى يكتب للنسيان ، أما الأديب فيكتب للذكرى .


                  ـ 3 ـ
                  الفن ـ الرواية والقصة على وجه التحديد ـ عالمى الذى أوثره بكل الود . أتمنى أن أخلص لهما ـ تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع ـ دون أن تشغلنى اهتمامات مغايرة . لكن الإبداع فى بلادنا لا يؤكل عيشاً . ربما أتاحت رواية وحيدة فى الغرب لكاتبها أن يقضى بقية حياته " مستوراً " ، أن يسافر ويعايش ويتأمل ويقرأ ويخلو إلى قلمه وأوراقه دون خشية من الغد ، وما يضمره من احتمالات ، لكن المقابل المحدد والمحدود الذى يتقاضاه المبدع فى بلادنا ثمنا لعمله الأدبى يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة !.. من هنا كان اختيارى ـ الأدق : لجوئى ـ إلى الصحافة ، فهى الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته ، وهمومه أيضاً .
                  كانت قيمة الخبر ـ أذكرك بأن الفترة هى مطالع الستينيات ـ خمسة قروش . أما التحقيق أو الحوار فيصل إلى خمسين قرشاً . تسجّل المواد المنشورة فى دفاتر ضخمة ، أشبه بدفاتر الصادر والوارد ، وتجمع فى نهاية كل شهر ، ليتقرر ـ من مجموعها ـ مبلغ المكافأة الذى يتقاضاه كل محرر . وكان يتولى عبء التسجيل فى " الجمهورية " الزميل الراحل جلال السيد . أما كمال الجويلى فى " المساء " فإنه كان يسجل المواد المنشورة يوماً ، ويهمل التسجيل أياماً . ويعتمد فى نهاية كل شهر على تقديره الشخصى ، وكان على الدوام تقديراً متسامحاً وسخياً ..
                  ومع أن من لا حقوق له ، لا مسئوليات عليه ، فإنى تحملت الكثير من المسئوليات دون أن أتمتع بحق واحد !
                  كنت أعمل بنصيحة أرسكين كالدويل : " ليس كل الكتاب الذين تنشر أعمالهم محترفين . أعمال كثيرة جيدة كتبها كتّاب تحيط بهم ظروف قاسية ، كالعمل البيتى كل يوم ، أو الذهاب إلى العمل خمسة أو ستة أيام فى الأسبوع . الكتابة ، كهواية جمع الطوابع أو الصيد ، من الممكن أن تكون هواية ممتعة ، وقليل من جامعى الطوابع أو هواة الصيد يتركون أعمالهم "
                  ومع تحفظى على " الصورة " فإنى أوافق على المعنى . فليست الكتابة مجرد هواية ممتعة كجمع الطوابع أو الصيد . إنها أمر يجاوز ذلك تماماً فى أهميته وخطورته ..
                  كنت أتذكر المازنى العظيم وهو يجد فى كل ما يصادفه مادة صحفية ، بينما الفن ـ وحده ـ شاغله . كتبت فيما أعرفه ، واستعنت بالقراءة ومحاولة الفهم والاقتراب المباشر فى ما لم أكن أعرفه ، ووجدت فى حياتى الصحفية ـ أحياناً ـ ما يغرى بعمل أدبى ـ روايتى " الأسوار " ـ مثلاً ـ وروايتى " بوح الأسرار " لكن الأدب ـ على الرغم منى ـ ظل تزجية فراغ . أحاول الكتابة إذا وجدت فى أسوار الصحافة منفذاً ..
                  أذكر كذلك قول المازنى لأحد الأدباء الذين عابوا عليه وفرة كتاباته : " ستقول إن المازنى كان بالأمس خيراً منه اليوم ، وإنه ترك زمرة الأدباء ، وانضم الى زمرة الصحفيين ، وإنه يكتب فى كل مكان ، ويكتب فى كل شئ ، حتى أصبح تاجر مقالات ، تهمّه ملاحقة السوق أكثر مما تهمّه جودة البضاعة .. أليس كذلك ؟.. ولكن لا تنس أن الأديب فى بلدكم مجبر على أن يسلك هذا السبيل ليكسب عيشه وعيش أولاده ، وليستطيع أن يحيا حياة كريمة تشعره بأنه انسان " ( الرسالة ـ العدد 842 ) .
                  لذلك منيت النفس وأنا أرحب ـ متحسراً ـ بالسفر إلى سلطنة عمان للإشراف على إصدار جريدة أسبوعية ـ تحولت إلى يومية فيما بعد ـ بأن أدّخر فى الغربة ما يعيننى على الإخلاص للفن وحده ، لكن الأمنية ظلت فى إطارها ، لا تجاوزه . وكان لابد أن أكتب فى موضوعات تقترب من الفن أو تبعد عنه . وحتى لا أفقد ذاتى فى سراديب مجهولة النهاية ، فقد فضلت أن تكون محاولاتى أقرب إلى ما يشغلنى فى الفن ، وفى الحياة عموماً . وبصوت هامس ما أمكن فإن مصر ـ الموطن واللحظة والماضى والمستقبل ـ هى الشخصية الأهم فى كل محاولاتى الإبداعية . ذلك ما أحرص عليه ، وما لاحظه حتى القارئ العادى . تعمدت أن تكون مصر : تاريخها ، وطبيعتها ، وناسها ، ومعاناتها ، وطموحاتها ، نبض كتاباتى جميعاً . ما اتصل منها بالصحافة ، وما لم يتصل ، ما اقترب من الأدب وما لم يقترب . وكانت حصيلة ذلك كله ـ كما تعرف ـ عشرات الدراسات والمقالات التى تتناول شئوناً وشجوناً مصرية بدءاً من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " مروراً بـ " مصر من يريدها بسوء " و " قراءة فى شخصيات مصرية " و " مصر المكان " إلخ .. وانتهاء بما قد يسعفنى العمر بإنجازه


                  ـ 4 ـ
                  أذكر السؤال الذى وجهه أحد تلامذة ريلكه إليه . قال التلميذ : ماذا يمثل الفن لديك ؟.. قال ريلكه : قم من نومك ليلاً ، والق على نفسك السؤال : هل إذا حجبت عنى فرصة الإبداع أموت ؟.. فإذا جاءت الإجابة نعم ، اعلم أنه ليس أمامك إلاّ السير فى طريق الفن ، ولا تعبأ بشئ !..
                  وقد أعلن بيكسيريكور ( 1773 ـ 1844 ) يوماً " إنما أكتب لمن لا يقرأون " ، ذلك لأن ميلودراماته الفاقعة كانت تهدف إلى مخاطبة نوعيات تكتفى بالمشاهدة ، ولا تقرأ . أما أنا فقد كنت موقنا بأنى أكتب لغير أحد على الإطلاق .. فجريدتى كانت بلا قارئ . حتى الآلاف الذين كانت تسجلهم أرقام مبيعاتها لم يكنوا قراء منتظمين . كانوا " طيارى " ينادون على بائع الصحف إذا صعد إلى الأوتوبيس أو الترام أو المترو ، أو إذا دفع بالجريدة من نافذة السيارة .. ولكن هؤلاء القراء لم يكونوا يشعرون بغياب " المساء " إن لم ينشره البائع أمام أعينهم !.. تلك كانت مشكلة " المساء " . جريدة بلا قارئ . ومع هذا ، فقد ظللت أعانى ـ لأعوام ـ قلة فرص النشر فيها !..


                  ـ 5 ـ
                  ذلك الوضع الغريب الذى يجعل من الصحافة تابعة ، فهى لابد أن تصدر بتصريح ، وأن يصدرها أحد الأحزاب القائمة ، أو من خلال شركة مساهمة وفق قواعد تصعّب الأمور ، إلى حد الاستحالة ، أو تحصل على ترخيص من خارج مصر ، فهى تعامل معاملة الصحف الأدنبية ، وقد لا يسمح لها بدخول البلاد ..
                  كان عام 1951 أزهى الأعوام فى تاريخ الصحافة المصرية ، حين صدر العديد من الصحف التى تعبر عن وجهات نظر متباينة ، وتخاطب القراء فى اهتماماتهم ومستوياتهم الثقافية . ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلى أفكار وكتابات ومطبعة ..
                  الإعلام فى توجهاته الصحيحة يحمل الثقافة إلى المجتمع الذى يخاطبه . هذه نقطة اشتباك مهمة ، وضرورية ..
                  فإذا تحولت الصحافة إلى نشرات دعائية أو مبتزة ، فإنها تتحول إلى شئ لا صلة له بالثقافة ، إنما هى أقرب إلى أنشطة المافيا التى يبرأ منها المثقف والإنسان العادى فى آن ..
                  المفروض أن العاملين فى الصحافة هم من المثقفين . لذلك فإنى أتصور أنه لو حدث توتر من أى نوع ، فسيكون بين الصحافة التى يحررها مثقفون ـ وبين السلطة . ولأن الثقافة سلوك وليست مجرد معرفة ، فإنى لا أعتبر هؤلاء الذين لا يعبّرون عن الضمير الجمعى للوطن الذى يحيون فيه . وأرجو أن يكون المعنى واضحاً ..
                  إن محررى الصحف هم من المثقفين . وإذا كان البعض قد انشغل بقضايا لا تهم الجماعة المصرية ، فذلك استثناء وليس قاعدة ..
                  أنا لا أتصور أن الممارسة الاستبدادية تأتى من المثقفين ضد أنفسهم فى الصحف التى يتولون تحريرها ..
                  والحق أن الصحافة بالنسبة لمجتمعات العالم الثالث ـ ونحن ننتمى إليه ـ تستطيع ـ بل يجدر بها ـ أداء دور تثقيفى مهم فى ظل ارتفاع أسعار الكتاب ، وتدنى مبيعاته بالتالى ، وغلبة التفاهة على برامج الإعلام .. لكن الجوقة الإعلامية ـ فيما أرى ـ تقوّض الأسهل . وإذا كانت السينما ترفع شعار الجمهور عاوز كده ، فإنى أخشى أن هذا هو شعار الإعلام أيضاً .. ولا يخفى أن الكثير من صحفنا تلعب على الثالوث المثير : الدين ، الجنس ، السياسة ، باعتباره الوسيلة المؤكدة لتحقيق أفضل توزيع ..


                  ـ 6 ـ
                  ثمة عوامل قد تحول بين الصحافة الأدبية ، والدور الذى ينبغى أن تنهض به .. فهى لابد أن تراعى الغالبية من قرائها ، بالاقتصار على مقالات التعريف النقدى ، القليلة الصفحات ، أو القليلة الأسطر ، وعلى التحقيقات الساخنة وأخبار الأدب والأدباء ..
                  وبالنسبة للصحف المتخصصة ، فعددها أقل من أن يستوعب الحركة الثقافية فى بلادنا ، بكل ما فيها من مواهب إبداعية ونقدية ودراسات للإنسانيات المختلفة ـ بارك الله فى مسئولى النشر الذين تدين لهم حياتنا الثقافية بفضل الإيقاف المتواصل لكل المجلات المتخصصة .. وليرحم الله الفكر المعاصر وعالم الكتاب والمجلة والكاتب وتراث الإنسانية ، ومجلات أخرى كثيرة تعجز الذاكرة عن حصرها ..


                  ـ 7 ـ
                  الشللية !.. الشللية !.. الشللية !..
                  إنها المرض الذى استفحل فى حياتنا الأدبية فى الأعوام الأخيرة . أنت تنشر لى ، وأنا أنشر لك .. أنت تكتب عنى ، وأنا أكتب عنك .. لا يهم المستوى ، ولا الحصول على فرص فى النشر وفى التقويم النقدى ربما سواه أجدر بها منه . المهم هو تبادل المنافع والمصالح المشتركة والتربيط وجبر الخواطر . وللأسف ، فإن العدوى قد شملت مؤسسات ثقافية عديدة ، ومنها الجامعات ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية .. وليرحمنا الله !..


                  ـ 8 ـ
                  الآن ، فإنى أنظر ورائى أحياناً ـ وأسأل نفسى : كيف استطعت أن أحيا ، ولا أفقد نفسى خلال أعوام طويلة قضيتها فى تلك الغابة الجميلة القاسية المتوحشة المسمّاة : الحياة الصحفية ؟!.. كيف استطعت الحفاظ على تماسكى ومثلى العليا ؟.. كيف أفلحت فى الابتعاد عن المعارك الشريرة ، والإفلات بخسائر ـ أحمد الله أنها لم تكن فادحة ـ من " الزنب " و " المهاميز " والمؤامرات التى لا تنتهى ؟
                  ............

                  2002

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    عضو أساسي
                    • 14-10-2007
                    • 867

                    #24
                    الواقــع .. والخيال


                    " الخيال .. ياله من شئ عجيب "

                    بركن فى رواية " الطريق الملكى " لمالرو

                    " إن أعظم مايمتلكه الإنسان هو الخيال "

                    بورخس

                    تعد مشكلة الفن والواقع قديمة متجددة ، سبق إلى تناولها ليسنج وديدرو وبيلينسكى وغيرهم ، وما تزال تجد اهتماماً لافتاً عند النقاد المعاصرين ..
                    يجيب جيورجى جاتشيف على السؤال : ما الفن ؟ أهو تفكير فنى ، أو معرفة ، أم هو نشاط وإنتاج ؟.. يجيب بالقول : " إن جوهر المسألة كلها يكمن فى أن الفن يحوى فى ذاته هذين الشكلين من أشكال الوجود الإنسانى فى وقت واحد ، ولكن من البديهى أن الفن ـ فى مختلف مراحل تطوره ، وفى شتى أنواعه وأجناسه ـ يعطى المقام الأول لجانبه التربوى التغييرى تارة ، ولجانبه المعرفى الانعكاسى تارة أخرى " .. الفن يقدم للناس مرآة يستطيعون بواسطتها أن يروا أنفسهم فى الآخرين ، والآخرين فى أنفسهم ( ت . نوفل نيوف ) . ويقول أرنولد كيتل : " إن لب أية رواية هو ما تقوله عن الحياة " ، أو أنه " خلاصة رؤيته لما يحاول معالجته من الحياة " ( ت . لطيفة عاشور )
                    مع أن الفن ـ على حد تعبير جاتشيف ـ لا يحتاج للاعتراف بمواده على أنها واقع ، فإن القارئ ـ فى العمل الإبداعى ـ يتوقع صورة للحياة ، أن يكون العمل مطابقاً للواقع ، والمبدع ـ فى المقابل ـ مطالب بأن يهب القارئ ما يمكن تسميته بالإيهام بالواقع . وكما يقول الأسبانى ثونثو نيغى فلكى تكون روائياً ، فإن عليك امتلاك القدرة على التخيل " . ويضيف كونراد إن حرية الخيال يجب أن تكون أقرب ما يملكه الفنان إلى نفسه . واللافت أن جائزة بلانتيا الأسبانية تعنى بالجانب الخيالى فى الإبداع ..
                    إن الصدق الفنى لا يعنى النقل من الواقع ، فالخيال يضيف ويحذف ويقتطع ويشوه ، ليهبنا فى النهاية ما وراء الحقائق الظاهرة . الإبداع يهبنا الواقع ، لكنه ـ بقدر تميزه ـ يشعرنا أن ما قرأناه هو الواقع . وبتعبير آخر ، فإن الإبداع يضاهى الواقع ، وإن لم يكن هو الواقع . عناصر الخيال ليست ـ بالتأكيد ـ عناصر الواقع ، وعالم الفن ـ مهما يسرف فى استلهام الواقع ـ ينتمى ـ فى الدرجة الأولى ـ إلى الخيال . ثمة فارق بين الحقيقى فى الحياة ، والحقيقى فى الأدب . الكتابة لا تنقل الواقع بحذافيره ، بقدر ما تنقل اختيارها ، القسمات والملامح والأماكن والشخصيات والأحداث التى تجسد العمل الإبداعى وتثريه وتضيف عليه ، واقعها الخاص بها . الواقع الحياتى تصنعه الأقدار ، أو المصادفة . أما الواقع الفنى فهو ينتقى ويختار ما يتطلبه العمل الإبداعى ، دون زيادات ولا نتوءات ولا إضافة غير مبررة ، أو حذف غير مبرر . العمل الأدبى ليس هو الواقع ، ليس تقليداً ولا محاكاة للواقع ، وإنما هو إعادة صياغة للواقع ، وبتعبير أشد تحديداً هو خلق واقع جديد . أوافق جمال الدين بن الشيخ على أن " الواقعية لا تعنى أن يحاكى أثر أدبى ما ، الواقعى ، بل تعنى أن يصيّره " ( ت : محمد برادة وآخرين ) . الفنان الفنان هو الذى يستطيع تحويل الأشياء العادية ، الأحداث اليومية التافهة ، المشاهد التى نعبرها ، الثرثرات الحياتية البسيطة .. الفنان الفنان هو الذى يستطيع أن يخلق من ذلك كله إبداعاً حقيقياً . الفنان الفنان هو الذى يعتمد على موهبته ، وليس على المادة التى يطوعّها لعمله الإبداعى ، هو الذى يحيل الواقعة التافهة عملاً ينبض بالحيوية والفنية العالية . الفنان الفنان هو الذى يلتقط أية مادة ـ مهما تكن تافهة ـ فيحيلها إبداعاً يستحق القراءة ..
                    مع ذلك ، فإنى أرفض أن يعتمد الفنان على موهبته ليغطى مادة تافهة . وكما يقول جوجول " كلما كان الشئ عاديا ، تطلّب من الكاتب موهبة أكبر ليستخرج منه غير العادى . أما باتوه Batteux [ 1713 ـ 1780 ] فهو يذهب إلى أن ما يجب محاكاته ليس حقيقة ما هو موجود ، بل حقيقة ما يمكن أن يوجد . أذكر أيضاً قول موريس باريس إن الفن هو " أن تنصت إلى ذاتك ، وأن تعبر بالتصوير ، أو القلم ، أو الموسيقا ، عما يضوع فى أعماقك . أما القديم والجديد فلا أدرى ماذا يعنيان " ..

                    ***
                    قيمة الخيال أنه حر . يحلق ، ويهبط ، ويسير ، ويقيم العلاقات ، ويصادق الإنس والجان والحيوان والطير ومخلوقات البحر ، ويتحدى المستحيل . إن حركته بلا آفاق ، بلا سدود من أى نوع . ما يبدو مناقضاً للواقع هو فى الخيال غير ذلك . هو واقع يتقبله المتلقى ، ويتفاعل معه ، ويحاوره ، ويستكنه منه الدلالات . بل إن التكنولوجيا ـ مهما تتقدم معطياتها ـ لن تجعل من كل خيال حقيقة ، ولا جميع أشكال اليوتوبيا ممكنة الحدوث . معنى ذلك ـ كما يقول الأسبانى كونكيرو ـ أن العالم سيوصد أمام صوت الخيال ، مما يفقده إلهامه ، فيظل جاهلاً بسحر الأشياء . حتى أينشتاين يؤكد فى كلمات حاسمة إن الخيال أهم من العلم .
                    ظللت أحلم ـ وأتمنى ـ أن أكتب حكايات مشابهة لما كنت أستمع إليه من جدى وأمى ، ولا زلت أذكر معجزة الإسراء والمعراج كما قرأتها فى مجلة " الإسلام " التى كانت تضمها مكتبة أبى ، وأغنية أم كلثوم عن النيل ، من شعر شوقى وموسيقا السنباطى . كان الخيال يذهب بى إلى جزر بعيدة ، مأهولة بالسحر والفانتازيا والأسطورة . العفاريت والساحرات والجنيات والمعجزات والشياطين والنفوس التى تسعى لتبين عالم الغيب وطلاسم الآفاق التى تغلفها الضبابية . ولازلت أذكر حكايات جدى وأمى عن الرجل الذى " حمل " فى سمانة رجله ، والست ستنا اللى قصرها أعلى من قصرنا ، ومطالبتها بعنقود عنب لشفاء مريضنا الذى يعانى داء عضالاً ، وحكايات صندوق الدنيا المرافقة لتوالى الصور الثابتة .. ثم أطلقت العنان للخيال فى إمام آخر الزمان وما تلاها من إبداعات وظفت التراث ..

                    ***
                    كان يقين أينشتين أن الخيال أهم من العلم ، ومن قبله قال فيكتور هوجو إن الخيال هو العبقرية . ويعتبر إنريكى أندرسون إمبرت الأدب " أحد أنماط الخيال الإبداعى " ( ت . على إبراهيم منوفى ) . وثمة من يعتبر الرواية " قصة خيالية ، نثرية ، ذات اتساع معين " . بل إن الأدب هو الخيال فى تقدير البعض ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية 9 ) . وكما يقول المفكر الأسبانى خوسيه أورتيجا جاسيت Jose OrtegaYgasset : " إننا مهما بذلنا من جهد مضن فى معرفة الواقع بشكل موضوعى . لم نفعل شيئاً إلاّ أننا تخيلناه " . ويقول ألفونسو رييس Alfonso Reyes : " الأمر هو خيال لغوى يعبر عنه خيال عقلى ، خيال فى خيال : ذلك هو الأدب " . لكن الأعمال التى أستلهمها من الخيال يصعب إلا أن أضمّنها وقائع من سيرتى الذاتية ، ومن خبرات الآخرين ، ومن العصر الذى أحياه . العالم الإبداعى ـ قصة أو رواية أو أجناس أدبية أخرى ـ فيه الكثير من الخيال ، والكثير من الواقع أيضاً . يصعب أن يكون العمل الإبداعى خيالاً مطلقاً ، ويصعب كذلك أن يكون واقعاً مطلقاً . قد يتغلب الخيال ، أو يكتفى الفنان برصد الواقع . لكن الخيال يتدخل بصورة وبأخرى ، ربما لاعتبارات الفن فى ذاتها . ولعلى أضيف أن النظر إلى السيرة الذاتية باعتبارها كذلك ، لا يخلو من مثالية ، فالخيال قد يكون واضحاً ، أو مستتراً ، لكنه هناك ، وهو موجود فى كل الأحوال . وعلى حد تعبير همنجواى فإنه من الطبيعى أن يكون أفضل الكتاب كذابين ، جزء كبير من حرفتهم أن يكذبوا ، أن يخترعوا . إنه كثيراً ما يكذبون دون وعى ، ثم ـ فيما بعد ـ يتذكرون كذبهم بندم شديد . لكن الخطأ ـ فى تقديرى ـ فى تصور أن الخطأ هو الزيف ، أو الاختلاق ، أو انعدام الحقيقة ..
                    العمل الأدبى عمل محاكاة بالمعنى الموسع . إنه يحاكى فعلاً ، وأيضاً يحاكى موقعاً متخيلاً . عالم الخيال الأدبى ـ كما يقول إنريكى أندرسون ـ هو العالم الوحيد الذى يمكن أن نقول عن الراوى فيه إنه قادر على معرفة كل شئ " ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 80 ) . ويقول هنرى جيمس : " إن بيت العمل الخيالى ليس له نافذة واحدة ، بل مليون نافذة ، وعدد لا حصر له من النوافذ الممكنة " ( ت . حامد أبو احمد ) .
                    (يتبع)

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      عضو أساسي
                      • 14-10-2007
                      • 867

                      #25
                      يضيف كيتس : " إننى أشعر كل يوم أكثر فأكثر ، عندما يقوى خيالى ، أننى لا أعيش فى هذا العالم وحده ، وإنما فى ألوف من العوالم " . ويقول ميشيل فوكو : " إن العملية الإبداعية تولّد الخيال ، وترتبط به بطريقة مركّبة ، فهى تنتظر منه دعماً ودحضاً على السواء . إنها تفترض مسافة لا تخص العالم أو اللاشعور أو النظرة أو السريرة " ( محمد على الكردى : ألوان من النقد الفرنسى المعاصر ص 78 ) . وعلى حد تعبير مارتينيث بوناتى ، فإن الأدب يجد إمكانيته فى التخييل ..
                      واذا كان قدامى الإغريق مثل سوفوكليس وهوميروس قد استعاضوا عن اللجوء الى الخيال باستخدام صور الميثولوجيا المتاحة ، فإن دانتى وشكسبير وكالديرون وملتون وجوجول وغيرهم قد أفادوا من الخيال بصورة مؤكدة .
                      يقول بورخيس : " إن أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال " . وتصف الناقدة البريطانية هيلين جاردنر المبدعين ، الشعراء وكتاب المسرح والرواية والقصة القصيرة ، بأنهم " صانعو العوالم الخيالية من كل نوع ، ومبتدعو الصور العميقة لمعنى للحياة والتجربة البشرية " . وقد رفض جابرييل جارثيا ماركيث تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية . فضّل أن يتخيل القارئ شخصيات القصة وأحداثها ، فلا يقتحم عليه ذلك الخيال مؤثر من أى نوع . الفيلم السينمائى يجسد الشخصيات والأحداث والمكان والزمان ، من آفاق الحركة
                      الراوى العليم لا يكون كذلك إلا إذا أفاد من الخيال ما وسعه . من الصعب على الراوى أن يكون عليماً بكل شىء ، لأنه لن يستطيع التعرف على ما فوق السطح وما تخفيه المياه . فهو إذن لابد أن يستعين بالخيال لتستكمل الصورة ملامحها .
                      إن الرواية الجيدة لا تقتصر على نقل الحياة فحسب ، لكنها تقول شيئاً عن الحياة ، فهى تكشف عن نمط أو مغزى معين فى الحياة . إن عين الفنان لا تستطيع أن ترى أكثر من واحد فى المائة من الناس والأحداث حوله ، وهو لا يعى ويفهم مما رأى أكثر من هذه النسبة ، وهو كذلك لا يستطيع أن يعبر عما وعى وفهم ، وأحس بأكثر من واحد فى المائة ..
                      بديهى أن الخيال يبدأ من الواقع ، أو أن الواقع هو البداية فى أى عمل فنى . أختلف مع الرأى فى أن الفن أكثر واقعية من الواقع نفسه ، وهو ما يذهب إليه وليم بليك فى قوله : " نحن نجد فى الخيال حياة حقيقية أكثر واقعية مما يسميه الناس العالم الحقيقى " العكس ـ فى تقديرى ـ صحيح . إن الواقع أشد واقعية من الفن ، مهما يخلص الفنان فى تصوير الواقع . وعلى حد تعبير أندريه موروا ، فإن أكثر شخصيات العمل الروائى تعقيداً ، هو ـ فى المحصلة النهائية ـ أقل تعقيداً من أبسط شخصية إنسانية .
                      الواقعية ليست نقلاً عن الواقع ، لكنها اختيار فنى من الواقع . يبدأ من الزاوية التى يلتقط منها الفنان " الكادر " ، قيمة الصورة الفوتوغرافية فى الانتخاب ، الاختيار ، انتخاب أو اختيار ما تلتقطه العدسة ، الواقع ، وليس الخيال ، هو النبع الذى يستمد منه الفنان إبداعه ، وإن كان من الصعب أن يهمل الخيال تماماً . يقول ماركيث : " ينبغى أن نعترف أن الواقع أفضل منا جميعاً ، فقدرنا ـ وربما مجدنا كذلك ـ هو أن نقلده بتواضع ، وبشكل أفضل ، فى إطار المتاح لنا " ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 145 ) . إحدى ميزات الرواية ـ والقول لروجر ب هينكل ـ إنها تتفوق على الحياة الحقيقية فى القدرة على اجتذابنا إلى أعماق وعى الناس الذين قد لا نجد سبيلاً آخر لفهمهم فهماً كاملاً . وإذا كانت مثالية ديستويفسكى ـ على حسب تعبيره ـ أشد واقعية من أعمال الأدباء الواقعيين ، فإن الواقع أشد واقعية من أعمال الواقعيين ومثالية ديستويفسكى فى آن . أذكر قول جابرييل جارثيا ماركيث : " هناك شئ غالباً ما ننساه نحن الروائيين ، وهو أن الحقيقة ما تزال حتى الآن أبرع قالب أدبى " . المعنى نفسه ـ تقريباً ـ يذهب إليه ميشيل بوتور فى قوله : " إن الرواية تقرير علمى عن شئ أهم من مجرد الأدب . إنها طريقة أساسية لمعرفة الحقيقة " ..
                      إن الصدق فى التاريخ ، وفى العلم ، هو الصدق فى الواقع . أما الصدق الفنى فهو الصدق فى الإمكان ، بمعنى أن الصدق فى العمل الفنى هو انعكاس لما يمكن أن يحدث فى حياة الإنسان ، والصدق فى الإمكان يتسم بالشمول والعمق لأنه يتركز فى العواطف الإنسانية ، بكل ما تحفل به من مشاعر وميول وأهواء وانفعالات . بل إنه ليس كل ما يجرى فى الواقع يحتمله العمل الفنى ، أو يبدو صادقاً فى مرآته . أذكّر بقول سومرست موم : " إن الكاتب لا ينسخ نماذجه من الحياة ، وإنما يقتبس منها ما هو بحاجة إليه . ملامح معينة استرعت انتباهه ، أو عبارة أثارت خياله ، فهو يبدأ من ثم فى تشكيل شخصيته ـ أو شخصياته ـ دون أن يشغله أن تكون صورة مطابقة ، بل إن ما يعنيه بالفعل هو أن يخلق وحدة منسجمة ، محتملة الوجود ، تتفق وأهدافه الفنية الخاصة . وكما يقول هنرى جيمس ، فإن العمل الفنى وحدة مترابطة حية ، تضم الشخصيات والأحداث والحوار والأسلوب . إنها شئ حى ، متكامل ، متصل ، مثل أى كائن حى ، وبالقدر الذى تكون حية ، بالقدر الذى نجد فى أى جزء من أجزائها شيئاً من كل الأجزاء الأخرى " .
                      أوافق أرسطو أن المحتمل فى الواقع يستطيع أن يكون أكثر احتمالاً فى السياق الفنى من الواقع نفسه ، لأن من المحتمل أن تحدث أشياء كثيرة منافية للاحتمال . مع ذلك فإنى أشير إلى حقيقة أن أبطال الحياة ، الواقع ، يموتون ـ أحياناً ـ فجأة ، ربما بلا تبرير ، ربما بلا مرض ولا ممهدات يصبح المرض نتيجة لها . أما أبطال الفن فإن وفاتهم لابد أن تكون خيوطاً فى نسيج العمل ككل ، فهم لا يموتون فجأة مثل أبطال الحياة ، وإلاّ تقوض العمل من أساسه ، وفقد استمراره وتواصله ، وربما لهذا السبب بدأ نجيب محفوظ رواية بداية ونهاية بوفاة العائل ، فقد يرفض الواقع الفنى وفاة الأب لو أنه مات فى تنامى الرواية . حتى بطل قصة تشيكوف العطسة القاتلة لم يمت فجأة . ولو أننا تأملنا مقولة وليم بليك : " إننا نجد فى الخيال حياة حقيقية ، أكثر واقعية مما يسميه الناس بالعالم الحقيقى " فبماذا نفسر رفض المتلقى تقبل فكرة إيقاف تنفيذ حكم الإعدام بعد أن وضع الحبل فى العنق فعلاً ، مع أن الواقعة ـ بنصها وفصها ـ حدثت فى الحياة المعاشة ؟! . أشير إلى فيلم الكاتب محمد كامل حسن حب وإعدام الذى رفع فيه حبل المشنقة من عنق البطلة فى اللحظة الأخيرة ، فأعلن جمهور السينما عدم تصديقه ورفضه ، بينما كانت الواقعة قد حدثت قبل فترة قصيرة ، وكان بطلها مواطناً من شبرا ، استشكل محاميه ـ واسمه ، فيما أذكر ، فاروق صادق ـ وحصل على موافقة النائب العام بإيقاف تنفيذ الحكم ، وهو ما أفلح فيه المحامى قبل أن يجذب عشماوى يد المشنقة !؟
                      الواقع فى العمل الإبداعى ليس إلاّ واقعاً افتراضياً ، واقعاً نتصور حدوثه ، دون أن نملك التأكيد على أنه قد حدث بالفعل . من هنا يأتى تحفظى على قول الأسبانى خوان مارسيه " يهمنى الواقع قليلاً ، وعلى نحو نسبى . أهدف إلى واقع متقن الصنع . إننى لا أستنكر نظرية ستندال فى الرواية ، لكننى لست مستنسخاً للحكايات . إننى أخلقها . أعشق الحقيقة المخترعة " ( الرواية الأسبانية المعاصرة ص 218 ) .

                      ***
                      يقول ماركيث : " لا يوجد فى رواياتى سطر واحد ليس له أساس من الواقع " ( فى الواقعية السحرية ص 146 ) ، لكن الإبداع لا يقدم الواقع على علاته ، لا ينقله كما هو ، وإنما هو ـ على حد تعبير توفيق الحكيم ـ يقدم الحقيقة مصفاة بعد هضم الواقع . الواقع يخلو من البنية الفنية ، ولكى تتشكل تلك البنية ، فإن الواقع يجب أن يؤطر بقوانين جمالية . وكما يقول لوكاش : " العمل الإبداعى ليس الواقع نفسه ، لكنه شكل خاص من أشكال انعكاسه . الإبداع لا يقوحين قرأ جارثيا ماركيث لكافكا هذه الكلمات : " عندما استيقظ جريجور سامسا من نومه ، بعد أحلام مزعجة ، وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة " ، قرر ماركيث أن يصبح كاتباً .
                      للعمل الإبداعى منطقه الخاص الذى يختلف عن منطق الواقع . إنه منطق قد يقف على أرضية الخيال إطلاقاً . يصنع صيرورته دون اتكاء على دعائم منطقية من خارج العمل الإبداعى . ما يهمنى هو معادلة الإبداع لا معادلة الحياة ، زمن الرواية لا زمن الحياة ، شخصيات الرواية وأحداثها لا الشخصيات والأحداث التى يفرزها الواقع . الفن ـ على حد تعبير تشارلس مورجان ـ ليس دواء لشفاء عصر ما ، لكنه نبأ عن الواقع ، متمثلاً فى رموز وأفراح وترانيم ورؤى مسحورة .. والتعبير عن ذلك النبأ لا يأتى بغير منطقه ، منطق الفن نفسه . هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ـ والقول لكونديرا ـ خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة قد لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، لمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحوّل أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ص 241 ) . وبالنسبة لى فأنا لا أنقل الشخصية كما هى فى الواقع ، وإنما أحذف منها ، وأضيف إليها ، وأدمجها ـ أحياناً ـ فى شخصيات أخرى ، بحيث تتخلق الشخصية الفنية . وقد أوزع من ملامح الشخصية الواحدة على شخصيات متعددة . يغيظنى من يتصور أن الشخصية الروائية ـ أو فلنقل القصصية ـ هى شخصية المبدع نفسه . قد يكون فى الشخصية الروائية ملامح من شخصية المبدع ، لكنها تظل شخصية روائية ، شخصية فنية ، تستمد مقوماتها من شخصيات متباينة ، قد تكون من بينها شخصية الفنان نفسه . أذكر بعد أن قرأ ابن عم لى قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون اتصل بى محتجاً : كيف تكتب عن أبيك بهذه الصورة ؟.. والصورة التى احتج عليها ابن العم هى الأب الذى يصحب ابنه الصغير لشراء لوازم العيد وهو يؤذيه بالقول . وبالطبع ، فلم تكن شخصية الأب فى القصة تقترب من شخصية أبى فى قليل ولا كثير ، لكنها شخصية قصصية ، فنية ، تأخذ من أكثر من شخصية حقيقية ، وتأخذ من الخيال أيضاً ! من هنا ، يأتى تحفظى على قول إنريكى أندرسون بأن القصة القصيرة مجرد تخيل ، وأنها تعرض حدثاً لم يقع أبداً ، أو تعيد ترتيب أحداث فعلية ، وإن ركزت بصفة أساسية على البعد الجمالى أكثر من الحقيقة ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 6 ) .

                      ***
                      كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
                      وقد ذهب طه حسين إلى أن الآلهة القديمة لبلاد العرب لم يكن لها أى حظ من الخيال ، فجاءت حياتها كئيبة بالفعل ، لأنها لم تلهم المؤمنين بها أياً من المظاهر الفنية التى أغدق بها على غيرهم من الشعوب ، كما يرى العقاد أن العرب أمة بلا خيال ، وهو ما يراه أيضاً أحمد أمين ، وإن قصر رأيه على البدو . ثمة رأى ـ فى المقابل ـ يرى فى رسالة الغفران وحى ابن يقظان إطلاقاً للخيال فى آماد بعيدة ، وأن " ألف ليلة وليلة عكس كل الأحكام التى قيلت عن العقلية العربية ، فهى تثبت قدرة هذه العقلية على الإبداع الفنى الكامل ، كما تثبت قدرة هذه العقلية على الخلق ، وعلى إعادة الخلق من جديد " . وكان حرص الراوى فى حكايات ألف ليلة وليلة على أن يظل مورد رزقه ـ الحكايات ـ موصولاً بسماع المتلقين ، ومتابعتهم له ، دافعاً لأن يلجأ إلى الخيال ، يضفّر منه وقائع وأحداث وأصناف من البشر والحيوان والطير والأسماك والمخلوقات المتخيلة والجماد ، عالم من الأسطورة والسحر والفانتازيا ، كان هو الأرضية التى تحركت من فوقها واقعية أمريكا اللاتينية السحرية ..
                      الغريب أن الإبداع عندما يلامس ـ أو يقتحم ـ مناطق الخيال ، الأسطورة ، الفانتازيا ، الخرافة ، الغرائبية ، العجائبية ، إلخ .. التسميات كثيرة ، فإننا نحيله إلى أدب الطفل ، نعتبره نصاً يقرأه الطفل . تصورنا أن الخيال مقصور على الأطفال ، حتى جعلنا حكايات ألف ليلة وليلة ـ المفعمة بالخيال والأسطورة والغرائبية ـ مجرد حكايات للأطفال ، مع أنها ليست كذلك ..
                      الخيال ـ خيالى وخيال كل قارئ للنص ـ هو الذى يعتق النص من ماديته وجموده ، هو الذى يجسّده . يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ص 52 ) .
                      أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..

                      ***
                      يقول روجر ب . هنكل إن أتم تصوير روائى للمجتمع ، هو ذلك التصوير الذى يشعرنا أننا نوشك أن نكون جزءا ًَمن بناء ذلك المجتمع ( قراءة الرواية ص 106 ) ،
                      ويختلف كاتب الواقعية الطبيعية عن غيره من الكتاب ـ كما يقول سترندبرج ـ فى أنه هو الذى يبحث فى معترك الحياة عن المثيرات الكبيرة التى يعتبرها الكاتب الواقعى شذوذاً ، تلك المثيرات التى تتوارى وراء حجب كثيفة من التقاليد والقوانين والقواعد الأخلاقية ( الأدب ومذاهبه ص 131 ) . أذكر قول إيزابيل الليندى إن التصوير والكتابة هما محاولة للإمساك باللحظات قبل أن تتلاشى . لكن الواقع الفوتوغرافى ، الواقع الكربونى ، يبين عن فشل مؤكد إذا لجأ إليه المبدع فى تصوير التحول الذى يطرأ على الأشياء . إنه يحمل الواقع ، ويحيله إلى شئ ثابت لا يتحرك ، فهو يسلبه حريته ، ويعمل على قتله . وكما تقول إيزابيل الليندى فإن الصورة هى خلاصة الواقع مضافاً إليها حساسية المصور . زقاق المدق ـ مثلاً ـ تتسم بخصوصية تختلف بها عن أعمال مرحلة الواقعية الطبيعية فى أدب نجيب محفوظ . السراب تتناول مشكلة فردية ، وخان الخليلى كذلك ، وبداية ونهاية تعنى بمشكلة أسرة ، والثلاثية تهب صورة للمجتمع كله إبان فترات من تاريخه . أما الزقاق فهى لا تتناول مشكلة فردية محددة ، ولا صورة اجتماعية بانورامية ، وإنما تتناول أحد أزقة القاهرة ، تحيا فيه وعلى هامشه شخصيات تتنافر أمزجتها وطموحاتها وسرعة خطواتها فى طريق الحياة . ولم يكن تصوير الفنان لتلك الشخصيات هدفاً فى ذاته ، وإنما كان يعكس بهم واقع المجتمع المصرى : المحبط ، والشاذ ، والمعقد ، والمشوه ، والمتصوف ، والمجذوب إلخ .. كانوا صورة مختزلة ، وربما متشائمة ، للمجتمع المصرى آنذاك .. ولكن : ألم تكن هذه صورة المجتمع المصرى فعلاً ؟!
                      المبدع يختلف عن الآخرين ، حتى فى أوقات الصمت ، فى أوقات السكينة . فجميع أجزاء جسمه الظاهرة تكف عن الفعل ، بينما العمل الإبداعى ، أو الشخصية ، أو الحدث ، يتخلق فى داخله ، يفرض عليه حالة من التوتر قد لا تبدو على مظهره الساكن . ويقول ميلان كونديرا : " هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ، خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، ولمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحول أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ) ، وكما يقول سارتر ، فإن الخيال هو الأداة السحرية التى يحقق بها الفنان مشروعه الإبداعى . انه يتجاوز كل ما هو ثابت وحتمى ، ويصنع العالم الخاص ، المتميز ، والمتفرد . إن واجبه ـ والتعبير لبرسى لبوك ـ هو أن يبدع الحياة .
                      أنا أخضع خيالى لخيال العمل الإبداعى . أخضع قراءاتى وخبراتى ورؤيتى للفضاء الذى تتحرك فيه القصة طولاً وعرضاً وعمقاً . الإبداع بعامة مزاوجة بين الحقيقة والخيال ، أشبه بالمزاوجة بين العلم والفن . الحقيقة ليست مطلقة ، والخيال يمكن أن يرتدى ثوب الحقيقة . العالم الذى يعتقد أنه قد وصل إلى الحقيقة ، يذكرنا بالفنان الذى كاد أن يحطم تمثاله لأنه لم ينطق ، والفنان الذى يعتقد أنه يعيش فى الخيال فحسب ، يعانى وهماً باعثه التبلد .

                      2002

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        عضو أساسي
                        • 14-10-2007
                        • 867

                        #26
                        الواقعية السحرية

                        الواقعية السحرية ؟
                        سبقت السوريالية اتجاهات إبداعية كثيرة ، تبدأ بالواقعية التى أفرزت العديد من الروافد المهمة . وثمة الابتداعية والمستقبلية والماورائية والدادية وغيرها . وكانت الدادية ـ تحديداً ـ هى الاتجاه السابق على السوريالية ، بل إن بعض الاجتهادات النقدية وجدت فيها وجهين لعملة واحدة . وثمة من يجد فى السوريالية والواقعية السحرية اتجاهاً واحداً ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 34 )
                        ظهر مصطلح الواقعية السحرية ـ للمرة الأولى ـ فى عام 1925 . أطلقه الناقد الألمانى فرانتز روه على الاتجاه الذى توضح فى أعمال جماعة من الفنانين الألمان ، اتسمت بالصور الساكنة ، الواضحة ، الحادة التفصيلات والخطوط ، لكنها ـ فى الوقت نفسه ـ تعنى بالتخييل ، الفانتازيا ، المستحيل ، بصورة تناقضية ، كأنها الواقع ، أو هى الواقع تحديداً . ثم اتسع إطلاق المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية . أطلق على أعمال روائيى أمريكا اللاتينية ، مثل خورخى لويس بورجيس وأليخو كاربنتير وجبرييل جارثيا ماركيث . السرد فى أعمالهم يمازج بين الواقع والخيال ، بين المألوف وغير المتوقع ، بين المدرك والخارق ، بين الأنماط والنماذج والأحداث اليومية ، وما يعد من الأحلام ، أو أقرب إلى الأسطورة ، والخرافة .. ذلك كله ، فى لغة تغلب عليها الشعرية بصورة لافتة . وثمة رأى يحدد الفارق بين الواقعية السحرية والفانتازيا ، فى أن الفائق للطبيعة فى الواقعية السحرية لا يربك القارئ .
                        يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ـ 52 ) .
                        وفى ذكرياتها " بلدى المخترع " تؤكد إيزابيل الليندى أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس ، أدخلتها فى الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمى بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير ( بلدى المخترع ـ 72 ) . ويقول ماريو بينيدتى إن ظهور حركة الواقعية السحرية أو العجائبية ، ليس مرده الواقع العجائبى ، وإنما الواقع المروع . وقد عاب ماركيث على واقعية الأجيال الحالية ـ والتعبير له ـ غياب البساط الذى يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال ، والعبد الذى يظل داخل الزجاجة مائتى عام ، قبل أن يتاح له الخروج إلى العالم .

                        ***
                        كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
                        حين أتحدث عن الخيال ، فأنا لا أعنى بالخيال ما يحتفى به السورياليون ، إنما أعنى الخيال الفنى فى كل مستوياته . وإذا كانت الكتابة لم تدفع بالخيال أبداً إلى حدوده القصوى ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 18 ) فإن الواقعية السحرية ـ والسوريالية كذلك ـ تفجر الخيال إلى أقصى مداه ، تأذن بتحرر اللاوعى إطلاقاً من الرقابة التى قد يمارسها العقل .
                        أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..
                        أستاذنا نجيب محفوظ يحرص على أن يؤطر الخيال بالمنطق . الحلم عند نجيب محفوظ بديل لمنطق الفن ، للامنطق ، للواقعية السحرية [ إقرأ " الطريق " صفحات 60 ، 63 ، 64 ، 67 ، 107 الخ .... ] . أما الواقعية السحرية ، فإن أشد تعرفنا إليها فى أعمال جابرييل جارثيا ماركيث ( كولومبيا ) وميجيل أنجل أستورياس ( جواتيمالا ) وأليجو كاربانتييه ( كوبا ) . وتختلف الواقعية السحرية فى أنها جانب فوق طبيعى للأشياء ، ضرب من الواقعية يتجاهل قوانين السبب ، تماماً مثل الحال فى الأحلام ، والتعبير لماركيث . أن الفن ـ كما يقول إرنستو ساباتو ـ لا يطالب بفصل المنطقى عن اللامنطقى ، والإحساس عن الفكر ، والحلم عن الواقع . إن الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة فى اللاوعى ، بحيث تظهر عالماً ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخرى ـ ما هذا البيان المشترك ؟ ـ 139 ) . لم يعد للواقعية الطبيعية أو التسجيلية ـ على سبيل المثال ـ وجود فى أدب الفانتازيا . إنه أدب لا يعرف المستحيل . لقد كسر مبدعو الواقعية السحرية حاجز المعقول ، لا للهروب ، ولا لمجاوزة العالم الحقيقة ، وإنما لفهم العالم بطريقة أفضل . أما الواقعية السحرية ـ فى الموروث العربى ـ فهى الأعمال التى تحيا على الأسطورة والخرافة والغرائبية . إنها لا تجعل من ذلك كله مجرد وسيلة ، ولا تجعل منه ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ملاذاً أخيراً تلجأ إليه الحكاية عندما يتم استنفاد المصادر العادية ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 100 ) .
                        الأسطورة والفانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعى ، تشكل جزءاً فى نسيجه . وحين استطاع الرجل الغريب فى قصتى فلما صحونا أن يخضع ـ بسكين ـ أفراد الأسرة المضيفة ، أظهر بعض الأصدقاء من المبدعين والنقاد عجبهم : كيف لجماعة أن تشل إرادتها أمام شخص ، فرد ، يحمل سكيناً ؟ . وفى قصتى المستحيل تعددت الأسئلة حول إقدام الرجل على لزوم بيته لا يغادره ، وهو قد اكتفى بتكويم قطع الأثاث خلف الباب والنوافذ . أما الراوى فى قصة " هل " فهو ميت ، وأهملت السؤال : ألم يكن من الأوفق أن يجرى الحدث فى الحلم ؟ . وكانت الملاحظة التى أبداها البعض حول قصتى أبناء السيد الصافى ـ تنفيذاً لوصيته ـ يبحثون عن الأخوات ، هى الملاحظة نفسها التى أبداها البعض من خارج القصة : كيف لميت أن يعود إلى الحياة ؟
                        والأمثلة ـ كما تعرف ـ كثيرة . وهى قد أملت منطق الواقع ، وأهملت منطق الفن ، المنطق الذى يصدر عن الفن . ولعلك تتعرف إلى ما أريد توضيحه فى إمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ونجم وحيد فى الأفق و ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، وغيرها من الروايات التى تحركت شخصياتها وأحداثها فى إطار الفن .

                        ***
                        أوافق على الرأى بأن الواقعية السحرية مجرد مسمى لاتينى أمريكى لظاهرة عالمية قديمة ( فى الواقعية السحرية ـ 43 ) . الواقعية السحرية ـ أداتها قوة الخيال ـ تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعيش . يقول ماريو بارجاس يوسا : " لقد بدأت القصة تتحرر من محليتها ، من اهتمامها فقط بكل ما هو أمريكى لاتينى . لقد تحررت بالفعل من هذه التبعية ، فنراها تتخلى عن مهمتها كخادمة فى محراب الواقع المعيش ، وأصبحت ـ فى الوقت الراهن ـ تسلط أضواءها على الواقع لتستمد منه موضوعات معينة لعرضها على الرأى العام . وبذلك مهدت تغيير الوضع القائم "
                        ظاهرة الواقعية السحرية موجودة فى الأساطير والملاحم والحكايات العربية ، منذ أسطورة إيزيس ، وقصة الأخوين ، تواصلاً مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية : الهلالية وعنترة وبيبرس وحى بن يقظان ورسالة الغفران والزوابع والتوابع وبركات الأولياء ومكاشفاتهم
                        أنا لا أخترع عالماً غير موجود ، وإنما أقدم عالماً أحياه ، وأتذكره ، وأتفهم ما ينبض به من معتقدات وعادات وتقاليد . همى أن أنقل هذا الواقع بلغة تضيف جمالياتها إلى جماليات العمل الفنى . وكما أشرت من قبل ، فأنا أرفض أن أعتبر اللغة أداة توصيل . إنها جزء مهم فى العمل الإبداعى ، تلتحم به ، ومعه .
                        وإذا كان كل شىء فى أمريكا اللاتينية ـ كما يقول ماركيث ـ ممكناً ، وواقعياً ، فإن المعنى نفسه يصدق على الحياة فى بلادنا ..
                        عبد المحسن صالح ـ كما تعلم ـ واحد من كبار علمائنا فى مجال البكترولوجيا ، بالإضافة إلى إسهامه المتفوق فى مجال تبسيط العلم . ناقش فى كتبه قضايا مهمة ، تبدأ بالحياة اليومية ل،سان وتنتهى بالموت .
                        زارنى عبد المحسن صالح ذات مساء . كانت العادة أن يطول نقاشنا فيما يفد إلى خواطرنا من قضايا ، دون أن نعطى حساباً للوقت . لكنه استأذن ـ بعد أقل من نصف ساعة ـ : لماذا ؟ . سأحضر جلسة تحضير أرواح !.
                        شردت عن كل الحجج ، وغير العلمية ، التى ساقها عبد المحسن تبريراً للانفصام الواضح بين ثقافته العلمية وثقافته الموروثة .
                        وفؤاد ب . ليس طبيباً كبيراً فحسب ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ مثقف كبير ، له آراؤه الموضوعية والجادة فى مختلف قضايانا السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها . وكان إيمان الرجل بالتقدم مطلقاً ، حتى أنه لم يكتف بما وصل إليه من مكانة علمية ، فهو يجلس فى المدرجات أثناء مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه للتعرف على الجديد فى مجالات الطب .
                        ما لا يعرفه إلا القلة من أصدقاء الدكتور فؤاد ب . ـ وأنا واحد منهم ـ أنه كان يغيب عن القاهرة فى بعض الأمسيات . يمضى بسيارته إلى قرية فى عمق الدلتا . يجلس فى حضرة شيخ يعمل بالسحر والتنجيم وقراءة الطالع !
                        هذا الانفصام ، أو التقابل ، يعنى سيادة الموروث الشعبى ، بصرف النظر عن تباين المستويات الاجتماعية والثقافية ، فهى جزء أصيل فى تكوين الإنسان المصرى . ليس ثمة ما يرفضه العقل : السحر مذكور فى القرآن الكريم . الأرواح والجن مذكورة كذلك فى القرآن الكريم . العفاريت والغيلان والمردة ، ما أكثر ما يرويه الأجداد والأبناء عنها للأبناء والحفدة
                        نحن ننشأ على حكايات " السماوى " و " أبو رجل مسلوخة " والعفاريت التى قد تركبنا ، أو تفعل بنا ما تفعله العفاريت . تتوالى التحذيرات والنصائح ومحاولات التخويف . تستقر فى أدمغتنا ، لا يلغيها تقدم السن ، ولا اكتشاف الحقائق ، بل إننا ـ تواصلاً مع الموروث ـ نروى ذلك كله ـ وربما نضيف إليه ـ لأولادنا .
                        وإذا كانت عادة المصريين هى الاحتفال بذكرى وفاة الراحلين من أحبائنا ، فإننا نحتفل بذكرى أولياء الله . مبعث المفارقة أن أولياء الله يظلون أحياء ، فنحن نلجأ إليهم فى الملمات ، نطلب النجدة والغوث والنصفة والمدد ..
                        نحن نلجأ إلى أولياء الله ، نقسم بهم ، نزور مقاماتهم ، نتشفع بهم ، نعدهم بالنذور ، نناجيهم ، نلتمس النصفة والمدد . نحن إذن لا نعتبرهم موتى . إنهم أولياء الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الأولياء الموتى ـ فى يقيننا ـ ليسوا كذلك . نلجأ إليهم لمساعدتنا فى تحقيق ما عجزنا عنه ، ما قد يدخل فى دائرة المستحيل .
                        وإذا لم يكن اللقاء المباشر بالراحلين متاحاً ، فإنه يتم فى أثناء النوم ، فى رؤى المنام .
                        نحن ننتظر من الأولياء الراحلين أن يؤدوا لنا ما يجدر بنا أن نؤديه . حين ندس رسالة فى صندوق النذور بمقصورة أحد الأئمة ، نضمنها شكوى ، فإننا نترقب قراءة الولى للرسالة ، واستجابته لها ، بحيث تنعكس الاستجابة فى نتائج إيجابية تعيد لنا حقوقنا المهضومة . السيدة زينب ترأس المحكمة الباطنية التى تفصل فى أمور المسلمين ، السيد البدوى هو الذى أتى لنا بأسرى الحروب الصليبية ، سيدى العدوى يستعيد الأطفال التائهين ، إلخ .
                        أصارحك بأنى عبرت عما شهدته ، وعشته ، فى طفولتى ، دون أن أحاول تصنيف كتاباتى ، وما إذا كانت واقعية بالمعنى الذى نعرفه ، أم واقعية سحرية كما قرأنا عنها فى الإبداعات العالمية . كتبت ما نهل من التراث ، ومن الموروث ، من المعتقدات والتقاليد والعادات وغيرها من الخصائص التى يمكن أن تشكل فى مجموعها ـ ولو من قبيل التجاوز ـ الشخصية المصرية
                        كانت مسامرات كل مساء ـ هل تصح هذه التسمية ؟ ـ تكاد تقتصر على الجن والعفاريت والست المزيرة والقرين ، أو الأخت التى تسكن تحت الأرض " اسم الله على أختك " والبغلة التى تزين للمرء ركوبها ، فإذا ركبها علت به وعلت ، ثم قذفت به إلى الأرض فى مصير مؤلم .
                        لا تشغلنى المقارنة ، ولا أوجه الاتفاق والاختلاف ، لكن السؤال الذى يفرض نفسه : ما الخصائص التى تتميز بها الواقعية السحرية ، فلا نجدها فى العجائبية العربية ، كما نجدها فى ألف ليلة وليلة ، والسير ، والحكايات القديمة ؟
                        الوجدان المصرى ـ والعربى بعامة ـ يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية ، مهما مالت ـ موضوعياً ـ إلى الخرافة . إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أموراً حقيقية ويجب تصديقها ، وممارسة سلوكيات حياتنا فى ضوء ذلك الاعتبار . الإنسان العربى يمارس ما قد يبدو خرافة ، دون أن يضعه فى إطار معرفى محدد ، بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب ، هم الذين يعرفون معنى الواقعية السحرية ، بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل .
                        أما التحذير بأن الواقعية السحرية مما يرقى عن مستوى إدراكنا ، فلسنا نملك إلا أن نكتفى بقراءة الإبداعات الأمريكية اللاتينية التى كتبت فى إطاره ، فهو تحذير يشى ـ للأسف ـ بحرص على الدونية فى النظر إلى معطيات الآخر ، حتى لو أفاض ذلك الآخر فى التحدث عن تأثر واقعيته السحرية بالتراث العربى ، وبخاصة ألف ليلة وليلة .
                        نحن لا نحاكى غرائبية الآخر ولا عجائبيته ، ولا حتى واقعيته السحرية ، لكننا نكتب عن الواقع الذى نحياه بكل ما ينطوى عليه من معتقدات وعلاقات إنسانية وتراث وموروث وروايات شفهية ومكتوبة . أوافق إيزابيل الليندى على أن الغموض السحرى ليس وسيلة أدبية ، ليس ملحاً ولا بهاراً ، لكنه جزء من الحياة نفسها . الواقع هو النبع الذى نحاول أن تنهل منه إبداعاتنا ، نقرأ الإبداع العالمى فى إطلاقه ، لكننا نصدر عن التجربة الشخصية والجماعة التى ننتمى إليها ، ونحاول ـ من خلال ذلك ـ أن نعبر عن وجهة النظر الشمولية ، أو فلسفة الحياة ، وهو المعنى الذى أوردته كثيراً فى العديد من مقالاتى . أنا لا أكتب ما قد أسميه الواقعية الصوفية ـ على سبيل المثال ـ لمجرد الانطلاق فى الخيال ، لكننى أحرص على تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية ، سواء فى اللحظة المعاشة ، أم فى أحداث تاريخية .
                        بمعنى آخر ، فإننا نحاول أن نفيد من ثقافتتنا الموروثة والمكتسبة ، ونتمثل ثقافات أخرى نجد فيها تواصلاً أو امتداداً لثقافتنا الخاصة . ضرورة التواصل مع التراث والموروث لا تعنى الانكفاء على الذات ، ورفض التراث والموروث العالمى ، أو حتى الانعزال عنهما . نحن ـ كإنسانيين ـ ننتمى إلى هذا العالم باختلاف ثقافاته ، وتنوع حضاراته ، ويجدر بنا أن نفيد من ذلك فى إثراء تجاربنا الإبداعية ، بتعدد المنابع التى تنهل منها .
                        فى كل الأحوال ، فإننا لا نتعمد جذب انبهار القارئ ولا إدهاشه ، الفن هو البدء والمنتهى ، والفن ليس مجرد رص كلمات ولا زخرفة أو توشية ، لكنه يحاول أن يهبنا دلالة ، ما يستحق عناء المبدع فى الكتابة ، وعناء القارئ فى التلقى .

                        ..........
                        2003

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          عضو أساسي
                          • 14-10-2007
                          • 867

                          #27
                          الفن .. هل هو للتسلية ؟

                          " كانت الكتب العلمية فى مكتبة أبى تقف ، جنباً إلى جنب ، مع الأعمال الشعرية والروائية ، ولم يخطر ببالى مطلقاً أن أفكر أن أحدهما يقل ، فى قيمته وانسانيته ، عن الآخر "


                          أودين
                          منذ العشرينيات من القرن العشرين ، تلاحقت الثورات العلمية فى عالمنا المعاصر : ثورة المعلومات .. ثورة الاتصالات .. ثورة التكنولوجيا .. ثورة الهندسة الوراثية ، وغيرها .. وثمة اجتهاد أن المعلومات التى أضافتها الإنسانية إلى رصيدها المعرفى خلال الأعوام الخمسين الأخيرة ، يفوق ما حصلته خلال تاريخها كله . وكما يقول أستاذنا زكى نجيب محمود فإن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية بقدر ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه .
                          العلم ضرورة لبقاء الجنس البشرى ، لأنه هو الذى يمكّن البشر من السيطرة على الطبيعة ، واستخراج العناصر الأساسية لوجودهم ( أدب ونقد ـ أكتوبر 1985 )
                          من هذا المنطلق ، فإن محاولة استشراف آفاق القرن الحادى والعشرين فى مجال ما ، يبدو غاية فى الصعوبة .. لكن الإجابة عن السؤال مطلوبة ..
                          ولعله يجدر بنا ـ ابتداء ـ أن نشير إلى قضية العلاقة بين العلم والفن :
                          يناقش المازنى فى حصاد الهشيم قضية الفن ، وأنه لن يشغل إلا مكاناً ضئيلاً جداً فى الحياة العقلية للقرون البعيدة ، ذلك أن علم النفس يقول لنا إن التطور طريقة من الغريزة إلى المعرفة ، ومن العاطفة إلى الموازنة والحكم ، ومن التفكك إلى الانتظام فى اتصال الخواطر ، فيحل الالتفات محل العفو فى نشوء الفكرة ، وتأخذ الإرادة ـ يهديها العقل ـ مكان الهوى ، وحينئذ يزداد تغلب الملاحظة على الخيال والرموز الفنية ( حصاد الهشيم ص 52 ) .
                          ثمة مقولة إنه لولا العلم لكادت الحياة أن تكون صورة للموت . ويقول فلاديمير مايكوفسكى : " جرّار واحد من صناعة فورد أفضل من مجموعة قصائد شعرية " . وكان رأى مصطفى المنياوى فى رواية نجيب محفوظ الشحاذ أن الفن كان له معنى فى الماضى ، فلما أزاحه العلم عن موضعه ، أفقده كل المعانى . مصطفى يكتب فى اللب والفشار ، إيماناً بقضاء العلم على كل ماعداه . وهو يعترف ببساطة أن العلم لم يبق شيئاً للفن ، وأن العلم ينبض بلذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة ، ولم يبق الفن إلاّ للتسلية ، بل إنه سينتهى ـ يوماً ـ بأن يصير حلية نسائية مما يستعمل فى شهر العسل . يقول : لقد تبوأ العلم العرش ، فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة . وكم ود أن يقتحم الحقائق الكبرى ، ولكن أعياه العجز والجهل ، وحز فى نفسه فقدان عرشه .. ولما استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير المفهومة ، لجأ الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب ، باستحداث آثار شاذة مبهمة غريبة ، وأنت إن لم تستطع لفت أنظار الناس بالتفكير العميق ، الطويل ، فقد تستطيعه بأن تجرى فى ميدان الأوبرا عارياً ، ولذلك اخترت أبسط الطرق وأصدقها ، وهو أن أكون مسلياً . ويقول : يجب أن أن نتخلى للعلم عن جميع الميادين ، عدا السيرك !
                          ولعل مبدأ فصل العلم والفن فى حد ذاته ، يحتاج إلى مراجعة شديدة ، فلا شك فى أن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضى بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراداى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .

                          ***
                          أنا أومن بالترابط الحتمى بين مختلف فروع المعرفة ، وأوافق على الرأى بأن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . أعجبنى القول إن " أحلام المبدعين جميعاً هى فى الواقع مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، انسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن " ( إدريس الحسن ـ العربى ابريل 1985 ) ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السىء ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
                          لقد أفادت البشرية من التكنولوجيا فى استخداماتها الإيجابية ، لكنها أضيرت منها فى استخداماتها السلبية ، وهى استخدامات تحيق بالعلم دماراً محققاً ..
                          العلم ـ فى تقدير الكثيرين من كتاب الغرب ـ أشبه باللعنة التى صنعتها البشرية بأيدى أبنائها . انتصاراته المتوالية لها وجهان : إيجابى وسلبى . والوجهان يختلطان بحيث يصعب تحديد جوانب الخير أو الشر . وعندما خصص نوبل قسماً كبيراً من أمواله لجوائز عالمية ، أعلن ـ صراحة ـ أنه قد بادر إلى ذلك تكفيراً عن اختراعه للديناميت . أراده للسلم ، فاستخدم فى الدمار . وكانت بدايات التفكير فى انشطار الذرة لاستخدامات السلام ، ثم تحول الاختراع إلى قنابل ذرية وهيدروجينية وسلاح ذرّى مدمّر . وكان إلقاء القنبلة الذرية على المدينتين هيروشيما ونجازاكى مؤشراً بالغ الدلالة للنتائج المدمرة التى قد تتحقق من التقدم التكنولوجى ، وأن العلم إذا كانت له إفرازاته الإيجابية ، فإن له إفرازاته السلبية أيضاً ، فمن المستحيل إذن أن نضع مستقبل البشرية فى يد التقدم التكنولوجى وحده ..
                          إن تقدم العلم ليس مطلقاً . إنه متصل بالإنسان ، بقيمه ومثله ولحظات قوته وضعفه . التقدم العلمى فى إطلاقه لا يمكن أن يحقق للإنسان مشاعر الانتماء ، وحب الأرض ، والاستفزاز ضد العدوان ، والتعاطف مع الآخرين ، وغيرها من المشاعر التى تتصل بالنفس الإنسانية ، مايشغلها وما تنبض به وتعبّر عنه . الأدب يفهم الطبيعة ، وخبرة الحياة اليومية ، بما لا يرقى إليه فهم العلم ، أو تصويره له . والفن ـ فى مقولة ـ يتجاوز العلم فى أنه لا يفهم من خلال التحليل ، ولكن من خلال العرض . الفن يخاطب العاطفة ، وهو ما يعجز عنه العلم ، مهما يسرف فى التفوق . العلم مجاله العقل . أما الفن فإنه قد يخاطب العقل أحياناً ، ويخاطب العاطفة فى كل الأحيان ، والعاطفة التى أعنيها هى وجدان الإنسان ، مشاعره ، أحاسيسه ، فرحه وحزنه وابتسامه واكتئابه وإخفاقه وانتصاره . لقد كان هناك اعتقاد ـ والقول لأندريه مالرو ـ ان العلم حين يصل إلى أهدافه ، فإن فهم الإنسان سيصبح ميسّراً ، لكننا بدأنا نكتشف ـ مع التقدم ـ أن علاقة الإنسان بنفسه تعتمد على تكوين الإنسان نفسه ، أكثر مما تعتمد على أى تقدم علمى . وكما تقول سهير القلماوى فإن تحدى العلم للإنسان ، تحدى أن يفرض العلم على الإنسان ما يختاره هو له . الفن يحاول أن يقوّى الإنسان فى الإنسان . يحاول بطريقته أن يقوى الاختيار ، وممارسة الاختيار فى الإنسان المعاصر ( الهلال ـ مارس 1971 )
                          تكوين الإنسان لا دخل للعلم فيه ، فالعلم يستطيع أن يقدم للإنسان أى شئ إلاّ أن يشكّله ، فما يشكل الإنسان هو الاعتقاد فى نوع من الشخصية المثالية . ولعل مهمة الإنسانية اليوم فى إيجاد طريقة لتشكيل الإنسان . ونحن نعلم مقدماً أن العلم لن يحقق لنا ذلك . وربما هذا هو سر أزمة الشباب وثورتهم اليوم ضد الوسائل العلمية . وطالما بقيت أزمة الإنسان بلا حل ، فإن أية نهضة ثقافية تصبح مستحيلة ..

                          ***
                          ثمة تعريف للفن يضعه فى موازاة العلم والأخلاق . فالفن عمل إرادى واع للإنسان ، هدفه الانفعال الجميل والكمال من أجل الانفعال ، والعلم عمل إرادى واع للإنسان هدفه صدق المعرفة من أجل المعرفة الصادقة . أما الأخلاق فهى عمل إرادى وع للإنسان هدفه الخير وسلوك الخير من أجل المعرفة الصادقة . وبتعبير آخر ، فإن الفن بعد من ثلاثة : العلم وهدفه الحقيقة ، والأخلاق وهدفها الخير ، والفن وهدفه الإحساس بالجمال والكمال ، وتلازم الأبعاد الثلاثة مهم ، من الصعب أن نتعامل مع أحدها فى معزل عن البعدين الأخيرين . وهو ما يبين ـ على سبيل المثال ـ فى الرواية النفسية التى لا يشغلها تشابك العلاقات فى المجتمع ، ولا القضايا السياسية والتاريخية والاجتماعية ، ولا حتى القضايا الأخلاقية ، بقدر ما يركز على مشكلة الفرد ، فرد واحد محدد ، له نفسيته الخاصة ، المستقلة . وهنا تتأكد الصلة بين الرواية كفن وبين علم النفس كعلم تنظيرى وتطبيقى ، ومحاولة كل منهما الإفادة من الآخر كما يتبدى فى عقدة أوديب التى صاغها سوفوكليس فى درامته ، وأفاد منها فرويد فى تشكيل نظريته فى علم النفس ، ثم أفاد نجيب محفوظ من النظرية فى روايته السراب . والواقع أن ظهور النظريات الحديثة فى علم النفس ، أواخر القرن التاسع عشر ، يعد عاملاً مؤكداً فى إفادة الرواية وعلم النفس ، كل منهما من الآخر . بسط علم النفس تعقيدات النفس الإنسانية كما صورتها الأعمال الإبداعية بدءاً بإبداعات الإغريق ، وانتهاء بروايات ديستويفسكى . كما لجأت الرواية إلى نظريات علم النفس فى رسم شخصياتها . وقد أفدت من عقدة " الفتشية " Fetishism فى روايتى النظر إلى أسفل ..

                          ***
                          الفن ـ فى تعريف أستاذنا حسين فوزى ـ نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ـ فى تقدير حسين فوزى ـ ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ ( الكاتب ـ مارس 1966 ) . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " . إن أول عمل فنى ـ على حد تعبير مالرو ـ كان أول انتصار للإنسان على لا معقولية الكون ، وأول تحد للموت . ويقول نيدو شيفين : " من الخطأ أن نحصر الفن فى دائرة الإحساس ، أو أن نزعم أن الإدراك الحسى البدائى للعالم ، هو المنبع الوحيد للفن ، والتفرقة بين الفن والعلم على أساس أن محتوى الأول هو الإحساس وحده ، ومحتوى الثانى هو الفكر وحده ، تفرقة خاطئة ، والنقد الصورى الرجعى لا يكف عن ادعاء أن الفن لا يحتاج بحال إلى المحتوى الفكرى ، والهدف من ذلك واضح ، وهو حرمان الإبداع من قوة المعرفة الفعالة ، وجعله مجرد تسجيل للإحساس الذاتى " ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب الثورى عبر التاريخ ـ كتاب الهلال ص 31 )
                          والحق أن نجيب محفوظ قد خفف ـ فيما بعد ـ من غلواء مناصرة العلم إلى حد كبير ، فهو لم يعد يجد الفن فشاراً فى عصر العلم ، وإنما هو عصر العلم فعلاً ، وعصر التكنولوجيا والروبوت . أما دور الفن اليوم ، فهو ـ والقول لمحفوظ ـ الدفاع عن ذاتية الإنسان وحريته الشخصية والقيم الإنسانية . إن المجتمع العلمى لا يبلغ كماله من الوجهة الإنسانية إلاّ بالفن . " الرسالة التى ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد انفعال نتعاطف به مع الانفعال الأصلى للفنان . الفن يتيح لنا آفاق عالم من المعانى التى يعبر عنها بطريقته الرمزية على نحو فريد ، لا تشاركه إيّاه وسيلة أخرى من وسائل التعبير " ( فؤاد زكريا ـ الفكر المعاصر ـ العدد الأول )
                          وإذا كانت التجربة العلمية التطبيقية الناجحة تجبر الجميع على احترامها ، فإن الإنسانيات ـ بصرف النظر عن تفوقها ـ يصعب أن تجد إجماعاً فى تقبّلها أو الموافقة عليها . وكما يقول أستاذنا سيد عويس ، فإن الناس فى محيط العلوم المادية ، على اختلاف أيديولوجياتهم وعقائدهم ، على وفاق ، ولا يكون الفراغ الفكرى إلاّ فى محيط العلوم الإنسانية ( التاريخ الذى أحمله على ظهرى جـ2 ص 64 ) . وبالإضافة إلى ذلك فإن الفن يختلف عن العلم فى أن الجديد لا يلغى القديم ، لا يلغى ما سبق ، لكنه يضيف إلى الفن فى عمومه إذا كان متميزاً . أذكر قول الناقد الكبير أحمد عباس صالح " إن عشرات الكشوف العلمية لا تستطيع أن تحرك شعباً لعمل ثورة ، لكنها قد تكون سبباً فى ظهور حالة اجتماعية غير متوازنة ينيغى التنبيه إليها بواسطة الفن ، واستفزاز الشعور بها لعمل الثورة وإعادة التوازن " ( الكاتب ـ مارس 1966 ) .

                          ***
                          فإذا حاولنا التعرف إلى صورة إبداعاتنا الأدبية ، فى ضوء بديهية أن العالم قد تحول بالفعل إلى قرية صغيرة ، وأن العقلية العالمية الرحبة هى ما نحتاجه فى مواجهة القرن القادم بدلائله التى تشى بتطورات مذهلة ، فإن اللافت أن البنيوية ـ على سبيل المثال ـ قد ظهرت فى العشرينيات من القرن العشرين ، والواقعية السحرية ظهرت فى الثلاثينيات من القرن نفسه .. لكننا ـ للأسف ـ ظللنا لأعوام طويلة ، قريبة ، نناقش أعمالنا الإبداعية فى ضوء البنيوية باعتبارها النموذج النقدى الأكثر تطوراً . وللأسف أيضاً ، فقد شدتنا أعمال جابرييل جارثيا ماركيث التى تحلق فى أجواء الواقعية السحرية ، وحاول البعض احتذاءها باعتبارها الأحدث ، مع أن مصادر الواقعية السحرية ـ كما قال ماركيث ـ نفسه ، وكما قال سواه من أدباء أمريكا اللاتينية ـ توجد فى الأعمال الإبداعية العربية القديمة ، وفى مقدمتها ألف ليلة وليلة ..
                          نحن مجتمعات استهلاكية وغير منتجة فى عمومها ، بمعنى أننا نعتمد على ما يبدعه الغرب المتقدم ، فنتقبله بالصورة التى أتى بها ، أو نحاول المحاكاة والتقليد ، دون أن ننشغل كثيراً بظروفنا الخاصة ، ووجوب اتصال الموروث بالمعاصر ، فضلاً عن افتقاد الجدية فى التعامل مع المعطيات الإبداعية والثقافية العالمية ..
                          يقول عالم الاجتماع ريتشارد باكمينستر فوللر : " ليس هناك من فارق عميق بين الفنان ورجل العلم ، إذ كلاهما فى القوة سواء . إن سرعة الإدراك هى فى صميم الإبداع ، علمياً وفنياً " . ويضيف البروفسور جيليو أرجان : " بما أن الفن تعبير عن مستلزمات سنن الجمال لعصرنا . وبما أن ثقافة عصرنا متميزة بالتكنولوجيا ، ومرهونة بها ، فقد تحولت اليوم مشكلة العلاقة بين الفن والمجتمع ، إلى مشكلة العلاقة بين الفن والتكنولوجيا ، فالصلة القائمة بينهما قد قامت مقام الصلة ـ التى مضى عهدها ـ بين الفن والمذاهب الأيديولوجية " ( الأدب المعاصر ـ فبراير 1988 ) .

                          ***
                          إن أدب الخيال العلمى هو الأكثر ازدهاراً ـ الآن ـ فى الغرب ، يرتكز فى ذلك إلى منجزات علمية حقيقية ، فهو يحاول أن يستشرف آفاقا أخرى لمستقبل الإنسان . وهذا هو السر ـ فى تقديرى ـ لقلة الإصدارات العربية من أدب الخيال العلمى . إن من يحاولون كتابة أدب الخيال العلمى قليلون للغاية ـ وفى مقدمتهم ـ بالطبع ـ صديقى نهاد شريف ـ لأن المجتمعات التى ينتمون إليها مجتمعات مستهلكة لا منتجة ، مجتمعات لم تحيا العلم فى تطوره المذهل بصورة حقيقية . بالإضافة إلى ذلك ، وربما اتساقاً معه ـ فإن البعض يدخلون أدب الخيال العلمى فى دائرة أدب الطفل ، وهى نظرة قاصرة لابد أن تزول بالضرورة فى قرن ستكون للعلم فيه كلمته الحاسمة ..
                          وكما يقول نور ثروب فراى ، فإنه من السخف الاعتقاد أن العالم عقلانى ، لاتحركه عاطفة ، وأن الفنان ملقى فى دوامة العواطف الهائجة . إن العلم والفن يستخدمان مزيجاً من الحس العام والحس الداخلى . العلم المتطور والفن المتطور يلتقيان معاً التقاء حميماً من الناحية النفسية وغير النفسية .
                          إن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضها بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراواى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
                          انطلاقات الخيال تحدها تطبيقات العلم . أما الفن فهو لا يفرض على الخيال قيوداً من أى نوع .
                          الفن نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " ..

                          ***
                          إذا كان الترابط حتمياً بين مختلف فروع المعرفة ، فإن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . المطلوب فى العلم أن يهبنا المعرفة ، وهو ما ليس مطلوباً فى الفن ، أو أنه ليس من أولوياته ، والمعرفة ، أو الفائدة ، التى تتحقق فى النتيجة العلمية ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن الدلالة ـ أو المتعة بالطبع ـ التى يهبها لنا العمل الإبداعى . وتقول راشيل كارسن R.Carsen " هدف العلم اكتشاف الحقيقة وجلوها ، وأنا أسلم بأن هذا هو هدف الأدب ، سواء كان سيرة ذاتية أو تاريخاً أو قصصاً وروايات . لذا يبدو لى أنه لا يمكن فصل الأدب عن العالم " ( ت . يمنى طريف الخولى )
                          الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . ولعل أحلام المبدعين جميعاً مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، إنسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السيئ ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !

                          ...................
                          الهلال ـ 1992

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            عضو أساسي
                            • 14-10-2007
                            • 867

                            #28
                            دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح


                            " احترموا التراث ، وتعلموا استخلاص مايحويه من خصب خالد "

                            أوجست رودان
                            " السرد يعادل الحياة ، وغياب القصص يساوى الموت . ولو أن شهرزاد لم تجد المزيد من القصص لترويها ، لكان عليها أن تفقد رأسها "

                            تودوروف

                            " قيمتنا الوحيدة هى أننا أصيلون ، نعرض ذواتنا كما هى ، لا كما يرغب الآخرون أن نكون "

                            جارثيا ماركيث بعد تسلمه جائزة نوبل


                            ـ 1 ـ
                            يعرف أريك أريكسون Erik Eriksson الهوية بأنها " إدراك الفرد بذاته ككيان فى صيرورة دائمة " .
                            وبداية ، فإن التراث ليس مطلقاً ، ليس بعداً واحداً ، إنما هو تراثات متعددة . ثمة التراث الدينى ، والتراث التاريخى ، والتراث الشعبى ، والتراث اللغوى ، إلخ . من الخطأ العلمى حصر التراث فى علوم الدين ، مع أهميتها الملحة ، وضرورتها ، وقداستها ( لعلنا نذكر ما دعا إليه أدونيس فى كتابه " الثابت والمتحول " إلى إهدار التراث مرة واحدة ، باعتباره سلباً مطلقاً ، هدم الدين ـ فى تقديره ـ شرط أول لنهوض الإنسان العربى . علوم الدين تراث ، والتاريخ أيضاً تراث ، وإبداعات السلف فى الإنسانيات المختلفة .. ذلك كله ينتمى إلى التراث ، فلا معنى ـ على أى مستوى ـ لقصر التراث على علوم الدين ، رغم اتفاقنا مع الاجتهادات التى ترى أن الدين هو الدعامة الأساسية للتراث العربى ) . التراث يختلف عن ذلك تماماً . إنه يعنى المحافظة على التواصل مع الماضى ، وليس الانقطاع عنه ، فهو جماع خبرة الشعب فى توالى عصوره وأجياله ، بكل ما تحمله من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيات . إنه كل الموروث ، سواء أكان دينياً أم غير دينى ، سواء أكان ثابتاً أم قابلاً للتغير والتطور بتوالى العصور . من الصعب أن نستعيد الماضى ، ومن الصعب كذلك أن نضيف ونطور ونثرى ، ما لم يكن ذلك كله مستنداً إلى تراث يأخذ منه ويتصل به . وبالتأكيد ، فلن تتحقق الهوية الثقافية العربية فى ظل الانقطاع عن التراث العربى ، والاقتصار على الثقافات الغربية . التراث فى حياتنا ، نقطة انتهى إليها القدامى ، وينطلق منها ـ أو هذا هو المفروض ـ المعاصرون . قد يطيلون الوقوف أمامها ، وتأملها ، وقد يبادرون بمجاوزتها إلى ما هو أشد تعبيراً عن العصر . وكما يقول ريموند جابمان ، فإن الأدب يأتينا بشكل رئيس من الماضى . وهناك مبررات أكاديمية قوية لعدم جواز دراسة أدب الحاضر دون امتلاك بعض المعلومات عما سبقه " ( 1 ) . أما القول بأن " ما يهم ليس الماضى بل المستقبل ، ولا خلاف حول هذا ( من ادّعى ؟! ) وما ينبغى علينا هو أن نبحث الحاضر لنتجاوزه إلى المستقبل ، فإن ما واجه الأسلاف من مشكلات ليست مشكلاتنا ، وحلولهم ليست بالتالى حلولاً لمشكلاتنا " ( 2 ) ـ هذا القول يحتاج إلى مراجعة شديدة ..

                            ***
                            ثمة تعريف للتراث بأنه " تعبير غامض يشير إلى النتاج الحضارى للأمة ، منذ اكتملت لها مقوماتها " . مع ذلك ، فإنى أرفض التعريف المجرد للتراث ، المعنى الواسع الذى ينقصه التحديد ، وتنقصه الدقة بالتالى . التراث ـ كما أشرنا ـ ليس مقصوراً على الدين وحده . الدين بعد أساسى فى التراث ، ولعله العنصر الأساس ، لكنه جزء من التراث . والدين ـ فى الوقت نفسه ـ ليس كله تراثاً ، فهو ككل القيم والثقافات والظواهر ، لابد أن يفيد من التطورات المجتمعية . إن عناصر التراث تتعدد ما بين تاريخية ودينية وأدبية وأسطورية وصوفية وفلسفية وفلكلورية وأسطورية ، وتراثنا موجود فى كتب الأخبار والتاريخ والحكايات والسير الشعبية والملاحم والعمارة والموسيقا والتراجم والطبقات والأدب والشعر والزجل والبلاليق والأغنيات والنوادر والسمر والحكايات والأمثال والنوادر والمُلح والمقامات . وكما يقول زكريا ابراهيم ـ بحق ـ فإن الأصالة مبدأ سيكولوجى هام ، لأنها تعبير عن ضرورة الانطلاق من الذات ، والعمل على تحقيق الذات ، بحيث يصبح المرء عين ذاته من خلال أفعاله الحرة وإنجازاته الإبداعية " ( 3 )

                            ***
                            إن أم المشكلات فى حياتنا الثقافية الراهنة ـ على حد تعبير أستاذنا زكى نجيب محمود ـ هى محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية ، تجمع لنا فى طيّها طرفين ، إذ تحافظ لنا على خصائصها العربية الأصيلة ، وفى الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها ، لنستقبل ـ فى رحابة صدر ـ أسس الحياة العصرية ، كما يحياها اليوم روادها ( 4 )
                            من هنا جاءت دعوة زكى نجيب محمود إلى المزاوجة بين التراث والواقع ، بين الأصالة والمعاصرة . ليست دعوة توفيقية كما يرى البعض ، لكنها نظرة علمية موضوعية متفهمة ، تحيط بالماضى والحاضر وتستشرف المستقبل فى آن . وكما يقول ادوار كار فإن المجتمع الذى يفقد يقينه فى القدرة على التقدم فى المستقبل ، لابد أن يتوقف عن العناية بالتقدم فى الماضى ..
                            إن الجديد يتخلق من القديم ، والمعاصر يستمد أصوله من التراث . والتراث ـ من ناحية ثانية ـ يصلنا بالأصالة ، يجعل الحلقات متتالية ، يجنبنا المبالغة فى التأثر والمحاكاة . وبتعبير محدد ، فإن التراث تعبير عن الأصالة ، وتحقيق لوحدة الشخصية العربية . أذكّر بقول أندريه مالرو " الثقافة هى الدفاع عن التراث وإبرازه " ..

                            ***
                            واللافت أننا نتحدث عن التراث ، ونناقشه ، ونصدر فيه أحكاماً ، بينما المكتبات العامة والخاصة تزخر بآلاف المخطوطات التى تغيب فيها ابداعات ودراسات وحقائق كثيرة . الأحكام الكلية تشوبها ظلال ما لم يسبقها تعرف كلى كذلك إلى ما تناولته تلك الأحكام . ولعل أهم فائدة يمكن أن يهبها لنا " الكومبيوتر " ـ أو الحاسوب ـ هى احصاء ـ وتوثيق ـ ما فى مكتبات العالم من مخطوطات تحتاج إلى العناية والفهرسة والتصنيف والتحقيق ، فالنشر . وقد أورد معهد المخطوطات العربية إحصائية ، تؤكد أن عدد المخطوطات العربية فى العالم يبلغ أكثر من ثلاثة ملايين مخطوط ، بينما لم يتجاوز ما طبع منها حتى الآن نصف مليون مخطوط !..
                            لذلك جاء القول إن التراث العربى لم يكتشف بعد ، ومازالت تقف فى سبيل اكتشافه ، وغربلته ، ونقده ، بما يحرك الحاضر ، ويصبح جزءاً منه ، عقبات كثيرة ، يصل بعضها إلى درجة الإرهاب المادى والمعنوى . وإذا كان البعض يرى فى الهروب إلى الماضى حنيناً رومانسياً نواجه به غربة واقعنا ، أو غربتناعن الواقع الذى نحياه ، فهو يفصلنا عن عصرنا ، ويعود بنا إلى أزمنة مضت دون تلامس مع الحاضر ، إذا كان ذلك كذلك ، فإن عوالم خيالية ـ كما يقول أستاذنا فؤاد زكريا بحق ـ ينتمى إليها هؤلاء التنويريون الذين يرفضون الماضى كله ، ويتنكرون للتراث بأسره ( 5 ) . نحن ـ لكى نناقش التراث ـ فلابد أن نقرأه ، نقرأ أعمال الجاحظ وأبى تمام والتوحيدى والمعرى والمتنبى وابن سينا والجرجانى والغزالى وابن رشد وعشرات غيرهم ، تمثل إسهاماتهم كم التراث وكيفه ، وتبين عن أهمية اتصال التراث بالمعاصر لأنه المرتكز الفعلى ، نقطة البداية ، الدعامات التى يستند إليها إبداعنا المعاصر ، وثقافتنا المعاصرة عموماً .
                            التراث الثقافى بعد أهم فى شخصية الأمة . وهو السبيل إلى ثقافة موحدة ، متسقة ، يعيشها مثقف حى فى عصرنا هذا ، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل فى نظرة واحدة ( 6 ) . وثمة اجتهادات تهب التراث دلالة سياسية . وكما يقول بلند الحيدرى فإن " التركيز على العصر ـ الحداثة ـ يضعف من شأن التراث ، ومن ثم تصبح قدرتنا على المواجهة مرتبطة بقوانين العصر الحديث التى صنعها ويصنعها الوافد ، فتدخل إلى الصراع بقوانين ليست قوانيننا ، وبالتالى قد نهزم " ( 7 ) ، بل إننا لا نستطيع أن نتحول إلى منتجين فى ضوء رفض التراث ، لأن التراث تواصل ، والتخلى عنه يعنى إخضاع الثقافة العربية ، الهوية العربية ، للثقافة الغربية ، تفرض سيطرتها وهيمنتها ، تتحول إلى سلع استهلاكية وافدة لا تقابلها سلع منتجة !

                            ***
                            إن السؤال الذى طالما أثير إلى حد الإملال هو : هل ينتمى فن القصة ـ الرواية والقصة القصيرة ـ إلى التراث العربى ، أو إلى التراث العالمى ؟ ، وبتعبير آخر : هل القصة والرواية وليدتا تأثر بالقصة والرواية فى الغرب ، وإفادة منهما ، أو أنهما استمرار لمعطيات هذين الجنسين الأدبيين فى تراثنا القديم ، سواء الفرعونى ، أو القبطى ، أو الإسلامى العربى ، إلى الإرهاصات المعاصرة متمثلة فى أعمال على مبارك والنديم وغيرهما ؟..
                            ثمة اجتهاد مهم يرى أن الدراسات التى تتناول الأدب العربى أو أحد عصوره ، تجهل لغات عرب الجزيرة قبل الإسلام فيما عدا لهجة قريش . لذلك فإن القصص العربى الذى تتصل حوادثه بأدبنا فى الجاهلية إلى اليوم قليل جداً ( 8 )
                            وقد تأتى الإفادة من التراث فى محاولة تصوير الواقع تواصلاً بالتحامه بالأساطير الكونية . وعلى سبيل المثال ، فأنت تحيا عالماً من الخيال والسحر والأسطورة ، إذا قرأت جامع كرامات الأولياء " للنبهانى ، أو " بهجة الأسرار ومعدن الأسرار ومعدن الأنوار " للشطنوفى ، أو " طبقات الأولياء " لابن الملقن ، أو " طبقات الخواص " للشرجى الزبيدى إلخ . والملاحظ أن القصة القصيرة جداً تنتسب بوشائج قوية إلى النوادر العربية الطريفة . القصة التى تشغل أسطراً قليلة تهبنا دلالة ما ، هى ـ مع فارق المقولة والتكنيك ـ النادرة التى تشغل أسطراً قليلة ، وتهبنا حكمة ، أو موعظة ..

                            ***
                            يواجه التراث العربى اتهامات بمعايب كثيرة ، كالغيبية ، والتواكلية ، والقصور فى الخيال ، والافتقار إلى الحاسة النقدية ، وإلى فلسفة الحياة المتكاملة ، وغياب الحس الأسطورى والقصصى والدرامى إلخ .. وهى معايب تعانى التباين أحياناً ، والتجنى أحياناً أخرى . التراث ليس ـ كما يتصور البعض ـ سلباً مطلقاً " تكتنفه الغيبية وضيق الأفق والتعصب والأسطورية " ( 9 ) ، والعمل الإبداعى الذى يوظف التراث لا يصدر عن رغبة فى " دغدغة حواس أبناء العالم المتقدم ، وإلهاب خيالاتهم الموروثة نحو كل ما كان قائماً ، أو ما هو قائم ، فى العالم القديم " ( 10 ) ، وإن كنت أعيب على بعض المبدعين لجوئهم إلى التراث إلى حد الاقتباس ، أو التقليد المغلف بدعوى " التناص " ، فنجد ملامح مؤكدة لطواسين الحلاج ، ومخاطبات النفرى ، ومواقفه ، ورسائل الجنيد ، ونصوص ابن عربى ، وشرح النابلسى ، وغوثية الجيلانى ، وتأريخ المقريزى وابن إياس وابن تغرى بردى ، وغيرها ..

                            ***
                            ليست أوروبا وحدها ـ كما يقول ميلان كونديرا ـ مجتمع الرواية ، فالعرب أيضاً ـ والأدلة موجودة ـ مجتمع الرواية . أرفض قول كونديرا إن " الرواية التى كتبت تحت الخط 35 ، على الرغم من كونها غريبة نوعاً ما بالنسبة للمذاق الأوربى ، تعد امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية لصيغتها ، وروحها ، ولقربها إلى حد يثير الدهشة لبدايات الرواية الأوروبية المبكرة " ( 11 ) ، هذه الرواية ليست امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية ، للتراث الروائى الأوروبى ، إنما هى امتداد للتراث الروائى العربى ، لبدايات الرواية العربية المبكرة . ليس فى قولى ادعاء ولا مغالاة ، لكنها الحقيقة التى تستند إلى أسس علمية ، موضوعية . ولا يخلو من دلالة قول الكاتب الراحل إبراهيم المصرى : " إذا كان الأوروبيون قد بدءوا بقصص بوكاشيو ، فإننا بدأنا بقصص ألف ليلة ( 12 ) . ويقول الأرجنتينى جورج لويس بورخيس : " لولا ألف ليلة لما وجد معظم أدب الغرب " . ويحدد البعض تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب العالمى بأنها كانت السبب المباشر لنشوء فن القصة القصيرة . ويضيف جبرا إبراهيم جبرا ان الرواية الأوروبية كانت فى شبه حكايات ألف ليلة وليلة حتى أواخر القرن الثامن عشر ، فهى روايات حوادث أو مواقف ، لا روايات شخصيات يبغى الكاتب عرض ما فى دخائلها من مشاكل نفسية ، فسواء أخذنا قصص بوكاتشيو أو روايات فولتير أو روايات الإنجليز فى القرن الثامن عشر ، نجدها جميعاً مثل قصص ألف ليلة وليلة ، تعنى المخاطر والأهوال ، أو النكات الغرامية ، أو العبر الحكيمة " ( 13 ) . وثمة اجتهادات ـ أوروبية ـ أن الأدب الواقعى بدأ بترجمة ألف ليلة وليلة للمرة الأولى مع أنها فانتازيا خالصة ..
                            لقد كانت القصة فى أوروبا ـ والقول لفؤاد حسنين على ـ كماً مهملاً " لم يعن بها أديب ، ولم يلتفت اليها مؤرخ ، لذلك ظلت الآداب الأوروبية قروناً عديدة محرومة من سماتها ، وأوجد فيها المجاميع الكثيرة ، كمجموعة بنتشتنترا فى الهند ، وألف ليلة وليلة فى العالم الإسلامى ، الى جانب تلك المجاميع التى تركها البابليون والأشوريون وقدماء المصريين " ( 14 )
                            نحن نتعرف ـ مثلاً ـ فى سندريلا بطلة الحكاية العالمية الشهيرة إلى رودوبيس الفتاة المصرية الجميلة التى كانت تستحم فى الخلاء ، فخطف نسر حذاءها ، وأسقطه فى حجر الفرعون . وأعلن الفرعون أنه سيتزوج صاحبة الحذاء ، واهتدى إليها أعوانه ـ بعد طول عناء ـ وتزوجها الفرعون بالفعل . الحكاية لابد أن تذكرك بحكاية سندريلا . حدثت تبديلات وتحويرات حتى انتهت الحكاية الى صورة سندريلا الحالية . من هنا فإن القول بأن " أصول وحكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند " ( 15 ) هو اجتهاد يعانى الشحوب مقابلاً لريادة الحكايات والأساطير والخرافات المصرية
                            إن أصل الواقعية السحرية هو قصص السندباد البحرى ، وعلاء الدين ، والصعاليك الثلاثة ، وقمر الزمان ، وحسن البصرى ، وغيرها من قصص ألف ليلة . ذلك ما يؤكده جابرييل جارثيا ماركيث فى قوله إن الواقعية السحرية هى ما يشبه العودة إلى الليالى العربية ، وأنها أثر خالد أيقظ الرواية الأوروبية منذ فولتير حتى زماننا الحالى ..
                            ولصديقى يوسف زيدان ملاحظة ذكية : ان الكثير من النصوص الأدبية المعاصرة هى أقل معاصرة مما يظن وأكثر تراثية . ويقارن زيدان بين مشهد التحليق فى رواية ماركيث " مائة عام من العزلة " وبين مشهد فى نص عربى مكتوب يعود إلى القرن الثامن الهجرى : " وقد ناظر جماعة من الكفار البراهمة ، جماعة من مشايخ الصوفية .. من ذلك قضية الشيخ الكبير العارف بالله بهاء الدين السندى مع البرهمى الذى جاء إليه ، وارتفع فى هواء مجلسه ، فارتفع الشيخ حينئذ فى الهواء ، ودار فى جوانب المجلس ، فأسلم ذلك البرهمى لعجزه عن ذلك ، لكونهم لا يقدرون على الدوران فى الهواء ، بل يرتفع الواحد منهم مستوياً لا غير ، وقضية الشيخ الكبير فريد الدين مع البرهمى الذى ارتفع فى الهواء ، فارتفعت إليه نَعْلُ الشيخ ، ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه ، حتى وقع على الأرض " ( 16 ) .
                            ويقول إدوارد سعيد : إن فى الأدب العربى ـ فيما قبل القرن العشرين ـ أشكالاً غنية مختلفة للقصص ، تحمل أسماء كالقصة والسيرة والحديث والخرافة والأسطورة والخبر والنادرة والمقامة .. لكن أياً من هذه الأسماء لم يتطور ـ كما تطورت الرواية الأوروبية ـ ليغدو نموذجاً رئيساً .. وهو رأى يحمل الكثير من الصحة ، لكن اللافت ـ فى محاولاتنا لاستدعاء التراث ـ أننا نلجأ إلى كل تلك الأشكال الفنية التى أشار إليها إدوارد سعيد ، ربما بمحاكاة تصل إلى درجة التقليد ، إلى درجة الحافر على الحافر كما يقول العروضيون . فما الذى اختلف حين أصبحت تلك الأشكال قصصاً معاصرة ، فى حين لم تكتسب ـ من قبل ـ تلك الصفة ؟..

                            ***
                            (يتبع)

                            تعليق

                            • د. حسين علي محمد
                              عضو أساسي
                              • 14-10-2007
                              • 867

                              #29
                              نحن نخلط كثيراً بين المدنية والحضارة ، فالمدنية هى المكتسبات العلمية والتكنولوجية . أما الحضارة فهى نحن : موروثاتنا وقيمنا وجذورنا الثقافية ، وارتكازاً إلى هذا المعنى ، فإن مجرد التساؤل عن دور التراث فى صياغة ثقافة ما ، أمر غير وارد ، ومستبعد ، لأن التراث هو معطيات الأمس ، ومعطيات اليوم هى تراث الغد ، والحلقات متصلة ..
                              وإذا كان البعض يحرص على ربط التراث بالتخلف ، فإن ذلك الرأى ـ الذى يصعب أن نفترض فيه حسن النية ـ يجد الرد عليه فى أن التراث لا يستعاد ، بل إنه من المستحيل أن يحدث ذلك ، لأن الآتى حتى فيما قد يرين إليه من استاتيكية ، يحمل الإضافة والجديد دوماً . ولكن المطلوب هو تمثل التراث ، وإدراجه فى جدلية التجربة المعاصرة ، الثقافة المعاصرة ، بحيث يصبح هذا التمثل تطويراً للتراث ، موقفاً نقدياً وتجاوزاً فى آن معاً ، وبحيث يصبح دور التراث فى صناعة ثقافتنا المعاصرة قضية غير مطروحة ولا واردة ، لأن التراث أصل أصيل فى أية ثقافة قائمة أو مرجوة . بل إن الأدب العربى المعاصر لم يكتسب ملامحه إلاّ بتوثيق صلاته بالتراث منذ عصر النهضة ، والأدبين الإغريقى والرومانى تحديداً . إن الثقافة الجديدة التى يمكن التحدث فيها ، هى تلك التى تصل بين الأصالة والمعاصرة ، بين القديم والجديد ، بين الموروث والآنى ، فيصبح المستقبل بكل زخمه هو اتجاهنا الأوحد ..

                              أوافق ألان روب جرييه فى أن عظمة الروائى تكمن فى أنه يبحث ويخترع دون أن يتقيد بنموذج ثابت ( 17 ) ، ولكن من الصعب ـ فى تقديرى ـ أن ينفصل المبدع تماماً عن تاريخه الروائى ، خاصة إذا مثّل هذا التاريخ ارهاصات تمتد بمئات الأعوام ، كما فى التراث العربى القديم ، مثل ألف ليلة وليلة ، وكتابات الجاحظ ، وابن طفيل ، وأغانى الأصفهانى ، ومقامات الهمذانى ، وحكايات أشعب ، ورسالة أبى العلاء ، وكتب التصوف الإسلامى ، وتمتد بعشرات الأعوام ، كما فى الأعمال التى ربما تجد بدايتها فى " علم الدين " أو " حديث عيسى بن هشام " أو " عذراء دنشواى " أو " زينب " إلى آخر القائمة . وعلى حد تعبير بول فاليرى فإن الأسد عبارة عن خراف مهضومة ! .
                              إن المبدع العربى لن يستطيع تطوير أشكال فنية عربية معبرة عن الواقع العربى ، دون تلمّس لجوهر التراث لا حرفيته ، ودون محاولة جادة للإدراك النوعى للحساسية العربية فى عمقها واكتمالها ( 18 ) . الهوية القومية لا تقتصر على المضمون ، على الأحداث والشخصيات ، لكنها تشمل الشكل ، أو التقنية . إن لم يكن لها اختلافها وتميزها ، فإنها لن تكون سوى مسخ مشوه لإبداعات الآخرين . أشير ـ بتعجب ـ إلى إفادة جارثيا ماركيث من ألف ليلة وليلة ، حين جعل المرأة تطير فى رائعته " مائة عام من العزلة " . وطارت ـ فور ترجمة الرواية إلى العربية ـ نساء كثيرات ، فى إبداعات عربية ، بصرف النظر إن كانت تحتاج إلى ذلك بالفعل . إن مبدعى أمريكا اللاتينية يتمايزون فى أعمالهم بصورة لافتة ، لكنهم يعبّرون عن بانورامية لها خصوصيتها وتفردها ، عنوانها : الرواية فى أمريكا اللاتينية . وأذكّر بقول إدوارد سعيد " نحن ـ فى الوطن العربى ـ نقوم بالنسخ المباشر . ما إن يقرأ الواحد كتاباً من تأليف فوكو أو جرامشو حتى يرغب فى التحول إلى فوكوى أو جرامشى

                              ***
                              مع محاولاتى فى توظيف التراث ، فإنى كنت أحاول ـ فى المقابل ـ أن أتمثل الثقافات الجديدة . إن رواية اليوم ـ والقول لروب جرييه ـ " هى ما سنضعه هذا اليوم ، وإن علينا ألاّ ننحى التشابه بينها وبين ماكانت عليه الرواية بالأمس . علينا أن نتقدم إلى أبعد " . وفى رأيى أن الإضافات التى قدمها الإبداع الغربى إلى فن القصة والرواية بما يجاوز معطيات الإبداع العربى القديم ، لا يعنى اعتبار الفن الروئى والقصصى فى الغرب بداية مطلقة لهما ، وإلاّ فإنه بوسعنا أن نعتبر كل إضافة فى كل زمان ومكان بداية غير مسبوقة للفن الذى تنتمى اليه ، أى أننا نلغى ماسبق ، ونعتبر البداية فى الإضافة والتطوير ..
                              والسؤال : هل نعتبر التراث العربى بداية القصة الأوروبية ـ على سبيل المثال ـ فى ضوء اعتراف المستشرق الإنجليزى ا . ر . جب H . A . R . Gibb بأن أوروبا قد تأثرت ـ أواخر القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة ـ بالمأثورات الشعبية العربية ، وهى التى منحتها السمات القومية فى الأدب ، وأن القصة الإيطالية فى عصر النهضة انما هى وليدة القصص الشعبى العربى ، وأن شوسر ـ أبا الأدب الإنجليزى ـ قد تأثر ـ بدرجة وبأخرى ـ بالنهج العربى فى السرد والوصف والتصوير .. ومع ذلك فإن الكثير مما نظنه من تراثنا ـ على حد تعبير رانيلا ـ لا نكاد نقبل أنه أتى إلينا من الشرق " ( 19 )

                              ***
                              من الخطأ أن نرتمى فى حضن التراث اطلاقاً ، كما أنه من الخطأ أن نرتمى فى حضن الثقافة الغربية اطلاقاً . واللافت أن الدعوة إلى الانكفاء على الماضى ، والتعامل معه باعتباره " المنقذ من الضلال " ، الحل لمشكلات العصر والأزمات التى نواجهها ، تلك الدعوة تقابلها دعوة إلى ملاحقة المنجزات الإبداعية والعلمية التى حققها الغرب . توظيف التراث لا يعنى الانكفاء على الماضى ، لكننا نفيد منه فى الإضافة ، أن يكون فاعلاً فى المستقبل . نحن نفيد من التراث فى تحقيق التواصل ، ونفيد من الثقافة الغربية فى تحقيق المعاصرة . الصواب أن نفيد من التراث ، ومن الثقافة الغربية المعاصرة فى تحقيق شخصيتنا المتفردة ، فى صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا وثقافتنا الخاصة عموماً . أكرر : من الخطأ أن نكتفى بإحياء تراثنا القديم ، أو النقل عن الغرب . الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن ، لا نكتفى بالتلقى ، بالنقل أو التلخيص ، أو حتى الاستلهام ، وانما يجب أن نضيف إبداعنا الآنى ، وفكرنا الآنى ، وتعبيرنا الآنى عن صوت حياتنا المعاصرة . إن التجديد موصول بالتراث . إنه الجذور التى تحفظ عليها الحياة والاستمرار . ثمة تفاعل خلاق يجب أن ينشأ بين الآنى والتراث ، ليس بمجرد التقليد أو المحاكاة أو الاستلهام ، وإنما الإفادة من عناصره لتكوين رؤية إبداعية جديدة ، قد تسمى توظيف التراث ، أو استلهامه ، أو استيحائه إلخ .. لكنها تظل ـ فى المحصلة النهائية ـ إفادة من التراث ، اتصالاً به ، تفاعلاًً خلاقاً معه . والعمل الذى يوظف التراث قد يهب المتلقى تفسيرات ومدلولات ورؤى جديدة ..

                              ***
                              إذا كان لكل شعب بيئته المغايرة التى تتوضح ـ بدرجة أوبأخرى ـ فى إبداعاته ، فإن ذلك ما يجدر بإبداعاتنا أن تحرص عليه ..
                              إن الكثير من أعمالنا الإبداعية مجرد تقليد لإبداعات غربية ، فهى قد فقدت هويتها ، وما ينبغى أن تكون عليه من تفرد . إن المذاهب الأدبية والفنية المختلفة فى الغرب ، تعبر عن واقع معاش . إنها مدارس وليدة البيئات التى أثمرتها لأنها بيئات مثقفة فى عمومها ، ومتأملة ، ومنتجة ، ومستشرفة . أما نحن ، فنبدع ، لكن هوية إبداعنا قد تأخذ عن مدارس الغرب ، دون أن تكون لنا هويتنا الإبداعية الخاصة التى تتواصل بالتراث ، وتلاحق العصر ، وتستشرف المستقبل فى آن . إن محاولة الإفادة من تجارب الآخرين ، لا يعنى أننا نحاكيها ، وإنما نذيبها فى تجاربنا الإبداعية ، تصبح نحن ، ولا نصبح الآخرين . ولعلنا نجد مثلاً متفوقاً فى التكنيك ، أو البناء الفنى ، فى سيرة عنترة ، عندما قسم الراوى سيرة عنترة إلى ماسماه اثنين وسبعين كتاباً ، وحرص فى نهاية كل كتاب أن يقطع الكلام بما يثير شوق القارئ الى المتابعة ، حتى يظل على إنصاته أو قراءته . وكما يقول الموسيقار الألمانى يوهانس برامز ( 1833 ـ 1897 ) فإن " الثورة على القوالب الفنية لمجرد الثورة ، لا يمكنها أبداً أن تخلق فناً جديداً " . والأصوب ـ كما يقول فردريك شليجل ، أن يوحد الفنانون ـ عبر عصورهم ـ العالم الماضى مع العالم القادم .

                              ***
                              فى كتابه " تجديد الفكر العربى " تحدث زكى نجيب محمود عن التراث وثقافة الغرب ، فوجد أن البعض ـ مثل العقاد ـ وجد أن الجمع بينهما ممكن ، بينما قبل طه حسين وآخرون التراث كله وبعض الغرب دون بعض ، وثمة آخرون ـ مثل أحمد أمين والحكيم ـ أجروا تعديلاً فى التراث وفى الغرب معاً . أما الأجيال التالية فهى لا تعرف شيئاً من التراث العربى ، ولا ترضى ـ فى الوقت نفسه ـ بقبول الثقافة الغربية " خشية أن يقال عنه إنه من توابع المستعمرين " ( 20 ) . ويزيد زكى نجيب محمود فيتهم معطيات الأدباء بأنها سطحية ( 21 )
                              وفيما يتصل بالملاحظة الأخيرة تحديداً ـ وهى غلبة السطحية على إبداعات أدباء الأجيال الحالية ـ فإنها تحتاج إلى مراجعة ..
                              لقد بدأت حركة احياء التراث العربى منذ أواسط القرن التاسع عشر ، انسلاخاً من السكونية التى فرضها الحكم العثمانى . كان توظيف التراث بداية المسرح المصرى كما يتبدى فى أعمال مارون النقاش ( 1817 ـ 1855 ) وأبو خليل القبانى ( 1833 ـ 1903 ) ثم فى الأعمال المسرحية التالية ، وصولاً إلى زماننا الحالى فى أعمال أحمد شوقى وتوفيق الحكيم وعلى أحمد باكثير وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور والفريد فرج وسعد الله ونوس وزكريا تامر وعز الدين المدنى . أما توظيف التراث فى الرواية فيجد بدايته فى روايات جورجى زيدان التى عرض فيها لتاريخ العرب ومصر منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى أخريات القرن الثامن عشر . ثم توالت الروايات التى تحاول توظيف التراث ، مثل أعمال فريد أبو حديد وسعيد العريان وسعد مكاوى ونجيب محفوظ وعبد الحميد السحار وعادل كامل وأحمد شمس الدين الحجاجى ومجيد طوبيا وجمال الغيطانى وخيرى عبد الجواد ومنير عتيبة وغيرهم .. وثمة رموز وشخصيات يحفل بها تراثنا ـ وموروثنا ـ الشعبى المصرى ، تصلح قواماً لأعمال أدبية معاصرة : الخضر وأبو زيد والسيد البدوى وأشعب والشاطر حسن وعلى الزيبق وأحمد الدنف وشيحة والسفيرة عزيزة وأبو الريش وحسن المغنواتى وهبنقة وجحا وسيبويه المصرى وذو النون وأبو الحسن الشاذلى وشحادى أبو حطب وحسن الذوق والسيدة أم الأنوار حارسة مصر إلخ ..

                              ***
                              يعجبنى التعبير : " إن ولادة اليوم الإبداعية هى حصاد إخصاب تم فى فترات سابقة " ..
                              وقد حاولت أن أفيد مما تزخر به الملاحم والسير والحكايات الشعبية العربية من إمكانات ، مضمونية وشكلية ، فكتبت الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل واعترافات سيد القرية ، وغيرها ..
                              لم ألجأ الى التراث مثلما يفعل علماء الآثار فى حفرياتهم . بل ان تلك الحفريات تصل الماضى بالحاضر على نحو ما ، تجعل السلسلة متصلة الحلقات . التراث اشتباك فنى ـ ودلالى ـ بين موتيفات الماضى والواقع المعاش . توظيف التراث لا يعنى ابتعاد المبدع عن الواقع المعاش ، عن الأوضاع الآنية لمجتمعه . أذكّرك بقول نجيب محفوظ إن موقفه فى ألف ليلة وليلة كمن يستوحى عملاً قديماً لاستغلاله عصرياً ، أى أن عينه كانت دائماً على الحاضر ( 22 )
                              إن توظيف التراث يجد قيمته فى التفسير المعاصر ، وليس مجرد إعادة تقديم ما كان فى صورة الماضى ، فهى خالية من الروح . وبتعبير آخر ، فإن توظيف التراث وسيلة فنية للتعامل مع الواقع الذى نحياه [ أرفض كلمة " الإسقاط " ، وأرفض تسمية الأدب السياحى ] ( 23 ) ، وعادة ، فإن التراث ـ الشفاهى بخاصة ـ يتعرض لعمليات انتقاء ، قد تكون إلى الأفضل أو الى الأسوأ ، لكنها عمليات اختيار يعبّر عن العصر ، والفترة ، ومايستهدف الراوى توصيله . بل إن الرواية المعاصرة لم تقتصر على توظيف الأحداث التاريخية ، والأبطال التاريخيين ، وإنما تجاوزت ذلك الى توظيف لغة التراث التاريخى نفسه ، لغة المقريزى وابن اياس والسيوطى وغيرهم ، وان كنت أتحفظ على ذلك لسبب مهم هو أن لغة هؤلاء المؤرخين أقرب الى لغة الصحافة فى زماننا الحالى . أوافق على أن اللغة التراثية تعيدنا إلى الوراء ، على الرغم من كل ما يشاع ويقال ويكتب من أن ذلك يتم باسم الخصوصية والأصالة " إذ لاشئ من هذا فيها " ( 24 ) . على المبدع العربى أن يستخلص البنيات التراثية ويستوعبها ، ثم يعيد صياغتها فى قالب جديد ، بحيث يصبح التراث مصدراً للاستعارات والرموز والنماذج العليا التى تعبر عن الحساسية العربية الحديثة ، وتشكلها فى آن واحد ( 25 ) . وفى تقديرى أن الحرافيش لأستاذنا نجيب محفوظ هى أهم الروايات العربية إطلاقاً ، لأنها رواية عربية بالفعل . لم تحاول المحاكاة ولا التقليد فى أى من مقوماتها . أفاد نجيب محفوظ فى روايته من الفنون العربية فى الزخرفة والعمارة ، ومن الحكايات الشعبية والنوادر وسير الأبطال ، ومن التاريخ . " الحرافيش " توظيف للتراث بمستوياته الدينية والتاريخية والشعبية ، ولكن اللغة التى صيغت بها عصرية تنتمى إلى زماننا الحالى ، لغة صوفية ، أو أفادت من الشعر ..
                              أنا لا أحاكى النص التاريخى ، لا أحاكى مفرداته ولا جمله ولا تركيباته اللغوية عموماً . لا أنتقل بنصى الإبداعى الخاص إلى عصور سابقة ، وإنما أحاول ـ ما أتاحت لى موهبتى ـ أن أصوغ الوقائع ، وأصور الشخصيات فى لغة العصر الذى أنتمى إليه ..
                              من المهم أن تعبّر اللغة عن العصر الذى كتبت فيه ، وليس العصر الذى صورته ..

                              ـ 2 ـ
                              إذا كنت أرفض محاولة الاستعلاء من خلال استعادة الماضى ، والتشبث به ، فإنى أرفض ـ فى الوقت نفسه ـ شعور النقص أو الدونية . أشير إلى تأثر الأدباء الأوروبيين بالإبداع العربى من سيرة وحكاية ورواية وغيرها ، مثل سير عنترة وسيف بن ذى يزن والهلالية وحكايات ألف ليلة وقصص الحب العذرى وروايات المعرى وابن طفيل وابن شهيد وابن المقفع إلخ . أذكرك بقول كرتشكوتسكى " إن القرآن وألف ليلة وليلة كانا بمثابة الآثار العظيمة للأدب العربى التى استطاع أجدادنا التعرف عليها فى القرن الثامن عشر " ( 26 ) . وقد تحولت قصة ابن طفيل " حى بن يقظان " إلى قصة أوروبية كتبها دانييل ديفو ، وإن حذف منها كل الدلالات الفلسفية ، وسماّها " روبنسون كروزو " ، فصارت من كلاسيكيات الرواية الأوروبية ، وأفاد منها الفلاسفة وعلماء النفس الأوروبيون ـ وفى مكتبتى مؤلف عن التاريخ الجنسى لروبنسون كروزو ـ وأنتج الغرب العديد من الأفلام التى تتناول قصة روبنسون كروزو فى قالب المغامرة ، وتناست الأقلام ـ وبعضها ، للأسف ، تكتب بالعربية ـ الأصل العربى لقصة ديفو ، وهو نص ينبض بدلالات عميقة ، وليس مجرد تعبير عن أزمات جنسية ونفسية مبعثها الشعور بالوحدة !

                              ***
                              (يتبع)

                              تعليق

                              • د. حسين علي محمد
                                عضو أساسي
                                • 14-10-2007
                                • 867

                                #30
                                راج عن ألف ليلة وليلة معتقد مشابه لمعتقد لعنة الفراعنة . إنه لعنة ألف ليلة وليلة . من يقرأ الكتاب يحل عليه ـ فى نهاية عام القراءة ـ مصيبة تدمر حياته . وربما لهذا السبب ظل الكتاب مخطوطاً لمئات السنين ..
                                لم يعرف لحكايات ألف ليلة مؤلف محدد ، ولا جامع للحكايات ، ولا مترجم ، أو مترجمون ، إلى اللغة العربية . إنها أشبه بمجموعة من الحكايات الشعبية مجهولة المصدر . تقول مقدمة الطبعة الرابعة التى صدرت عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت إنه " ليس لهذا الكتاب من كاتب " . وثمة من أكد أن المؤلف سورى " وضعه بلغة مبسطة سهلة ، متوخياً تعليم اللغة العربية إلى الراغبين فيها أكثر من توخى الاقتراب إلى أفهام الناس " ( 27 ) ، ورأى بأن أصل الكتاب هندى ( 28 ) ، ورأى ثالث بأن الكتاب هندى مطعّم بقصص فارسية وللعرب فيه بعض الفضل ( 29 ) . وجمع البعض بين اختلاف تلك الآراء جميعها ، فقال إن واضع الكتاب أكثر من مؤلف واحد ( 30 ) . إنها لم تتجمد فى صيغة ثابتة ، لأنه لم يكتبها شخص واحد . تعاقب على الإضافة فيها ، وعلى الحذف والتعديل والتبديل ، رواة متعددون بالشفاهة والكتابة . ويرجح أستاذنا أحمد حسن الزيات أن حكايات ألف ليلة وليلة قد جمعت ما بين عامى 1517 ـ 1526 م . ويستند فى اجتهاده إلى أنه قد ورد فى الكتاب ذكر القهوة والباب العالى ودواوين الحكومة فى الدولة العثمانية وغيرها مما لم يكن معروفاً قبل تلك الفترة ، فضلاً عن أن القهوة لم تكن قد عرفت فى الشرق قبل ذلك التاريخ . ولعله يمكن القول إن ألف ليلة وليلة أصبحت ـ فى الأعوام التالية لترجمتها ـ جزءاً أساسياً من الثقافات الغربية ، وأضافت إلى الإبداع الأوروبى ما لم يحققه عمل آخر ، فيما عدا التوراة والأساطير الإغريقية . أقدر قول فاروق خورشيد : " إذا كان العالم قد ظل ـ منذ ترجمة جالان لألف ليلة وحتى الآن ، يعيش فى أحلام الإنسان وأشواقه ومخاوفه من خلال قصصها وخيالها وحبكتها الفنية ، فهذا دين كبير على هذا العالم الجديد ، ولهذه الحضارة العربية الحديثة ، يجب أن يؤديه حباً واحتراماً لأصحاب الفضل فيه " . لقد أثرت ألف ليلة على الأدب الأوروبى تأثيرات متنوعة وكثيرة فى المسرحيات والقصص ، والشعر الغنائى والمسرحيات الغنائية . وقد ربطت الدراسات بين ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية ، وبين ظهور الرواية الأوروبية الحديثة ، واعتبرت حكاية " التفاحات الثلاث " ـ ألف ليلة ـ هى الأصل فى نشأة الرواية البوليسية . وعظم تأثير ألف ليلة وليلة فى أواخر القرن الثامن عشر ، ثم طوال العهد الرومانتيكى [ دعك من الصور المشوهة التى حاول الغرب استيحائها ، أو الصاقها ، بحياة العرب من خلال الأعمال المأخوذة عن حكايات ألف ليلة ] فثمة مسرحيتان ليوجين سكريب هما " على بابا " و " المصباح الصغير العجيب " ، وثمة التأثير المؤكد على روايتى بلزاك الجلد المسحور وزنبقة الوادى " ومسرحية فونتين ألف مسرح ومسرح . كما قدم شارل ايتين مسرحية علاء الدين والمصباح العجيب ، وقدم موران دى بومبينى المصباح الرائع ، وكتب بيير كارموش المصباح العجيب ، وألف تيودور كونيار مسرحية على بابا ومسرحية ألف ليلة . وهناك ألف ساعة وربع ساعة و قصص صينية لجيوليت ، وقصص شرقية " لكايلوس ، وحب أنس الوجود لكلود ايتين سافارى .. ونحن نجد ظلاً لحكاية العبد الدميم ، القذر ، القاسى ، فى حكايات ألف ليلة وليلة ، فى رواية إميل زولا نانا . وفى تقدير جبرا ابراهيم جبرا أن " استخدام التكنيك المتعدد الطبقات ، وتفتيت الزمن ، والاهتمام بحياة الفرد فى المجتمع ـ وهى كلها من الاهتمامات الرئيسة للرواية المعاصرة ـ كل هذه موجودة فى ألف ليلة وليلة " ( 31 ) . أما السينما العالمية ، فقد قدمت العديد من الأفلام علاء الدين والفانوس السحرى ، على بابا ، السندباد البحرى المأخوذة عن حكايات ألف ليلة : لص بغداد ، حكايات ، إلخ

                                ***
                                كم يؤلم النفس أن نجد الإعجاب بتراثنا فى مرايا الآخرين ، فتنقل إلينا عدوى الإعجاب . وكانت ألف ليلة وليلة مهملة فى حياتنا ، لا نكاد نجد فيها أكثر من كتاب للتسلية . فلما تعددت استلهامات الأدب الأوروبى منها ، حاكيناه فى استلهاماته ، وأعلنا نفس الإعجاب الذى خص به كتاب الغرب " ألف ليلة وليلة " ..
                                ولعلى أوافق على القول بإنه إذا كنا لا نعرف ـ تحديداً ـ من هو مؤلف ألف ليلة وليلة ، ومن حوّرها وأضاف إليها ، فإن المهم هو أنها كتبت بالعربية ، عن المجتمع العربى ، والمواطن العربى . حتى لو استقت أصولها من مصادر أمم أخرى . والمثل شكسبير الذى استقى خطوط معظم مسرحياته من مصادر غير انجليزية ، وإن ظل فنه ـ فى النهاية ـ إنجليزياً صرفاً ، بقدر ما كان الفن فى ألف ليلة عربياً صرفاً ..
                                لقد أكد بايرون أنه قرأ ألف ليلة قبل أن يبلغ العاشرة من عمره . وأعلن فولتير أنه لم يبدأ فى كتابة القصة إلاّ بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة ، وتمنى استندال أن يفقد الذاكرة ليستعيد ـ ثانية ـ لذة قراءة ألف ليلة . واعترف أناتول فرانس أن حكايات ألف ليلة كانت فى مقدمة ما قرأه قبل أن يكتب الأدب . كما اعترف هيرمين ميلفيل ان ألف ليلة وليلة هى التى أطلقت خياله ، وأصدرت العالمة الألمانية كاترينا مومزن كتاباً بعنوان " جوتة وألف ليلة وليلة " أكدت فيه تأثر جوتة بألف ليلة وليلة فى أعماله المختلفة ، ومن بينها فاوست . ويقول " لى هانت " : " تعد الليالى العربية بالنسبة لنا واحدة من أجمل الكتب فى العالم ، لا لسبب أن المتعة فيها فقط ، ولكن لأن الألم فيها يمتلك فرص تغيّر وتقلّب لا نهاية لها ، ولأن المتعة فى متناول كل من لديه الجسد والروح والخيال " . ويعترف والتر سكوت : " إنى أعرف القليل عن الشرق إذا لم أضع فى الحسبان ذكريات طفولتى عن قصص ألف ليلة وليلة . أما بورخيس فيعزو تأثره بألف ليلة وتوظيفه لحكاياته فى أعماله إلى أنه قرأهامن أولها إلى آخرها " احتشدت بالسحر . كنت مأخوذاً به " . ( 32 ) . أما جابرييل جارثيا ماركيث فهو يجيب عن السؤال : ما أهم الكتب التى قرأها ؟. يقول : ألف ليلة وليلة ، الملك أوديب لسوفلوكليس ، موبى ديك لملفيل . هكذا بالترتيب . ألف ليلة وليلة ـ القول لماركيث ـ هى الكتاب الأول الذى قرأه فى حياته ، وقد أثر ـ فيما بعد ـ تأثيراً مباشراً على كل كتاباته " " أنا بدأت من الأدب العربى ، من ألف ليلة وليلة بالذات . لقد بدأت من هناك ، ولم أنته بعد . ألف ليلة وليلة أول كتاب قرأته فى حياتى . وجدته فى البيت الذى نشأت فيه ، ولا أعرف أية ترجمة كانت تلك ، لكنى أذكر أنها حوت الأحداث فقط دون تعليقات أو قصائد . وقد كانت أحداثها مثيرة لدرجة ربطتنى بالأدب منذ ذلك الحين " ( 33 ) . لقد وقفت مذهولاً أمام تلك القدرة العربية الهائلة على مقاربة الخيال الأوروبى بكثير من الحس الطبيعى المطلق الذى ربما لا يوجد ـ فى تقديرى ـ من يملك أسراره غير العرب ( 34 ) . ويقول اليوغوسلافى رادى يوجوفتش إن " أهمية قصص ألف ليلة وليلة بالنسبة إلى الآداب الفولكورية اليوغوسلافية قد دفعت بعض العلماء اليوغوسلاف إلى أن يوجهوا أنظارهم بدقة علمية إلى إمكان تأثير هذه المجموعة القصصية فى آدابنا الشعبية قبل كل شئ " ( 35 ) . وهو ما توصلت إليه اليوغوسلافية " نيفنا كرستيتش " فى دراسة مطولة لها عن الموتيفات المشتركة فى ألف ليلة وليلة ومجموعة الملاحم والقصص الشعبية اليوغوسلافية : وجود 57 موتيفاً مشتركاً تعكس تأثير القصص العربى على القصص الشعبى اليوغوسلافى . وإذا كانت الموسوعة الإسلامية ترى فى العلاقة بالعجائب إحدى الإضافات المهمة التى قدمتها العبقرية الإسلامية للأدب الكونى فى شكل قصص وحكايات ألف ليلة وليلة ( 36 ) . فلعلى أذكر ـ أخيراً ـ قول شوفان : " من المستحيل إعداد قائمة كاملة بالآداب التى تأثرت قليلاً أو كثيراً بألف ليلة وليلة "

                                ***
                                من البديهى أن نعيد إلى ألف ليلة وليلة ما تستحقه من مكانة . إنها معلم مهم ومؤثر فى فننا الروائى والقصصى ، فضلاً عن تأثيرها المؤكد فى فن القصة فى العالم جميعاً [ يشير جبرا ابراهيم جبرا إلى أن أسلافنا ـ رحمهم الله ! ـ لم يعدوا ألف ليلة أدباً ـ مجلة " الأديب ـ يناير 1954 ، ويضيف ا . ل . رانيلا أن العرب لم يحتفلوا بألف ليلة وليلة ، باعتبارها نمطاً من الكتابة يشذ عن الكتابة العربية ، وغير جديرة بالاحترام ، لأنها عامية وسوقية ، وليست أدباً بأى حال من الأحوال ، إنما هى خليط من فولكلور الشارع صيغ بلغة سوقية ] ( 37 ) . وحسب اجتهادى الشخصى ، فإن ما سمّى بمحاولات تهذيب ألف ليلة وليلة ، أساء إليها ، أفقدها الكثير من المقومات الفنية والجمالية ، ومن عفوية الفن وبساطته . تحول الكثير من حكاياتها إلى حكايات تعليمية ، وعظية . وقد ظلت الحكايات موضعاً للرقابة والحذف والتبديل ، بدعوى المراعاة الأخلاقية ، وحورت فأصبحت غالبية حكاياتها أدباً للأطفال ـ مع إنها ليست كذلك ! ـ وظلت النظرة إلى النص الأصلى عموماً تنطوى على عدم الاحترام . وكما يرى جمال الدين بن الشيخ ، فإنه حتى فى زمننا الحالى ، فإن نصوص الليالى الألف لا ينظر إليها فى الجامعات العربية على أنها جديرة بالتحليل والدراسة ( 38 ) . بل إن موريس بلانشو يجد فى الليالى الألف ما يخاطب القارئ الأوروبى ابتداء . فهو يتساءل : كيف أمكن لليالى أن تتحدث إلى العرب ؟.. فى باله ـ بالطبع ـ آلاف المحظورات والنواهى ومحاولات وأد التخيل . يضيف بلانشو " إنها تتحدث إلينا " ( 39 )
                                والحق أن تأكيدى على وجوب احتفائنا بألف ليلة وليلة ، لا يعنى أن نظرتنا إليها قاصرة فى إطلاقها . ثمة من يجدون فيها أثراً أدبياً يستحق الكثير من الدرس والاهتمام . أستاذتنا سهير القلماوى فى رسالتها للدكتوراه عن ألف ليلة ، تذهب إلى أن الكتاب كان حافزاً مهماً لعناية الغرب بالشرق ، عناية تتعدى النواحى الاستعمارية والتجارية والسياسية " بل لسنا نغالى إذا أرجعنا كثيراً من قوة حركة الاستشراق وانتشارها إلى ما ترك هذا الأثر قليلاً ومن بعده كثيراً إلى زيارة هذه البلاد الشرقية " . وأشير إلى أن الروائى ودارس التراث الشعبى فاروق خورشيد يخصص فى مكتبه ـ منذ فترة طويلة ـ جلسة أسبوعية لإعادة قراءة ألف ليلة وليلة ، يحضرها مجموعة ممتازة من الأساتذة والدارسين ، يناقشون الحكايات ، ويحللونها ، ويعرضون لجوانب الإبداع الفنى فيها ، والقراءة الواعية الفاهمة لألف ليلة وليلة فى اجتهاد جبرا إبراهيم جبرا أنها " مزيج غنى من الواقع والرمز ، فهى تصور حضارة عصر معين ، وفى الوقت نفسه تكشف عن النزعات البشرية إطلاقاً ، فالكتاب بجملته بحث عن السعادة ، والكثير مما فيه ضرب من الحوادث الحلمية ، تتحقق فيها الرغبات كما تتحقق فى أحلام اليقظة . ومع ذلك ، فإن ذلك المجهول الذى جمع الحكايات بين دفتى كتاب واحد ، أدرك العلاقة الخفية بين ما هو من خلق الخيال وبين ما هو من مقومات الشخصية ، فجعل من شهريار ـ بعد أن فرغت شهرزاد من أحاديثها إليه ـ ملكاً أحكم وأعدل من ذى قبل ، وبذلك دلل على حقيقة رددها فى الغرب نقاد كثيرون ، وهى أن الأدب ينشط المخيلة ، والمخيلة النشيطة تيسّر على المرء إدراك حالات الغير ، وبالتالى فهمهم وحبهم " ( 40 ) .

                                ***
                                يقول ليتمان : إن النواة الأصلية لكتاب " ألف ليلة وليلة " مأخوذة عن كتاب قصصى فارسى يعرف بكتاب هزاز أفسانه [ ألف خرافة ] ربما نقل إلى العربية فى القرن الثالث الهجرى ، وإن مادة هذه القصص معظمها من أصل هندى . ويضيف : " على هذا فإن هذه القصص التى أخذت من كتاب هزاز أفسانه هى التى تكونت منها نواة كتاب ألف ليلة وليلة ، ثم تجمعت حول هذه النواة فى أرض عربية ، طبقات مختلفة من الحكايات " . أما الألمانى فالتر فيبكه فيذهب إلى أن " حواديت ألف ليلة وليلة " لم يكن مهبطها فقط بلاد فارس ، إنما هى أساطير جالت وصالت فى دول المشرق العربى والشرق الأقصى " . ويتساءل ماكدونالد : " من هو ذلك الفنان ، أو الفنانون المصريون ـ حدد الرجل الجنسية ! ـ الذين كتبوا قصص معروف وجودر وأبو قير ؟ ومن الذى ابتكر حكايات الأحدب ، وحكاية مزين بغداد ؟ ومن هو الذى كتب قصة علاء الدين بالعربية ؟ . إن هذه الحكايات جميعاً فيها من الواقعية المباشرة الإنسانية ما يرى القراء الغربيون أنه يباين كل المباينة ما فى القصص الفارسى أو الهندى من بعد عن الواقع " ( 41 )
                                وتخلصاً من مشكلة مؤلف الحكايات : هل هو كاتب واحد أو مجموعة كتاب ، وهل الحكايات ذات أصل فارسى أو هندى عربى أو مصرى .. فقد ذهب العديد من الدارسين إلى أنها ذات أصل فارسى ـ هندى ـ بغدادى ـ مصرى . ربما لأن أحداث الحكايات دارت فى هذه البلدان . لذلك فإنه من الصعب نسبة الحكايات إلى مؤلف واحد ، لكنها جهد مجموعة من المؤلفين ، أضافوا إليها الكثير من الوقائع والأحداث . وبصرف النظر عن الاجتهادات التى تختلففى أصول ألف ليلة : هل هى مقتبسة من الهندية أو الفارسية أو الرومية ، أم هى مؤلف عربى مجهول ، فإن الليالى ـ بالصورة التى تطالع بها قارئها منذ استكملت ملامحها النهائية ـ عربية المكان والزمان والقسمات ، فيما عدا بعض الهوامش التى لا تبدّل من الملامح الأساسية . إن للثقافات العالمية دورها الذى يصعب إغفاله فى رواية الليالى الألف ، ولكن يظل للثقافة العربية دورها الأول والأساس فى " إبداع " ذلك الإنجاز العالمى المهم . وكما يقول الباحث العراقى عبد الغنى الملاح فإن كتاب ألف ليلة وليلة ، بالإضافة إلى كونه نابعاً من مخيلة الشعوب الشرقية بصورة خاصة ، والحضارات العالمية القديمة بصورة عامة ، فإن للعرب الدور الأكبر فى تسجيله ، وإخراجه بشكله النهائى ، وإيصاله إلينا بصيغته الأخيرة ( 42 )
                                والحق أن ألف ليلة وليلة تحمل ـ بالفعل ـ بصمات هندية وفارسية ويونانية وفرعونية وعربية قديمة ، فضلاً عن المجتمعات العربية التى تخلقت بعد ظهور الإسلام ، وهو ما سمى بالأجزاء البغدادية ، أو المصرية . لكن ألف ليلة تظل أثراً اسلامياً ، ينتصر للدين الإسلامى ، وللشخصيات الإسلامية ، ويحفل بالكثير من قيم الدين الإسلامى : المعتقدات والعادات والتقاليد والأمثال والألغاز ، وانطلاقات المكان فى بلاد ومدن اسلامية ، هى القاهرة والبصرة والبغداد والشام وغيرها ، وشخصيات تحيا فى تلك البلاد والمدن ، فثمة السلطان والوزير وعالم الدين والقاضى والصياد والحمّال والحشاش واللص والجندى والصيرفى والنخاس والجندى والدلاّلة والصانع ، وثمة الأسواق وساحات بيع الرقيق والخانات والمساجد والصحراء إلخ . فضلاً عن الكثير من الأمثال والنوادر وقصص الرحلات المنقولة من كتب العرب . لقد وضعت ألف ليلة ـ للمرة الأولى ـ فى مدينة إسلامية ، ثم انتقلت إلى مدينة اسلامية أخرى ، فجرى فيها تبديل وتحوير وحذف واضافة ، ثم انتقلت إلى مدن إسلامية أخرى ، فى عصور تالية ، وأدخلت عليها حكايات جديدة ، فجاءت الليالى الألف تعبيراً عن الحياة فى امتداد العالم الإسلامى . ويلاحظ قاسم عبده قاسم ان فارس وأجزاء كبيرة من الهند ، كانت ـ ولا تزال ـ ضمن دار الإسلام . وكانت الثقافة العربية هى ثقافة المسلمين فى تلك المناطق ( 43 )
                                لذلك فإنه من الصعب أن تنسلخ ألف ليلة من صفتها العربية ، أو تنسلخ صفتها العربية منها . " إن ألف ليلة " حكايات عربية ، كانت تلبى حاجة ثقافية اجتماعية لجماهير الناس فى العالم العربى آنذاك ، كما كانت تعبيراً عن جوانب هامة من حياة الفرد العربى فى تلك الفترة " ( 44 ) . ويقول فانس رادولف إن ألف ليلة وليلة " تشكلت وصقلت من خلال المصادفة وطبيعة الانتقال الشفاهى . فقد أضيفت مواد ، إما عن طريق المصادفة ، أو توافق الظروف ، ولكن لكى تعيش الحكاية لابد أن تلقى قبولاً من المستمعين الذين يحفظونها ويصبحون من بعد رواتها . وبهذا يكون الملايين من المستمعين عبر السنين قد ساهموا فى تشكيل الحكايات ، فى حين صقلها الرواة " ( 45 ) [ ثمة قصتان أصليتان من قصص ألف ليلة وليلة كانتا معروفتين من القرن الثانى الهجرى ـ هلال ناجى ـ المورد جـ45 العدد 2 المجلد 2 ]
                                (يتبع)

                                تعليق

                                يعمل...
                                X