ـ 13 ـ
ـ ناصر التميمى ..
أضاف الشيخ حمود النبهانى وهو يشير إلى الشاب النحيل بالجلوس على الكرسى المواجه له أمام المكتب :
ـ ناصر ولد ذكى .. أثق ـ إن أحسنت تدريبه ـ أنه سيصبح أول صحفى عمانى !
فى حوالى الخامسة والعشرين . قامة طويلة ، رشيقة . وعينان تنمان عن طيبة . له ابتسامة حيية . يرتدى دشداشة أقرب إلى الرمادى ، وعلى رأسه كمة مطرزة بنقوش ..
لم أكن أملك وقتاً للتعليم ولا للمتابعة . قررت أن أترك له الفهم والسؤال فى أثناء خطوات الإعداد لصدور الجريدة . أفكّر بصوت عال ، وأترك له تقليد ما أفعل . يعيده مرة واثنتين حتى يتقنه .
كلمنى ـ وهو يتابع ما أفعله ـ عن بلدته " قريات " ، وأسرته ، ووقوفه مع أبيه فى " مينى ماركت " ـ هذه هى التسمية التى قالها ـ بالقرب من البيت . أظهر تفهماً وميلاً للتعاون ، فذوت الصورة التى تكونت من تصرفات الآخرين ومعاملاتهم . بدا مبتسماً ، وودوداً ، وميالاً للتعلم ..
***
حين تناهت الدقات الخافتة ، سبقنى إلى فتح الباب ..
لم أعرف كيف قدمت زوينة نفسها إليه ، ولا كيف قدم نفسه ، لكنها قضت على مخاوفى ببساطتها العفوية . توالت أسئلتها ، وتحدث ناصر عن تخرجه فى معهد المعلمين بالوطية ، وأبويه ، وأسرته المؤلفة من ولد وبنتين . لم أكن عنيت بسؤاله ، فأضافت إلى ملامح صورته ألواناً وعمقاً ..
أدركت أن وقت ما بعد الظهر هو الذى تجدنى فيه بمفردى . تعيد ترتيب حجرة المكتب ، وتعد الشاى ، أو الطعام ، فى المطبخ ، ولا تنعى هم قدوم أحد بعد مواعيد الدوام ..
لم أعد أفكر إن كانت مشاعرى نحوها حباً ، أو أنها تقف عند حد الصداقة ..
***
تأملت تعبير يهجت حسان : مسقط عبارة عن مجموعة من الأحياء المتناثرة ، تفصل بينها التلال والروابى . مسقط ، أقرب ـ بشوارعها الترابية ، وبيوتها الأفقية التصميم ، والشمس اللاهبة ـ إلى الوادى الجديد وسيوة وسيناء . مدينة تنتمى إلى البداوة والصحراء ، فيما عدا العمارات القليلة المتناثرة فى روى والقرم .
تغيرت صورة مسقط فى عينى . لم تعد موحشة ، أعانى فيها الوحدة والملل . أصبحت مكاناً جديداً لم أتعرف إليه من قبل . كانت تمضى أياماً طويلة فى المطار . تطرق الباب بما ألفته فى أوقات متباعدة . نتكلم ونحن واقفان على الباب الخارجى ، أو نتواعد على لقاء فى فندق مسقط إنتر كونتيننتال ، أو فندق روى ، أو فندق الخليج . تتردد عليها بحكم عملها فى العلاقات العامة بطيران الخليج . أنتظرها فى الموعد الذى تحدده . تجلس أمامى ، هذه السمراء الجميلة ، النقية ، كقطرة الندى . تفصل بيننا الطاولة الصغيرة ، وناصر يتشاغل بتأمل ما حوله ، أو يشارك بكلمات قليلة ، أو يعقب بسؤال . أدرك معنى التفاتها إلى الداخلين من الباب الزجاجى . أحرص ، فلا أبدى ملاحظة . لا تعلو كلماتنا عن الهمس بما يتفق مع هدوء الكافيتريا . يفرض اقتحام نظرات الفضول أو غيابها طول الجلسة وقصرها . يداخلنى ما لم أشعر به من قبل . يجف حلقى ، يتفصّد العرق على جبهتى . تتلعثم الكلمات ، وتضيع المعانى . ربما طالت أحاديثنا . شرّقت وغرّبت . امتدت إلى ظروف عملها وظروف عملى . ربما اكتفينا بكلمات اجترار الود ، وانصرفنا . وكنت أفكر ـ فى حضور الجالس بيننا ، والمتناثرين على الموائد ـ أن أضمها إلى صدرى ، وأسلم نفسى لتصورات ، لكننى أكتم مشاعرى . وكانت النشوة تغمرنى إذا لامستنى ـ على أى نحو ـ فى حركتها بجانبى . مجرد أن يمس بنطلونها ذراعى ، أو تصطدم قدمها بقدمى . أى شئ ..
***
كانت المرة الأولى التى أترك فيها الحمرية وروى والولجة ومطرح ..
جلس ناصر إلى جانبى فى السيارة ، وجلست زوينة وأخوها الصغير فى المقعد الخلفى ..
لم تكن تصحبنى إلى أى مكان دون أن يرافقها أخوها الصغير . كنت أحرض ناصر على أن يصحبنى لألتقى بها ، وليرافقنا فى الأماكن التى تخشى ـ نخشى ـ أن يرانا فيها أحد . يغلب عليها التوتر ـ وربما الخوف ـ من أن يراها أحد معى . لزنجبار تقاليدها أيضاً . العمانيون هم العمانيون ، هناك وهنا . عزلة البيتين فى حضن الجبل تمنع نظرات الفضول والمساءلة . كان ناصر يعتذر فى البداية . ثم يرضخ لإصرارى . وكان يسهّل علينا الأمر أننا لم نكن نفعل ما يفعله المحبون . فى بالى ، حرصها على أن تظل العلاقة بين صديقين ، لا تجاوزها . ثمة حواجز غير مرئية نشأت بينى وبينها ، أتبينها دون أن أراها ..
يهمنى ألاّ أفقدها ثانية . وكنت أنفض رأسى ، ربما تغيب صورتها . لكن الصورة تظل فى موضعها من الذهن . ليست ثابتة ، ليست مجرد وجه وعينين وأنف وشفتين . تتبدّل فى حركات وتصرفات وإيماءات ، من لقاءاتنا فى المكتب ، فى السيارة ، فى الشوارع ، فى الفنادق . تختلط الصور وتتشابك ، فلا يبقى إلا صورة زوينة وحدها ، واضحة الملامح والقسمات ..
كانت ترتدى قميصاً ينسدل إلى الركبتين ، وسروالاً فضفاضاً طويلاً ، يضيق عند الكاحلين ، وتلف شعرها بعصابة من الحرير ..
لاحظت نظرتى :
ـ لو أنى ظللت فى زنجبار ، ربما كنت أرتدى الشراع ..
ـ الشراع ؟
ـ ثوب واسع ..
واتسعت ابتسامتها :
ـ فرى سايز كما يقال ..
الطريق إلى نزوى شق طويل ـ فى معظمه ـ بين الصخور وسلاسل الجبال الصغيرة ، المتلاحقة ، وإن تكشف الساحل كالومضات السريعة على يمين الطريق . والجبل الأخضر ـ فى البعد ـ تكسوه الثلوج ، تضوى بألق الشمس ..
قال لى سليم الغافرى :
ـ سميت نزوى على اسم جبل مرتفع ، أو نسبة لمورد ماء كان تحت قلعتها الهائلة .. سميت كذلك بيضة الإسلام ..
تركنا السيارة فى السوق الرئيسية . أخلينا لأقدامنا السير فى الشوارع والأسواق والتطلع إلى البنايات والدكاكين والأسواق والقلاع والحصون والجامع الكبير . قال ناصر إنه لا يزال مقراً لدراسة الفقه والعلوم ، وجامع سَعَالْ ، ومسجد الشواذنة ، ومسجد الشرجة ، ومسجد العين ، وحصن تنوف ، وحصن الرويدة ، ومحال صنع الحلوى العمانية والمشغولات الذهبية والفضية . وثمة أجانب ثلاثة ـ خمنت أنهم من الإنجليز ـ فى أيديهم خرائط ، يحددون من خلالها المواقع التى يقفون فيها ، أو التى يتجهون لرؤيتها ..
قلعة نزوى ..
برج دائرى كبير ، قديم ، لونه أقرب إلى الصفرة ، به فتحات للمدفعية . تهدمت بعض الجدران ، أو تطايرت الحواف ، وامتلأت الجدران الأقرب إلى الصفرة بعشرات الثقوب من طلقات البنادق أو المدافع الرشاشة . الباب الضخم مطعم بالصدف ، والأرض تغطت بقطع الحجارة ، والجدران المتطايرة من القصف ، والرمال . الفتحات فى أعلى ، تطل على الساحة المقابلة والبنايات وأشجار النخيل والجبال الممتدة إلى مدى الأفق ..
حصن جبرين ..
ثلاثة طوابق مبنية بالجص والصخور . السور من حولها يمتد طويلاً ، يطل على ما حوله ببوابات وفتحات للمراقبة وأبراج . ذات مدخل مقوس ، والباب الخشبى الكبير مزين بنقوش تقليدية ، نوافذها مربعة ، مشبكة ، ذات عماد حجرى . تطل على ساحة القلعة الداخلية . الأسقف الخشبية مزدانة بالزخرفة ، والجدران منقوشة بآيات القرآن وأبيات الشعر والزخارف الفنية وأعمال الجص النافرة ، ويبدو من الكوات والتجاويف ضوء النهار ومشاهد الجبل الأخضر وراء القلعة ، وأفق تلتقى فيه الخضرة والصفرة ..
قال ناصر :
ـ شيده الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف اليعربى لحماية منطقة وادى قريات ..
ثم وهو يشير بيده :
ـ فى الداخل .. يوجد ضريح الإمام بلعرب ..
صعدنا إلى ما سمته زوينة مجلس الإمام الخاص فى أعلى القلعة : حجرة واسعة ، يتردد فيها الهواء . ذات سقف مطلى بألوان واضحة ، وتطل على المشهد الممتد من السهول حتى مرتفعات الجبل الأخضر ..
كان ناصر يقرأ على جدار مبنى قديم فى السوق الكبيرة منشوراً من الوالى ، يحذّر فيه المواطنين من عدم أداء صلاة الجمعة ، وأن ذلك مخالف لتعاليم الدين وأوامر السلطان ، ويشدد على وجوب التزام الجميع بالسعى إلى الجامع الكبير فى موعد صلاة الجمعة ..
فاجأتنى زوينة بالقول :
ـ أنت لم تحدثنى عن نفسك .. عملك فى القاهرة وأسرتك ..
أضافت بإيماءة من رأسها :
ـ وغير ذلك ..
ـ أعمل ـ كما تعلمين ـ صحفياً .. وأبى على المعاش .. لكنه ينتمى فى أفكاره إلى الجيل القديم .. وأمى أكثر من طيبة .. ولى أخوان .. ولدان ، وطفلة ..
ـ هل عملك فى القاهرة مماثل لعملك هنا ..
ـ أنا صحفى .. كما قلت لك ..
ـ أقصد .. هل تعد الجريدة بمفردك ؟..
ـ طبعاً لا .. الجريدة هناك مجهود آلاف الصحفيين والإداريين والفنيين ، بالإضافة إلى المطابع والإعلانات والتوزيع ..
ودفعت فى فمى برشفة أخيرة من فنجان القهوة :
ـ شئ مختلف تماماً ..
واتجهت إليها بنظرة تطلب تصديقها :
ـ لكننى استفدت من تجربة المحرر الواحد ..
لاحظت انشغال ناصر بقراءة بيان من الوالى علق على جدار البناية المجاورة للقلعة . قالت :
ـ وقلبك .. ما أحواله ؟
ـ ثبتت سلامته عندما أجريت الكشف الطبى عليه قبل تعيينى فى الجريدة ..
ابتسمت :
ـ أعنى أحواله العاطفية ..
توقعت أن تهمس لى بالبراءة التى اعتدتها : أحبك ..
ـ خطيبتى ـ قلت لك ـ اسمها مها ..
هممت بإعلان ما فى نفسى . ثم تصورت ما بعد المصارحة ، فابتلعت الكلمات ..
قالت :
ـ متى تتزوجان ؟..
ـ قولى .. متى تفترقان ؟
أظهرت الفزع :
ـ لماذا ؟..
ـ تريد أن تكتفى بجنى الثمار ..
أردفت للدهشة المتسائلة :
ـ تفضل أن تنتظر فى القاهرة حتى أكوّن نفسى على حد تعبير أمها .. ثم نتزوج ..
ـ هل عرضت عليها المجىء معك ؟..
ـ أمها رفضت مجرد الفكرة .. وصوتها من صوت أمها ..
تكلمت ..
رويت حتى ما لم أكن أتصور أنى أبوح به . ما كنت أعتبره سرّى الخاص ، فلا يعرفه الآخرون . وتناثرت أسماء القاهرة ، ومها ، والجريدة ، وأم مها ، وأيمن ، وشارع الفجالة ، وميدان الدقى ، ورئيس التحرير ..
أتوقع ـ ويضايقنى ـ أن الأسئلة التى اتجه بها إليها ، ترد عنها أمها . تتململ فى جلستها على الكنبة ، أوسط الصالة ، وتجيب . تحمّل الإجابة تلميحات وتلميزات وشروطاً لامعنى لها .. لكن الصمت السادر ، واكتفاء مها بأن تحنى الرأس ، فلا تتكلم ، يدفعنى إلى مخاطبتها ، وتوقع الرد من الأم المتربعة على الكنبة ..
قالت زوينة :
ـ كما فهمت .. أحوالك المادية مستقرة ..
ـ استقرار لا يشى بتطور ..
وتنهدت :
ـ لهذا سافرت ..
قالت فى تخابث طفولى :
ـ هل خطبت فتاتك قبل أن تعد نفسك للسفر ..
ـ بدا أن إتمام الزواج غائب .. فبدأت البحث فى إمكانية السفر ..
ـ مشكلة !
أمنت على قولها :
ـ مشكلة !..
***
تنبهت إلى الأوراق المطوية على الطاولة أمام المكتب ، تناثرت فيها أسماء أشخاص وأماكن وأحداث ، وكلمات واضحة وناقصة ومطموسة ..
حين سأل عبد العال عنها ، بدا عليه تيقن أنى قرأت ما بها . كنت قد طالعتها بالفعل ، تصفحتها ، لكن المعانى ظلت غائبة ..
قال وهو يعيد طى الأوراق فى يده :
ـ أنت تدفع عمرك ثمناً لمن لا يستحقونه !..
أضاف للدهشة المتسائلة فى عينى :
ـ إنها أم لطفلين .. وأتصور نفسى زوجاً لا بأس به .. لكن الخيانة فى دمها ..
وتلون صوته بحزن :
ـ كنت أضع كل ما أحصل عليه هنا ، فى يديها .. ثم اكتشفت أنى كنت أعطى النقود بواسطتها لشخص ثالث ..
فاجأتنى الكلمات . أنس لى إلى حد مكاشفتى بأسرار عمله : المدرسة والتلاميذ ومفتشى الوزارة .. لكننى لم أتصور أنه يفتح باباً نسيت حتى أنه موجود ..
قلت فى ارتباك ، ربما لأهون عليه :
ـ ربما الأمر مجرد شك ..
ـ المثل يقول إن الزوج آخر من يعلم .. وهذا صحيح ..
أضاف بلهجة واشية بالألم :
ـ الجزار أسفل البيت صارحنى فى بساطة ، أنه تصور أنى راض عما يحدث ..
وعلا صوته :
ـ تصور الرجل أنى أدارى على المرأة خيانتها ..
استعدت الأمر من بداياته : الكلمات المتشائمة ، والمشكلات التى بلا حل ، والحديث فى الموت ، وكره الحياة ، وتوقع النهاية ، وتمنيها ..
قال :
ـ حكيت لك لأنك صديقى الوحيد هنا ..
وانتزع ابتسامة فاترة :
ـ الصداقة هنا غير متاحة حتى بين الرجل والرجل ..
وتهدج صوته بالانفعال :
ـ الناس هنا أصدقاء بالمصادفة .. الظروف الطارئة هى التى فرضت صداقتهم ..
ورحلت نظراته إلى بعيد :
ـ حين يعودون إلى بلادهم ينسون حتى مسقط نفسها ..
وأنا أهز رأسى :
ـ إلاّ هذا .. مسقط مدينة لا تنسى !..
ـ ناصر التميمى ..
أضاف الشيخ حمود النبهانى وهو يشير إلى الشاب النحيل بالجلوس على الكرسى المواجه له أمام المكتب :
ـ ناصر ولد ذكى .. أثق ـ إن أحسنت تدريبه ـ أنه سيصبح أول صحفى عمانى !
فى حوالى الخامسة والعشرين . قامة طويلة ، رشيقة . وعينان تنمان عن طيبة . له ابتسامة حيية . يرتدى دشداشة أقرب إلى الرمادى ، وعلى رأسه كمة مطرزة بنقوش ..
لم أكن أملك وقتاً للتعليم ولا للمتابعة . قررت أن أترك له الفهم والسؤال فى أثناء خطوات الإعداد لصدور الجريدة . أفكّر بصوت عال ، وأترك له تقليد ما أفعل . يعيده مرة واثنتين حتى يتقنه .
كلمنى ـ وهو يتابع ما أفعله ـ عن بلدته " قريات " ، وأسرته ، ووقوفه مع أبيه فى " مينى ماركت " ـ هذه هى التسمية التى قالها ـ بالقرب من البيت . أظهر تفهماً وميلاً للتعاون ، فذوت الصورة التى تكونت من تصرفات الآخرين ومعاملاتهم . بدا مبتسماً ، وودوداً ، وميالاً للتعلم ..
***
حين تناهت الدقات الخافتة ، سبقنى إلى فتح الباب ..
لم أعرف كيف قدمت زوينة نفسها إليه ، ولا كيف قدم نفسه ، لكنها قضت على مخاوفى ببساطتها العفوية . توالت أسئلتها ، وتحدث ناصر عن تخرجه فى معهد المعلمين بالوطية ، وأبويه ، وأسرته المؤلفة من ولد وبنتين . لم أكن عنيت بسؤاله ، فأضافت إلى ملامح صورته ألواناً وعمقاً ..
أدركت أن وقت ما بعد الظهر هو الذى تجدنى فيه بمفردى . تعيد ترتيب حجرة المكتب ، وتعد الشاى ، أو الطعام ، فى المطبخ ، ولا تنعى هم قدوم أحد بعد مواعيد الدوام ..
لم أعد أفكر إن كانت مشاعرى نحوها حباً ، أو أنها تقف عند حد الصداقة ..
***
تأملت تعبير يهجت حسان : مسقط عبارة عن مجموعة من الأحياء المتناثرة ، تفصل بينها التلال والروابى . مسقط ، أقرب ـ بشوارعها الترابية ، وبيوتها الأفقية التصميم ، والشمس اللاهبة ـ إلى الوادى الجديد وسيوة وسيناء . مدينة تنتمى إلى البداوة والصحراء ، فيما عدا العمارات القليلة المتناثرة فى روى والقرم .
تغيرت صورة مسقط فى عينى . لم تعد موحشة ، أعانى فيها الوحدة والملل . أصبحت مكاناً جديداً لم أتعرف إليه من قبل . كانت تمضى أياماً طويلة فى المطار . تطرق الباب بما ألفته فى أوقات متباعدة . نتكلم ونحن واقفان على الباب الخارجى ، أو نتواعد على لقاء فى فندق مسقط إنتر كونتيننتال ، أو فندق روى ، أو فندق الخليج . تتردد عليها بحكم عملها فى العلاقات العامة بطيران الخليج . أنتظرها فى الموعد الذى تحدده . تجلس أمامى ، هذه السمراء الجميلة ، النقية ، كقطرة الندى . تفصل بيننا الطاولة الصغيرة ، وناصر يتشاغل بتأمل ما حوله ، أو يشارك بكلمات قليلة ، أو يعقب بسؤال . أدرك معنى التفاتها إلى الداخلين من الباب الزجاجى . أحرص ، فلا أبدى ملاحظة . لا تعلو كلماتنا عن الهمس بما يتفق مع هدوء الكافيتريا . يفرض اقتحام نظرات الفضول أو غيابها طول الجلسة وقصرها . يداخلنى ما لم أشعر به من قبل . يجف حلقى ، يتفصّد العرق على جبهتى . تتلعثم الكلمات ، وتضيع المعانى . ربما طالت أحاديثنا . شرّقت وغرّبت . امتدت إلى ظروف عملها وظروف عملى . ربما اكتفينا بكلمات اجترار الود ، وانصرفنا . وكنت أفكر ـ فى حضور الجالس بيننا ، والمتناثرين على الموائد ـ أن أضمها إلى صدرى ، وأسلم نفسى لتصورات ، لكننى أكتم مشاعرى . وكانت النشوة تغمرنى إذا لامستنى ـ على أى نحو ـ فى حركتها بجانبى . مجرد أن يمس بنطلونها ذراعى ، أو تصطدم قدمها بقدمى . أى شئ ..
***
كانت المرة الأولى التى أترك فيها الحمرية وروى والولجة ومطرح ..
جلس ناصر إلى جانبى فى السيارة ، وجلست زوينة وأخوها الصغير فى المقعد الخلفى ..
لم تكن تصحبنى إلى أى مكان دون أن يرافقها أخوها الصغير . كنت أحرض ناصر على أن يصحبنى لألتقى بها ، وليرافقنا فى الأماكن التى تخشى ـ نخشى ـ أن يرانا فيها أحد . يغلب عليها التوتر ـ وربما الخوف ـ من أن يراها أحد معى . لزنجبار تقاليدها أيضاً . العمانيون هم العمانيون ، هناك وهنا . عزلة البيتين فى حضن الجبل تمنع نظرات الفضول والمساءلة . كان ناصر يعتذر فى البداية . ثم يرضخ لإصرارى . وكان يسهّل علينا الأمر أننا لم نكن نفعل ما يفعله المحبون . فى بالى ، حرصها على أن تظل العلاقة بين صديقين ، لا تجاوزها . ثمة حواجز غير مرئية نشأت بينى وبينها ، أتبينها دون أن أراها ..
يهمنى ألاّ أفقدها ثانية . وكنت أنفض رأسى ، ربما تغيب صورتها . لكن الصورة تظل فى موضعها من الذهن . ليست ثابتة ، ليست مجرد وجه وعينين وأنف وشفتين . تتبدّل فى حركات وتصرفات وإيماءات ، من لقاءاتنا فى المكتب ، فى السيارة ، فى الشوارع ، فى الفنادق . تختلط الصور وتتشابك ، فلا يبقى إلا صورة زوينة وحدها ، واضحة الملامح والقسمات ..
كانت ترتدى قميصاً ينسدل إلى الركبتين ، وسروالاً فضفاضاً طويلاً ، يضيق عند الكاحلين ، وتلف شعرها بعصابة من الحرير ..
لاحظت نظرتى :
ـ لو أنى ظللت فى زنجبار ، ربما كنت أرتدى الشراع ..
ـ الشراع ؟
ـ ثوب واسع ..
واتسعت ابتسامتها :
ـ فرى سايز كما يقال ..
الطريق إلى نزوى شق طويل ـ فى معظمه ـ بين الصخور وسلاسل الجبال الصغيرة ، المتلاحقة ، وإن تكشف الساحل كالومضات السريعة على يمين الطريق . والجبل الأخضر ـ فى البعد ـ تكسوه الثلوج ، تضوى بألق الشمس ..
قال لى سليم الغافرى :
ـ سميت نزوى على اسم جبل مرتفع ، أو نسبة لمورد ماء كان تحت قلعتها الهائلة .. سميت كذلك بيضة الإسلام ..
تركنا السيارة فى السوق الرئيسية . أخلينا لأقدامنا السير فى الشوارع والأسواق والتطلع إلى البنايات والدكاكين والأسواق والقلاع والحصون والجامع الكبير . قال ناصر إنه لا يزال مقراً لدراسة الفقه والعلوم ، وجامع سَعَالْ ، ومسجد الشواذنة ، ومسجد الشرجة ، ومسجد العين ، وحصن تنوف ، وحصن الرويدة ، ومحال صنع الحلوى العمانية والمشغولات الذهبية والفضية . وثمة أجانب ثلاثة ـ خمنت أنهم من الإنجليز ـ فى أيديهم خرائط ، يحددون من خلالها المواقع التى يقفون فيها ، أو التى يتجهون لرؤيتها ..
قلعة نزوى ..
برج دائرى كبير ، قديم ، لونه أقرب إلى الصفرة ، به فتحات للمدفعية . تهدمت بعض الجدران ، أو تطايرت الحواف ، وامتلأت الجدران الأقرب إلى الصفرة بعشرات الثقوب من طلقات البنادق أو المدافع الرشاشة . الباب الضخم مطعم بالصدف ، والأرض تغطت بقطع الحجارة ، والجدران المتطايرة من القصف ، والرمال . الفتحات فى أعلى ، تطل على الساحة المقابلة والبنايات وأشجار النخيل والجبال الممتدة إلى مدى الأفق ..
حصن جبرين ..
ثلاثة طوابق مبنية بالجص والصخور . السور من حولها يمتد طويلاً ، يطل على ما حوله ببوابات وفتحات للمراقبة وأبراج . ذات مدخل مقوس ، والباب الخشبى الكبير مزين بنقوش تقليدية ، نوافذها مربعة ، مشبكة ، ذات عماد حجرى . تطل على ساحة القلعة الداخلية . الأسقف الخشبية مزدانة بالزخرفة ، والجدران منقوشة بآيات القرآن وأبيات الشعر والزخارف الفنية وأعمال الجص النافرة ، ويبدو من الكوات والتجاويف ضوء النهار ومشاهد الجبل الأخضر وراء القلعة ، وأفق تلتقى فيه الخضرة والصفرة ..
قال ناصر :
ـ شيده الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف اليعربى لحماية منطقة وادى قريات ..
ثم وهو يشير بيده :
ـ فى الداخل .. يوجد ضريح الإمام بلعرب ..
صعدنا إلى ما سمته زوينة مجلس الإمام الخاص فى أعلى القلعة : حجرة واسعة ، يتردد فيها الهواء . ذات سقف مطلى بألوان واضحة ، وتطل على المشهد الممتد من السهول حتى مرتفعات الجبل الأخضر ..
كان ناصر يقرأ على جدار مبنى قديم فى السوق الكبيرة منشوراً من الوالى ، يحذّر فيه المواطنين من عدم أداء صلاة الجمعة ، وأن ذلك مخالف لتعاليم الدين وأوامر السلطان ، ويشدد على وجوب التزام الجميع بالسعى إلى الجامع الكبير فى موعد صلاة الجمعة ..
فاجأتنى زوينة بالقول :
ـ أنت لم تحدثنى عن نفسك .. عملك فى القاهرة وأسرتك ..
أضافت بإيماءة من رأسها :
ـ وغير ذلك ..
ـ أعمل ـ كما تعلمين ـ صحفياً .. وأبى على المعاش .. لكنه ينتمى فى أفكاره إلى الجيل القديم .. وأمى أكثر من طيبة .. ولى أخوان .. ولدان ، وطفلة ..
ـ هل عملك فى القاهرة مماثل لعملك هنا ..
ـ أنا صحفى .. كما قلت لك ..
ـ أقصد .. هل تعد الجريدة بمفردك ؟..
ـ طبعاً لا .. الجريدة هناك مجهود آلاف الصحفيين والإداريين والفنيين ، بالإضافة إلى المطابع والإعلانات والتوزيع ..
ودفعت فى فمى برشفة أخيرة من فنجان القهوة :
ـ شئ مختلف تماماً ..
واتجهت إليها بنظرة تطلب تصديقها :
ـ لكننى استفدت من تجربة المحرر الواحد ..
لاحظت انشغال ناصر بقراءة بيان من الوالى علق على جدار البناية المجاورة للقلعة . قالت :
ـ وقلبك .. ما أحواله ؟
ـ ثبتت سلامته عندما أجريت الكشف الطبى عليه قبل تعيينى فى الجريدة ..
ابتسمت :
ـ أعنى أحواله العاطفية ..
توقعت أن تهمس لى بالبراءة التى اعتدتها : أحبك ..
ـ خطيبتى ـ قلت لك ـ اسمها مها ..
هممت بإعلان ما فى نفسى . ثم تصورت ما بعد المصارحة ، فابتلعت الكلمات ..
قالت :
ـ متى تتزوجان ؟..
ـ قولى .. متى تفترقان ؟
أظهرت الفزع :
ـ لماذا ؟..
ـ تريد أن تكتفى بجنى الثمار ..
أردفت للدهشة المتسائلة :
ـ تفضل أن تنتظر فى القاهرة حتى أكوّن نفسى على حد تعبير أمها .. ثم نتزوج ..
ـ هل عرضت عليها المجىء معك ؟..
ـ أمها رفضت مجرد الفكرة .. وصوتها من صوت أمها ..
تكلمت ..
رويت حتى ما لم أكن أتصور أنى أبوح به . ما كنت أعتبره سرّى الخاص ، فلا يعرفه الآخرون . وتناثرت أسماء القاهرة ، ومها ، والجريدة ، وأم مها ، وأيمن ، وشارع الفجالة ، وميدان الدقى ، ورئيس التحرير ..
أتوقع ـ ويضايقنى ـ أن الأسئلة التى اتجه بها إليها ، ترد عنها أمها . تتململ فى جلستها على الكنبة ، أوسط الصالة ، وتجيب . تحمّل الإجابة تلميحات وتلميزات وشروطاً لامعنى لها .. لكن الصمت السادر ، واكتفاء مها بأن تحنى الرأس ، فلا تتكلم ، يدفعنى إلى مخاطبتها ، وتوقع الرد من الأم المتربعة على الكنبة ..
قالت زوينة :
ـ كما فهمت .. أحوالك المادية مستقرة ..
ـ استقرار لا يشى بتطور ..
وتنهدت :
ـ لهذا سافرت ..
قالت فى تخابث طفولى :
ـ هل خطبت فتاتك قبل أن تعد نفسك للسفر ..
ـ بدا أن إتمام الزواج غائب .. فبدأت البحث فى إمكانية السفر ..
ـ مشكلة !
أمنت على قولها :
ـ مشكلة !..
***
تنبهت إلى الأوراق المطوية على الطاولة أمام المكتب ، تناثرت فيها أسماء أشخاص وأماكن وأحداث ، وكلمات واضحة وناقصة ومطموسة ..
حين سأل عبد العال عنها ، بدا عليه تيقن أنى قرأت ما بها . كنت قد طالعتها بالفعل ، تصفحتها ، لكن المعانى ظلت غائبة ..
قال وهو يعيد طى الأوراق فى يده :
ـ أنت تدفع عمرك ثمناً لمن لا يستحقونه !..
أضاف للدهشة المتسائلة فى عينى :
ـ إنها أم لطفلين .. وأتصور نفسى زوجاً لا بأس به .. لكن الخيانة فى دمها ..
وتلون صوته بحزن :
ـ كنت أضع كل ما أحصل عليه هنا ، فى يديها .. ثم اكتشفت أنى كنت أعطى النقود بواسطتها لشخص ثالث ..
فاجأتنى الكلمات . أنس لى إلى حد مكاشفتى بأسرار عمله : المدرسة والتلاميذ ومفتشى الوزارة .. لكننى لم أتصور أنه يفتح باباً نسيت حتى أنه موجود ..
قلت فى ارتباك ، ربما لأهون عليه :
ـ ربما الأمر مجرد شك ..
ـ المثل يقول إن الزوج آخر من يعلم .. وهذا صحيح ..
أضاف بلهجة واشية بالألم :
ـ الجزار أسفل البيت صارحنى فى بساطة ، أنه تصور أنى راض عما يحدث ..
وعلا صوته :
ـ تصور الرجل أنى أدارى على المرأة خيانتها ..
استعدت الأمر من بداياته : الكلمات المتشائمة ، والمشكلات التى بلا حل ، والحديث فى الموت ، وكره الحياة ، وتوقع النهاية ، وتمنيها ..
قال :
ـ حكيت لك لأنك صديقى الوحيد هنا ..
وانتزع ابتسامة فاترة :
ـ الصداقة هنا غير متاحة حتى بين الرجل والرجل ..
وتهدج صوته بالانفعال :
ـ الناس هنا أصدقاء بالمصادفة .. الظروف الطارئة هى التى فرضت صداقتهم ..
ورحلت نظراته إلى بعيد :
ـ حين يعودون إلى بلادهم ينسون حتى مسقط نفسها ..
وأنا أهز رأسى :
ـ إلاّ هذا .. مسقط مدينة لا تنسى !..
تعليق