النص الكامل لرواية «زوينة» لمحمد جبريل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #16
    ـ 13 ـ

    ـ ناصر التميمى ..
    أضاف الشيخ حمود النبهانى وهو يشير إلى الشاب النحيل بالجلوس على الكرسى المواجه له أمام المكتب :
    ـ ناصر ولد ذكى .. أثق ـ إن أحسنت تدريبه ـ أنه سيصبح أول صحفى عمانى !
    فى حوالى الخامسة والعشرين . قامة طويلة ، رشيقة . وعينان تنمان عن طيبة . له ابتسامة حيية . يرتدى دشداشة أقرب إلى الرمادى ، وعلى رأسه كمة مطرزة بنقوش ..
    لم أكن أملك وقتاً للتعليم ولا للمتابعة . قررت أن أترك له الفهم والسؤال فى أثناء خطوات الإعداد لصدور الجريدة . أفكّر بصوت عال ، وأترك له تقليد ما أفعل . يعيده مرة واثنتين حتى يتقنه .
    كلمنى ـ وهو يتابع ما أفعله ـ عن بلدته " قريات " ، وأسرته ، ووقوفه مع أبيه فى " مينى ماركت " ـ هذه هى التسمية التى قالها ـ بالقرب من البيت . أظهر تفهماً وميلاً للتعاون ، فذوت الصورة التى تكونت من تصرفات الآخرين ومعاملاتهم . بدا مبتسماً ، وودوداً ، وميالاً للتعلم ..
    ***
    حين تناهت الدقات الخافتة ، سبقنى إلى فتح الباب ..
    لم أعرف كيف قدمت زوينة نفسها إليه ، ولا كيف قدم نفسه ، لكنها قضت على مخاوفى ببساطتها العفوية . توالت أسئلتها ، وتحدث ناصر عن تخرجه فى معهد المعلمين بالوطية ، وأبويه ، وأسرته المؤلفة من ولد وبنتين . لم أكن عنيت بسؤاله ، فأضافت إلى ملامح صورته ألواناً وعمقاً ..
    أدركت أن وقت ما بعد الظهر هو الذى تجدنى فيه بمفردى . تعيد ترتيب حجرة المكتب ، وتعد الشاى ، أو الطعام ، فى المطبخ ، ولا تنعى هم قدوم أحد بعد مواعيد الدوام ..
    لم أعد أفكر إن كانت مشاعرى نحوها حباً ، أو أنها تقف عند حد الصداقة ..
    ***
    تأملت تعبير يهجت حسان : مسقط عبارة عن مجموعة من الأحياء المتناثرة ، تفصل بينها التلال والروابى . مسقط ، أقرب ـ بشوارعها الترابية ، وبيوتها الأفقية التصميم ، والشمس اللاهبة ـ إلى الوادى الجديد وسيوة وسيناء . مدينة تنتمى إلى البداوة والصحراء ، فيما عدا العمارات القليلة المتناثرة فى روى والقرم .
    تغيرت صورة مسقط فى عينى . لم تعد موحشة ، أعانى فيها الوحدة والملل . أصبحت مكاناً جديداً لم أتعرف إليه من قبل . كانت تمضى أياماً طويلة فى المطار . تطرق الباب بما ألفته فى أوقات متباعدة . نتكلم ونحن واقفان على الباب الخارجى ، أو نتواعد على لقاء فى فندق مسقط إنتر كونتيننتال ، أو فندق روى ، أو فندق الخليج . تتردد عليها بحكم عملها فى العلاقات العامة بطيران الخليج . أنتظرها فى الموعد الذى تحدده . تجلس أمامى ، هذه السمراء الجميلة ، النقية ، كقطرة الندى . تفصل بيننا الطاولة الصغيرة ، وناصر يتشاغل بتأمل ما حوله ، أو يشارك بكلمات قليلة ، أو يعقب بسؤال . أدرك معنى التفاتها إلى الداخلين من الباب الزجاجى . أحرص ، فلا أبدى ملاحظة . لا تعلو كلماتنا عن الهمس بما يتفق مع هدوء الكافيتريا . يفرض اقتحام نظرات الفضول أو غيابها طول الجلسة وقصرها . يداخلنى ما لم أشعر به من قبل . يجف حلقى ، يتفصّد العرق على جبهتى . تتلعثم الكلمات ، وتضيع المعانى . ربما طالت أحاديثنا . شرّقت وغرّبت . امتدت إلى ظروف عملها وظروف عملى . ربما اكتفينا بكلمات اجترار الود ، وانصرفنا . وكنت أفكر ـ فى حضور الجالس بيننا ، والمتناثرين على الموائد ـ أن أضمها إلى صدرى ، وأسلم نفسى لتصورات ، لكننى أكتم مشاعرى . وكانت النشوة تغمرنى إذا لامستنى ـ على أى نحو ـ فى حركتها بجانبى . مجرد أن يمس بنطلونها ذراعى ، أو تصطدم قدمها بقدمى . أى شئ ..
    ***
    كانت المرة الأولى التى أترك فيها الحمرية وروى والولجة ومطرح ..
    جلس ناصر إلى جانبى فى السيارة ، وجلست زوينة وأخوها الصغير فى المقعد الخلفى ..
    لم تكن تصحبنى إلى أى مكان دون أن يرافقها أخوها الصغير . كنت أحرض ناصر على أن يصحبنى لألتقى بها ، وليرافقنا فى الأماكن التى تخشى ـ نخشى ـ أن يرانا فيها أحد . يغلب عليها التوتر ـ وربما الخوف ـ من أن يراها أحد معى . لزنجبار تقاليدها أيضاً . العمانيون هم العمانيون ، هناك وهنا . عزلة البيتين فى حضن الجبل تمنع نظرات الفضول والمساءلة . كان ناصر يعتذر فى البداية . ثم يرضخ لإصرارى . وكان يسهّل علينا الأمر أننا لم نكن نفعل ما يفعله المحبون . فى بالى ، حرصها على أن تظل العلاقة بين صديقين ، لا تجاوزها . ثمة حواجز غير مرئية نشأت بينى وبينها ، أتبينها دون أن أراها ..
    يهمنى ألاّ أفقدها ثانية . وكنت أنفض رأسى ، ربما تغيب صورتها . لكن الصورة تظل فى موضعها من الذهن . ليست ثابتة ، ليست مجرد وجه وعينين وأنف وشفتين . تتبدّل فى حركات وتصرفات وإيماءات ، من لقاءاتنا فى المكتب ، فى السيارة ، فى الشوارع ، فى الفنادق . تختلط الصور وتتشابك ، فلا يبقى إلا صورة زوينة وحدها ، واضحة الملامح والقسمات ..
    كانت ترتدى قميصاً ينسدل إلى الركبتين ، وسروالاً فضفاضاً طويلاً ، يضيق عند الكاحلين ، وتلف شعرها بعصابة من الحرير ..
    لاحظت نظرتى :
    ـ لو أنى ظللت فى زنجبار ، ربما كنت أرتدى الشراع ..
    ـ الشراع ؟
    ـ ثوب واسع ..
    واتسعت ابتسامتها :
    ـ فرى سايز كما يقال ..
    الطريق إلى نزوى شق طويل ـ فى معظمه ـ بين الصخور وسلاسل الجبال الصغيرة ، المتلاحقة ، وإن تكشف الساحل كالومضات السريعة على يمين الطريق . والجبل الأخضر ـ فى البعد ـ تكسوه الثلوج ، تضوى بألق الشمس ..
    قال لى سليم الغافرى :
    ـ سميت نزوى على اسم جبل مرتفع ، أو نسبة لمورد ماء كان تحت قلعتها الهائلة .. سميت كذلك بيضة الإسلام ..
    تركنا السيارة فى السوق الرئيسية . أخلينا لأقدامنا السير فى الشوارع والأسواق والتطلع إلى البنايات والدكاكين والأسواق والقلاع والحصون والجامع الكبير . قال ناصر إنه لا يزال مقراً لدراسة الفقه والعلوم ، وجامع سَعَالْ ، ومسجد الشواذنة ، ومسجد الشرجة ، ومسجد العين ، وحصن تنوف ، وحصن الرويدة ، ومحال صنع الحلوى العمانية والمشغولات الذهبية والفضية . وثمة أجانب ثلاثة ـ خمنت أنهم من الإنجليز ـ فى أيديهم خرائط ، يحددون من خلالها المواقع التى يقفون فيها ، أو التى يتجهون لرؤيتها ..
    قلعة نزوى ..
    برج دائرى كبير ، قديم ، لونه أقرب إلى الصفرة ، به فتحات للمدفعية . تهدمت بعض الجدران ، أو تطايرت الحواف ، وامتلأت الجدران الأقرب إلى الصفرة بعشرات الثقوب من طلقات البنادق أو المدافع الرشاشة . الباب الضخم مطعم بالصدف ، والأرض تغطت بقطع الحجارة ، والجدران المتطايرة من القصف ، والرمال . الفتحات فى أعلى ، تطل على الساحة المقابلة والبنايات وأشجار النخيل والجبال الممتدة إلى مدى الأفق ..
    حصن جبرين ..
    ثلاثة طوابق مبنية بالجص والصخور . السور من حولها يمتد طويلاً ، يطل على ما حوله ببوابات وفتحات للمراقبة وأبراج . ذات مدخل مقوس ، والباب الخشبى الكبير مزين بنقوش تقليدية ، نوافذها مربعة ، مشبكة ، ذات عماد حجرى . تطل على ساحة القلعة الداخلية . الأسقف الخشبية مزدانة بالزخرفة ، والجدران منقوشة بآيات القرآن وأبيات الشعر والزخارف الفنية وأعمال الجص النافرة ، ويبدو من الكوات والتجاويف ضوء النهار ومشاهد الجبل الأخضر وراء القلعة ، وأفق تلتقى فيه الخضرة والصفرة ..
    قال ناصر :
    ـ شيده الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف اليعربى لحماية منطقة وادى قريات ..
    ثم وهو يشير بيده :
    ـ فى الداخل .. يوجد ضريح الإمام بلعرب ..
    صعدنا إلى ما سمته زوينة مجلس الإمام الخاص فى أعلى القلعة : حجرة واسعة ، يتردد فيها الهواء . ذات سقف مطلى بألوان واضحة ، وتطل على المشهد الممتد من السهول حتى مرتفعات الجبل الأخضر ..
    كان ناصر يقرأ على جدار مبنى قديم فى السوق الكبيرة منشوراً من الوالى ، يحذّر فيه المواطنين من عدم أداء صلاة الجمعة ، وأن ذلك مخالف لتعاليم الدين وأوامر السلطان ، ويشدد على وجوب التزام الجميع بالسعى إلى الجامع الكبير فى موعد صلاة الجمعة ..
    فاجأتنى زوينة بالقول :
    ـ أنت لم تحدثنى عن نفسك .. عملك فى القاهرة وأسرتك ..
    أضافت بإيماءة من رأسها :
    ـ وغير ذلك ..
    ـ أعمل ـ كما تعلمين ـ صحفياً .. وأبى على المعاش .. لكنه ينتمى فى أفكاره إلى الجيل القديم .. وأمى أكثر من طيبة .. ولى أخوان .. ولدان ، وطفلة ..
    ـ هل عملك فى القاهرة مماثل لعملك هنا ..
    ـ أنا صحفى .. كما قلت لك ..
    ـ أقصد .. هل تعد الجريدة بمفردك ؟..
    ـ طبعاً لا .. الجريدة هناك مجهود آلاف الصحفيين والإداريين والفنيين ، بالإضافة إلى المطابع والإعلانات والتوزيع ..
    ودفعت فى فمى برشفة أخيرة من فنجان القهوة :
    ـ شئ مختلف تماماً ..
    واتجهت إليها بنظرة تطلب تصديقها :
    ـ لكننى استفدت من تجربة المحرر الواحد ..
    لاحظت انشغال ناصر بقراءة بيان من الوالى علق على جدار البناية المجاورة للقلعة . قالت :
    ـ وقلبك .. ما أحواله ؟
    ـ ثبتت سلامته عندما أجريت الكشف الطبى عليه قبل تعيينى فى الجريدة ..
    ابتسمت :
    ـ أعنى أحواله العاطفية ..
    توقعت أن تهمس لى بالبراءة التى اعتدتها : أحبك ..
    ـ خطيبتى ـ قلت لك ـ اسمها مها ..
    هممت بإعلان ما فى نفسى . ثم تصورت ما بعد المصارحة ، فابتلعت الكلمات ..
    قالت :
    ـ متى تتزوجان ؟..
    ـ قولى .. متى تفترقان ؟
    أظهرت الفزع :
    ـ لماذا ؟..
    ـ تريد أن تكتفى بجنى الثمار ..
    أردفت للدهشة المتسائلة :
    ـ تفضل أن تنتظر فى القاهرة حتى أكوّن نفسى على حد تعبير أمها .. ثم نتزوج ..
    ـ هل عرضت عليها المجىء معك ؟..
    ـ أمها رفضت مجرد الفكرة .. وصوتها من صوت أمها ..
    تكلمت ..
    رويت حتى ما لم أكن أتصور أنى أبوح به . ما كنت أعتبره سرّى الخاص ، فلا يعرفه الآخرون . وتناثرت أسماء القاهرة ، ومها ، والجريدة ، وأم مها ، وأيمن ، وشارع الفجالة ، وميدان الدقى ، ورئيس التحرير ..
    أتوقع ـ ويضايقنى ـ أن الأسئلة التى اتجه بها إليها ، ترد عنها أمها . تتململ فى جلستها على الكنبة ، أوسط الصالة ، وتجيب . تحمّل الإجابة تلميحات وتلميزات وشروطاً لامعنى لها .. لكن الصمت السادر ، واكتفاء مها بأن تحنى الرأس ، فلا تتكلم ، يدفعنى إلى مخاطبتها ، وتوقع الرد من الأم المتربعة على الكنبة ..
    قالت زوينة :
    ـ كما فهمت .. أحوالك المادية مستقرة ..
    ـ استقرار لا يشى بتطور ..
    وتنهدت :
    ـ لهذا سافرت ..
    قالت فى تخابث طفولى :
    ـ هل خطبت فتاتك قبل أن تعد نفسك للسفر ..
    ـ بدا أن إتمام الزواج غائب .. فبدأت البحث فى إمكانية السفر ..
    ـ مشكلة !
    أمنت على قولها :
    ـ مشكلة !..
    ***
    تنبهت إلى الأوراق المطوية على الطاولة أمام المكتب ، تناثرت فيها أسماء أشخاص وأماكن وأحداث ، وكلمات واضحة وناقصة ومطموسة ..
    حين سأل عبد العال عنها ، بدا عليه تيقن أنى قرأت ما بها . كنت قد طالعتها بالفعل ، تصفحتها ، لكن المعانى ظلت غائبة ..
    قال وهو يعيد طى الأوراق فى يده :
    ـ أنت تدفع عمرك ثمناً لمن لا يستحقونه !..
    أضاف للدهشة المتسائلة فى عينى :
    ـ إنها أم لطفلين .. وأتصور نفسى زوجاً لا بأس به .. لكن الخيانة فى دمها ..
    وتلون صوته بحزن :
    ـ كنت أضع كل ما أحصل عليه هنا ، فى يديها .. ثم اكتشفت أنى كنت أعطى النقود بواسطتها لشخص ثالث ..
    فاجأتنى الكلمات . أنس لى إلى حد مكاشفتى بأسرار عمله : المدرسة والتلاميذ ومفتشى الوزارة .. لكننى لم أتصور أنه يفتح باباً نسيت حتى أنه موجود ..
    قلت فى ارتباك ، ربما لأهون عليه :
    ـ ربما الأمر مجرد شك ..
    ـ المثل يقول إن الزوج آخر من يعلم .. وهذا صحيح ..
    أضاف بلهجة واشية بالألم :
    ـ الجزار أسفل البيت صارحنى فى بساطة ، أنه تصور أنى راض عما يحدث ..
    وعلا صوته :
    ـ تصور الرجل أنى أدارى على المرأة خيانتها ..
    استعدت الأمر من بداياته : الكلمات المتشائمة ، والمشكلات التى بلا حل ، والحديث فى الموت ، وكره الحياة ، وتوقع النهاية ، وتمنيها ..
    قال :
    ـ حكيت لك لأنك صديقى الوحيد هنا ..
    وانتزع ابتسامة فاترة :
    ـ الصداقة هنا غير متاحة حتى بين الرجل والرجل ..
    وتهدج صوته بالانفعال :
    ـ الناس هنا أصدقاء بالمصادفة .. الظروف الطارئة هى التى فرضت صداقتهم ..
    ورحلت نظراته إلى بعيد :
    ـ حين يعودون إلى بلادهم ينسون حتى مسقط نفسها ..
    وأنا أهز رأسى :
    ـ إلاّ هذا .. مسقط مدينة لا تنسى !..

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      عضو أساسي
      • 14-10-2007
      • 867

      #17
      ـ 14 ـ

      لم يعد السائق الهندى يأتى إلى البيت ليقلنى بسيارته . استغنيت بركوب سيارة ناصر . يقلنى إلى المكان الذى أريد الذهاب إليه . صارت هى التى تقترح أن نذهب فى جولات داخل مسقط ، أو خارجها . تصحب سيف ، أخاها الصغير ، يجلس بجوارها فى المقعد الخلفى ، وأجلس إلى جانب ناصر الذى يقود السيارة . تشى كلماتها ـ وتصرفاتها ـ بأنها لا تريد للعلاقة أن تنتقل إلى أكثر من الصداقة . نخرج إلى أحياء مسقط ، وإلى المدن القريبة . نجلس فى قاعات الفنادق ، نتكلم ، نسأل وتجيب ، تسأل ونجيب ، نشرّق ونغرّب . أشعر أنى أفيض بالعاطفة . تحتوينى اللحظة بما تمليه من الهمس والتصرفات المحسوبة ..
      تعددت جولاتنا . اتصلت أيام الزيارات ، والتأمل ، والسؤال ، والتعرف إلى ما لم أكن شاهدته من قبل ..
      بدت
      زوينة
      مرشداً جميلاً ، تعرف الكثير ، وما لا تعرفه تسأل ـ فى بساطة ـ واحداً من المارة ، أو الواقفين ..
      التاريخ شديد الحضور . تلتقى به فى كل مكان : ثمة القلاع والحصون والأبراج المبثوثة أعلى قمم الجبال ، فى امتداد ساحل خليج عمان ، أو فى مدن الخليج ، على هيئة دائرة أو مربع ، فوهاتها تتجه إلى البحر ، أو إلى الصحراء . لا تخلو منها مدينة ، ولا قرية ، ولا انحناءة طريق . وثمة الشوارع الضيقة ، والبيوت ذات الطابع المتميز ، والأزياء ، والخناجر المدلاة ، والروائح العطرية ، والبخور ..
      سوق الظلام بمطرح ، أشبه بالقيساريات فى القاهرة القديمة . بعض حاراته تكاد تكفى لعبور ثلاثة أشخاص ، ومعظم دكاكينه مرتفعة عن الأرض ، تعلوها أسقف بامتداد الشارع ، تغطى المكان بكامله ، والمصاطب فرشت بالسجاد أو الحصر ، وتكومت على الجوانب ـ وعلقت ـ السجاجيد والحصر الملونة والأنسجة والمعلبات وباروكات الشعر ، وتربع البائع وسط البضاعة ، وتتصاعد منها روائح الهيل والمستكة والصندل وزيت جوز الهند والقرنفل والبقول ، وتتصاعد رائحة العطور . ينظر العمانيون إلى جدواها نفس نظرتهم إلى الثياب ..
      قالت زوينة
      :
      ـ المبانى قديمة .. لكن البضائع عصرية جداً .. واردات من أمريكا وإنجلترا وفرنسا واليابان ..
      تملكنى الخوف وأنا أطل من نافذة السيارة على الوادى ، أسفل الطريق المفضية إلى مسقط القديمة . طريق صاعدة ، ضيقة ، تكفى سيارتين ـ بالكاد ـ فى الذهاب والعودة . محطة الكهرباء تتناثر فيها صناديق خشبية ، وبكرات كابلات ، وحاويات ، وتحيط بها تلال حجرية ورمال وأعشاب برية ، تعلوها امتدادات الجبال الصخرية ناحية اليمين . وفى مدى النظر أبراج قلعتى الجلالى والميرانى ، وأفق البحر تتوزع فى مداه جزر صخرية وسفن ..
      لاحظت نظرتى المرتبكة . همست فى إشفاق :
      ـ تخشى الأماكن المرتفعة ؟
      وأنا أتجه بعينى إلى الناحية المقابلة :
      ـ ربما .. لكن النظر إلى هذا الوادى يشعرنى بالاختناق ..
      سرنا إلى جوار مقابر المثاعيب ، فى الطريق إلى قلعتى الميرانى والجلالى وجامع الزواوى والخليج الذى يطل عليه قصر العلم . تل مرتفع ، تتناثر فوقه قطع الحجارة ، تشى بوجود موتى ، وثمة أغنية مصرية تتناهى من راديو قريب . شغلنى السؤال : كيف تفطن العائلة إلى أماكن موتاها ؟!.. ثم أهملت الأمر حين قال ناصر إن زيارة القبور ليست فى حياة العمانيين لأية مناسبة ، ولا لأى سبب ..
      علت قلعة الجلالى . مبنية على صخرة هائلة ، تحيط بها المياه من كل الجهات تقريباً . ذات أبراج دائرية فى أطرافها ، والفتحات لاستخدام المدافع . المدخل الوحيد لها من ناحية البحر ، درجات صخرية منحوتة فى الصخر . أما الطريق الوحيدة التى تؤدى إليها ، فلا تسمح لأكثر من شخصين أو ثلاثة بصعوده معاً ..
      قالت :
      ـ عندما كانت هذه القلعة سجناً ، فر منها سجين بحبل من البطاطين . لم يجد مكاناً ينزل إليه ، فانتحر !..
      حلقت الجولات . سبحت فوق قصر العلم والخليج المائى والصخور المتناثرة .. طارت إلى الأفق البعيد ..
      ثم وهى تتأمل متابعتى لصياد تدلت سمكة من طرف الخيط الذى يحمله ، وعقد طرفه الآخر فى إبهامه :
      ـ أنا لا أذكر قلعة زنجبار جيداً .. لكن الجلالى والميرانى تذكراننى بها .. ربما لأن القلاع الثلاث صناعة برتغالية ..
      تخيلت الحياة فى القلعة كما كانت قبل سنوات . العشرات من الأحياء الموتى ، الموتى الأحياء ، يعانون أمراضاً خطيرة من بقائهم ـ أعواماً متصلة ـ داخل بئر عميقة ، محفورة فى الجبل . يربط السجناء بحبل ليتسنى إنزالهم إلى الجب ، ينزل إليهم الماء وكسرات الخبز ـ طعامهم الوحيد ـ بالحبل كذلك . إذا تذكر السلطان السجين ، أو ذكّره به أحد . لا دفاتر ، ولا سجلات تحسب مدد الإقامة . دلّى حبل فى البئر ، ونودى على اسم السجين ، يربط وسطه بالحبل ، ويصعد إلى الحياة ..
      كنت أنصت ـ مذهولاً ـ إلى الشيخ النبهانى . يروى ـ بعفوية ـ عن السنتين اللتين أمضاهما فى سجن الجلالى . تعلم على أيدى من سبقوه مبادئ القراءة والكتابة حتى أجادها تماماً . ألف الرؤية فى الشعاع الضئيل الساقط من أعلى الحفرة ، وألف سماع الكلمات والمناقشات والسؤال وتلقى الإجابة والتعرف إلى القبيلة والأسرة وظروف السجن . من دخلوا لأسباب سياسية ، شغلوا الوقت بتعليم من يريد القراءة والكتابة حتى يجيدهما ..
      ـ تعلمت على أيدى مساجين صار من أتيح لهم الحياة أعز أصدقائى ..
      القرم مرتفع جبلى ، يشرف على البحر . تصعد إليه السيارات عبر شوارع ضيقة ، ملتوية . البيوت من طابق واحد ، مبنية من القرميد الأحمر ، الأسقف المائلة تتخللها مساحات الخضرة ، الحدائق الصغيرة ، والممرات الأسفلتية المتقاطعة والمتشابكة ، والسحن تختلف ـ فى عمومها ـ عما ألفت رؤيته فى وسط المدينة ..
      قالت :
      ـ هذا هو حى الإنجليز العاملين فى البى دى أو .. يحرص الإنجليز فى البلاد التى يقيمون فيها أن تطل بيوتهم على البحر ، أو تكون قريبة منه ..
      فاجأتنى بالقول :
      ـ كلمتك عن أقارب لى فى زنجبار ..
      هززت رأسى :
      ـ غداً أنتظر أحدهم .. ربما ظل فى ضيافة أسرتى أياماً ..
      ـ هل أراك هذه الفترة ؟..
      قلّبت أصابعها بما يعنى عدم التأكد ..
      ـ هل تطول إقامته ؟..
      ـ قدم بتأشيرة زيارة مدتها ثلاثة أشهر ..
      اغتصبت ابتسامة :
      ـ سأحاول أن أتحمل فراقك ..
      ***
      قال بهجت حسان :
      ـ المثل يقول : السجن سجن ولو فى جنينة ..
      أضاف بنبرة متباطئة :
      ـ أفاد العرب زنجبار ، لكن الاستعمار يظل كذلك ..
      قلت :
      ـ حدثنى صديق [ بدّلت الصفة ] عن مأساة طرد العرب من زنجبار فى عام 1964 ..
      هز رأسه فى عدم اقتناع :
      ـ فى رأيى أن العرب أوعزوا للأفارقة بطردهم ..
      ـ لا أفهم ..
      وهو يشب بصدره إلى الوراء :
      ـ ما حدث فى 1964 كان ضد استقلال العمانيين فى زنجبار ، لكنه كان لصالح استقلال الزنجباريين أنفسهم . أرفض تصديق أن أول معاهدة للرقيق فى 1823 كان بداية فقدان زنجبار لاستقلالها . ماذا يقصد بالاستعمار أصحاب هذا الرأى ؟ وماذا يقصدون بالاستقلال ؟..
      ـ ما يحسب للسلطان قابوس أنه أفلح فى منع الخلافات الطائفية والدينية .. وهو ما ساعد على ضياع زنجبار .. كانت تضم الفئات نفسها التى تحيا فى عمان الآن : الإباضية والإسماعيلية واللواتيا والفرس والبلوش وعبدة النار ..
      وداخلت صوته نبرة أسى :
      ـ عندما وقعت المذبحة فى زنجبار ، لم يكن للسلطان من السيادة إلا العلم الأحمر فوق قلعة ممباسة . من لم يستطع النجاة من العرب ولم يقتل ، اقتاده الزنوج ليباع كرقيق . فعلوا ما كان يفعله العرب فيهم مئات الأعوام ..
      وهرش ذقنه فى حيرة بطرف إصبعه :
      ـ كانت البداية طيبة .. ثم انتقل العرب العمانيون بالأبهة وجمع المال .. فانتهى كل شئ ..
      ـ ما حدث فى 1964 هل كان باقتناع من الأفارقة أو بإيعاز من خارج زنجبار ..
      ـ تقصد جوليوس نيريرى ؟
      وأدار نحوى ملامح مندهشة :
      ـ لكن عبيدى كرومى هو أهم الزعماء الأفارقة فى زنجبار ..
      وسرح فى صمت ، كأنه يقلب الأمر فى ذهنه :
      ـ هل كانت زنجبار بلاد الأندلس أم بلاد الهنود الحمر ؟
      قلت :
      ـ إذا قبلنا التشبيه فإن الأندلس أقرب إلى المعنى ، لأن العرب لم يلجأوا إلى إبادة العنصر الإفريقى فى زنجبار ..
      ورنوت إليه بنظرة مستفهمة :
      ـ ألاحظ أن السلاطين كانوا يحكمون مسقط من زنجبار ، وليس العكس ..
      أضفت فى تأكيد :
      ـ كانت زنجبار هى عاصمة الحكم ..
      قال :
      ـ مهما اختلفت المسميات أو الوسائل ، فإن من حق كل شعب أن يحكم نفسه بنفسه ..
      وواجهنى بنظرة متحيرة :
      ـ إذا تناسينا هذا الشرط فنحن نعطى الحق لليهود كى يحكموا الفلسطينيين ..
      قلت :
      ـ جعلت اليهود فى فلسطين أشبه بالعرب فى زنجبار .. وهذا غير صحيح ..
      ـ أقصد الدلالة وليس المعنى المباشر . أعرف أن العرب لم يطردوا أحداً ولا دمروا ولا أحرقوا . عاشوا إلى جوار الأفارقة ..
      ثم وهو يضغط على الكلمات :
      ـ ولكن من حق الأفارقة أن يحكموا أنفسهم ..
      وأطرق لحظة ، ثم رفع رأسه :
      ـ ضع تحرك السواحليين والزنوج للتخلص من العنصر العربى فى زنجبار مع تحرك الأفارقة لتحرير كل بلاد القارة ..
      ولوح بسبابته :
      ـ أذكّرك بأن زنجبار لم تصبح تحت الاستعمار الإنجليزى إلا عندما رفض العرب التخلى عن تجارة الرقيق ..
      وأظهر التصعب :
      ـ المؤسف أن الإنجليز أفلحوا فى تشويه صورة العرب لإصرارهم على تجارة الرقيق ..
      ورفع عينيه فى تثاقل :
      ـ ما حدث فى فلسطين شهدته زنجبار من قبل .. باع العرب أرضهم لليهود فى فلسطين .. وباعوا أرضهم للهنود فى زنجبار ..
      ـ أظن التشبيه خاطئ .. فلسطين عربية .. أما زنجبار فقد كان يستعمرها العرب ..
      قال :
      ـ هذا صحيح .. لكن مأساة زنجبار ـ رغم خطأ المقارنة ـ هى مأساة الخليج .. بدايتها تحياها الآن دول المنطقة .. تحولت أحياء العرب إلى أحياء للهنود ..
      وتحرك فى مجلسه :
      ـ حتى اللغة العربية لم يكن يتحدث بها إلاّ الشيوخ ..
      ثم وهو يتحسس ذقنه الحليقة :
      ـ كما ترى ، فإن الهنود والجاليات الآسيوية قنبلة موقوتة فى الخليج ، ربما أدى انفجارها إلى نتائج لا تخطر ببال ..
      وعلت وجهه سحابة حزن :
      ـ رحم الله الأندلس والإسكندرونة وفلسطين !..
      وبصوت أقرب إلى الهمس :
      ـ ورحم الله الخليج !..

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #18
        قلت :
        ـ لم نلتق منذ فترة طويلة !..
        ـ كنت مع زاهر .. قريبى ..
        استطردت فى ابتسامتها الطفولية :
        ـ هو ابن عمى ..
        ـ أين أمضيتما الوقت ؟..
        ـ أبداً .. فى البيت .. وزرنا نزوى وبهلا وسمائل ..
        كنا واقفين أمام الجبل الذى ينتهى أعلاه بقلعتى الجلالى والميرانى ، كأنهما نحتتا فيه . معلقتان فوق الصخور ، تطلان على البحر ، وعلى المدينة القديمة ..
        تجرأت :
        ـ هل تأذنين لى أن أسألك : ما مدى صلتك به ؟..
        ـ أصارحك بأنى وافقت على خطبته لى ..
        ـ لكنك لم تحدثيننى عنه من قبل ..
        ـ ربما ..
        ـ من منكما يسافر إلى الآخر ؟..
        ـ سأحاول الحصول على عقد عمل له هنا .. ونستقر ..
        لا تذكره فى طفولتها . استمعت إلى اسمه ـ للمرة الأولى ـ حين قرأت لأمها رسالة منه . يعلن اعتزامه القدوم إلى مسقط . حدثتها أمها عن خطبتهما وهما طفلان . شكلت له صورة من أحاديث أمها وأبيها والقادمين من ممباسة . تحدثوا عن ذكريات مشتركة بينها وبينه ، لا تعرفها ، وتضحك لها ..
        قلت :
        ـ هل بدا فى الصورة التى رسمها خيالك ؟
        ـ بصراحة .. لا !
        أردفت فى ابتسامتها الصافية :
        ـ لكنه شاب طيب !
        ـ هل يتحدث العربية ؟..
        ـ والسواحلية ؟..
        واتجهت عيناها للتساؤل فى نظرتى :
        ـ لغة مزيج من العربية ولغات إفريقية قديمة ..
        واتسعت البسمة فى وجهها :
        ـ لازلت أذكر بعض الكلمات السواحلية ..
        قلت :
        ـ واضح أنك غير متحمسة لفكرة الزواج من زاهر ..
        قالت :
        ـ هناك مثل عمانى يقول : من يقترن بفتاة غريبة كمن يشرب من إبريق لا يعرف ما فيه .. أما الذى يقترن بابنة عمه فهو كمن يشرب من إناء يرى ما فيه ..
        ومدت شفتها السفلى ، دلالة عدم الفهم :
        ـ إنهم يرون فى زاهر ذلك الإناء الذى أرى ما فيه ..
        قلت :
        ـ هل توافقين على هذا الرأى ؟
        رفعت كتفيها بمعنى التهوين :
        ـ رأيهم وليس رأيى .. بالتحديد هذا رأى أمى !
        ***
        صحت فى ناصر :
        ـ أخطأت الطريق ..
        وهو يضع على شفتيه ابتسامة واسعة :
        ـ لا .. سأريك ما لا يتكرر إلاّ كل ليلة ثلاثاء .. ولا يتكرر فى أى مكان آخر ..
        أوقف السيارة على الرصيف ، فى الناحية المقابلة لفندق روى ..
        كانت الساحة الترابية الواسعة قد أحيطت بدشاديش ووزارات وبنطلونات وقمصان وجلابيب . يخلون الأعين لرؤية الراقصين يملأون الساحة برقصاتهم وصيحاتهم المغنّاة ، وبالأهازيج . كانوا يرتدون دشاديش ملونة ، وتفوح منهم رائحة العطر . أسدلوا شعورهم المدهونة بالزيت على الأكتاف ، وكحّلوا الأعين ، وصبغوا الوجنات والشفاه ، وخضّبوا أيديهم وأقدامهم بالحناء . تعالت دقات الطبول ، وأصوات المزامير ، وإيقاعات الصنوج النحاس . وهنود وبنغاليون ، اتخذوا مواقع على الهضاب القريبة ، أو أسفل الجبال ، يتابعون ـ فى صمت ـ ما يجرى فى الساحة الترابية ..
        تزايدت أعداد الداخلين فى الحلقة . وقفوا صفين متقابلين . تراخت الأجساد ، وانتصبت ، والتوت ، وتثنت ، ودارت حول نفسها ، وحول بعضها . اقتربت ببطء . تدافعت حتى تلامست . واجهت الحناجر بأغنيات خليجية الألحان ، غير مفهومة الكلمات ، يصحبها تصفيق وإيقاعات . صنعوا دائرة من أجسادهم وهم يواصلون الرقص . مالت الرقصة إلى السرعة . دار كل واحد من الراقصين حول نفسه . سحبوا الخناجر من أغمدتها . ضربوا بها الهواء . قذفوها إلى أعلى ، والتقطوها وهم يدورون حول أنفسهم . تقاذفوها فلا تسقط على الأرض ، ولا تصيب أحداً . أطلقوا الصيحات والصرخات ، وتناغمت أصواتهم بالشعر النبطى . سرت حمى الغناء والرقص فى أجسام الجميع . تتلوى الأجساد التى لا تخلو من ليونة ، وتتثنى ، تقترب حتى تتقابل الأعين ، ثم تتباعد . تطوق الأيدى الأكتاف . تتشابك الأيدى والصدور والبطون والسيقان ، تتداخل ، وتتداخل الأصوات المنتشية . تدور الأجسام نصف دورة ، وتعود ، وتقفز إلى أعلى ، تهتز فى اندفاعها إلى الأمام ، وفى ميلها إلى الوراء ، تدور ، وتندفع ، وتقفز ، وتهبط ، وتميل ، وتنحنى ، تبدو حيات هائلة الحجم . ينفلت من الدائرة راقصان أو ثلاثة ، يؤدون رقصتهم فى منتصف الدائرة ، ويعودون ، ليحل آخرون مكانهم ، يقفزون فى الهواء ، ويدفعون صدورهم إلى الأمام ، وظهورهم إلى الخلف ، تعلو أصواتهم بأهازيج لا أتبين كلماتها . يتراقص اثنان أو ثلاثة فى تناثر باتساع الحلقة الترابية ، يرقصون ، ويغنون لأنفسهم . يشكلون دوائر متقاربة ، ومتباعدة . لا يلتفتون إلى الدائرة المحيطة . حتى التعليقات التى تعلو بالسخرية لا يأبهون لها ، ويواصلون الغناء والرقص . تتشابك الأيدى ، وتتلامس الصدور ، وتتقارب الشفاه بالهمسات والأنفاس الساخنة ، وربما حمل الراقص زميله على ساعده ، ودار به حتى يوقفه التعب ..
        علا الإيقاع ، فزاد الراقصون من سرعتهم . يصفقون بالأيدى ، يضربون الأرض بالأقدام ، يلازمهم الإيقاع السريع ، يتكلمون بالأيدى والأقدام والأرداف وغمزات الأعين . استغرقت فى متابعة الرقصات الغريبة كأنها حلم ..
        كان الصمت يستغرق الحلقة الملتفة حول الراقصين ، أو تتعالى التعليقات والضحكات والإشارة بالأيدى ..
        ضاقت الحلقة واتسعت ، ضاقت واتسعت . ثم هدأت الموسيقا ، وهدأت الأجسام . حل صمت سادر . ومضى الجميع إلى السيارات المتناثرة فى أطراف الساحة . كل شاب ومن كان يراقصه ..
        قال ناصر لملامحى المتسائلة :
        ـ مثل كل المجتمعات .. توجد هذه الظواهر ..
        وأشار إلى السيارات التى أثارت الغبار فى توالى اندفاعها ناحية دوار دار سيت :
        ـ هؤلاء دمامل فى وجوهنا ..
        لحق عبد العال تبريره : مجتمع رجال ، والنساء لم يظهرن ـ إلا متأخراً ـ فى المكاتب والأسواق والشوارع . بعد أجيال قد تستقر الصورة ، تغيب اهتزازاتها ، تتوضح ملامحها الصحيحة ، يحقق الاختلاط ثماره المرجوة ، يحقق كذلك ما لا يرجوه أحد ..
        اتجهت إليه بنظرة إشفاق :
        ـ ولماذا يفعلون ذلك أمام الناس ؟!..
        ـ الدمامل تظهر على البشرة وليس فى داخلها ..
        لحق تبريره : مجتمع رجال ، والنساء لم يظهرن ـ إلاّ متأخراً ـ فى المكاتب والأسواق والشوارع . بعد أجيال تستقر الصورة ، تغيب اهتزازاتها ، تتوضح ملامحها الصحيحة . يحقق الاختلاط ثماره المرجوة . يحقق كذلك ما لا يرجوه أحد ..
        وهو يسلّم منصرفاً :
        ـ لا تقل لزوينة إنى ذهبت بك إلى دار سيت !..
        أخليت وجهى لتساؤل ..
        كانت ظلمة الطريق قد ابتلعت سيارته فى انحرافها إلى اليمين ، وانطلاقها ..
        بدا لى من الصعب أن يتعرف الوافد إلى سلوكيات الحياة اليومية ، وما يجرى داخل البيوت . المجتمع المفتوح أمام جاليات وافدة ، كثيرة ، مغلق على ناسه ، فلا أحد يطل على ما بالداخل ..
        كانت تفصلنى عن الجميع مسافة كبيرة ، وأشعر بالغربة ، كأنى نقطة زيت ترفض الذوبان فى الماء ..
        أنا ـ فى هذه المدينة ـ مجرد مصادفة ، عابر طريق ، يمضى لشأنه . أشياؤه فى الحقائب ، وليس على أرفف الدواليب ، ولا فى أدراج المكاتب ..
        ***

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #19
          ـ 15 ـ

          رأيتهما فى دوران دار سيت . أبطأت سيارتها للسيارات القادمة من يسار الدوار . كانت تقود ، وجلس إلى جوارها . كلمتنى عن زاهر ، لكنها لم تقدمنى إليه ، ولا دعت أحدنا للقاء الآخر ..
          حدجته بنظرة متأملة : فى حوالى الثلاثين ، تشى جلسته بطول قامته . شعره منكوش ، وبشرته سمراء ، ووجهه ساكن الملامح . يرتدى بلوزة قطنية ، وبنطلوناً من الجينز ، وألقى بالحقيبة الجلدية الصغيرة إلى جانبه ..
          لمحت ناصر يتابع حركة المصعد الزجاجى ، فى صعوده وسط بهو فندق مسقط " انتر كونتيننتال " الواسع إلى الطوابق العليا :
          ـ رأيتكما هذا الصباح ..
          أردفت للتساؤل فى عينيها :
          ـ أنت وزاهر ..
          ـ أين ؟..
          ـ فى دوّار دار سيت ..
          ـ آه .. كنا عائدين من إدارة الجوازات ..
          وأشاحت بيدها فى ضيق :
          ـ يبدو أنه لا فائدة ..
          وشردت بعينين ساهمتين :
          ـ لم يعد أمام زاهر إلاّ تجديد تأشيرة الإقامة ..
          ـ والجنسية ؟..
          كان ناصر قد ترك الملعقة والشوكة والسكين . ضغطت قبضته على كمية الأرز ، كورها ، ودفع بها إلى فمه . أهمل السمن المنساب إلى مرفقيه ..
          ـ فاتته فرصتها ..
          وتعثر ظل ابتسامة على شفتيها :
          ـ ربما حصل عليها بعد سنوات ..
          ماذا أحب فى هذه الفتاة ؟..
          رفعت رأسى من الطاولة ، ونظرت إليها . بدت عيناها أجمل ما رأيت . ضغطت على يدها . همست وهى تومئ ناحية ناصر :
          ـ لسنا وحدنا ..
          كانت أيدينا قد تلامست عن غير قصد . شعرت بملمس بشرتها الناعم تحت راحتى . سحبت يدى ، وإن ظلت أمنيتى فى أن ألمس يدها . أمد يدى ، تمد يدها ، تتعانقان . أن أملك القدرة لأعلن لها حبى ..
          دربت نفسى على كلمات ، أفتح بها النقاش إلى الطريق التى أريدها ، ثم أزمعت ألاّ أعد كلمات مسبقة ، وإنما أقول ما أشعر به ، ما يواتينى من عبارات تنبض بالصراحة . فى عينيها ما يشى بأنها تحبنى ، استجابة مكتومة لا تفصح عنها ، لكن شيئاً ما فى ملامحها ، فى تصرفاتها ، حتى فى عفويتها المنطلقة ، يصدنى ، يمنعنى من أن أقدم على ما يشعرنى بالذنب ..
          أنا مسكون بهذه الفتاة . أرى وميض النجوم فى عينيها ، وأستمع إلى النغمات الحلوة فى صوتها ، وأتطلع إلى بهاء الشمس فى ابتسامة وجهها . هى جنية البحر التى أتوق لأن تجتذبنى إلى عوالم الخيال والسحر والأسطورة . هى ست الحسن والجمال ، وأنا الشاطر حسن ، هى الأميرة سندريلا ، وأنا الشاب الفقير ..
          بدت كل الأماكن النى نستطيع أن نلتقى فيها ـ حتى فى صحبة ناصر والصغير سيف ـ محدودة للغاية : فندق مسقط انتركونتيننتال ، فندق الخليج ، شاطئ السيب .. إذا سرنا ـ بمجرد نزولنا من السيارة ـ تتقدمنا هى والصغير . نتبعهما ـ ناصر بعفوية ، وأنا أتظاهر بها ! ـ يظل الصغير بجوارها ، يظل كرسيه خالياً إن مال للعب . تفصل بيننا الطاولة ، دائرة ، أو مستطيلة ، بينما ناصر بجوارى يمارس شرود التأمل ..
          لم تكن الرغبة تفارقنى ، لكنها تصطدم بمصدات الخوف من رد الفعل . فى بالى ، ما أقدمت عليه حين تصورت سهولة قطف الثمار ..
          كان إيقاع الشبق يعلو فى داخلى . أجاوز البراءة الظاهرة التى استرحت إليها . أدنو منها ، وتدنو منى . لم يعد ثمة صيف ولا خريف ولا شتاء ولا ربيع . اختلطت الفصول الأربعة فى فصل واحد . أتوق إلى جسدها ، وأتصور أنها تتوق إلى جسدى . تتلامس نيران الرغبة ، فيشتعل الجسدان . تنبثق المياه من ينابيع الجبل الأخضر ، تسرى فى شرايين الأفلاج الظامئة . نقتحم الغابات ، نعلو الجبال ، نتسلق النخيل ، نتسلل إلى الجزر المسحورة . تصطدم الكواكب والنجوم ، ويتطاير جسدانا فى الفضاء ذرّات صغيرة متناثرة من اللذة . وضبطت نفسى ـ لحظة ـ أضرب الحائط بقسوة أدمت راحة يدى المضمومة ، كأنها تفرغ شحنات من الرغبة الموارة فى داخلى ..
          أغمض العينين ـ فى حضورها ـ وأحلم . أفتحهما على استعادة ما جرى ، وأن الواحة الظليلة ربما انتهت إلى سراب ..
          لا أجرؤ على مجرد التلميح . تبدو لى النهاية قاسية . أدرك أن المسافة بينى وبينها لا يمكن أن أتجاوزها ، أن أحاول تجاوزها ..
          هل آن الأوان كى أبوح لها ؟
          متى يؤون الأوان كى أبوح بها ؟..
          لم أسأل نفسى ـ لحظة ـ ما إذا كان لحبنا نهاية . أنا أحبها ، وهى تحبنى . هذا هو المبدأ والمنتهى . ماذا بعد ، سؤال لا يشغلنى ، ولا يهمنى ..



          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            عضو أساسي
            • 14-10-2007
            • 867

            #20
            ـ 16 ـ

            خمّنت من التوتر البادى على ملامح ناصر ، أن لديه ما يريد التكلم فيه ، ما يريد البوح به ..
            قال لنظرتى المتسائلة :
            ـ واجهت الموت أمس وأنا فى الطريق إلى قريات ..
            صحبنى إليها مرة واحدة ، واعتذرت فى دعواته المتوالية ، التالية . الطريق إليها لولبية ، صاعدة بين المرتفعات والجبال ، تطل ـ من اليمين ـ على أودية تتباعد فيها بنايات صغيرة وزراعات وأشجار وبيوت عارية الأسقف متناثرة فى امتداد الأرض الرملية ، وإلى اليسار الجبل المصمت بنتوءات الصخور ، وبروزها ، واحتراقها فى أشعة الشمس اللاهبة . دار مع الجبال ، جبال دائرية لا تنتهى . علا ، ودار ، وعلا . مضى إلى الأمام ، ومال إلى اليمين ، وإلى اليسار . المنعرجات لا تنتهى ، والعجلات تئز فى انحناءات الطريق . الصخور تضوى فى ألق الشمس ، وتبين الظلال والعتمة داخل التجاويف . لم أفلح فى أن أرى القمة ، لأن رءوس الجبال كانت تتوالى ، متفاوتة الارتفاع والاقتراب والتباعد . كأنها بلا نهاية . تمتد إلى نهاية الأفق . تتخللها ممرات ووديان وكثبان رملية وبيوت متناثرة وزراعات قليلة . تبدو المرئيات فى أسفل كأنها دمى صغيرة . اتجهت بنظرى إلى الأمام . تجنبت التطلع إلى أسفل فلا يصيبنى دوار . أتوقع ـ وأخشى ـ أن تصطدم السيارة بالصخور . تتحطم ، أو ترتد إلى الهوة الواسعة باتساع الوادى من تحتنا ..
            ـ ألا يوجد طريق أخرى ؟..
            ـ هذه هى الطريق الوحيدة منذ آلاف السنين ..
            ثم وهو يزيد من تحكمه فى القيادة :
            ـ لم تكن مسفلتة حتى عامين مضيا ..
            بدا أنه يندفع إلى نهاية الطريق المطلة على الفراغ ، لكنه مال ـ فجأة ـ وأنا أغمض عينى ـ فى طريق صاعد ، جديد . يعلو الجبل إلى يساره ، والسهل الذى تختلط فيه السهول ، يتخلل جبالاً متفاوتة الارتفاعات ، وتتناثر فيه بقع من الخضرة والبيوت الصغيرة ..
            تساءلت : ما الذى يغريهم بالحياة فى هذا المكان ؟ ما الذى يدفعهم للابتعاد عن العالم ؟ وماذا يفعلون لو أن الجبل انهار على الطريق ، فسدّه لأيام أو لشهور ؟ كيف يحيون فى الخطر فى صعودهم إلى الجبل ، ونزولهم منه ؟..
            ـ لماذا تحيون هنا ؟.. أليست الحياة فى السهل أفضل ؟..
            ـ نحن نحيا فى هذا المكان منذ آلاف السنين ..
            ـ بالقرب من السماء ؟..
            اختلاط الصخور بالرمال ـ من تحتنا ـ إلى مدى البصر . لا بشر ولا خضرة ولا دلائل حياة ، فيما عدا نباتات صغيرة ، متناثرة ، كالأعشاب ، تسللت بين قطع الصخر ..
            ابتسمت عيناه البنيتان :
            ـ لم تقرأ ابن بطوطة ؟.. تحدث عن رحلته إلى قريات ..
            ودهمه جيشان عاطفى :
            ـ اللهجة والمفردات التى يتحدث بها العمانيون كانت لأبناء قريات وحدهم ..
            لم أقاوم اللهفة :
            ـ هل تعطلت سيارتك ؟..
            هز رأسه بالنفى ..
            قدمنى ناصر إلى أبيه وأمه . أشار إلى أولاده وهو يقدمهم بأسمائهم . بنت وولدان أعمارهم بين السنتين والسنوات الخمس . تبادل كلمات هامسة من أمام الباب الموارب . خمّنت أنه يكلّم زوجته . الأب فى حوالى السبعين . وجهه عظمى مستطيل . تطل من فتحتى الأنف شعيرات بيضاء . خضب لحيته بحناء شديدة الحمرة . خمنت من اتساع الدشداشة أن جسده كان ممتلئاً . تكشف فتحة الصدر عن شعر أبيض كث . فى ظهر يده أثر حرق ، أو كى بالنار ..
            عدلت الأم فوق رأسها اللحاف الأصفر المنقوش برسوم صغيرة ، وغمغمت بما لم أتبينه ، ثم انطوت على نفسها ..
            ـ هل اصطدمت بسيارة أخرى ؟..
            ـ أبداً .. أثناء صعودى بالسيارة فوجئت بامرأة .. سيدة .. فى حوالى الثلاثين .. تقف فى طريق السيارة .. طلبت أن تصحبنى إلى المدينة ..
            هززت رأسى استحثه على مواصلة الحديث ..
            ـ ركبت إلى جوارى .. ثبتت نظرتها إلى الأمام وظلت صامتة .. ثم أحسست بحركة إلى جوارى .. نظرت بطرف عينى .. فإذا بها قد استطالت حتى وصل رأسها إلى سقف السيارة ..
            همست :
            ـ عفريت !..
            ـ لا أعرف .. لكن قلبى وقع فى قدمى .. لهثت بالمعوذتين وآية الكرسى ، حتى اختفت المرأة تماماً .. خلا الكرسى بجوارى منها ، دون أن تفتح الباب ، أو تقفز من النافذة ..
            ثم وهو يجسد بيديه ما لا أتبينه :
            ـ كأن المرأة تبخرت فى الهواء .. كأنها لم تكن جالسة إلى جانبى ..
            وأغمض عينيه ليستجمع نفسه :
            ـ تهيأت للقفز من النافذة .. لكن المرأة لم تعد فى مكانها .. تبخرت تماماً .. اختفت ..
            قلت :
            ـ وماذا فعلت ؟..
            ـ لا أدرى كيف واصلت القيادة حتى وصلت قريات وفمى لا يكف عن تلاوة آيات القرآن ..
            ـ ربما كان مجرد طيف صنعه الظلام والخيالات ..
            ـ كلمتنى وكلمتها .. هل كنت أكلّم خيالاً ؟!
            ألفت سماع أحاديث السحر والتنجيم ومعرفة الطالع . تحدث الشيخ النبهانى عن جبل خميلة بالقرب من بهلا . ما تزال تسكن فيه إحدى الساحرات . غلب التأثر على صوته وهو يقول : الأمهات المسكينات يعطين الأبناء جرعات قليلة من الزئبق لحمايتهم من كيد الساحرة !..
            قال ناصر كالمتذكر :
            ـ قابلت زوينة فى طريق المطار .. قالت إنها مشغولة هذه الأيام ، فى إنهاء أوراق قريبها ..
            أدركت أن زاهر بينى وبينها . يصعب أن أفكر فيها دون أن أفكر فيه . أتخيلها ، فأتخيله . هى معه ، وهو معها . لا يفترقان إلاّ للنوم ، وتنبهت : هل تكون سندريلاّ قد خلعت حذاءها ، لأن الأمير وعدها بتحقيق الأمنية ؟!..

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              عضو أساسي
              • 14-10-2007
              • 867

              #21
              ـ 17 ـ

              لم يعد ناصر الذى أعرفه ..
              كان يعود إلى قريات قبل الغروب ، أو يقضى الليل فى مسقط . يعانى الإحساس بالمطاردة . يتصور المرأة فى صعوده إلى الجبل . يتوقع ظهورها فى انحناءات الطريق . إن لم يقف تؤذيه بما يغيب عن تصوره . أضاف إلى قلة كلامه شروداً فى مدى لا أتبينه . يتأمل ما يراه هو وحده . يكتفى بمجالستى ، فيسهل على
              زوينة أن تكون ثالثتنا . لو أنه غاب ، أو اعتذر ، هل أكتفى من زوينة
              بوقفتها القلقة أمام باب البيت ، أم بتسللها الخائف إلى الداخل ؟..
              قالت :
              ـ زاهر ..
              واختلجت عيناها :
              ـ اختلفنا ..
              ـ لماذا ؟
              ـ يريد أن يصحبنى إلى زنجبار ..
              ـ هل رفضت ؟..
              ـ طبعاً .. أحن إلى زنجبار .. لكننى لا أستطيع أن أفارق أسرتى ..
              ثم وهى تحاول السيطرة على مشاعرها :
              ـ أصارحك كذلك بأنى لم أعد أتصور أن أبتعد عن مسقط ..
              ـ لعله يرفض هو أيضاً أن يبتعد عن وطنه ..
              ـ عمان هى وطنى ووطنه ..
              ـ لكن جنسيته ليست عمانية ..
              حركت سبابتها إلى أسفل :
              ـ هو الذى يجب أن يبقى هنا ..
              وشردت كأنها تحادث نفسها :
              ـ أنا حتى لم أعرفه بما يجعلنى أحزن لابتعاده ..
              قلت مجاملاً :
              ـ لكنكما خطيبان ..
              أشاحت بيدها :
              ـ فليتزوجه من خطبوه لى !..
              ***
              قالت :
              ـ زاهر ..
              ـ ماله ؟..
              ـ سافر هذا الصباح ..
              ورفعت عينين تعانيان ما يشبه التوتر :
              ـ وجد أن فرصة حصوله على الجنسية ضعيفة .. خشى أن يفقد عمله فى ممباسة ..
              قلت لمجرد أن أبدى رأياً :
              ـ قرار متسرع ..
              ـ عصفور فى اليد ..
              ـ وعلاقتك به ؟..
              ـ المستقبل أمامنا ..
              وأشاحت بيدها :
              ـ هذا رأيه ..
              والتمعت عيناها بالدمع ..
              أين تستقر مشاعرها ؟..
              امتدت أصابعها إلى عينيها ، وامتدت أصابعى إلى يدها . تلامست الأصابع . تشابكت . سرت فى ذراعى ، فى جسدى ، نشوة لم أحسّها من قبل . رفعت يدها إلى فمى ، وقبلتها . تمنيت لو امتدت اللحظة إلى الأبد . يظل أمامى الشعر الذى أجادت تصفيفه ، والعينان الواسعتان ، والأنف الدقيق ، والشفتان الرقيقتان كورقتى وردة ..
              هل أضم ذراعى حولها ، وأضمّها ؟ هل أقبّلها ؟ وهل توافق على تقبيلى لها ؟ وهل أودع هذه الجميلة قلبى ، لا تغادره ؟..
              تجمعت مشاعرى فى هذه اللحظات النورانية . تبدّلت نظرتى إلى من حولى ، وما حولى . بدت الأشياء فى غير الصورة التى ألفتها . لم تكن مسقط جميلة كما كانت فى ذلك اليوم . اختلفت الشوارع ، واختلفت الوجوه التى اعتدت رؤيتها ..
              لست أذكر أين ، ولا متى ، قرأت حديث شاب عربى عن حبه لفتاته : أرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس . شمس مسقط ـ فى ظل حبى لزوينة ـ تختلف عن الشمس نفسها قبل أن تدخل
              زوينة
              حياتى . عرفت معنى الربيع للمرة الأولى : قدمت ست الحسن من عالمها المسحور . عبرت الجبال والتلال والوديان والشعاب والأفلاج . ترامت الخضرة فى مدى الأفق ، وأنبتت الصخور أزهاراً متداخلة الألوان بما لا حصر له ، واختلطت الأشجار والنخيل والزهور وقطرات الندى ورائحة العطر ، وبدت زرقة السماء فى قمة صفائها ، وتألقت مياه البحر بضوء الشمس ، وحلقت أسراب من الطيور ـ تغنى ـ فى أشكال لم أرها من قبل ، وتماوجت فى المدى تكوينات لا حد لجمالها ، وعلت أظلاف الماعز بإيقاع الرقصات ، وتناهت صفارات البواخر فى ميناء قابوس بما لم يسبق لى سماعه من ألحان ، واستحالت شمس الظهيرة خيمة هائلة من الدفء والطمأنينة ، واختلطت رائحة البخور بشذى الورد والفل والياسمين ..
              أنا الشاطر حسن ، وحبيبتى ست الحسن والجمال . لم أعد أتصور أنى أحيا بدونها . حتى العمر الذى عشته قبل أن ألتقى بها ، لا أعترف به . تمنيت لو أنى احتضنتها فى صدرى . تتحول الصخور المدببة إلى ملساء ، نتسلقها ، نتأمل مسقط الممتدة من تحتنا . أخوض البحار السبع . أصارع الوحوش المفترسة . أحصل لها على لآلئ الخليج . أصعد بها إلى الكواكب والأقمار والنجوم . يلفنا الضياء ، يحتوينا الألق ، وتنساب موسيقا شجية الإيقاع ..
              لو أننا انطلقنا فى قارب يمضى بنا إلى المدن والجزر البعيدة . لو أن أصواتنا علت بالغناء ، وأجسامنا صرخت بالرقص . لو أننا استعدنا كل الكلمات الجميلة ، وتعلمنا لغة الرمال والصخور والشمس الحانية ..
              قلبت أوراق الرواية التى أوشكت أن أتمها ..
              كان القلم قد جرى فيها بالإضافة والحذف . تغيرت الصورة التى كانت عليها حين قدومى ـ للمرة الأولى ـ إلى مسقط . غابت شخصيات ، وحلت شخصيات أخرى ، وتبدلت الأحداث تماماً .
              ***

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                عضو أساسي
                • 14-10-2007
                • 867

                #22
                ـ 18 ـ

                متى يشعر المرء بالغربة ؟ ومتى يغيب ذلك الإحساس ؟..
                هذه المدينة التى لم أكن أراها إلاّ ساكنة ، مقبضة ، مملّة ، تكشف الآن عن ملامح لم أتعرّف إليها من قبل . بدت مدينة أخرى غير المدينة التى قدمت إليها منذ سنتين ، فلم أحبها ..
                أبدت ملاحظة عن المدينة التى كأنها تولد . مسقط تكبر ، وتتسع ـ ملامحها تكتمل يوماً بعد يوم ، أو أنها تكتسب ملامح لم تكن موجودة من قبل . الجرافات تزيل بنايات مسقط القديمة . تتحول إلى أرض تمتد أمام قصر العلم . لا يبقى سوى جامع الزواوى وجامع الخور وبيت السيد نادر وبنايات أخرى قليلة ، حديثة ، والمقابر أعلى الجبل فى باب المثاعيب . ظهرت الشوارع الجديدة الواسعة والدوارات والأرصفة والكبارى والحدائق وعلامات المرور والعمارات العالية والفيلات والشركات والمطاعم ومحال الملابس والأثاث والذهب . البيوت على النظام العمانى والأوروبى . تضئ الأنوار كل النوافذ فى البناية ، فأعرف أنه تم إنشاؤها ، وأنها معروضة للإيجار ، ومسكن المدرسات فى شارع روى لم يعد بمفرده فى الأرض الرملية . أحاطت به بيوت من طابق واحد أو طابقين . حتى السفارات بدأت فى إقامة بنايات جديدة لها فى منطقة القرم ، وتناثرت الفيلات والقصور على جانبى طريق المطار . بدأت الشوارع ـ للمرة الأولى ـ تعرف أسماءها . رجال من التاريخ العمانى القديم . وعرفت إعلانات النيون مواضعها فوق الأسطح وأعلى البيوت . امتدت أحياء المدينة ، واتسعت ، وإن ظلت الفراغات كثيرة ..
                حبيبتى ست الحسن والجمال . أتكلم وتنصت ‎، تتكلم وأنصت . تتشرب عيناى كلماتها وملامحها . لا يجتذبنى إليها شئ محدد . عيناها اللوزيتان ، الواسعتان ، وابتسامتها الطفولية ، وعفويتها ، وشخصيتها الآسرة .. ذلك كله جعل منها الفتاة التى اجتذبتنى . لم أعد أتصور أنى أعيش بدونها . أشعر ـ أحياناً ـ أننا وحيدان فى هذا العالم ، وأن العالم ملك لنا ..
                لم أتدبر الكلمات حين بادرتها بالقول :
                ـ هل قال لك أحد قبلى إن عينيك جميلتان ؟..
                هممت بأن أعانقها ..
                كأنها عرفت ما يدور فى نفسى . رمقتنى بنظرة آمرة : لا تحاول !..
                فكرت فيما قد يلى الفعل ، فوأدت خاطرى ..
                الزمن !..
                كم أمضيت فى مسقط ، وكم يتبقى على موعد الإجازة ؟
                لم يعد هناك وقت لأتعرف إليه . غاب الإحساس بالوقت ، غابت الأشهر والأسابيع والأيام والساعات . لم يعد إلاّ اللحظة الطويلة ، القصيرة ، الممتدة . اكتفيت بهذه المحبوبة السمراء عن كل الدنيا ، لا يشغلنى شئ سواها . لا القاهرة ولا مسقط ولا الجريدة ولا الأصدقاء . هى البدء والمنتهى . هى الواحة فى ظل الجبال اللاهبة ، فى هجير الصحراء المترامية . صحراء تتسع باتساع العالم ، فلا تحتوينى الطمأنينة إلاّ فى تشرّب ملامحها الطفولية ، وصوتها ، وانفعالاتها ، ونظراتها . بددت إحساسى بالوحشة ، ألغته تماماً ..
                كنت أكتم أمنيتى بأن أحيطها بساعدى ، وأحتضنها . أبتلع شفتيها الممتلئتين . لا أتركهما حتى أرتوى ..
                قررنا ـ فى صمت ـ أن يكون كل منا للآخر . أن يستغنى به عن العالم . تكلمت النظرات وارتعاشات الأيدى . وكنت أغلق عينى على ملامحها ، وأنام ..
                عدت إلى كتابة الرواية التى تركت القاهرة قبل أن أتمها . تبدلت ـ وأنا أكتب ـ شخصية البطل . لم يعد ذلك الساخط ، الناقم ، المتطلع إلى ما لا يستطيع تبين ملامحه ..
                كانت جلساتنا ـ بمفردنا ـ تطول ، فلا أشعر بالارتباك . ضاقت الفواصل ، أو انمحت . اختفى التوجس والحذر . أعتبرها الصديق الوحيد الذى أستطيع أن أكلمه فى موضوع يهمّنى . لم أعد أسأل نفسى : متى تلتقى أصابعنا ، وتتشابك ، فى اتكائنا على الطاولة ؟.. لم يعد فى تلامس أيدينا ما يثير الحرج . لم تعد تبعد يدها بما يدل على أنها تنبهت وتعالج الخطأ . تربت ظهر يدى براحتها . نتصافح ـ بعفوية ـ تعبيراً عن اتفاق الرأى . تمد يدها لأعينها على النزول من السلم الخشبى . تظل الأصابع متشابكة حتى بعد أن تطأ قدماها الأرض ..
                لم تعد تحدثنى عن زاهر ، ولم أعد أسألها عنه ..
                لمحت فى يدها ورقة مطوية ..
                ـ رسالة ؟..
                هزت رأسها ..
                ـ من زنجبار ..؟
                هزت رأسها ..
                ماذا ستكون عليه حياتى فى مسقط ، لو أنها خلت منها . هل أعود إلى الوحشة ، ومعاناة الغربة ؟..
                ـ هل زاهر بخير ؟..
                ـ قد لا يأتى هذا العام .. مشاغله كثيرة ..
                قالت مها فى رسالتها التى لم أتوقعها ، إنها عملت سكرتيرة فى مكتب مدير شركة استيراد ، وإنها تنوى المساعدة فى شراء بعض ما يحتاجه بيتنا . أعدت قراءة الكلمة . حددت البيت بأنه " لنا " . لم تشر إلى أمها ..
                قالت
                زوينة
                :
                ـ هل ظروف العمل فى المطبعة على حالها ؟
                أدركت أنها لا تريد الدخول من باب هى التى واربته . قلت :
                ـ تغيرت الظروف كثيراً .. انتظم العمل ، وأجد وقتاً للقراءة ، وسماع الراديو ، والراحة ..
                أضفت بلهجة ذات مغزى :
                ـ وأخرج مع الأصدقاء ..
                قالت
                زوينة
                :
                ـ هل تدعونى إلى سينما ستار ؟.. تعرض فيلماً عن الزومبى ..
                ـ الزومبى ؟..
                ـ موتى يأكلون لحم البشر ..
                ـ أدعوك .. ولكن ماذا ستشاهدين ..
                احتوتنى بنظرة مشفقة :
                ـ لا تحب العنف ..
                ـ أكره القرف !..
                هذه الفتاة خلقت لى ، وأنا خلقت لها . زاهر قريبها . فليظل كذلك . لا معنى لأن يتجاوز القرابة . ليس كل الأقارب محبين . المثل يتحدث عن ابنة العم التى لا تصلح للإنجاب ..
                ناوشنى السؤال : ثم ماذا ؟.. ما طبيعة امتدادات العلاقة بين جميلتى الفاتنة وبينى ؟ هل يظل الحب حباً بلا نهاية ؟ وهل تقبل الزواج إذا عرضته عليها ؟ وهل تظن أنى سأظل فى مسقط ، أو أنها لن ترفض السفر إلى القاهرة ؟..
                بدا لى المستقبل غائب الملامح . شغلتنى اللحظة ، أيامنا الحالية . لم أتحسب للمستقبل ، ولا حاولت أن أتصوره . لم أتصور مستقبل ما نحن فيه ..

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  عضو أساسي
                  • 14-10-2007
                  • 867

                  #23
                  ـ 19 ـ

                  ـ الأستاذ موجود ..
                  افتر الفم الخالى من الأسنان عن ابتسامة واسعة :
                  ـ أنا الأستاذ ..
                  هل هو بالفعل ذلك الذى يستقبلنى وراء مكتبه ؟..
                  كان وجها آخر غير الوجه الذى ألتقى به ، وأعرفه . نزع النظارة الطبية السوداء ، وطقم الأسنان ، وأهمل صباغة شعر رأسه ولحيته ، فتداخل البياض بالسواد فى بقع كالندف المتلاصقة ..
                  سبقنى إلى الداخل .
                  الحجرة الواسعة أيمن الطابق الأرضى فى البيت ذى الطابقين . لصق الجدار مرتبة من الأسفنج بلا ملاءة . أمامها ـ إلى اليسار ـ كومودينو عليه تليفزيون وفيديو ، يفتحهما ، ويغلقهما ، ويغير القنوات ، بريموت كنترول . وإلى جانبه راديو لم أره ـ فى زياراتى المتباعدة ـ يستخدمه . وثمة طاولات متناثرة ، عليها أطعمة ، ومعلبات ، وأكياس مفتوحة ومغلقة ، وبسكويت ، وطبق ممتلئ بالحلوى العمانية ، ودلايات قهوة ، ومياه معدنية ، وترامس تحفظ الماء البارد والساخن ، وعلب مناديل ورقية . حتى الخبز كان له آنيته المستقلة ، وإن بدت الكتب أهم ما فى الحجرة . كتب تحتل الأرفف والجدران ، وتناثرت على الوسادة والمرتبة والأرض ، لا تبين عن نوع قراءة محدد . روايات ودواوين شعرية وتاريخ ودراسات أدبية ، داخلتها أوراق وأجندات صغيرة . وعلى الجدار صورة كبيرة للسلطان يمتطى جواداً ، وفى الجدار المقابل لوحة من الخط الكوفى تتضمن آيات قرآنية . بدا لى أنه قد خلق لنفسه عالماً خاصاً ، فهو يحرص على أن يكتفى بما فى الحجرة . لا يطلب شيئاً من خارجها ، ولا ينادى على أحد .
                  أشار لى بالجلوس على حشية بالقرب من الباب . تربع على المرتبة الإسفنجية بما كان يدهشنى ، وإن ألفته ، فقدماه وساقاه تتداخل فلا تبدو ركبتاه على المرتبة . يظل ـ لساعات ـ فى هذه الجلسة ، لا يبدّلها . أشارك فى الجلسة بالصمت . أتأمل جلسته المتربعة ، كأنه أقعى على ركبتيه . يبدل بالريموت كونترول قنوات التليفزيون ، يصب الماء الساخن من الترمس فى الكوب الفارغ ، ثم يضع السكر وكيس الشاى . الخواطر تجر بعضها . ربما قطع كلاماً ليصله بكلام مختلف تماماً . قرأ لى أبياتاً من الشعر النبطى ، عن المستشار البريطانى المقيم فى قصر السلطان . يمسك الخيوط فى يده ، ويجيد تحريكها ، وإن صدرت المراسم بتوقيع السلطان ..
                  قال :
                  ـ أيقظتك من النوم ؟..
                  ظللت صامتاً ، وإن اغتصبت ابتسامة لم تفلح فى إخفاء ما يعتمل فى نفسى من قلق :
                  ـ كتبت بعض الأبيات الشعرية ..
                  كان يطيل التحدث فى القضايا الثقافية ، وإن لم يطلعنى على كتابات له . أشار إلى أبيات من الشعر على أنها من تأليفه ، لكنه لم يشر إلى ديوان له ، أو حتى قصائد نشرها فى دوريات .
                  خمنت أنه ثمل . يفرط فى الشراب ، فنغيب الذاكرة . ينسى ـ بعد أن يفيق ـ كل ما يفعله . ولم يكن يفعل ـ فى الحقيقة ـ شيئاً مؤذياً . يكتب شعراً ، يشاهد أفلاماً جنسية ، يتصل بمن تطالع عيناه أرقام تليفوناتهم فى الأجندة ..
                  الخمر موجودة فى الفنادق ، وفى البيوت ، وحتى داخل مساكن الضباط والعاملين المدنيين فى المعسكرات ، لكنها ممنوعة فى العلن . السجن عقوبة من توجد داخل حقائبه فى المطار ، أو تشم الشرطة رائحتها فى فمه ، فى مفارق الطرق ، أو عند الحوادث ..
                  غالبت النوم ، وأنا أتظاهر بالإنصات .
                  لم يعد هو الرجل الذى أعرفه . أستأذن من السكرتير فى لقائه . يحدد لى الموعد حالاً ، أو فيما بعد . أسأل ويجيب . تجذبنى طريقة كلامه . ميله إلى الموضوعية ، وعدم السرعة فى إصدار الأحكام ..
                  دارت الخمر فى رأسه ، فتحول إلى إنسان لا أعرفه . انطلق فى الصياح والغناء ، وأجهش بالبكاء ، قال ما لم أكن أعرفه ، واستعاد أبياتاً من الشعر النبطى تدين وجود المستشار الأجنبى فى أخطر المواقع . وقال كلمات غير واضحة ، وغير مترابطة ، وكلمات بذيئة ، ولوح بيده ، ونقر على الطاولة أمامه بأصابع مرتعشة . وشخط ، ونطر ، وحدق فيما لم أتبينه ، وعلا صوته فيما يشبه الصراخ . أخذه السكر ، فغاب عن كل ما حوله ، أو عاش فى عالم صنعته له الخيالات ..
                  اكتفيت بتأمل تصرفاته . تظاهرت بمتابعة توالى الكلام ، لا أتابع كل ما يقول . شردت ، ومضت خواطرى إلى آفاق بعيدة ، وإلى جزر أحيا فيها بمفردى . ومضت فى الذاكرة وجوه تشابكت ملامحها ، واختلطت ..
                  ***
                  قبل أن أميل بالسيارة إلى طريق مطرح ، تبينت ـ فى غبشة الفجر ـ يد الشرطى تلوح بالوقوف ..
                  وقفت ..
                  كنت أحرص على أن أحمل فى جيبى تصريح العمل والإقامة . أتوقع السؤال ـ فجأة ـ : أين أوراقك ؟..
                  ـ ما السرعة التى تسير بها ؟..
                  ـ لا أعرف .. ربما ثمانين ..
                  ـ أنت تسير فوق المائة .. مع ذلك فإن سرعة الطريق ( وأشار إلى اللافتة على جانب الرصيف ) لا تزيد عن أربعين ..
                  كانت عيناى تغالبان النوم . لم أحاول أن آخذ وأعطى . تركت له " الليسن " ، وواصلت السير ..
                  تواصلت ضحكاتها وهى تنصت إلى ما حدث ..
                  ـ وكيف تطمئن إلى رجل مخمور ؟..
                  ـ الشاب المخمور لا يقوى على شئ .. فما بالك بشيخ ؟!..
                  ـ وهل استعدت " الليسن " ؟..
                  ـ سأذهب إلى المرور غداً ..
                  وتذكرت خميس المناعى :
                  ـ لى صديق ضابط شرطة .. سيذهب معى ..
                  ـ هذا البلوشى ..
                  كنت قد قلبت النشرة الرسمية بدافع الفضول ، وبتصور أنى قد أجد فيها ما يصلح للنشر . معظم النشرة أسماء بلوش يطلب فهر بن تيمور نائب وزير الدفاع منحهم الجنسية العمانية ..
                  قال لى الشيخ النبهانى :
                  ـ سيصبحون جنوداً فى الجيش العمانى .. لابد أن تكون جنسيتهم عمانية ..
                  استعدت الخبر الذى نشرته وكالة رويتر : كيف تختار لجنة من القوات المسلحة العمانية جنوداً من أبناء بلوشستان ، يجدون فى الانضمام إلى الجيش العمانى فرصة للفرار من أوضاعهم المادية القاسية . البلوش هم الطبقة الأدنى بين العمانيين . يعلوهم اللواتيا ، فالزنجباريون ، فالعمانيون العرب ..
                  قالت
                  زوينة
                  :
                  ـ لا تذهب .. سآتى لك بالليسن ..
                  ثم وهى تهز سبابتها :
                  ـ المشاة هنا لهم أولوية عبور الطريق ..
                  واتجهت ناحيتى بنظرة مستنكرة :
                  ـ كيف تقف لمن يريد عبور الطريق وأنت تجرى كالصاروخ ؟!
                  تساقطت التفاصيل الصغيرة والملاحظات . بدت لى أجمل فتاة فى حياتى كلها . يأسرنى صوتها ، صوت طفل ناعم ، وعيناى تتوهان فى عينيها ، ورائحتها الهادئة تملأ أنفى . ربما تنبهت إلى أنى ـ كأنما دون تعمد ـ أضع يدى على يدها . أفكر فى أن أفعل شيئاً ، أى شئ . قاومت هاتفاً فى أن أحتضنها ، أضمها إلى صدرى ، وأقبلها .. كررت القول : أحبك ، وإن ظل فمى مغلقاً ..
                  اتسعت فترات غيابى عن القاهرة . أضع سماعة التليفون فأشعر أنى تركت ـ حالاً ـ أبى وأمى والولدين والصغيرة عفاف . أهمل الأيام التى أعقبت قدومى إلى مسقط . أتصور أن ذلك اليوم هو أول أيامى فى مسقط ..
                  ألح خاطر ـ لا أدرى كيف بدأ ـ فى أن أترك مها ، ومصر ، وأحيا مع هذه الجميلة ، الناعمة ، أو أصحبها إلى القاهرة ، لتحيا معى ..
                  حاولت أن أستعيد صورة مها ، فلم أوفق . بدت الملامح غير واضحة ، وضبابية ..
                  هذه الجميلة هى دنياى الحقيقية .
                  ***

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    عضو أساسي
                    • 14-10-2007
                    • 867

                    #24
                    ـ 20 ـ

                    أفزعنى فى عينيها جمود دامع ، وفى فمها صرخة تريد أن تنطلق :
                    ـ ماذا ؟..
                    ـ ناصر فى المستشفى ..
                    صرخت :
                    ـ ماذا ؟..
                    ـ ناصر .. فى المستشفى ..
                    ـ كيف ؟!..
                    ـ حادثة سيارة فى الطريق إلى قريات ..
                    ـ هذا ما كنت أخشاه !..
                    بدا لى ـ فى الأيام الأخيرة ـ شخصاً آخر غير الذى أعرفه . نظراته زائغة ، وخطواته متعثرة ، واصفرار وجهه يشى بالمرض . كان يحدثنى عن خوفه من الصعود إلى الجبل . يتوقع أن تظهر له المرأة الجنية ، فلا يدرى تصرفها . أدركت من كلامه الذى بدّل طبيعته المنطوية ، أنه سأل ، وتلقى إجابات . تشابكت الإجابات بقدر تعدد إلقاء الأسئلة ، أو السؤال الواحد . اختلطت الأرواح الشريرة والأشباح والعفاريت . أضافت إلى خطورة ما يعانيه . يهمس بهاجس ، ثم يعلو صوته بما يرى أنه أجدر بالتصديق ، ثم يعود إلى وسيلة لم يكن قد اقتنع بها ..
                    فاضل بين شقق خالية فى روى ومطرح ودار سيت والحمرية . غلبه الهم لرفض أبيه . إذا أردت مفارقة قريات ، فلن ننزل معك . وكنت أدرك حبه لأسرته . أبيه وأمه وأخوته الصغار ..
                    وقفت فى الطرقة الطويلة ، تلفها ضبابية شفيفة . ألصقت وجهى بالزجاج الفاصل بين الطرقة وحجرة الإنعاش . ستة أسرة ، خلت من المرضى ، ماعدا سرير فى أقصى الحجرة . بالكاد تبينت فيه " ناصر " ممدداً على ظهره ، وضعت فوق أنفه كمامة أوكسجين ، وغرست فى جسمه أسلاك ، وتدلت زجاجة الجولوكوز من حامل المحاليل ..
                    حاولت أن ألوح له بيدى ، أو أبدى حركة يفطن لها ، لكنه كان ممدداً فى السرير الأبيض . نظراته غائبة ، أو أنه كان يتجه إلى السقف ..
                    قلت للطبيب ذى السحنة الأوروبية :
                    ـ هل هناك أمل ؟..
                    قال فى إنجليزية هادئة ، باترة :
                    ـ أدع له بالرحمة !..
                    ***
                    قالت
                    زوينة
                    :
                    ـ ما يفزعنى أن الأطباء بذلوا كل ما لديهم ..
                    قلت فى دهشة :
                    ـ من قال ؟..
                    صمتت لحظة ، ثم قالت :
                    ـ لو أننا فى زنجبار .. كنت صحبته إلى عين شمشم ..
                    استعدت التسمية :
                    ـ عين شمشم ؟
                    ـ عين ماء بالقرب من المدينة .. تعالج كل الأمراض ، حتى المستعصية منها ..
                    ـ أعرف أن ناصر يعانى مطاردة أرواح شريرة ؟
                    ـ حتى الأرواح الشريرة يطردها الاغتسال فى العين من داخل الإنسان ..
                    أضافت لنظرتى المستغربة :
                    ـ لا تصدقنى .. لكن أبى ظل يعالج فى عين زنجبار .. وفى مسقط يتناوبه الأطباء ..
                    ـ أعرف شيخاً فى بهلا .. ربما ساعد على الشفاء
                    ـ هل يفلح شيخك فيما عجز عنه الأطباء ؟!..
                    ـ مجرد محاولة .. ربما تفيد ..
                    روت لى أن الشيخ فى إصبعه خاتم مطلسم يملك قوة الصحة والمرض والحياة والموت . يكشف عن المخبوء بالنظر إلى السماء . يتأمل الزرقة والشمس والسحب والليل والقمر والنجوم . تفتح الأبواب أمامه بمجرد أن يقرأ أسماء أم موسى ..
                    فاجأنى النبهانى ـ حين سألته عن الشيخ ـ بأنه يعرفه :
                    ـ هذا شيخ مبارك .. من يقرأ عليه أو يلمسه بأصابعه ، يشفى بإذن الله ..
                    رجح النبهانى أن تكون المرأة التى التقت بناصر فى طريق قريات من العالم السفلى . استهواها ناصر ، فظلت تطارده حتى يوافق ـ أو ترغمه ـ على أن ينتقل معها إلى حيث تعيش . قال الشيخ إن المرأة أثيرية ، طيف خيال ، لا تتجسد إلا لناصر . أحبته ، فسعت إلى إغوائه والسيطرة عليه ..
                    ثم وهو يستحثنى بإشارة من يده :
                    ـ اصحب ناصر إلى بهلا . بركات الشيخ مؤكدة ..
                    أضاف فى تأثر واضح :
                    ـ لم أكن أعرف ناصر التميمى قبل أن يزورنى ويطلب العمل فى الجريدة ..
                    وانتزع ابتسامة :
                    ـ أردت تشجيعه لأن الشبان لا يقبلون على العمل فى الصحافة .. ثم أحببته لحبك له !
                    تحدث النبهانى عن أدعية الشيخ لدفع لدغات الثعابين والعقارب ، ولفك المربوطين والعاقرات وعقد البنات ، ولعلاج الأمراض التى عجز الأطباء عن مداواتها . قال إنه يجيد تعبير الرؤيا وتفسير الأحلام ، ويطلع على أسرار الطبيعة ، ويعرف فى حساب الكواكب والطالع والنجوم ، ويعلم الغائبات من الأمور ، ويخبر عن الأشياء قبل كونها ، ويجيد تحويل القلوب ، وإحداث الشفاء والأذى ، ويشفى من الأمراض المستعصية ، ويطرد الجن ، ويملك تمائم وصيغاً سحرية تطيل العمر ، وتطرد الأرواح الشريرة ، وتجلب الحظ السعيد . وقال إن الشيخ عرف عنه علمه بجميع العلوم بقدرة الله : الطب والهيئة والتنجيم والكيميا والسيميا والروحانى ، ومسميات أخرى لم أكن أعرفها ، ولا استمعت إليها من قبل ..
                    حذر الرجل من أن الشيخ يطيعه الجن والشياطين ، فهو يملك تقييد يدى الإنسان الذى يغضب عليه وقدميه ولسانه . يشل حركته ، فلا يقوى على الكلام أو الحركة . ربما أخرج الواقف أمامه من هيئته البشرية إلى هيئة حمار أو كلب أو ماعز . لو أنه ردد ـ بسرعة ـ قراءات وتعاويذ وطلاسم ، انسخط الواقف أمامه من فوره . صار جماداً لا حول له ولا قوة ..
                    غلب الفضول ما عداه تهيئى للسفر إلى بهلا ..
                    قال عبد العال :
                    ـ نصيحتى .. لا تسافر ..
                    وأنا أفتش فى وجهه عما يخفيه :
                    ـ لماذا ؟..
                    ـ هذه مدينة سحر .. قد تؤذى فى جسدك أو فى نفسك ..
                    ـ يصحبنى أصدقاء عمانيون إلى شيخ له كرامات ..
                    وضغطت على كتفه :
                    ـ لن يظل ناصر مقعداً طيلة حياته ..
                    ـ هل نستبدل السحرة بالأطباء ؟..
                    ـ مجرد محاولة للإفادة من الطب النبوى ..
                    هز رأسه فى غير اقتناع ..
                    ***
                    أدركت من ملامح الشيخ النبهانى ما حدث ..
                    ـ ناصر ؟..
                    انتزعت الحروف :
                    ـ هكذا .. بسرعة ..
                    أردفت فى تأثر :
                    ـ حتى جنازته لم أمش فيها ..
                    قال :
                    ـ المذهب الإباضى يقضى بأن يدفن الميت قبل أن تمر صلاتان على وفاته ..
                    أغمضت عينى بالتأثر :
                    ـ لا أتصور أنى لن أرى ناصر بعد الآن .. لا أتصور أنه لن يأتى ونخرج معا ..
                    بدا كل شئ حزيناً ، ومقبضاً . أحسست ـ ربما أكثر من قبل ـ أنى وحيد . وحيد تماماً . امتلأت بشعور الوحدة .

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      عضو أساسي
                      • 14-10-2007
                      • 867

                      #25
                      ـ 21 ـ

                      نظرت من النافذة المستديرة المجاورة لى ، والطائرة تحاول الوقوف . واللمبة الحمراء ـ أسفل الجناح ـ تتلاحق ومضاتها . يداخلنى شعور يتمازج فيه الرغبة فى الفضفضة والإحساس بالذنب . وكان وجه زوينة مقيماً فى ذاكرتى ..
                      فاجأنى مرض أبى ..
                      ظلت رسائله على انتظامها ، رسالة كل أسبوع . حتى الكلمات ظلت واضحة لم يداخلها اضطراب ، فلم أتوقع مرضه ، ولا خطر فى بالى ..
                      قالت أمى :
                      ـ أعرف أن مسقط مدينة حارة .. المفروض أن تعود ببشرة سمراء .. العكس ما حدث ..
                      قلت فى نبرة مهونة :
                      ـ نسيت أنى أحيا فى المكيفات ..
                      أختزن المشهد وراء النافذة منذ طفولتى ، لكننى نفضت رأسى لتصور أن سرب الطير يحلق فى سماء مسقط .
                      قلت وأنا أرنو ـ بتلقائية ـ عبر النافذة :
                      ـ المكيفات وليس البترول هى سر الحياة فى الخليج .. فى البيت والعمل والسيارة .. فى كل شئ ..
                      ثم وأنا أتأمل الظلال تعلو واجهات البيوت :
                      ـ لا أتصور أنهم يقوون على الحياة بلا مكيفات ..
                      واستدرت إلى داخل الحجرة :
                      ـ لو أنهم أفلحوا فى تكييف المناخ لفعلوا ..
                      ***
                      ألفت أزيز إقلاع الطائرة وهبوطها . أطل من النافذة الزجاجية المستديرة . تعلو الطائرة فوق الرمال . فاجأتنى ـ فى المرة الأولى ـ مساحات الرمال . تتناثر خضرة وبيوت متلاصقة ، ومتباعدة ، تصغر جميعها ، وتبهت ، حتى تتلاشى ..
                      ـ أستاذ عبد العال ..
                      واتجهت إليه بنظرة متسائلة :
                      ـ إجازة أم عودة نهائية ؟
                      ـ إجازة قصيرة ..
                      واستدرك فى كلمات متباطئة :
                      ـ هى إجازة قبل العودة النهائية إلى مسقط ..
                      أضاف لنظرة الدهشة فى عينى :
                      ـ سأظل فى مسقط حتى يبلغنى العمانيون برأى آخر ..
                      ومط شفته السفلى فى هيئة المتحير :
                      ـ أفلَحَت ـ أدركت أنه يقصد زوجته ـ فى خداع الأولاد .. لم أعد بالنسبة لهم إلا حصالة ينفقون منها ..
                      ثم وهو يفرك يديه :
                      ـ نتحدث بالمجاملة عن الوطن الثانى ..
                      وداخل صوته نبرة حاسمة :
                      ـ الآن .. مسقط وطنى الأول ..
                      عصتنى الكلمات . تشاغلت بالنفاذ إلى داخل الدائرة الجمركية ..
                      طال ترقبى للنقرات على الباب الخارجى . أهملت التعب ، وتشاغلت بمراجعة مواد الجريدة . لو أنى أسلمت جسمى إلى راحة النوم ، ربما لا تصلنى النقرات التى أنتظرها . لم نعد ـ منذ وفاة ناصر ـ نلتقى خارج المكتب . تدخل من الباب المفتوح ساعات النهار ، وأتوقع الطرقات الخافتة فى الليل .
                      مضت الشمس فى دورتها من الشرق إلى الغرب ، وبدا ليل سبتمبر لطيفاً ، وهبت نسائم خريفية منعشة ..
                      لم تعد الشمس مجرد أشعة ساخنة ، لكنها دافئة ، حانية ، ويسهل تحملها ..
                      ناوشنى السؤال : لو أنى تخليت عن مها ، وقدمت زوينة إلى أبى وأمى زوجة لى ، ماذا يقولان ؟ هل يأخذ القبول أو الرفض تصرفاً تغيب عنى ملامحه ؟
                      مها . زوينة . لا ميل ، ولا انحناءات فى الطريق التى يعرفانها . زوينة حكايتى التى عشتها بمفردى فى مسقط ، ومها حكايتى التى يعرفانها فى القاهرة . فكرت فى أن أحكى لأمى . أنفض لها نفسى . أحدثها عن المخلوقة الساحرة التى بدّلت حياتى . توقعت القول : ماذا بعد ؟.. والمقارنة التى لابد أن تطرح نفسها بين الفتاة التى أخطبها فى القاهرة ، والفتاة التى أحببتها فى مسقط .
                      أزمعت أن أحتفظ بما فى داخلى ، فلا أبوح به . أنسى ـ أتناسى ـ تماماً ..
                      ـ أين كنت ؟..
                      قالت للهفة فى كلماتى وعينى :
                      ـ أنا لم أمت .. مازلت حية ..
                      وقامت متكئة على المكتب :
                      ـ وصل زاهر ليلة أمس .. لديه وجهة نظر تثبت أحقيته فى الجنسية ..
                      داخلنى قلق داريته بابتسامة مشفقة :
                      ـ هل أتوقع أن يستعيد جنسيته هذه المرة ؟..
                      ـ لنا أقارب أفادوا من القانون واستعادوا الجنسية ..
                      ***
                      بدت الطرقات أسرع وأقوى مما اعتدت .. هل هى ؟..
                      حدست أنها تدارى انفعالها بابتسامة مفتعلة :
                      ـ هل أعددت حقائبك ..
                      ـ لن تحتاج إلى أكثر من دقائق ..
                      ـ وأوراقك .. ومستحقاتك ؟..
                      ـ أنهيت كل شئ ..
                      قالت فى انفعالها :
                      ـ متى تسافر ..
                      ـ طائرة العاشرة صباحاً .. صباح الاثنين ..
                      ـ ليس موعد ورديتى .. لكننى سأكون فى وداعك ..
                      قاومت ارتباكى :
                      ـ لا داعى .. لا أحب لحظات الوداع ..
                      تعانقت راحتانا ..
                      فاجأتنى ـ فى اللحظة التالية ـ بما حدث ..
                      شبت على أطراف أصابعها . طوقت عنقى بساعديها . أحنيت رأسى . ضغطت بشفتيها على مقدمة الرأس . هبطت إلى الجبهة والعينين والأنف والذقن . لامست شفتى ـ قبل أن أتنبه ـ بقبلة خفيفة . لم يكن فى بالى أنى أفعل هذا . لم يكن فى بالى أنها تفعله . هل كتمت السدادة على القمقم حتى اللحظات الأخيرة ؟.
                      غاب ما يجب أن أفعله فى الارتباك الذى شملنى . قبلتنى ثانية ، وأودعت عينيها نظرة استجابة . ملت عليها . قبّلتها . احتوت شفتاى فمها الوردى الرقيق . أحاطتنى بساعديها . ثم عادت برأسها كأنها تتأملنى . قرأت فى عينيها حناناً كنت فى حاجة إليه ..
                      حدث ما حدث فى ومضة ، فى لحظة باهرة . لم أعد نفسى لها ، ولا تصورتها ..
                      أدركت أنها تبادلنى نفس مشاعرى ، وإن لم تبح . تحبنى مثلما أحبها ، تحبنى أكثر مما تظهر ، تجيد إخفاء عواطفها ..
                      ـ قبلتك لأنى كنت أريد ذلك ..
                      ولونت صوتها :
                      ـ لكن من حق زوجى أن يجدنى كما خلقنى الله ..
                      ـ زوجك ؟!..
                      أومأت :
                      ـ زاهر .. لن يعود إلى زنجبار ..
                      ـ حصل على الجنسية ؟..
                      ـ لا .. لكنه سيعمل هنا .. وينتظر ..
                      وأنا أغالب الارتباك :
                      ـ كان هذا هو اقتراحك ..
                      ـ لم يوافق عليه ..
                      ـ الآن .. وافق ..
                      همست بالذهول :
                      ـ تتزوجيننى ؟
                      تأملتنى بنظرة مستفهمة :
                      ـ هل ستطيل إقامتك فى مسقط ؟..
                      وربتت ظهر يدى بأطراف أصابعها :
                      ـ أقصد .. هل ستنتقل حياتك إلى هنا ؟..
                      ـ تنتهى إعارتى ـ كما تعلمين ـ هذا الشهر ..
                      وأسلمت نفسى لشرود :
                      ـ كان مقدراً أن نعرف بعضنا ..
                      لم تحاول إخفاء استيائها :
                      ـ نعرف بعضنا ؟!
                      ـ يحب أحدنا الآخر .. ثم أجبرتنا الظروف على أن نفترق ..
                      اقتحمنى يقين أننا ـ حين يمضى كل منا فى اتجاه مغاير ـ سنفترق إلى الأبد . لن يرى أحدنا الآخر ثانية . يكتفى باجترار الملامح والكلمات والتصرفات . تظل فى ذاكرتى ـ أثق ـ مهما تمضى الأعوام . هل أظل فى ذاكرتها ؟..
                      ـ ولماذا نفترق ؟..
                      ـ أنت لن تحيا فى مسقط طول عمرك .. وأنا لا أستطيع أن أفارق مسقط ..
                      وعكست نظرتها ما تعانيه من قلق :
                      ـ معادلة صعبة كما ترى !
                      هتفت بعفوية :
                      ـ سنحيا معاً فى القاهرة ..
                      ـ لا أستطيع أن أفارق مسقط ..
                      ـ هذه الصخور والـ ...
                      قاطعتنى :
                      ـ أحب هذه الصخور .. وأحب الجبال ..
                      هززت رأسى فى عدم اقتناع :
                      ـ لكننى أحبك .. وأنت تحبيننى ..
                      وهى تدير عينيها :
                      ـ وزاهر أيضاً يحبنى !..
                      ـ فإذا أصر على عودتك إلى زنجبار ؟
                      ـ ستكون عودة إلى الوطن الذى أحبه ..
                      ـ وعمان ؟
                      ـ لم أحاول المقارنة .. لكن زنجبار طفولتى التى لا أنساها ..
                      هل تنتهى كل الأشياء الجميلة ، فهى ذكرى لا أملك إلا استعادتها ؟ هل حان الفراق ؟ وهل أرادت أن تجعل للحظات الوداع شعائر لا أنساها ؟..
                      كانت نظراتها تقول : لن نلتقى بعد اليوم . لم تقل ذلك بلسانها ، ولا همست به ، لكن ذلك ما قالته عيناها بالفعل ..
                      بدا كل شىء من حولى يتصدع وينهار . تبين نتائج لا أتوقعها ، ولا أحبها . هل تودعنى ؟ هل أودعها ؟ هل أفقد زوينة ؟.. أعود إلى القاهرة ، ويظل زاهر فى مسقط ، فلا نلتقى ثانية ؟ .. مجرد التفكير فى أننا نفترق يصيبنى بارتباك . كيف تبدو الحياة دون أن ألتقى بها ، أكلمها ، أستمع إليها ، أتأمل ملامحها الطفولية المنمنمة ؟
                      شعور غامض تخلق فى داخلى ، يشى بأن شيئاً ما قد تكسر ، أو ذاب ، انتهى . أثق أنى أفقد زوينة . أنى لن أراها ثانية . لن أترقب الطرقات الخافتة ، الجلسة المتربعة على الكنبة المواجهة للمكتب ، أحاديثنا فيما يفد إلى الخاطر ، تحكى وتحكى ، تشاغلها بإعادة ترتيب ما تعمدت إفساده ، قولها فى قاعة المطار : لماذا تقف هكذا ؟ ، قولها أمام باب البيت : هل عندك وعاء كبير ؟ ، تأملى لها للمرة الأولى ، الرواية القاسية لما جرى فى زنجبار ، تبدل حركاتها وتصرفاتها وإيماءاتها ، وقفاتنا تحت قلعتى الميرانى والجلالى حين أرنو إليها وأنا أتجه إلى مكتب الإعلام ، المناقشات الهامسة فى كافيتريا الفندق ، طريقة ارتشافها للشاى ، تحور الوجه الطفولى بالغضب ، تعثرها فى وقفتها على السلم ، سؤالها تحت المصعد الزجاجى بفندق مسقط انتر كونتيننتال : ما أخبار القلب ؟..
                      ***
                      أقلعت الطائرة ..
                      فككت الحزام من حول وسطى ، وتهيأت لأخذ نسخة من الصحف المصفوفة بالقرب من الباب الأمامى ..
                      بدت مسقط فى صعود الطائرة مناطق متناثرة بين الجبال والصحراء والبحر والزراعات القليلة . ميناء قابوس ، وكورنيش مطرح ، وألق الأمواج ، والجبال المتلاصقة ، والقلاع ، والطوابى ، ومساحات الخضرة المحدودة تضاءلت ـ بارتفاع الطائرة ـ وشحبت ، ثم لم يعد إلاّ الفراغ المحيط وصوت المحركات ، والطائرة تخترق أفقاً من السحاب الأبيض ، المتكاثف ..
                      محمد جبريل ـ مصر الجديدة ـ يوليو 1991 ـ أغسطس 1993



                      [تمت الرواية]

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        عضو أساسي
                        • 14-10-2007
                        • 867

                        #26
                        مؤلفات محمد جبريل


                        1 ـ تلك اللحظة ( مجموعة قصصية ) 1970 ـ نفد
                        2 ـ الأسوار ( رواية ) 1972 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1999 مكتبة مصر
                        3 ـ مصر فى قصص كتابها المعاصرين ( دراسة ) الكتاب الحائز على جائزة الدولة ـ 1973 هيئة الكتاب
                        4 ـ انعكاسات الأيام العصيبة ( مجموعة قصصية ) 1981 مكتبة مصر ـ ترجمت بعض قصصها إلى الفرنسية
                        5 ـ إمام آخر الزمان ( رواية ) الطبعة الأولى 1984 مكتبة مصر ـ الطبعة الثانية 1999 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
                        6 ـ مصر .. من يريدها بسوء ( مقالات ) 1986 دار الحرية
                        7 ـ هل ( مجموعة قصصية ) 1987 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الإنجليزية والماليزية
                        8 ـ من أوراق أبى الطيب المتنبى ( رواية ) الطبعة الأولى 1988 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1995 مكتبة مصر
                        9 ـ قاضى البهار ينزل البحر ( رواية ) 1989 هيئة الكتاب
                        10 ـ الصهبة ( رواية ) 1990 هيئة الكتاب
                        11 ـ قلعة الجبل ( رواية ) الطبعة الأولى 1991 روايات الهلال ـ الطبعة الثانية 2000 ـ مشروع مكتبة الأسرة
                        12 ـ النظر إلى أسفل ( رواية ) 1992 ـ هيئة الكتاب
                        13 ـ الخليج ( رواية ) 1993 هيئة الكتاب
                        14 ـ نجيب محفوظ .. صداقة جيلين ( دراسة ) 1993 هيئة قصور الثقافة
                        15 ـ اعترافات سيد القرية ( رواية ) 1994 روايات الهلال
                        16 ـ السحار .. رحلة إلى السيرة النبوية ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر
                        17 ـ آباء الستينيات .. جيل لجنة النشر للجامعيين ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر
                        18 ـ قراءة فى شخصيات مصرية ( مقالات ) 1995 هيئة قصور الثقافة
                        19 ـ زهرة الصباح ( رواية ) 1995 هيئة الكتاب
                        20 ـ الشاطئ الآخر ( رواية ) 1996 مكتبة مصر ـ الطبعة الثانية 2001 ـ مشروع مكتبة الأسرة ـ ترجمت إلى الإنجليزية
                        21 ـ حكايات وهوامش من حياة المبتلى ( مجموعة قصصية ) 1996 هيئة قصور الثقافة
                        22 ـ سوق العيد ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب
                        23 ـ انفراجة الباب ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الماليزية
                        24 ـ أبو العباس ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر
                        25 ـ ياقوت العرش ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر
                        26 ـ البوصيرى ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر
                        27 ـ على تمراز ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر
                        28 ـ مصر المكان ( دراسة فى القصة والرواية ) الطبعة الأولى 1998 هيئة قصور الثقافة ـ الطبعة الثانية 2000 ـ المجلس الأعلى للثقافة
                        29 ـ حكايات عن جزيرة فاروس ( سيرة ذاتية ) 1998 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
                        30 ـ الحياة ثانية ( رواية تسجيلية ) 1999 ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
                        31 ـ حارة اليهود ( مختارات ) 1999 ـ هيئة قصور الثقافة
                        32 ـ رسالة السهم الذى لا يخطئ ( مجموعة قصصية ) 2000 ـ مكتبة مصر
                        33 ـ المينا الشرقية ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية ـ الطبعة الثانية 2002ـ مشروع مكتبة الأسرة
                        34 ـ بوح الأسرار ( رواية ) 2000 ـ روايات الهلال
                        35 ـ مد الموج ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية
                        36 ـ البطل فى الوجدان الشعبى ( دراسة ) 2000 ـ هيئة قصور الثقافة
                        37 ـ نجم وحيد فى الأفق ( رواية ) 2001 ـ مكتبة مصر
                        38 ـ زمان الوصل ( رواية ) 2002 ـ مكتبة مصر
                        39 ـ موت قارع الأجراس ( مجموعة قصصية ) 2002 ـ هيئة قصور الثقافة
                        40 ـ ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ( رواية ) 2003ـ روايات الهلال
                        41 ـ حكايات الفصول الأربعة ( رواية ) 2004 ـ دار البستانى



                        كتب عن المؤلف

                        1 ـ العالم القصصى عند محمد جبريل ـ مجموعة باحثين ـ مكتب منيرفا بالزقازيق 1983
                        2 ـ دراسات فى أدب محمد جبريل ـ مجموعة باحثين ـ مكتب منيرفا بالزقازيق 1984
                        3 ـ صورة البطل المطارد في روايات محمد جبريل ـ حسين على محمد ( دكتور ) ـ دار الوفاء بالإسكندرية 1999
                        4 ـ فسيفساء نقدية ـ تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل ـ ماهر شفيق فريد ( دكتور ) ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية 1999
                        5 ـ محمد جبريل .. موال سكندرى ـ فريد معوض وعدد من الأدباء والنقاد ـ كتاب سمول 1999
                        6 ـ استلهام التراث فى روايات محمد جبريل ـ سعيد الطواب ( دكتور ) ـ دار السندباد ـ 1999 .
                        7 ـ فلسفة الحياة والموت فى رواية محمد جبريل " الحياة ثانية " ـ نعيمة فرطاس ـ أصوات معاصرة 2001
                        8 ـ تجربة القصة القصيرة في أدب محمد جبريل ـ حسين على محمد ( دكتور ) ـ 2001 كلية اللغة العربية بالمنصورة ـ الطبعة الثانية ـ 2004 أصوات معاصرة. الطبعة الثالثة ـ 2008 عالم الكتب ـ الرياض.
                        9 ـ روائى من بحرى ـ حسنى سيد لبيب ـ هيئة قصور الثقافة ـ 2001
                        10 ـ محمد جبريل / مصر التى فى خاطره ـ حسن حامد ـ أصوات معاصرة ـ 2002

                        تعليق

                        يعمل...
                        X