فــــــراشـــة
كمدينة منهوبة و محترقة... كانت ترى نفسها... كورقة صفراء، ككَفَنٍ قديم سطوره مشطوبة، كلماته تصرخ لتتحرر...ربما لأنها أشبه بفراشة تلتحف ضوء المصباح يغمرها بدفء عابر لأجله تعطي حياتها، ثم تجد نفسها للحظة منتهية بردا أو موتا و كلما اقتربت من الضوء باركت انبعاثها عشقا و اُحتراقا مستمتعة في مازوشية غريبة بنهايتها و بتلك الصورة المشوهة التي صارت عليها.
"هل يكون البحر جميلا دون زَبَد! ذاك هو اُختناق العاشق بكأس الفراق" قال ذلك و رحل، عِشقُ الرجل طُموحُهُ و طموحُ المرأة عشقُها، إنهما ليسا مُتشابهين في أي شيء و مع هذا كانا عاشقين، عشقا يصفق بيَد واحدة.
لقد أدمنَتْ النهايات و الحكايا المبتورة و أدمنت أن تُذبَح و تَذبح دون سؤال و جواب أو أدنى إنذار... أخذت تنظر إلى السماء الشفقية عبر نافذة المكتب و لكن الليل جرّ لحافَهَ بسرعة فنهضت و أضاءت النور، كم تحب اللون البرتقالي و الدفء البرتقالي. فكرت للحظة أن تخرج من حالة الكآبة التي اُكتنفتها و هي تُحاسب نفسها للمرّة الأولى فهي لا تذكر أنها حاسبت نفسها من قبل. فقد كان ذاكَ من مشمولات الجميع من المُحيطين بها، الكل يُحصي حركاتها و سكناتها غيرة عليها أو على التقاليد الشمعية الذي تذوب أمام عشق كافر تعرفه هي و لا يعرفونهُ و لكنها لا تعرف هل هم المساكين أم هي.
طُرِق البابُ بعنف، ففتحت مُرتاعة، اِنعكست أنوار المدينة الخافتة على الوجه المُقطب فقالت بسوء توقّع: ......ماذا؟...
-لقد مات السيد عثمان.
تيبّس وجهُها و سادت ظلالٌ قاتمة نظراتِها.
-صبرا جميلا سيدتي..
أغلقت الباب بحركة آلية و اُنهارت على الأريكة، لم تبكِ و لم تتألم كما يُفترض بها و لكن شريط حياتها مرّ أمامها في ثوان و أخرسَها مزيجٌ غير مفهوم من الخيبة و الخوف و العبث. الرجل الذي مات كان أباها و لكن مع ذلك كانت بحاجة إلى بعض الوقت، لتفهمَ و تقتنعَ، لم يكن أحدٌ ليفهمها خارج اُستعراضٍ مُعَدّ مُسْبَقا تفعله غيرها من النساء.
سَيُحْصون آهاتها و كلماتها و يتندّرون بهذا البَكَم الذي أصاب عواطفها و جمّد دموعها و لكن رحًى طاحنة كانت تسحق أحشاءَها. إنها عاتبة على الحياة نفسِها، عاتبة لأجل نفسِها و كل من رأتهم يتنفّسون و لا يعيشون، يُحبّون و يكتمون، لأجل مَن حياتُهُم تدرّبٌ مُضْنٍ على البقاء، حزينة لأجل من حَياتُهم كلها هَرَبٌ. فقد كانت منهم و كذلك كان ابوها و أمّها و أناسُ عبَروا حياتَها.
هي الحياة، رِهانٌ خاسِرٌ سَلَفًا، اِنتابَها خوفٌ حقيقي، شعرت بأنها مقبرة شواهدُها أشخاصٌ خسرتهم و خسروها في طريق الحياة السيار. كانت كمن يشعر بالسقوط من الفراش و هو نائم.
أنّ جسدُها.. لا بُدّ من الفراق، أليْس أنينُ الناي من فراقِهِ عن القَصَبِ، أليْس أنينُ المخلوق من فراقه عن الخالقِ. لماذا يتركها الجميع و يذهبون؟
وجِلت من الدخول على الجُثة المُطيّبة، شعُرت انها صخرة بحرية تتفاذفها الأمواج و أنّها تجفّ، تجفّ و تتشقق و يلفّها الصقيع. تقدّمت، للحظة تعرّت طفولتها و واجهت تلك النظرات الباردة من جديد. نظرات الأب الذي اُحتفظ بكل مظاهر قُوّته و كانّه نائم و قريبا يستيقظ. شعرت برغبة في الهرب و لكنها تمالكت نفسها رغم ذلك، هو الذي جعل منها فراشة. كان هو و جميع الرجال الذين أتوا بعده في حياتها ذلك الفانوس الذي يُدفئ و يقتل، بسببه عاشت بأجنحة مُحترقة و بسببه أحبت نهاياتها و اُنتظرتها. رفعت عينيها فرأت زجاجة ماء، شربت، شرت كأنها تُطفئ لهيبا استعر داخلها فجأة. نزفت الذاكرةُ و هي تستعيد معارك دموية اُختلطت فيها أدوار الجلاد و الضحية و برزت شعرات مفرقها البيضاء التي لم تكن تنتبه إليها في دوامة العمل. لماذا يتركها الكل و يذهبون؟
خرجت بسرعة. لم تكن تبالي بنظرات الآخرين، خطر لها أن تستقلّ قاربا و تقوم بنزهة بحرية و لكنها عادت و دفنت نفسها في مكتبها و غرقت في الظلام، لماذا لا تواجهُ، إنها غير قادرة حتى على البكاء، حياتُها مخاض حِبري كاذب، شجرةٌ أوراقها تحتضر.
رنّ الهاتف، فلم ترُدّ، ملأ الرنين المكان.. إلتقى صوْتَاهُما كنَهِريْن.. "لا داعي لحساب الماضي، كلّ حسابٍ عقيمٌ و لن يكون سوى جَلد للذات، هذه المدينة المعجونة بالخيبات و العشق و الكراهية لا بدّ أن يشرق وجهها بالبسمة، كم اُستهانت بنا الحياة و لكننا لن نخضع لها بعد الآن"
-"لقد فات الأوان" قالت بيأس
-"لم يعد لدينا وقت للتشاؤم" قال
أعادت السّماعة إلى مكانها و خرجت بسرعة، لم تكن تعرف إلى أين تذهب، كانت تسير في طريق الجسر المظلمة بلا نهاية و لكنها كانت تستشعر دفء المصباح كذكرى صيفية في شتاء حالك.
13جانفي2010
تعليق