[align=justify]
اكتملت الاستعدادات .. لمغادرة الرياض، فهذا صالح وزوجته وأبنائهم الثلاثة، يخرجون إلى فناء بيتهم الواسع، حيث تقف سيارتهم الحديثة، بجوار الملحق المخصص للجدين .. (والديّ صالح)، مسحة من الأسى .. تجلل سكن الجدين، الذين فرّقهم الموت، قبل عشرة أيام، عصفت وفاة الجدّة بمشاعر الزوجين الشابين، والأحفاد، فأصبح المكان موحشاً .. وقد كان كذلك، فحتى الجد الذي بقي، كان كئيباً، دائم الشرود، يتقطّع حسرات .. على فراق رفيقته.
تقدّم صالح إلى حيث يقبع والده التسعيني بلا حراك، فقبّل جبينه بحرارة، أخذ بيده ليساعده على النهوض، وخاطبه بنبرة الابن البار،قائلاً:
- تفضل .. الله يطول عمرك.
وقف العجوز بتضعضع .. وغمغم:
- ياولدي .. ما كان فيه داعي تكلف على نفسك.
بصوت يفيض رحمه .. يكمل صالح:
- مافيه كلافه .. حنّا وما نملك تحت خدمتك.
يستوي الشيخ في المقعد الأمامي، وهو يدعو لإبنه البار، وزوجته الطيبة، بأن يقر الله أعينهما بصلاح أبنائهم.
بعد صلاة الظهر، تنطلق السيارة باتجاه الشرق، الهدف من الرحلة .. محاولة إخراج الجد من دوامة الحزن، التي خيّمت علية، ساد الصمت، حتى الأطفال لم يمارسوا شقاوتهم المعهودة. وهنا قالت زوجة صالح بحنو:
- عمي .. تبيني أصب لك قهوة.
يجيبها بهدوء:
- صبي .. يا بنتي.
كان يعرف أنها تريد طرد الصمت .. لا أكثر .. فرحمها، تناول الفنجان ، وبدأ يتحدث ببطء .. عن تربية الأبناء، نصح الزوجين بالحرص على الاستمتاع بأولادهم، ماداموا يعيشون بين ظهرانيهم، ووصف بيت الزوجية .. بالعش، يبقى الأبناء فيه .. حتى يكتمل ريشهم، فإذا آنسوا من أنفسهم قوّة .. طاروا .. وابتنوا لهم أعشاشاً، وفي خضم الحياة .. وكفاحها .. يفاجأ الوالدان .. بأن عشهم قد أصبح خالياً .. بعد أن كان الأبناء يملاوؤنه ضجيجاً.
توقف عن الكلام .. برهه .. فقالت تستحثه:
- ممكن ما يطيرون، ياعمي .. يعيشون مع والديهم.
ثم تردف:
- مثلنا.
يكمل الشيخ .. بعرفان:
- ليس كل الأبناء .. مثل صالح .. ولا زوجاتهم مثلك.
- أنت تحرجنا بمجاملاتك .. يا عم.
- بل .. أقول الحق، ولكن .. تذكروا نصيحتي، أرجوكم .. استمتعوا بما أنتم فيه الآن البنون زينة الحياة الدنيا .. البنون وليس الكبار.
وصلوا .. إلى الشاليه البحري، على شاطئ نصف القمر الشهير .. قبل المغرب بنصف ساعة، ترجل الشيخ .. وأخذ يدب في اتجاه الشاطئ .. في حين إنهمك البقية .. في تنزيل الأمتعة .. وترتيبها.
جلس متربعاً .. يتأمل قرص الشمس الآيل للغروب، ويحدث نفسه .. إنهاتناضل من أجل البقاء، ياليتني أهبها قناعتي .. مع ذلك .. لن تنجح محاولاتهاالمستميتة .. للتشبث بالحياة، فتغير لونها إلى البرتقالي يؤكد .. بأنها تفقد المقاومة بالتدريج، في سكون رهيب .. تلفظ أنفاسها خلف مياه الخليج، ويرخي الليل سدوله ..ليزداد البدر تألقاً .. كأنه يسخر من المصير الذي آلت إليه الشمس.
ملأ أبو صالح رئتيه من هواء البحر العليل وهو يعبث برمال الشاطئ، ففي مثل هذا الوقت من شهر أكتوبر .. يكون جو المنطقة الشرقية في أفضل حالاته، الماضي يتحرش بذاكرته .. وهو يدفعه برفق، الذكريات .. فيها لذة .. وتثير أشجاناً .. ولكن .. ماذا بقيله من أسباب المتعة؟ يتمنع قليلاً .. ثم .. يجيب داعي اللذة، فيطلق لخياله العنان .. وهو يتمدد على ظهره .. واضعاً كفيه خلف رأسه.
قبل شهر .. في حفل زواج أحد أحفاده .. انتابه شعور مؤلم بالغربة .. لا الدار دار .. ولا الجيران جيران، أكبر الحضور سناً .. يصغره بعقدين، الجميع يقبلونه، ثم يسرعون الخطى .. إلى حيث يجدون أقرانهم، نظرات الشفقة .. تمزق نياط قلبه، لقد أيقن بهوانه على الناس .. حتى وان جاملوه، فأصدقهم حديثاً .. أثقلهم ظلاً .. الذي لا يفتأ يردد ( الله يحسن خاتمتك )، كأنه يستعجل رحيله، لقد وهن عظمه .. وخبا توقده .. وأصبح يضيق ذرعاً بالحياة.
تذكر .. حينما قدم إلى الرياض، من قريته الغافية في أعماق الصحراء .. بداية الأربعينات الميلادية .. كان يفيض بالصحة والنشاط، يتذكر جيداً كيف أن أصدقاؤه كانوا يعترفون بتفوقه عليهم .. سبحان الله .. ردت تلك القوة ضعفاً، تمر أطيافهم .. في ذهنه .. ببطء .. كشريط سينمائي.
أبو علي .. بابتسامته الهادئة .. واتزانه المعهود، كان من أقربهم إلى نفسه .. وأكثرهم زهداً في حطام الدنيا الفانية، وأخذ يتمتم: رحمة الله عليه، عندما تذكر .. أنه توفي .. بسبب حادث، اثنا عودته من أداء العمرة في أواخر رمضان، خاتمة خير لذلك الوجه السمح.
أبو زيد .. بطوله الفارع .. ووجهه الجامد، الذي لا يحمل أي تعبير، حاد الطباع .. سريع الغضب، يحمل هموم الدنيا منذ أن فتح عينيه عليها، وبصوت مسموع: رحمه الله، فقد غادر هذه الدنيا .. بعد أن قضى ما يقارب السبعين عاماً بسبب جلطة.
أصبحت صور أقرانه تترى .. مصيرهم واحد وان تعددت الأسباب، بغتة .. قفزت صورة زوجته إلى الواجهة .. دعا لها بصمت .. وإلحاح .. تنهّد بعمق .. ولسان حاله يقول: سئمت الحياة، وفاضت عيناه.
[/align]
اكتملت الاستعدادات .. لمغادرة الرياض، فهذا صالح وزوجته وأبنائهم الثلاثة، يخرجون إلى فناء بيتهم الواسع، حيث تقف سيارتهم الحديثة، بجوار الملحق المخصص للجدين .. (والديّ صالح)، مسحة من الأسى .. تجلل سكن الجدين، الذين فرّقهم الموت، قبل عشرة أيام، عصفت وفاة الجدّة بمشاعر الزوجين الشابين، والأحفاد، فأصبح المكان موحشاً .. وقد كان كذلك، فحتى الجد الذي بقي، كان كئيباً، دائم الشرود، يتقطّع حسرات .. على فراق رفيقته.
تقدّم صالح إلى حيث يقبع والده التسعيني بلا حراك، فقبّل جبينه بحرارة، أخذ بيده ليساعده على النهوض، وخاطبه بنبرة الابن البار،قائلاً:
- تفضل .. الله يطول عمرك.
وقف العجوز بتضعضع .. وغمغم:
- ياولدي .. ما كان فيه داعي تكلف على نفسك.
بصوت يفيض رحمه .. يكمل صالح:
- مافيه كلافه .. حنّا وما نملك تحت خدمتك.
يستوي الشيخ في المقعد الأمامي، وهو يدعو لإبنه البار، وزوجته الطيبة، بأن يقر الله أعينهما بصلاح أبنائهم.
بعد صلاة الظهر، تنطلق السيارة باتجاه الشرق، الهدف من الرحلة .. محاولة إخراج الجد من دوامة الحزن، التي خيّمت علية، ساد الصمت، حتى الأطفال لم يمارسوا شقاوتهم المعهودة. وهنا قالت زوجة صالح بحنو:
- عمي .. تبيني أصب لك قهوة.
يجيبها بهدوء:
- صبي .. يا بنتي.
كان يعرف أنها تريد طرد الصمت .. لا أكثر .. فرحمها، تناول الفنجان ، وبدأ يتحدث ببطء .. عن تربية الأبناء، نصح الزوجين بالحرص على الاستمتاع بأولادهم، ماداموا يعيشون بين ظهرانيهم، ووصف بيت الزوجية .. بالعش، يبقى الأبناء فيه .. حتى يكتمل ريشهم، فإذا آنسوا من أنفسهم قوّة .. طاروا .. وابتنوا لهم أعشاشاً، وفي خضم الحياة .. وكفاحها .. يفاجأ الوالدان .. بأن عشهم قد أصبح خالياً .. بعد أن كان الأبناء يملاوؤنه ضجيجاً.
توقف عن الكلام .. برهه .. فقالت تستحثه:
- ممكن ما يطيرون، ياعمي .. يعيشون مع والديهم.
ثم تردف:
- مثلنا.
يكمل الشيخ .. بعرفان:
- ليس كل الأبناء .. مثل صالح .. ولا زوجاتهم مثلك.
- أنت تحرجنا بمجاملاتك .. يا عم.
- بل .. أقول الحق، ولكن .. تذكروا نصيحتي، أرجوكم .. استمتعوا بما أنتم فيه الآن البنون زينة الحياة الدنيا .. البنون وليس الكبار.
وصلوا .. إلى الشاليه البحري، على شاطئ نصف القمر الشهير .. قبل المغرب بنصف ساعة، ترجل الشيخ .. وأخذ يدب في اتجاه الشاطئ .. في حين إنهمك البقية .. في تنزيل الأمتعة .. وترتيبها.
جلس متربعاً .. يتأمل قرص الشمس الآيل للغروب، ويحدث نفسه .. إنهاتناضل من أجل البقاء، ياليتني أهبها قناعتي .. مع ذلك .. لن تنجح محاولاتهاالمستميتة .. للتشبث بالحياة، فتغير لونها إلى البرتقالي يؤكد .. بأنها تفقد المقاومة بالتدريج، في سكون رهيب .. تلفظ أنفاسها خلف مياه الخليج، ويرخي الليل سدوله ..ليزداد البدر تألقاً .. كأنه يسخر من المصير الذي آلت إليه الشمس.
ملأ أبو صالح رئتيه من هواء البحر العليل وهو يعبث برمال الشاطئ، ففي مثل هذا الوقت من شهر أكتوبر .. يكون جو المنطقة الشرقية في أفضل حالاته، الماضي يتحرش بذاكرته .. وهو يدفعه برفق، الذكريات .. فيها لذة .. وتثير أشجاناً .. ولكن .. ماذا بقيله من أسباب المتعة؟ يتمنع قليلاً .. ثم .. يجيب داعي اللذة، فيطلق لخياله العنان .. وهو يتمدد على ظهره .. واضعاً كفيه خلف رأسه.
قبل شهر .. في حفل زواج أحد أحفاده .. انتابه شعور مؤلم بالغربة .. لا الدار دار .. ولا الجيران جيران، أكبر الحضور سناً .. يصغره بعقدين، الجميع يقبلونه، ثم يسرعون الخطى .. إلى حيث يجدون أقرانهم، نظرات الشفقة .. تمزق نياط قلبه، لقد أيقن بهوانه على الناس .. حتى وان جاملوه، فأصدقهم حديثاً .. أثقلهم ظلاً .. الذي لا يفتأ يردد ( الله يحسن خاتمتك )، كأنه يستعجل رحيله، لقد وهن عظمه .. وخبا توقده .. وأصبح يضيق ذرعاً بالحياة.
تذكر .. حينما قدم إلى الرياض، من قريته الغافية في أعماق الصحراء .. بداية الأربعينات الميلادية .. كان يفيض بالصحة والنشاط، يتذكر جيداً كيف أن أصدقاؤه كانوا يعترفون بتفوقه عليهم .. سبحان الله .. ردت تلك القوة ضعفاً، تمر أطيافهم .. في ذهنه .. ببطء .. كشريط سينمائي.
أبو علي .. بابتسامته الهادئة .. واتزانه المعهود، كان من أقربهم إلى نفسه .. وأكثرهم زهداً في حطام الدنيا الفانية، وأخذ يتمتم: رحمة الله عليه، عندما تذكر .. أنه توفي .. بسبب حادث، اثنا عودته من أداء العمرة في أواخر رمضان، خاتمة خير لذلك الوجه السمح.
أبو زيد .. بطوله الفارع .. ووجهه الجامد، الذي لا يحمل أي تعبير، حاد الطباع .. سريع الغضب، يحمل هموم الدنيا منذ أن فتح عينيه عليها، وبصوت مسموع: رحمه الله، فقد غادر هذه الدنيا .. بعد أن قضى ما يقارب السبعين عاماً بسبب جلطة.
أصبحت صور أقرانه تترى .. مصيرهم واحد وان تعددت الأسباب، بغتة .. قفزت صورة زوجته إلى الواجهة .. دعا لها بصمت .. وإلحاح .. تنهّد بعمق .. ولسان حاله يقول: سئمت الحياة، وفاضت عيناه.
[/align]
تعليق