مواطن..ولكن..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • هادي زاهر
    أديب وكاتب
    • 30-08-2008
    • 824

    مواطن..ولكن..



    مواطن .. لكن ..
    بعد أن أتم جمال العبد الله دراسته الثانوية، طلب تأجيل خدمته الإجبارية من أجل تكملة تحصيله العلمي في الجامعة . توجه إلى جامعة حيفا التي كانت على " مرمى حجر " من بيته كما يقولون . سجل لامتحانات القبول والأمل يملؤه في أن يكون له مكان في الجامعة، لكنه رسب؟! فأصيب بإحباط شديد، دفعه على الإصرار في طلب مقابلة البروفيسور "بارعام" المسؤول عن تصليح الامتحانات، لأنه كان على ثقة من اجتياز تلك العقبة . وعندما قابل البروفيسور، فوجئ به يقول:
    - إن الطالب في وسطكم يصل إلى الجامعة مع نجاح في " البجروت" وهذا معناه بأنه مؤهل للنجاح في امتحانات دخول الجامعة، ولكن خلافاً لكل الطلاب في المجتمع الإسرائيلي .. يرسب !!
    حاول جمال أن يشكك في النتيجة، وضح للبروفيسور – بأن نتائجه تؤكد بأنه لم يرسب في أية مادة طلبت منه .. فرد عليه البروفيسور :
    - أنا أعلم بأن هناك برامج دراسية خاصة بكم، تختلف عن البرامج التي تدرس في باقي مدارس الدولة، فكيف توافقون على أن تكونوا محطة تجارب ؟!! نحن في الجامعة، وبشكل استثنائي تماماً، عندما يكون أحدكم على حافة النجاح نتهاون معه ونصرح له بدخول الجامعة، خلافاً لكل الأنظمة المعمول بها، لأننا لا نريد حرمانكم من حقكم.. ولكن كما ترى فإن الأمور ليست في يدنا..
    صعق جمال من صراحة البروفيسور، وخرج حزيناً، خاصة وأن النتيجة كانت مغايرة تماماً لما سمعه من المسؤولين عن جهاز التعليم الخاص في الوسط الذي يعيش فيه، والذين يدعون بأن هناك ثورة علمية كبرى في هذا الوسط .. وعندما أسقط في يده، اضطر للإذعان لأمر الخدمة الإجبارية على أمل أن يعود إلى دراسته بعد انتهاء الخدمة .
    وعاش فترة الخدمة المفروضة عليه في الجيش، دون أن يتمكن من التخلص من ذلك الإحساس بالخيبة والمرارة . ودون تردد رفض الاستمرار في العمل كجندي نظامي في الجيش، وقرر العودة إلى بلدته، في البداية فكر في أن يكمل دراسته، إلا أنه اصطدم بالواقع المرير الذي يعيشه، إذ عليه أن يسجل لسنة تحضيرية إذا كان فعلاً راغبًا في التحصيل العلمي، ولكن كيف وهو أخبر بحالة أسرته المادية؟ فتجرع المرارة من جديد وهو يؤجل الفكرة، على أمل أن يعود إليها بعد أن يجمع بعض المال اللازم من أجلها.. ومن هنا كان عليه أن يبدأ رحلة البحث عن عمل..
    في البداية أعتقد أن أي مصنع قد يتوجه إليه سوف يستوعبه بكل ترحاب، خاصة عندما يبرز " بطاقة إثبات الخدمة" فإدارة المصنع – أي مصنع في البلاد – لا بد وأن تمنحه عمل جيد، ومريح يليق بمدى إخلاصه للدولة بعد أن أصبح جندياً احتياطيا، لا يستطيع أن يرفض الدفاع عن البلاد أذا ما اقتضت الضرورة ذلك..
    وها هو يلتقي بجاره بطرس صليبا وصديقه عمر المحمود العاطلين عن العمل. اتفقوا على الذهاب معاً إلى إي مصنع لديه فرص عمل. وما هي إلا أيام حتى جاء بطرس ليخبرهما بأن هناك مصنعاً قد أعلن عن حاجته لعمال. ولم يترددوا في الذهاب حتى لا تضيع الفرصة، فإن جيش العاطلين عن العمل كبير.. وبعد نقاش طويل مع الموظفة المسؤولة عن التشغيل، قالت له:
    - إن الأمر لا يتعلق بي.. فأنا لست سوى " برغي" في الآلة، أعمل وفقاً للتعليمات التي أتلقاها.. ثم إن مؤهلات رفاقك أفضل من مؤهلاتك.
    - ولكني أديت الخدمة الإجبارية و....
    فقاطعته المسؤولة قائلة في سخرية.
    - المصنع بحاجة إلى مهنيين، وليس إلى مقاتلين..
    فألقى جمال مسبة قبيحة في وجهها، ثم عاد إلى بلدته حزيناً وهو يجر أذيال الخيبة والغيرة تأكل قلبه . تسأل مع نفسه: هل يمكن أن تكون الأمور من حوله مبرمجة كي لا يجد عملاً ألا في أطار الجيش؟ ولكنه لم يقتنع في الفكرة، فاستبعدها من رأسه، وراح يلعن طالعه، ووطن نفسه على البحث عن عمل قريب من مكان سكناه، وطال بحثه وانتظاره، وبدأت تضيق في وجهه سبل الحياة . وأخذ السؤال يطرق رأسه بشكل شبه يومي: لم لا أعمل في الجيش كغيري؟ ولكن....... ومع مرور الوقت بدأت : لكن " تجد لها متنفساً في حياته..
    وبعد أن كان السؤال يثير قرفه وحنقه، بدأ يجد له مكاناً في رأسه تحت الحاح " لكن " .. بدأ يتقبل الواقع رويداً رويداً، حتى وجد نفسه يتوجه إلى أحد الوجهاء كي يتوسط له في سلك الشرطة.. فالشرطة أفضل من الجيش، فهي أخف وطأة على نفسه..
    اشترط عليه الوسيط بعض الشروط، فوافق عليها بعد أن أعيته الحيلة، وبدأ العمل في سلك الشرطة في وسط البلاد على أمل أن يستجاب طلب نقله لاحقاً إلى الشمال قريباً من أسرته. وبدأ العمل، وبدأ إحساسه بشيء من المهابة وهو " يلبس البزة " الرسمية، وكان إحساسه بذلك يزداد عندما كان يرى المواطنين وهم يمتثلون لتعليماته وتوجيهاته.. لا بأس، إنه شيء مهم الآن.. هذا وحده كاف لتوطين النفس على الرضى بالأمر الواقع..
    ولكنه لا يدري لم، كنى نفسه باسم " جيمي عوباديا" عندما بدأ عمله.. حتى بات لا يعرف بين زملائه إلا جيمي.. جاء جيمي، ذهب جيمي، وأين جيمي..
    ولما كان الأمر يقتضي المبيت معظم أيام الأسبوع بعيداً عن بيته وعن أسرته، لم يكن أمامه مفر من تعزيز علاقاته الاجتماعية مع عدد من رفاقه في العمل . فأخذ يتبادل معهم الزيارات، كما تعززت علاقاته مع جيرانه الجدد، حيث تعرف على فتلة جميلة رشيقة أسمها " شوشانا "، كانت تقطن مع أسرتها في نفس البناية التي وجد له مسكناً فيها.. ومع الوقت توثقت علاقته بها وبدأ يعيش أول قصة حب في حياته معها.. فازداد إحساسه بالسعادة وقد بات كل ما يبتغي في متناول اليد.. إلا أنه لم يستطع أن يوفق بين حياته الجديدة، وبين خصوصياته، وبين أسرته، التي أهملها وكادت تسقط من حساباته.. "فقد " سرقته السكين " كما يقولون.. . فأضحى لا يعود إلى بلدته إلا نادراً، بالرغم من دموع أمه المستجدية، والتي قادها إحساسها إلى الخوف من المجهول المبهم، فكانت كلما حضر توصيه قائلة في وجل"
    - دير بالك يما يا حبيبي من " ساعة الغفلة " .. برضاي عليك، لا تخليني أغضب عليك..
    فيرد عليها بابتسامة عريضة وهو يقول بصوت تخالطه السخرية:
    - أنا تربيتك يا أماه، اطمئني، لن أقع بالرغم من أن المغريات كثيرة.. إنت عارفه ابنك رجل قد حاله وشوية..
    انسجم جمال مع واقعه الجديد حتى النخاع، وأضحى لا يرطن إلا بلغة القوم الرسمية . ولم تعد شوشانا التي أحبها بشغف تشبع نهمه وغروره، فانجرت قدماه إلى مغارة ( أم عامر ) وهناك لقي الكثير مما لم يلقه في حضن شوشانا الدافئ.. وبقى على ذي الحال حتى اصطدم رأسه بسقف مغارة أم عامر..
    ففي إحدى السهرات عند أم عامر، وبعد أن أفرغت الزجاجات في الأجواف، كان الحوار تلقائياً دون تحفظ . قال له صديقه " يتسحاق " الذي لا يعرف جمال إلا بكنية " جيمي "
    - إننا ننتظر مأساة عالمية كبرى يكون خلالها العالم مشغولاً عنا لنقوم بطرد " الأغيار " من البلاد.. علينا أن نتخلص من تلك الشريحة العربية التي تدعي بأنها تخدمنا بإخلاص..
    أمتقع وجه " جيمي " وأخس فجأة وكأن لطمة قوية قد هزت انتماءه.. عاد إلى نفسه.. استيقظ جمال العبد الله في داخله، وهم بأن يوجه لكمة قوية ليتسحاق، ولكنه كظم غيطه وهو يقول بصوت محنط:
    - لكن تلك الشريحة التي تتحدث عنها مخلصة جداً للدولة . فقد قدمت الكثير من التضحيات..
    فرد يتسحاق بسرعة:
    - لهذا السبب علينا أن نتخلص منهم أولاً.. فهم أكثر الناس معرفة بأسرارنا.. وهنا يكمن الخطر . ثم أننا لسنا بحاجة إليهم اليوم . خاصة وأنه لن تكون هناك حروب بعد اليوم .فقد تفاهمنا سراً مع زعماء الدول العربية . ثم ان محطات التجسس الأمريكية قابعة في قلب العواصم العربية وإذا نشبت حرب جديدة فسوف تكون إلكترونية، لا حاجة للمشاة فيها..
    لم يقو جمال على السيطرة على أعصابه فصرخ:
    - أهذا هو ثمن التضحية والإخلاص؟
    - ما لك تدافع عنهم بحرارة؟ وعن أي تضحية وإخلاص تتحدث؟ إنهم ليسوا سوى مرتزقة يتقاضون ثمن خيانتهم لشعبهم .
    - إخرس أيها الزبل
    وحدث هرج ومرج، وخضرت الشرطة لفك العراك بين أفراده.. وسرعان ما عمل البعض على لملمة الموضوع، وطلب من يتسحاق أن يقدم اعتداره لجمال، فاستجاب فوراً بقوله:
    - " إسلخاه "، ( إي أسف ) لم أكن أدري أنك عربي.. إسلخاة .. إسلخاه ثم تقدم وقبل وجنتي جمال، وسجل في المحضر.. إصابة عمل، ثم أغلق الملف على ذلك. إلا أن الأمر نكأ الجراح في أعماق جمال، وحرك مشاعر الانتماء في وجدانه، وراح يفكر بترك العمله، والعودة إلى بلدته. لكن.. لكن الوقت لم يسعفه، إذ فوجئ بالشرطة تداهم غرفته وتعتقله في اليوم التالي.. وعندما تسأل في دهشة وذهول عن السبب قيل له :
    - لقد قدمت ضدك شكوى اغتصاب
    فعاد يتساءل والدهشة تكاد تعقل لسانه:
    أنا اغتصبت؟!! أنا..ومن تلك التي اغتصبتها؟
    فقالوا له:
    - إنها تدعى شوشانا.
    - شوشانا؟ أنا.. أنا اغتصبتها؟
    - الشكوى التي تقدمت بها تقول ذلك
    - مستحيل
    - قل ذلك في التحقيق
    وهنا فقط لأدرك جمال ما جره "جيمي".. فلقد كان الفرق بينهما شاسعاً.. فهذا مكبل، وذاك طليق، يملك حرية الفعل والتفاعل دون رقيب أو حسيب..
    وعندما طلب مواجهة شوشانا، قالت له دون أن يرمش لها حفن، أو تختلج لها عضلة في وجهها:
    - أنت اغتصبتني عندما كنيت نفسك باسم "جيمي".
    - كيف؟
    - إن هناك فرقاً كبيراً في أن تكون جمالاً أو أن تكون جيمي.. فأنت خذعتني بالاسم.. اغتصبتني بتزويرك لاسمك.. فأنا أكرهك لأني أكره جمال.. وجيمي الذي شغفت به كان مجرد خيال خدعتني به.. أنت مغتصب.. عليك اللعنه..
    - لم تفلح كل حجج جمال، فلبسته التهمة....
    " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    نص قاس لكبرياء الروح الفلسطينية التي تأبى الخضوع والذل
    من أرذل شعب على وجه الخليقة
    تحية للقلم الذي يرسم معاناة شعب أبي
    شكرا لك استاذ زاهر
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • هادي زاهر
      أديب وكاتب
      • 30-08-2008
      • 824

      #3
      أختي الكاتبة العزيزة مها راجح
      تكلفني غالياَ كلمة الحق ولكني سأقولها ورزقي على الله سأدعها تمشي ولو كانت على رمشي، سأقولها بمختلف الالوان .
      ارحو متابعة - نثيرتي - " ملحمة البقاء " في باب المقالات
      محبتي
      هادي زاهر
      " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

      تعليق

      • دريسي مولاي عبد الرحمان
        أديب وكاتب
        • 23-08-2008
        • 1049

        #4
        إن هناك فرقاً كبيراً في أن تكون جمالاً أو أن تكون جيمي.. فأنت خذعتني بالاسم.. اغتصبتني بتزويرك لاسمك.. فأنا أكرهك لأني أكره جمال.. وجيمي الذي شغفت به كان مجرد خيال خدعتني به.. أنت مغتصب.. عليك اللعنه..
        - لم تفلح كل حجج جمال، فلبسته التهمة...

        لكن...لكن...لكن...
        ومع هذا الاستدراك شوهت الأسماء والأمكنة عبر مسار تاريخي أدمى وما زال يدمي الذاكرة...
        الصديق هادي زاهر..سررت بمعانقة حرفك الجميل...
        تقديري.

        تعليق

        • هادي زاهر
          أديب وكاتب
          • 30-08-2008
          • 824

          #5
          أخي الكاتب دريسي مولاي عبد الرحمان
          "وقد جنت على نفسها براقش"
          محبتي
          هادي زاهر
          " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

          تعليق

          يعمل...
          X