أيام وأيام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د.إميل صابر
    عضو أساسي
    • 26-09-2009
    • 551

    أيام وأيام

    أيام..وأيام

    بعدما رضخ لابتزاز سائق اللودر ورئيس العمال ودفع مائتين من الجنيهات حتى يوافقا على جر سيارته التي غرزت في الرمال بسبب إهمالهما في وضع علامات تحذيرية قبل مسافة مناسبة من منطقة إصلاحات الطريق الدولي الشمالي و التي تقوم بها الشركة التي يعملان بها ..وبعد اجتيازه لمنطقة العمل، ركن سيارته إلى جانب الطريق ليلتقط أنفاسه ..أرخى ظهر مقعده للخلف.. أراح رأسه للوراء.. وعاد بذاكرته خمس عشرة سنة.

    ها هو اليوم وقد قارب على الانتهاء..ليس فقط موت ساعاته لكن أيضا نهاية كل ما حمل من إرهاق وانجازات.. إلا أنه يأبى أن يرحل صامتا ..بل يصر إصرارا عجيبا أن يظل محفورا في ثنايا ذاكرته أبدا ما عاش.

    يفضل طريق الصعيد الشرقي في ذهابه إيابه رغم طوله وفقر خدماته لخلوه، يستشعر أنه تقريبا يمتلك الطريق منفردا، مقارنة بزحام الطريق الغربي ما يمنحه بعض الأمان في القيادة.. حيث الشمس عن يمين طريقه تعد فراشها متثائبة.. ملمعة بضوئها الزروع الخضراء اليانعة.. مداعبة بأشعتها الجبل الجاثم منذ الأزل عن يساره..ملهبة خياله لكتابة قصيدة لم يجد أبدا فسحة لإيداعها على صفحة أجندة مواعيده المتخمة..فيما يتسبب القطع اللامبالي للفلاحين بحيواناتهم عابرين للطريق في إطالة زمن رجوعه لفراشه البارد الكائن في أقصى الجنوب وعلى مسافة ثلاث ساعات بالسرعة القصوى المسموح بها والتي بالكاد انصرم منها أقل من ساعة.

    أخيرا قطع (البداري) إحدى المدن الساكنة على جانبي الطريق.. أدرك أن أمامه مسافة خمسون كيلومترا قبل المدينة التالية (ساحل سليم).. وما بينهما بضع بيوت تتجمع في كفور أو تتناثر وهو ما يمنحه فرصة لتعويض ما فاته من زمن .. ليسرع قليلا عن المسموح وفي حدود الأمان .. استحث جسده المنهك أن يفرز بعض الأدرينالين ليصمد حتى الفراش.. فبعدما اتخذ طريقه نحو الشمال حيث مقر الإدارة الإقليمية لشركة الأدوية متعددة الجنسيات بنصف ساعة أوقظ الشمس راجيا نورها بعدما ضاق بأنوار السيارات القادمة تغشى عينيه..وقبلما يصل المدير للمكتب في تمام الثامنة..كان هو قد أنهى إفطارا غربيا وقدحا من القهوة التركية..ورفض سيجارة أمريكية أهداها له الساعي.. لم يكن سبب شوقه للفراش عشق بينهما أو حتى مجرد استلطاف ولا كان لبهجة تنتظره وإنما كان احتياج غريزي يدفعه دفعا بعدما نال اليوم نصيبه من العرق واليقظة والشد والجذب طوال ساعات الاجتماع وازدادت حدة مع مشاجرة الشوكة والسكين خلال الغداء، ولم تهدأ إلا بعد أن فاز في مناقشات الختام مع كوب الشاي الأسود على الطريقة المصرية.

    بينما استغرقته الأفكار لمح فجأة مؤشرات السيارة تعلن الخطر الجسيم ..فهاهو مؤشر الحرارة يصل يتلون بالأحمر ولمبتا الزيت والدينامو تضيئان .. أوقف السيارة بسرعة .. فتح غطاء المحرك.. أشرعه عاليا.. دفن رأسه بين الأجزاء ..شخص العطب.. هنا (سير) مفقود.. تبرم متمتما (تبا للسيارات الروسية.. إنهم يقتصدون فيجمعون أكثر من وظيفة على سير واحد .. فتتعطل السيارة كلية لقطع السير)..رجع على قدميه يفتش الطريق..فشل بحثه في العثور على السير المفقود.. قدر أن المسافة ما بين المدينتين قد انتصفت تقريبا..ناوشته أفكار وتساؤلات..
    من أين له بسير دينامو بديل؟
    هل يأمن على نفسه هنا بين يدي الليل وفي حضن الجبل؟
    أيجود عليه الجبل بحماية أم يبعث وحوشا ضارية لا تتآلف مع رائحة جسده المرتعد ؟
    هل يترك السيارة ويمضي على قدميه اللتين لم تعتادا الرياضة باحثا عن حل؟ أم يكمن فيها منتظرا نجدة؟
    تذكر أن السائقين على هذا الطريق لا يتوقفون لأحد خشية من كمائن قطاع الطريق..لذا لابد من تصرف سريع.

    قبل أن تغمض الشمس عينيها كلية..استغاث بها..رجاها..منحته لحظات..بسرعة أرسل بصره بعيدا باحثا عبر الحقول الممتدة عن يمينه..لا شيء.. وعلى امتداد البصر لأمام الطريق.. لاشيء..عاد ينظر للخلف لمح تلك المئذنة الصفراء التي عبرها منذ دقائق وتذكر أن بجوارها منزل أو عدة, لا يذكر, وأن ورشة إصلاح إطارات كانت هناك..المسافة أكثر من كيلومترين..لا بديل..حسم أمره..أرخى مكابح السيارة..ابتدأ يدفع للخلف..للخلف يدفع..يرفع بصره معاينا ما تبقي..ثم يعاود الدفع للخلف..يلتقط أنفاسا..يدفع للخلف..يبلع ريقه..يدفع للخلف..قبل أن يصل لمح شيخ وقور يهب من فوقه مصطبة الجامع مشمرا عن ساعديه..حاول أن يثنيه..يصر..يدفعان سويا للخلف.

    وبعدما أطفئت الشمس نورها، كانا قد أوصلا السيارة بمحاذاة المصطبة..دعاه الشيخ للجلوس..التقطا بضعة أنفاس من هواء نقي..قدم له كوب شاي مازال يحوي بعض السخونة، كان يهم بشربه، اعتذر برفق..ألح الشيخ..أكد له أنه لم يشرب منه بعد.. في خجل وحذر طبي قَبِل الشاي.. ومع رشفاته تعارفا..جاوب عن سبب العطب..في حسرة أعلن الشيخ( عبد الجواد)، صاحب ورشة الكاوتش ومؤذن المسجد، أنه لا حل متاح ببلدته الفقيرة (نوارة)..لكنه فتح باب الأمل من جديد حين نادى ولده (أحمد) وسأله عن (علي السواق) وعرف منه أنه لابد وقد التحف بداره بعد صلاة المغرب.. فطلب منه استدعاؤه بسرعة ليشتري (سير دينامو) لسيارة الدكتور الضيف و يبلغ أمه أن تعد العشاء، وأن يضيء أنوار المسجد.

    مر الوقت بطيئا وطويلا قبل أن يرى سيارة نصف نقل متهالكة تترجرج على المدق بين البيت والمسجد..هبط منها أبو علي بجسده النحيل..سلم عليه..شكره مقدما على مساعدته.. "ماتجولش إكده يا دَكتُور.. كلاتنا ع الطريج محتاجين إلبعضينا..ما تعولش الهم ..بس تستحملنا شويتين ..انت شايف عربيتي على كد حالها ..بتاخد المسافة من هنا للبداري ف ساعة رايح وساعة راجع ..أني عارف بيت الراجل صاحب محل جطع الغيار..حتى لو جافل هاتصرف..ارتاح أنت إهنه مع الشيخ عبجواد وأني هاجيبلك السير" .. هكذا نطق أبو علي بلهجته الصعيدية الأصيلة مطمئنا..ومضى.

    عما قليل اعتذر منه الشيخ ليؤذن للعشاء ويؤم المصلين..بعد الصلاة عاد إليه مع ولده أحمد وجار له..جلسوا وبينهم ضوء بسيط يأتي من أنوار المئذنة..صفق بيديه..خرجت من الدار صبية صغيرة تحمل بيديها (كليما) فرشته على أسفلت الطريق وراحت تغدو وتجيء بين الدار والكليم حاملة أطباق الطعام..وانزوت مختفية في الدار ..دعاهم الشيخ ..حاول الاعتذار متعللا بعدم الجوع وأنه لا يتعشى أو أن عشاؤه خفيف لا يزيد عن كوب زبادي حرصا على الصحة..ألح الشيخ (عبد الجواد)..سار معهم يقدم رجلا ويؤخر أخرى..جلسوا سويا على أطراف الكليم وبينهم الطعام..مد له الشيخ كسرة خبز..تناولها مع مزيج من القلق والتساؤلات ..ماذا لو أن سيارة مسرعة دهمت الكليم بمن عليه؟.. وماذا لو لم يكن الشيخ رجلا صالحا وأن كل هذه الطيبة تمثيلية والطعام به سم أو مخدر ويسلبونه ما معه؟ ..لا يحمل الكثير ولكن من الجائز أن يستولوا على سيارته ويلقوه بعيدا فلا يتعرف عليه أحد..أبعد هذه الهواجس فالقلب الطيب ينضح على وجوههم بلا رياء..غمس اللقمة وقربها من فمه ومعها سؤال..ماذا لو أن من صنع الطعام لم يراعي الأصول الصحية فينقلوا له عدوى إحدى الأمراض الريفية المنتشرة هنا بسبب الجهل؟.. رائحة الطعام الساخن خدرت عقله وأيقظت أمعاءه ..أطلق ليديه العنان وشرع يلتهم ما يقدم له.

    بعد الشاي قال الشيخ "ياولدي أنا ما اجدر اسهر كتير .. إحمد أخوك هيستنى معاك..لحد ما (أبوعلي) يرجع..تتصبح بالخير" ودلف داخلا الدار..تشارك مع أحمد في رشفات شاي أسود وراحت الكلمات بينهم تقطع ظلام الليل فتعلو ضحكة حينا وتخفت كلماتهم أحيانا ويصيبهم صمت طويل تخترقه نظرات نحو الساعة ويفارقه الأمل في عودة أبو علي والذي رحل منذ زمن طويل و الآن وقد مضى بعد انتصاف الليل ساعتين ..وها أحمد قد استغرقه النوم (الذي جافاه هو) ففرد جسده الفتي على المصطبة..قام من جلسته ..راح يغدو ويجيء على الطريق..ينصت لموسيقى الحقول .. يتأمل حينا ويقلق أحيانا .. ولكن وقبل أن يموت الرجاء في قلبه..يسمع رجرجة سيارة (أبو علي) المتهالكة تدوي في سكون الليل من بعيد..وما إن تصل إلا ويهرع إليه متسائلا ليحصل على إجابة غريبة "ما لجيتش المجاس الصح في (البداري) ..روحت ( أبنوب) على بعد خمسين كيلومتر تاني..ديتي اللي أخرني ".. بعد أن ساعداه في إصلاح السيارة يأبى أحمد أن يأخذ منه ما منحه إياه مقابل خدماته..ويصر( أبو علي) على ألا يأخذ إلا ثمن الوقود الذي أهلكه في الطريق.

    يفيق من غفوته على نفير شاحنة عملاقة تترنح بسبب سرعتها التي خرقت كل حواجز الأمان.. يضرب كفا بكف ..يتمنى لو عادت الأيام.
    [frame="11 98"]
    [FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Tahoma][FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Simplified Arabic][COLOR=blue][SIZE=5][SIZE=6][FONT=Tahoma][COLOR=#000000]"[/COLOR][/FONT][/SIZE][FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy][FONT=Simplified Arabic][COLOR=#000000][FONT=Tahoma]28-9-2010[/FONT][/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT]
    [FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy]
    [FONT=Tahoma][SIZE=5][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]هناك أناس لو لم يجدوا جنازة تُشبع شغفهم باللطم، قتلوا قتيلا وساروا في جنازته[/FONT][/COLOR][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]لاطمون.[/FONT][/COLOR][/SIZE][/FONT]
    [COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic][FONT=Tahoma][SIZE=5]لدينا الكثير منهم في مصر.[/SIZE][/FONT][/FONT][/COLOR][/COLOR][/FONT][/SIZE][/COLOR][/FONT][/SIZE][/FONT][SIZE=6]" [/SIZE]
    [SIZE=4]د.إميل صابر[/SIZE]
    [/FONT][/SIZE][/FONT]
    [CENTER][FONT=Tahoma][COLOR=navy][B]أفكار من الفرن[/B][/COLOR][/FONT][/CENTER]
    [CENTER][U][COLOR=#000066][URL]http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?p=484272[/URL][/COLOR][/U][/CENTER]
    [/frame]
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    أيام..وأيام

    بعدما رضخ لابتزاز سائق اللودر ورئيس العمال ودفع مائتين من الجنيهات حتى يوافقا على جر سيارته التي غرزت في الرمال بسبب إهمالهما في وضع علامات تحذيرية قبل مسافة مناسبة من منطقة إصلاحات الطريق الدولي الشمالي و التي تقوم بها الشركة التي يعملان بها ..وبعد اجتيازه لمنطقة العمل، ركن سيارته إلى جانب الطريق ليلتقط أنفاسه ..أرخى ظهر مقعده للخلف.. أراح رأسه للوراء.. وعاد بذاكرته خمس عشرة سنة.

    ها هو اليوم وقد قارب على الانتهاء..ليس فقط موت ساعاته لكن أيضا نهاية كل ما حمل من إرهاق وانجازات.. إلا أنه يأبى أن يرحل صامتا ..بل يصر إصرارا عجيبا أن يظل محفورا في ثنايا ذاكرته أبدا ما عاش.


    يفضل طريق الصعيد الشرقي في ذهابه إيابه رغم طوله وفقر خدماته لخلوه، يستشعر أنه تقريبا يمتلك الطريق منفردا، مقارنة بزحام الطريق الغربي ما يمنحه بعض الأمان في القيادة.. حيث الشمس عن يمين طريقه تعد فراشها متثائبة.. ملمعة بضوئها الزروع الخضراء اليانعة.. مداعبة بأشعتها الجبل الجاثم منذ الأزل عن يساره..ملهبة خياله لكتابة قصيدة لم يجد أبدا فسحة لإيداعها على صفحة أجندة مواعيده المتخمة..فيما يتسبب القطع اللامبالي للفلاحين بحيواناتهم عابرين للطريق في إطالة زمن رجوعه لفراشه البارد الكائن في أقصى الجنوب وعلى مسافة ثلاث ساعات بالسرعة القصوى المسموح بها والتي بالكاد انصرم منها أقل من ساعة.

    أخيرا قطع (البداري) إحدى المدن الساكنة على جانبي الطريق.. أدرك أن أمامه مسافة خمسين كيلومترا قبل المدينة التالية (ساحل سليم).. وما بينهما بضع بيوت تتجمع في كفور أو تتناثر وهو ما يمنحه فرصة لتعويض ما فاته من زمن .. ليسرع قليلا عن المسموح وفي حدود الأمان .. استحث جسده المنهك أن يفرز بعض الأدرينالين ليصمد حتى الفراش.. فبعدما اتخذ طريقه نحو الشمال حيث مقر الإدارة الإقليمية لشركة الأدوية متعددة الجنسيات بنصف ساعة أيقظ الشمس راجيا نورها بعدما ضاق بأنوار السيارات القادمة تغشى عينيه..وقبلما يصل المدير للمكتب في تمام الثامنة..كان هو قد أنهى إفطارا غربيا وقدحا من القهوة التركية..ورفض سيجارة أمريكية أهداها له الساعي.. لم يكن سبب شوقه للفراش عشقا بينهما أو حتى مجرد استلطاف ولا كان لبهجة تنتظره وإنما كان احتياجا غريزيا يدفعه دفعا بعدما نال اليوم نصيبه من العرق واليقظة والشد والجذب طوال ساعات الاجتماع وازدادت حدة مع مشاجرة الشوكة والسكين خلال الغداء، ولم تهدأ إلا بعد أن فاز في مناقشات الختام مع كوب الشاي الأسود على الطريقة المصرية.

    بينما استغرقته الأفكار لمح فجأة مؤشرات السيارة تعلن الخطر الجسيم ..فهاهو مؤشر الحرارة يتلون بالأحمر ولمبتا الزيت والدينامو تضيئان .. أوقف السيارة بسرعة .. فتح غطاء المحرك.. أشرعه عاليا.. دفن رأسه بين الأجزاء ..شخص العطب.. هنا (سير) مفقود.. تبرم متمتما (تبا للسيارات الروسية.. إنهم يقتصدون فيجمعون أكثر من وظيفة على سير واحد .. فتتعطل السيارة كلية لقطع السير)..رجع على قدميه يفتش الطريق..فشل بحثه في العثور على السير المفقود.. قدر أن المسافة ما بين المدينتين قد انتصفت تقريبا..ناوشته أفكار وتساؤلات..
    من أين له بسير دينامو بديل؟
    هل يأمن على نفسه هنا بين يدي الليل وفي حضن الجبل؟
    أيجود عليه الجبل بحماية أم يبعث وحوشا ضارية لا تتآلف مع رائحة جسده المرتعد ؟
    هل يترك السيارة ويمضي على قدميه اللتين لم تعتادا الرياضة باحثا عن حل؟ أم يكمن فيها منتظرا نجدة؟
    تذكر أن السائقين على هذا الطريق لا يتوقفون لأحد خشية من كمائن قطاع الطريق..لذا لابد من تصرف سريع.

    قبل أن تغمض الشمس عينيها كلية..استغاث بها..رجاها..منحته لحظات..بسرعة أرسل بصره بعيدا باحثا عبر الحقول الممتدة عن يمينه..لا شيء.. وعلى امتداد البصر لأمام الطريق.. لاشيء..عاد ينظر للخلف لمح تلك المئذنة الصفراء التي عبرها منذ دقائق وتذكر أن بجوارها منزلا أو عدة, لا يذكر, وأن ورشة إصلاح إطارات كانت هناك..المسافة أكثر من كيلومترين..لا بديل..حسم أمره..أرخى مكابح السيارة..ابتدأ يدفع للخلف..للخلف يدفع..يرفع بصره معاينا ما تبقي..ثم يعاود الدفع للخلف..يلتقط أنفاسا..يدفع للخلف..يبلع ريقه..يدفع للخلف..قبل أن يصل لمح شيخا وقورا يهب من فوقه مصطبة الجامع مشمرا عن ساعديه..حاول أن يثنيه..يصر..يدفعان سويا للخلف.

    وبعدما أطفأت الشمس نورها، كانا قد أوصلا السيارة بمحاذاة المصطبة..دعاه الشيخ للجلوس..التقطا بضعة أنفاس من هواء نقي..قدم له كوب شاي مازال يحوي بعض السخونة، كان يهم بشربه، اعتذر برفق..ألح الشيخ..أكد له أنه لم يشرب منه بعد.. في خجل وحذر طبي قَبِل الشاي.. ومع رشفاته تعارفا..جاوب عن سبب العطب..في حسرة أعلن الشيخ( عبد الجواد)، صاحب ورشة الكاوتش ومؤذن المسجد، أنه لا حل متاحا ببلدته الفقيرة (نوارة)..لكنه فتح باب الأمل من جديد حين نادى ولده (أحمد) وسأله عن (علي السواق) وعرف منه أنه لابد وقد التحف بداره بعد صلاة المغرب.. فطلب منه استدعاءه بسرعة ليشتري (سير دينامو) لسيارة الدكتور الضيف و يبلغ أمه أن تعد العشاء، وأن يضيء أنوار المسجد.

    مر الوقت بطيئا وطويلا قبل أن يرى سيارة نصف نقل متهالكة تترجرج على المدق بين البيت والمسجد..هبط منها (أبو علي) بجسده النحيل..سلم عليه..شكره مقدما على مساعدته.. "ماتجولش إكده يا دَكتُور.. كلاتنا ع الطريج محتاجين إلبعضينا..ما تعولش الهم ..بس تستحملنا شويتين ..انت شايف عربيتي على كد حالها ..بتاخد المسافة من هنا للبداري ف ساعة رايح وساعة راجع ..أني عارف بيت الراجل صاحب محل جطع الغيار..حتى لو جافل هاتصرف..ارتاح أنت إهنه مع الشيخ عبجواد وأني هاجيبلك السير" .. هكذا نطق أبو علي بلهجته الصعيدية الأصيلة مطمئنا..ومضى.

    عما قليل اعتذر منه الشيخ ليؤذن للعشاء ويؤم المصلين..بعد الصلاة عاد إليه مع ولده أحمد وجار له..جلسوا وبينهم ضوء بسيط يأتي من أنوار المئذنة..صفق بيديه..خرجت من الدار صبية صغيرة تحمل بيديها (كليما) فرشته على أسفلت الطريق وراحت تغدو وتجيء بين الدار والكليم حاملة أطباق الطعام..وانزوت مختفية في الدار ..دعاهم الشيخ ..حاول الاعتذار متعللا بعدم الجوع وأنه لا يتعشى أو أن عشاءه خفيف لا يزيد عن كوب زبادي حرصا على الصحة..ألح الشيخ (عبد الجواد)..سار معهم يقدم رجلا ويؤخر أخرى..جلسوا سويا على أطراف الكليم وبينهم الطعام..مد له الشيخ كسرة خبز..تناولها مع مزيج من القلق والتساؤلات ..ماذا لو أن سيارة مسرعة دهمت الكليم بمن عليه؟.. وماذا لو لم يكن الشيخ رجلا صالحا وأن كل هذه الطيبة تمثيلية والطعام به سم أو مخدر ويسلبونه ما معه؟ ..لا يحمل الكثير ولكن من الجائز أن يستولوا على سيارته ويلقوه بعيدا فلا يتعرف عليه أحد..أبعد هذه الهواجس فالقلب الطيب ينضح على وجوههم بلا رياء..غمس اللقمة وقربها من فمه ومعها سؤال..ماذا لو أن من صنع الطعام لم يراع الأصول الصحية فينقلوا له عدوى إحدى الأمراض الريفية المنتشرة هنا بسبب الجهل؟.. رائحة الطعام الساخن خدرت عقله وأيقظت أمعاءه ..أطلق ليديه العنان وشرع يلتهم ما يقدم له.

    بعد الشاي قال الشيخ "ياولدي أنا ما اجدر اسهر كتير .. إحمد أخوك هيستنى معاك..لحد ما (أبوعلي) يرجع..تتصبح بالخير" ودلف داخلا الدار..تشارك مع أحمد في رشفات شاي أسود وراحت الكلمات بينهم تقطع ظلام الليل فتعلو ضحكة حينا وتخفت كلماتهم أحيانا ويصيبهم صمت طويل تخترقه نظرات نحو الساعة ويفارقه الأمل في عودة (أبو علي) والذي رحل منذ زمن طويل و الآن وقد انقضت بعد انتصاف الليل ساعتان ..وها أحمد قد استغرقه النوم (الذي جافاه هو) ففرد جسده الفتي على المصطبة..قام من جلسته ..راح يغدو ويجيء على الطريق..ينصت لموسيقى الحقول .. يتأمل حينا ويقلق أحيانا .. ولكن وقبل أن يموت الرجاء في قلبه..يسمع رجرجة سيارة (أبو علي) المتهالكة تدوي في سكون الليل من بعيد..وما إن تصل إلا ويهرع إليه متسائلا ليحصل على إجابة غريبة "ما لجيتش المجاس الصح في (البداري) ..روحت ( أبنوب) على بعد خمسين كيلومتر تاني..ديتي اللي أخرني ".. بعد أن ساعداه في إصلاح السيارة يأبى أحمد أن يأخذ منه ما منحه إياه مقابل خدماته..ويصر( أبو علي) على ألا يأخذ إلا ثمن الوقود الذي أهلكه في الطريق.

    يفيق من غفوته على نفير شاحنة عملاقة تترنح بسبب سرعتها التي خرقت كل حواجز الأمان.. يضرب كفا بكف ..يتمنى لو عادت الأيام.


    جميلة قصتك دكتور ، كنت مختلفا اطلاقا ، و انتظرت مفاجآت و دهشات فى هذه الليلة البعيدة التى ظلت عالقة بذهن و ذاكرة بطلنا
    و لكن كنت دائما تخشى من المغامرة ، و لا أدرى لم ؟
    أستاذى الغالى .. نحن لا ننقل الواقع ، بل نخلق واقعا موازيا ، نضع فيه كل ما نريد ، و ما نود طرحه من أمانيات و طموحات ، و دهشات لإجبار أو لاغتصاب كلمة الله و الرضا الذى نسعى إليه مع الفن !!

    كل ما أريد قوله ، أنى أنتظرك ، أنتظرك أكثر و أكثر قوة و بأسا
    أعجبتنى التجربة لأبعد حد ، و حديثى إليك لا يقلل منها بأية حال !



    محبتى دكتور .. و رجاء لا تطل الغياب !!

    sigpic

    تعليق

    • د.إميل صابر
      عضو أساسي
      • 26-09-2009
      • 551

      #3
      [quote=ربيع عقب الباب;393922]

      نحن لا ننقل الواقع ، بل نخلق واقعا موازيا ، نضع فيه كل ما نريد ، و ما نود طرحه من أمانيات و طموحات
      ...................
      أعجبتنى التجربة لأبعد حد ، و حديثى إليك لا يقلل منها بأية حال !



      سيد الربيع
      أهلا بك دوما في قلب حروفي

      سيدي
      هل تصدق
      القصتان حدثتا بنفس تفاصيلهما التي نقلتها هنا
      وكتبتها منذ مدة طويلة هكذا وتركتها للمراجعة
      لكن وجعا ما أصاب قلب مسقط رأسي جراء رصاصات غادرة ألح عليَّ أن أنشرها هكذا

      لا أملك عقل للمراجعة

      قلبي يتأسف بشدة على حالنا وما آل إليه

      فمن كانوا يوصفون بأنهم قلة منحرفة استشروا في المجتمع وباتوا أكثرية

      رحم الله زمن جميل مضى
      ولك الله يا مصرنا


      المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة


      محبتى دكتور .. و رجاء لا تطل الغياب !!


      ومحبتي لك أيضا

      لكن

      قد يطول الغياب حتى تلتئم الجراح
      [frame="11 98"]
      [FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Tahoma][FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Simplified Arabic][COLOR=blue][SIZE=5][SIZE=6][FONT=Tahoma][COLOR=#000000]"[/COLOR][/FONT][/SIZE][FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy][FONT=Simplified Arabic][COLOR=#000000][FONT=Tahoma]28-9-2010[/FONT][/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT]
      [FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy]
      [FONT=Tahoma][SIZE=5][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]هناك أناس لو لم يجدوا جنازة تُشبع شغفهم باللطم، قتلوا قتيلا وساروا في جنازته[/FONT][/COLOR][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]لاطمون.[/FONT][/COLOR][/SIZE][/FONT]
      [COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic][FONT=Tahoma][SIZE=5]لدينا الكثير منهم في مصر.[/SIZE][/FONT][/FONT][/COLOR][/COLOR][/FONT][/SIZE][/COLOR][/FONT][/SIZE][/FONT][SIZE=6]" [/SIZE]
      [SIZE=4]د.إميل صابر[/SIZE]
      [/FONT][/SIZE][/FONT]
      [CENTER][FONT=Tahoma][COLOR=navy][B]أفكار من الفرن[/B][/COLOR][/FONT][/CENTER]
      [CENTER][U][COLOR=#000066][URL]http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?p=484272[/URL][/COLOR][/U][/CENTER]
      [/frame]

      تعليق

      يعمل...
      X