1
الأستاذ نورس يكن
تحيّة طيّبة
تحيّة طيّبة
منذ القرن التاسع عشر وبعض المتخصّصين في مجالات شتى ، يبحثون في مواضيع التجمعات البشرية و عادات الناس و معتقداتهم و فلكلورهم و أنظمة مجتمعاتهم و كلّ ما يتعلّق بتفاصيل حياتهم اليومية ، كانت القبائل البدائية في أفريقيا و استراليا و حوض الأمازون ، مادة خصبة للدراسة و الدراسات المقارنة ، هناك سمّة واحدة تكاد تكون موجودة عند كلّ التجمعات البشرية البدائية ، قيادة القبيلة من قبل فرد يعاونه ساحر القبيلة و كاهنها ، أحيانا يكون الكاهن / الساحر هو نفسه القائد . هناك ولاء منقطع النّظير ، بلا حدود تقريبا لهذا الكاهن و للأنظمة التي تحكم التجمع ، الفرد لا يشعر بالتّوازن و الأمان إلا ضمن هذا النظام و بين المجموعة ، و التي يكاد يكون فيها عبدا ربّما بمعنى اشدّ و اعمق من العبودية التي نعرفها ، و قد جرّبوا عمليا و بمحاولات متكرّرة بالإتفاق و بدون الاتفاق مع رئيس القبيلة على تحرير أحد الأشخاص ، و كلّ مرّة بفئة عمرية مختلفة ، يحرّروه بمعنى يبعدوه عن القبيلة و يتحرّر من سلطة الرّئيس و من أنظمته ، فوجدوا أن هذا الشخص يسقط في إضطرابات نفسيّة مروّعة ، يفقد القدرة على القتال ، على الصيد ، يتحوّل إلى جبان رعديد ، يحاول الإختفاء بعد أن كان بطلا مقداما ، ثم و أخيرا يُشلّ نهائيا من الناحية العقلية و السلوكية ، لا يعود يدري ماذا يفعل ، يبكي و يولول و يصرخ و يمتنع عن الأكل و الشرب إلى أن يعود لقبيلته و رئيسه و نظامه ، فتعود له الحياة ثانية ..
عند ابن القبيلة هذا حريّته و قيمتها تكمن في عبوديته للقبيلة و أنظمتها ، الحياة برمّتها تتحوّل إلى طلسم خارج حدود أنظمته ، الجمال برمّته و السعادة و الجنة مقرونة و مرتبطة بأنظمة قبيلته و برئيسها ، تفقد الأشياء معانيها ، و لا تعد هناك قيمة لشيء خارج هذه الأنظمة ، ما هو نار و جحيم لك ، و تراه كذلك ، بالنسبة له الحياة و السعادة و الجنة..
نحن (الإنسان المتحضّر) لا نختلف من حيث الجوهر كثيرا عن هذا البدائي ، عبد القبيلة و أنظمتها و كاهنها ، كلّ منّا تربى و نشأ في وسطه و وفق أنظمته ، خارجها الدنيا كلّها طلاسم ، تحتاج للتعرّف عليها من جديد ، كلّ شيء حزين و دفين ، خارجها نصبح غرباء و نحمل الشعور المؤلم بالتغرب و النفي فينا، أينما ذهبنا حتى نعود كما السمكة لمياهها ، لحضن الأم ، فالأرض أم و العادات و التقاليد أم ، و النّظام الذي ترعرعنا عليه أم ، و النّاس من حولنا أم ... و هكذا ، نحن نتميّز فقط بسعة الأفق ، مما يجعلنا نقارن و نفاضل و نختار ما نعتقده الأفضل ، لكنّنا و لأننا مرتبطين بأنظمتنا كما ابن القبيلة البدائية ذاك ، باختيارنا الأفضل ، لا نبتعد كثيرا عن ما تعودنا و تربينا عليه ، فتأتي خطوتنا صغيرة مبتعدة عن ما نشأنا عليه ، لا نوسّع الخطى ، لأن في توسيعها إضاعة للتّوازن ، بالتالي مزيدا من الأعباء و الهموم ، مزيدا من الحزن الدّفين ، مزيدا من الاغتراب فمزيدا من الحنيين الغامض على شيء ضاع منّا ، إذن نحن ننزاح قليلا ، من يأتي بعدنا ينزاح خطوة أخرى و هكذا .. هذا ما نسميه الإزاحة في علاقاتنا الاجتماعية و سّلوكنا الإجتماعي و أنظمتها و العادات و التّقاليد و مساحات اهتماماتها .
هذا تطوّر حثيث و مستمر ، لا يتوقف مهما وضعت أمامه من عقبات و عراقيل ، قد يتباطأ أحيانا ، و قد يبدو لك متراجعا أحيانا أخرى ، لكنه مستمر و أكيد و حثيث ، هكذا انتقلت مجتمعات برمّتها من مكان إلى مكان ، من موقع إلى آخر ، من مستوى حضاريّ و ثقافيّ إلى آخر ، هذا هو "ريثم" التطور المُتّزن دون إحداث خللا مميتا كالذي حصل مع ابن القبيلة البدائية .
ما أتحدّث عنه ، حدث و يحدث مع كلّ شعوب الأرض ، نحن من ضمنها ، نحن لسنا واقفين ثابتين ، ما نُعاني منه أوضّحه بالمثل التالي :-
لو افترضنا الفرق بيننا و بين أمريكا مثلا ، مائة درجة تطوّر (نُحوّل التطور لوحدات قياس) ، أمريكا تسير بسرعة عشرين درجة في كل عقد من الزمن ، نحن نسير بسرعة خمسة درجات في كلّ عقد من الزمن ، بعد عقد من الزمن سيصبح الفرق بيننا و بين أمريكا 115 درجة تطوّر ، لاحظ بعد أن كانت فقط مائة ، لأنّنا تقدمنا خمسة درجات لكنها تقدّمت عشرون درجة. حقيقة نحن تغيّرنا و إلى الأمام ، و كأنّنا تراجعنا فالفرق بيننا و بينهم اتّسع ، هذا هو المهم : الهوّة السحيقة المتّسعة بشكل مستمر بيننا و بينهم ، نحن الآن نقاتل من أجل تضييق هذه الهوّة ، هذه الفجوة الرّهيبة ، بتسريع زحفنا إلى الأمام ، لكن ضمن هامش لا يُحدث خللا لدينا.
كي تتضح الصورة أكثر ، أتوسع هنا بعض الشيء .
خرج الإنسان عن " ريثم" التّطور العادي ، ثلاث مرات فقط في كلّ تاريخه ، و في كلّ مرّة خروجٍ عن " الريثم" ، أي التّسارع الشّديد في التطوّر ، كان ثمنه ويلات و موت و دمار و أحزان لا حدود لها ، كلّ مّرة كانت تجربة قاسية بل مرعبة :
كي تتضح الصورة أكثر ، أتوسع هنا بعض الشيء .
خرج الإنسان عن " ريثم" التّطور العادي ، ثلاث مرات فقط في كلّ تاريخه ، و في كلّ مرّة خروجٍ عن " الريثم" ، أي التّسارع الشّديد في التطوّر ، كان ثمنه ويلات و موت و دمار و أحزان لا حدود لها ، كلّ مّرة كانت تجربة قاسية بل مرعبة :
المرّة الاولى : حين اكتشف الإنسان الزراعة و تحوّل من تجمّعات و قطعان بشرية تعتاش على الصّيد ، إلى مجتمعات مستقرّة تعتاش على الزراعة و تدجين الحيوانات و تربيتها ، كانت النّتيجة تكون الدّول و الامبراطوريات ، و لكن أيضا ظهر الغنى و الفقر و العبودية و الحروب الطاحنة ، و كلّها مازلت ماثلة بيننا منذ عشرات الآلاف من السنين ، لم تنتهي آثارها بعد.
المرّة الثانية : في القرن السابع عشر الميلادية عندما بدأت الثورة الصناعية ، بنيت المصانع الضّخمة على أطراف المدن و قرب المناجم و الموارد الطبيعية ، المصانع تحتاج لأيدي عاملة ، فرحل الشباب من الرّيف إلى المدينة ، تضخّمت المدن و تدمّر الريف و تدمّرت معه البساطة و الطيبة و الصدق ، ليحلّ محلّها الاحتيال و الاستغلال و التعقيد ، كان تهاوي مروّع للقيم و الأخلاق و ترابط الأسر ، بل هدّد كيان الأسرة برمّته بالنسف تماما. ظهرت شريحة إجتماعيّة جديدة ، لم يكن يخبرها الإنسان ، شريحة عمّال المصانع و المناجم ، و ظهر استغلالهم على أبشع وجه و ظهرت الشيوعية لتحلّ هذه المشكلة!!
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل صار أصحاب المصانع يبحثون عن أسواق لبضائعهم ، فسيطروا على السياسة ليسيطروا على القوانين ، ثم على الدّولة و قرارها ، و أصبحت لأوّل مرّة في التاريخ ، مصالح الشركات الضخمة و المصانع ، نفسها مصالح الأمة و أمنها ، فظهر التنافس ، و مقابله تهديد المصالح ، فالخلاف ، فسباق التّسلح ، فحربين عالميتين مدمّرتين ، الأولى حوّلت الكرة الأرضية إلى أوبئة و مجاعات و موت ، و الثانية إلى قتل و دمار ، بل استخدم فيها أسلحة تدميرية شاملة ، كيماوية و غازات سامة و حارقة و بيولوجية و أخيرا ذرية.
قُسّم العالم إلى مناطق نفوذ بين المنتصرين ، فظهرت الدول المنتجة و الدول المستهلكة ، المنتجة التي يجب أن تظل منتجة ، كي تحافظ عهلى مستوى معيشة رفيع ، و المستهلكة التي يجب أن تظل مستهلكة لتأمن حاجات الأخرى ، عبودية جديدة ، خفيّة أوسع نطاقا من العبودية الأولى ، بدلا من أن يستعبد الإنسان الإنسان ، صارت شعوب تستعبد شعوب ، و استيقظ أكثر من ثلثي العالم و قد تحولوا إلى شعوب تابعة ، يسمونها تارة نامية ، أو في طور النّمو أو العالم الثالث ، و ما هي إلا تابعة مُستعبدة ، حجبوا العلم عنها و صناعة الآلة .التي تصنع الآلة (الصناعات الثقيلة).. .الخ
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل صار أصحاب المصانع يبحثون عن أسواق لبضائعهم ، فسيطروا على السياسة ليسيطروا على القوانين ، ثم على الدّولة و قرارها ، و أصبحت لأوّل مرّة في التاريخ ، مصالح الشركات الضخمة و المصانع ، نفسها مصالح الأمة و أمنها ، فظهر التنافس ، و مقابله تهديد المصالح ، فالخلاف ، فسباق التّسلح ، فحربين عالميتين مدمّرتين ، الأولى حوّلت الكرة الأرضية إلى أوبئة و مجاعات و موت ، و الثانية إلى قتل و دمار ، بل استخدم فيها أسلحة تدميرية شاملة ، كيماوية و غازات سامة و حارقة و بيولوجية و أخيرا ذرية.
قُسّم العالم إلى مناطق نفوذ بين المنتصرين ، فظهرت الدول المنتجة و الدول المستهلكة ، المنتجة التي يجب أن تظل منتجة ، كي تحافظ عهلى مستوى معيشة رفيع ، و المستهلكة التي يجب أن تظل مستهلكة لتأمن حاجات الأخرى ، عبودية جديدة ، خفيّة أوسع نطاقا من العبودية الأولى ، بدلا من أن يستعبد الإنسان الإنسان ، صارت شعوب تستعبد شعوب ، و استيقظ أكثر من ثلثي العالم و قد تحولوا إلى شعوب تابعة ، يسمونها تارة نامية ، أو في طور النّمو أو العالم الثالث ، و ما هي إلا تابعة مُستعبدة ، حجبوا العلم عنها و صناعة الآلة .التي تصنع الآلة (الصناعات الثقيلة).. .الخ
المرّة الثالثة : مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية بدأت الثورة التقنية ، التكنولوجيا ، فتطوّرت الصناعات ، و ظهرت البطالة و اشتدت المنافسة ، و تسارع التطور في كلّ المجالات بشكل مذهل ، حتى أن لندن التي كانت ترفض نسائها الظهور إلا باللّباس الإنكليزي المحتشم ، ضمن المجتمع اللندني المحافظ ، و لا تظهر مع الرّجل إلا ضمن " إتيكيت " محدّد ، صارت تظهر في الشوارع "بالمينيجوب" ، و صار لها "بوي فرند" ، تعانقه علنا على الطريقة الأمريكية ، صاعقة مذهلة زلزلت كيان أوروبا في ستينيات القرن الماضي ، كثير من الكتّاب يؤرخوا بهذا الزلزال ما يسمّونه الغزو الأمريكي لأوروبا.
أثناء تواجد البشرية في خضم موجة ثورة التكنولوجيا ، هبّت موجة أخرى تمثّل ثورة المعلومات و الاتّصالات و التي ما زالت على أشدّها ، و لا أحد يعرف أين ستصل ، فأصبحنا و سط موجة مزدوجة ضخمة ، كأنّها "تسونامي" ، إلى أين؟ ... لا نعرف ، ماذا ستكون آثارها؟ لا ندري ، فنحن في وسطها و لا يمكننا الآن إحصاء فوائدها و لا سلبياتها.
إذن نحن وسط تسارع رهيب ، غير معتاد ، لهذا نلاحظ القلق عالميا ، و عدم الاستقرار عالميا ، و العنف عالميا ...الخ.
أثناء تواجد البشرية في خضم موجة ثورة التكنولوجيا ، هبّت موجة أخرى تمثّل ثورة المعلومات و الاتّصالات و التي ما زالت على أشدّها ، و لا أحد يعرف أين ستصل ، فأصبحنا و سط موجة مزدوجة ضخمة ، كأنّها "تسونامي" ، إلى أين؟ ... لا نعرف ، ماذا ستكون آثارها؟ لا ندري ، فنحن في وسطها و لا يمكننا الآن إحصاء فوائدها و لا سلبياتها.
إذن نحن وسط تسارع رهيب ، غير معتاد ، لهذا نلاحظ القلق عالميا ، و عدم الاستقرار عالميا ، و العنف عالميا ...الخ.
المرأة و علاقة الرّجل بها ، و ما يتعلّق بذلك من عادات و تقاليد هي إحدى المكوّنات التي تتعرض لإزاحات عبر الزّمن عند كلّ شعوب الأرض ، تقف المعتقدات و التّعاليم و الشرائع الدينية ، لتمنع الإزاحات التي تخالفها ، و عليه فالشعوب المتديّنة (كما نحن) الإزاحة في المجالات التي تشكّل حساسية ، و التي تقع ضمن نطاق الشرائع الدينية ، تكون ضمن هامش لا يُسمح بتجاوزه ، في هذا الهامش يمكننا التفكير و التنظير. الدّور المهم هو أن نكشف ما يدعو له الدّين حقيقة وفق شرائعه و ثوابته ، و نميّزه عن ما علق به من شوائب و انحرافات و مفاهيم خاطئة خلال الزمن و الفترات التاريخية الطويلة ، و أحيانا بسبب الحكّام ، أو الجهل ، أو سيادة اجتهادات و تفاسير، متعصبة تتبع المغالاة و العُسر ، و أحيانا حتى التأويل المبتعد عن الجوهر و الشطط.
......... / يتبع
تعليق