رواية ( رهان مع الشيطان / زياد صيدم ) 1

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • م. زياد صيدم
    كاتب وقاص
    • 16-05-2007
    • 3505

    رواية ( رهان مع الشيطان / زياد صيدم ) 1

    عندما أسدل الليل عباءته على تلك القرية النائية، المنسية من ركب الحضارة والتطور في ابسط صورها، كانت أزقتها الترابية تغرق في ظلمة دامسة، تكتحل بحلتها السوداء، أطفأت فوانيسها بعد ساعة من صلاة العشاء، تنام مع دواجنها ،تستيقظ على أصوات ديوكها، تعلن انشقاق الصبح، فينهض رجالها لصلاة الفجر، وتنصرف نساؤها إلى إعمالهن مع أول خيوط الشمس إلى الحقول، وأخريات يشتغلن في إشعال طوابين الطين، لتجهيز أرغفة الخبز وإعداد الطعام على انتصاف الشمس في كبد السماء، ليأكلن مع أزواجهن الكادحين في الحقول، حيث الخضراء والماء والوجه الحسن، من خراف وماعز ترعى منتشية، تقفز من أمامهم راقصة على أنغام الناي، القادمة من راعيها في أوقات يتجلى وينسجم فيها مع الطبيعة العذراء، التي هي كل ما يعرف من الدنيا.. مثله مثل الآخرين من رجال القرية، في حياة فطرية بسيطة يعيشونها، لا ينازع الأزواج فيها مهند التركي .. بل كانوا يتقاطرون بعد صلاة العشاء على ديوان المختار "العمدة"، يجتمعون مشغوفين إلى سماع الراوي، يقص حكايات عنترة ابن شداد، وكيف كان يطيح بالرقاب فتتدحرج الرؤوس كأنها ذبائح يوم عرفه، ويحتد صوته، وتنتفخ أوداجه بينما يصف كيف كان يصول ويجول في ميدان المعركة، قبل أن يعودوا إلى بيوتهم منشين متحمسين لنزال من نوع آخر! على طريقة أهل القرى؟ في عتمة إلا من سراج يضاء بالزيت، يبعث بنوره في أرجاء الغرف على خجل واستحياء مما يسمعه من تأوهات مكتومة تحت طبقات من أغطية وظلام في صيف حار، وهذا لم يمنع حاسة اللمس أن تكون بديلا عن حواس أخرى قد تعطلت؟ بالرغم من خشونة الأيدي وتشققها، وبروز نتوءات وندب جلدية على معظمها، إلا أنها كانت أفضل من لا شيء بالنسبة للزوجات، اللواتي قنعن بالمثل القائل: "ظل راجل ولا ظل حيط " .

    ذات مساء، حل بالقرية رجل غريب الأطوار، مهيب الشكل، يخفى في مؤخرته شيء ملتف يشبه الثعبان بتكوره ! يخفيه تحت طيات سرواله الواسع، المضموم على خصره بحزام من جلد البقر الأسود، يعتمر طاقية نسجت من خيوط الصوف المزركشة جوانبها، يخفى داخلها بروزين على جانبي رأسه، كانا أشبه بقرني خروف !وقد اتخذ سكنه على أطراف القرية وحيدا .. أيام قليلة مضت على وصوله ، حتى بدأ يتجول في سوقها، يغدق الأموال على التجار دون مفاصلة لاثمان ما كان يشتريه من أقمشة فاخرة من الحرير الهندي والسيتان، حتى أصبحوا يرصدون تجواله بفارغ الصبر، مترقبين قدومه للسوق، فيسرعون في عرض بضاعتهم وكل جديد قادم لديهم من الأقمشة غالية الأثمان، والخاصة بكبار التجار والأغنياء التي تعود ابتياعها حتى ذاع صيته في القرية بالغنى والكرم والسخاء، فأصبح حديث الرجال في مجالسهم العامرة في ديوان المختار. كانوا يتمنون حضوره ومشاركتهم في سماع حكايات الراوي عن أبى زيد الهلالي، وعنترة ابن شداد، وحرب البسوس..تمنوا أن يكون بينهم على الرغم من هيبته، والمهابة التي تصاحبه حد الرهبة والغيرة بنفس الوقت، فالأموال التي أنفقها في الأسبوع الأول لقدومه، فاقت كل التوقعات، حتى عميت أبصارهم، وتكلست بصائرهم عن طبيعة شكله ومظهره واصله وفصله.. لا يعيرون اهتماما عما كان يخفيه وراء مؤخرته، و على جانبي رأسه ؟ .

    لم يمض وقت طويل على وجوده في القرية الآمنة الحالمة، حتى تغيرت أحوال رجالها ونسائها، فقد ساءت أمورهم كلها، استفحلت الخلافات العميقة فيما بينهم، تزايدت حالات الطلاق بين الأزواج، فتشتتت الأسر الآمنة، لم تعد القلوب حانية طيبة تشتاق بعضها، تمزقت الروابط بين العائلات، قرعت أجراس العداوة والضغينة رؤوس معظم رجالها، وهبت رياح صفراء عاتية، اقتلعت آخر جذور المحبة والوئام في القرية التي كانت ذات يوم حالمة وادعة.
    بينما كان الغريب يقبع هناك منزويا في بيته، تنفرج أساريره، وتلمع أسنانه المدببة تحت أشعة الشمس،يقهقه في الليل مدويا بصرير تُسمع أصداءه في الوديان وعلى امتداد السهول والأرض الخلاء. بدأ في التوافد عليه زواره من تجار القرية المحتاجين من الذين كسدت تجارتهم، وأصحاب الدكاكين التي خلت من بضاعتها، كانوا يقصدونه لسلفه أو استجارة أو لمجرد النميمة التي وجدت أذانا صاغية لدى الغريب وصدر رحب شغوف بسماعه لتلك الأخبار، التي أصبحت تجارة رابحة في مضافته العامرة.. كان لهم المُقرض والمُواسى ومُفرج الكروب، فقد أُعميت قلوبهم وبصائرهم عن كل منطق، حتى تلاشت من عقولهم فكرة البحث عن حقيقة وأسباب ما حل بالقرية، حتى مختار القرية وعمدتها المعروف بالحكمة والفصل والحنكة والدراية بأمور شتى، والمتصل مع الحضر في المدينة كما كان يتباهى ويفتخر دوما، وقف عاجزا حائرا عن اى تفكير قد يوصلهم إلى خيط الحقيقة، المغيبة عن عقول مسلوبة ومبهورة...
    أيقن الغريب بأنه قد نال ما يريده، فبدأ في مد شروره ومكائده إلى القرى النائية الأخرى، يغيب ثم يعود أدراجه إلى حيث استوطن وتربع، متخذا من القرية هذه نقطة انطلاق، لا يفارقها إلا في مهماته الخسيسة والدنيئة، كأنه تعاقد مع أهلها، أو تحالف معهم بوثاق لا ينكسر أو يسقط بالتقادم.

    عاد الغريب من جولته خارج القرية، عندما مالت الشمس في الأفق بعد ظهيرة حامية، تنذر بقدوم صيف شديد القيظ، سيزيد من سوء أحوال العباد أكثر مما هي عليها، ليجد امرأة في انتظاره خارج بوابة بيته، وقد اتكأت على عكازها، تجلس القرفصاء على حجر،كان احد أحجار كبيرة تحدد وترسم الفراغ المحيط بالبيت بطريقة لم يعهدها احد من قبل! .. رمقها بنظرات ملتهبة غيظا وحنقا، وقد انقلبت سحنته عبوسا، لم يكن وجهها غريبا عليه، إنها أم فاطمة، هكذا يعرفونها في القرية، وهى أشهر من أن تُعرف، كان يخاطب نفسه...

    لم يرق لأم فاطمة هذا الغريب من أول يوم وطأت أقدامه القرية، حاولت الحديث جاهدة مع كبار رجالات القرية ومختارها بادئ الأمر، لتلفت انتباههم إلى ما تفكر به ؟ وتدلل على ما تقول بتلك الشواهد العجيبة التي تبدو عليه، كانت تواجه ضحكاتهم بصبر، وتحتمل سخرياتهم على مضض، فتعود خائبة في كل مرة، مكسورة الجناح إلى بيتها، تبكى حظ القرية وما سيحدث لها؟ فانزوت في بيتها معتكفة، ترقب من بعيد ما آلت له أحوال القرية .. ترد بإيماءات من رأسها، أو بصمت حزين من عينيها، عندما كن يقصدنها نساء القرية متلهفات مذهولات، يبحثن عن تفسير ما، يشكين لها هول ما يقع لهن .. فلا حياة لمن تنادى ؟حتى اعتقدن بان أم فاطمة قد أصبحت خرساء، فقدت القدرة على النطق و الكلام.

    اقترب الغريب منها أكثر، توهجت عيناه المحمرتان كالجمر، دار حولها برقصات عجيبة! توقف قبالتها، لم تُنزل عيناها من عليه ، رمقته بنظرات تحد.. كانت ما تزال تبحلق في وجهه بإصرار غريب، وعدم ريبة أو خوف، وهى تنهض من قرفصائها منتصبة، متكئة على عكازها من خشب السنديان، قابضة عليه حتى برزت عظام يدها، من أسفل جلد اختفى اللحم منه...
    - يتبع –
    إلى اللقاء.
    التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 02-02-2010, 05:27. سبب آخر: التصنيف
    أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
    http://zsaidam.maktoobblog.com
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    بداية حلقات موفقة لحكاية تبدو جميلة ومثيرة التفاصيل
    نتابع استاذنا الفاضل زياد
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • ميساء عباس
      رئيس ملتقى القصة
      • 21-09-2009
      • 4186

      #3
      أسلوب سلس عفوي وخاصة في البدايات في وصف الطبيعة هنا والرجال والنساء وكلنا تخيل هذا الجو المطبوع في الذاكرة
      ويعطينا بعض الأمل في هذة البساطة التي يعيش فيها هؤلاء
      ثم كانت الحبكة ودخول هذذا الرجل المثير تشد القارئ
      ثم النتيجة عن مايضمره هذا الذي يراهن الشيطان
      سماء قصة جميلة وننتظر مطرك
      العزيز الراقي زياد
      كل التقدير والود
      مخالب النور .. بصوتي .. محبتي
      https://www.youtube.com/watch?v=5AbW...ature=youtu.be

      تعليق

      • م. زياد صيدم
        كاتب وقاص
        • 16-05-2007
        • 3505

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
        بداية حلقات موفقة لحكاية تبدو جميلة ومثيرة التفاصيل
        نتابع استاذنا الفاضل زياد
        ===================

        ** الراقية الاديبة مها.........

        ممتن لمتابعتك الراقية وقراءتك الجميلة..نعم هى نمط قديم وفيه اكثر من حكمة.

        تحايا عبقة بالرياحين...........
        أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
        http://zsaidam.maktoobblog.com

        تعليق

        • م. زياد صيدم
          كاتب وقاص
          • 16-05-2007
          • 3505

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة ميساء عباس مشاهدة المشاركة
          أسلوب سلس عفوي وخاصة في البدايات في وصف الطبيعة هنا والرجال والنساء وكلنا تخيل هذا الجو المطبوع في الذاكرة
          ويعطينا بعض الأمل في هذة البساطة التي يعيش فيها هؤلاء
          ثم كانت الحبكة ودخول هذذا الرجل المثير تشد القارئ
          ثم النتيجة عن مايضمره هذا الذي يراهن الشيطان
          سماء قصة جميلة وننتظر مطرك
          العزيز الراقي زياد
          كل التقدير والود
          ======================

          ** الراقية الاديبة ميساء..........

          قراءة متقدمة .. سعدت بمتابعتك كما يسعدنى قلمك الراقى.

          تحايا عبقة بالرياحين..............
          أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
          http://zsaidam.maktoobblog.com

          تعليق

          • ربيع عقب الباب
            مستشار أدبي
            طائر النورس
            • 29-07-2008
            • 25792

            #6
            بداية .. أسجل إعجابى بأسلوبك الماتع
            وهذا المدخل المطول من الخارج ، والذى ربما أتى مبررا
            لما سيأتى بعد .. و هذا الوصف لأجواء القرية قبل و بعد حلول هذا الضيف الثقيل ، كما أوضحت هذه البداية ، و إن كان هو طوق النجاة ، و حامى الديار وقت الحاجة ، و مقيل المعسر !!
            ثم امتداد نشاطه إلى قرى أخرى ، متمركزا فى هذه القرية ، جاعلا منها نقطة ارتكاز لنشاطاته المريبة !!

            ربما لا أميل لمثل هذه البدايات ، و يراه البعض ضرورى ، لتحضير واعداد نفسية القارىء ، و سحبه أو شده رويدا رويدا إلى الأعماق ، و هذا ما كان متبعا فى أعمال محمد عبد الحليم عبد الله و معظم الكتاب فى تلك الحقبة من القرن المنصرم !!

            أهلا بك زياد أخى ، و هذا العمل الذى أتمنى له الكمال ، و بنفس القدر من القوة و الترابط ، مع الدخول فى دواخل الأشخاص ، و محاورتهم ، و كسر حالة السرد ، وعمل قطع و ووصل ما أمكنك ذلك ، حتى لا يترهل منك العمل ، و يكون بالفعل بداية حقيقية فى عالم الرواية !!

            أتابعك

            محبتى
            sigpic

            تعليق

            • م. زياد صيدم
              كاتب وقاص
              • 16-05-2007
              • 3505

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
              بداية .. أسجل إعجابى بأسلوبك الماتع
              وهذا المدخل المطول من الخارج ، والذى ربما أتى مبررا
              لما سيأتى بعد .. و هذا الوصف لأجواء القرية قبل و بعد حلول هذا الضيف الثقيل ، كما أوضحت هذه البداية ، و إن كان هو طوق النجاة ، و حامى الديار وقت الحاجة ، و مقيل المعسر !!
              ثم امتداد نشاطه إلى قرى أخرى ، متمركزا فى هذه القرية ، جاعلا منها نقطة ارتكاز لنشاطاته المريبة !!

              ربما لا أميل لمثل هذه البدايات ، و يراه البعض ضرورى ، لتحضير واعداد نفسية القارىء ، و سحبه أو شده رويدا رويدا إلى الأعماق ، و هذا ما كان متبعا فى أعمال محمد عبد الحليم عبد الله و معظم الكتاب فى تلك الحقبة من القرن المنصرم !!

              أهلا بك زياد أخى ، و هذا العمل الذى أتمنى له الكمال ، و بنفس القدر من القوة و الترابط ، مع الدخول فى دواخل الأشخاص ، و محاورتهم ، و كسر حالة السرد ، وعمل قطع و ووصل ما أمكنك ذلك ، حتى لا يترهل منك العمل ، و يكون بالفعل بداية حقيقية فى عالم الرواية !!

              أتابعك

              محبتى
              ========================

              ** المبدع الراقى ربيع...........

              اسعدنى هذا المرور لما فيه من توجيه عملاق قصة واستاذ اعتز به..

              رائع انت كما هو فكرك تماما..

              تحايا عبقة بالزعتر...............
              أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
              http://zsaidam.maktoobblog.com

              تعليق

              • إيهاب فاروق حسني
                أديب ومفكر
                عضو اتحاد كتاب مصر
                • 23-06-2009
                • 946

                #8
                المبدع
                زياد صيدم
                بداية مشوقة
                نتابع معك
                دم بخير
                إيهاب فاروق حسني

                تعليق

                • م. زياد صيدم
                  كاتب وقاص
                  • 16-05-2007
                  • 3505

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة إيهاب فاروق حسني مشاهدة المشاركة
                  المبدع
                  زياد صيدم
                  بداية مشوقة
                  نتابع معك
                  دم بخير
                  ========================

                  ** الراقى الاديب ايهاب حسنى..........

                  شاكر لك قراءتك ومتابعتك اللاحقة التى سعدت بها حقا.. ولملاحظاتك..

                  متمنيا نهاية موفقة تعجبك والنهاية فى الرابعة والاخيرة لن تطول كثيرا..

                  تحايا عبقة بالزعتر......................
                  أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
                  http://zsaidam.maktoobblog.com

                  تعليق

                  يعمل...
                  X