استيقظ أبو الضباع على صراخ زوجه، إذ كان صياحها هذا اليوم في أوجه، فقام متعكر المزاج مشوش التفكير، وأخذ يسب الجميع من الصغير إلى الكبير؛ إذ لم يستجب لنداءاتها المتكررة من الجيران أحد، فاضطر -غير راغب في النهوض- أن يقوم ليرى بعينيه ما طيَّر النوم من جفنيه. فمنذ ما يزيد عن عشرة أيام وآلام مخاض أم الضباع أقرب إلى الأوهام والأحلام. فهل حان اليوم حقاً حينها؟ أم إنه في هذا اليوم قد جن جنونها؟
هرول أبو الضباع إلى أم الضباع في حدة وغضب، وأقسم أن يهوي عليها بالهراوة كي يعلمها الأدب. فلتذهب وحملها إلى الجحيم، وإلى أحضان الشيطان الرجيم! فعمله -كما يسميه- بالليل يستلزم أن ينال قسطه من الراحة، ولا يمكنه ذلك في قلب تلك الهيعة والنياحة.
أما عمل أبي الضباع -أيها القارئ الكريم- فهو لعب القمار مع المأفونين والشطار، فيوماً يكسب ويوماً يخسر، ويوماً يتقدم وفي غيره يتأخر. وينفق كسبه جله أو كله على تعاطي المخدرات، وشرب المسكرات، والتسكع مع بنات الليل في الحانات والحارات. وقد تعلم من حياة اللؤم دناءة الطباع، ومن هنا أسموه أبا الضباع. أما اسمه الحقيقي فليس أفضل حالا، بل إنه اعتبر أبا الضياع ترقية وأحسن فالاً، فأخفى اسمه القديم عن كل مقسط ولئيم، ونسب نفسه إلى جنس الحيوانات، وأقسم لا يغيره حتى الممات.
قفز أبو الضباع بهراوته على زوجه المتحزبة قَفْزَ اللئيم السقيم على مأدبة، فأخذ يضربها فوق أم رأسها، وعلى الجنبين وظهرها وبطنها. ومن فِيِهِ خرجت كل ألوان السباب، ونالها منه صنوف اللكم والركل والعذاب. ثم أمسك بتلابيبها وألقى بها من جدار إلى جدار، وهو يلعن أبيها وأمها، وينهش عظمها ولحمها. فلقيت على يديه ورجليه من القهر ما لا يسر، ورأت منه النجوم في عز الظهر.
وعلى الرغم من حال أم الضباع فلم تستسلم للضرب والأوجاع، بل كانت تعلم نقطة الضعف عند زوجها، وتدرك كيف تثأر لنفسها من بعلها. فما أن رأته مقبلاً بهراوته وصوته الناقم حتى أدركت سوء طويته وشره القادم. فما أن اقترب منها حتى شدت رجله الخشبية، وطوحتها من المشربية. وظل أبو الضباع يعرج، وأم الضباع تزحف للمخرج. وكانت تدفعه عن نفسها بكل ما أوتيت من حول، فيسقط مترنحاً بلا طَوْل، فتُلقي في وجهه ما تتحصل عليه باليدين، وتركله بالرجلين وتصفعه بالكفين. وهي على ما فيه من ألم المخاض والعراك تصرخ بأعلى صوتها حتى سقطت بلا حراك.
ثم مرت بضع لحظات من الصمت الرهيب، قطعه صوت صراخ وبكاء ونحيب، ولم يكن لأم الضباع ولا لزوجها، بل كان لذلك المولود العجيب، الذي نجا من كل تلك الْمُلِمَّات، ونجا من جميع المناوشات واللكمات، وتمكن من تجنب الركلات واللعنات، وخرج إلى الحياة دون مساعدة من قابلة أو طبيب، فأقسم الوالدان -في نَفَسٍ واحد- ليسميانه .... "ذيب".
ولما انقضت صدمة الميلاد، استعاد أبو الضباع ما بقي من وعيه، وعاد إلى سابق عهده، فنهض متكئاً على رجل وذراع، وهو يئن من الأوجاع، ويلعن الليلة الذي رأى فيها أم الضباع. وملأ نفسَه غيظاً من جديد صراخُ الطفل الوليد، فقام يهرول إليه، ويلوح بكلتا يديه، ويصرخ فيه ويقول:
- اصمت يا ابن بائعة الهوى، فأمك بنت كذا وكذا -مما يخجل من ذكره اللسان، ويغضب ربَّنا الديان-. إنك لست من صلبي، فخذ بكاءك عني، وإني وربُّ البيت عنكما مستغني.
واجتمع الجيران على الضجيج، كطواف البيت من الحجيج. ودخلت منهم امرأة على أم الضباع تعينها ومن عثرتها تقيلها. وإذا هي تساعدها إذ نظرت إلى وجه "ذيب"، فشهقت وأفلت منها لسانها وقالت: "غريب عجيب! سحنته وسحنة أبي الضباع كالفرق بين السماء والقاع!"
فقالت أم الضباع مسرعة: "اصمتي يا امرأة."
فقالت الجارة: "والله لست من الذنب مبرأة."
فازداد في نفس أبي الضباع السُّعار، وأخذ يسب الجارة والجار، ثم سحب قضيباً من حديد كان بجواره وهَمَّ بضرب الوليد وتحطيم أسراره، فاندفعت أم الضباع بغير وعي لتقيه عصا المعصية وتحميه، فجذبت مصباحها الكهربيّ وصدّت به ضربة زوجها العصبيّ، فسارت الكهرباء في أوصاله، ومزقته أشلاء فنال جزاء أفعاله. ونجا الوليد هكذا مرة بعد مرة من موت محقق كلما أعيدت الكرة.
وانتشر الخبر الأليم في "حي النسانيس" انتشار النار في الهشيم أن أبا الضباع لحق بأبيه إبليس، وأن أم الضباع -ابنة اللئـام- قد أنجبت من الحرام.
أما أبو ذيب فكان راعياً من رعاة الغنم، عيشه أقرب إلى العدم، وقد باع دينه بدنياه حين راودته أم الضباع عن نفسه، فانكفأ في المعصية على وجهه. (ونسأل الله لنا ولكم السلامة يوم الحسرة والندامة).
وقررت أم ذيب أن تذهب لراعيها لعله يأوي ابنها ويأويها. وما أن وقعت عينه عليها، ورأى الوليد بين يديها، حتى أطلق لساقه الريح وفر منها فرار الكبش النجيح. فقالت والغضب يرجف جسدها، والألم يعصر كبدها: "والله يا ابن الفاعلة، لأتركنه بخيمتك وإني لراحلة." وتركت الطفل في لفائفه غير عابئة بما يحل به. وفرت هي الأخرى من الراعي وابنها فرار الصحيح من المجذوم، والهانئ من المكلوم.
وتروي لنا الأخبار أن الراعي حين عاد إلى خيمته وجد الغلام في لفته يئن من الجوع، ويمص الكوع والكرسوع، فهاج وماجَ، وقال: "ما لي إليك حاجة، يا عار أمك وأبيك، فكن مع الذئاب لعلها تأويك." ثم حمل "ذيباً" إلى جوف الصحراء، وتركه يلتحف السماء.
ويخبرنا الرواة أن الذئاب تبنت "وليدها"، وربته الثعالب كابن لها، وأرضعته الضباع من حليبها فنشأ على هذه الحال، يفوق في دهاءه كل محتال. ينام بعين من عينيه مفتوحة، ويجهر بآثامه ولا مندوحة، ويعتدي على من شاء حسب مزاجه، ويسلب الحقوق من المغرب إلى الشروق. ولا يسلم من لسانه أحد، ولا من بطشه خانع ولا مستبد.
وهكذا عاش ذيب ابن الراعي والثعالب، ابن أبي الضباع والمثالب، ابن الضباع وأمه بنت الهوى وإشباع المآرب.
وعلى كل ما مر به ذيب فقد اشتهر بأنه داهية أريب، لا يشق له في السباب غبار، ولا يأبه إن التصق به عار. وكان يفخر بدناءة عيشه، وحقارة أصله وفصله، ويستغل كل فرصة سانحة ليُذَكِّر من حوله بأعماله الجانحة. فكم من مرة خدع شريفاً أمينا، ونصب لصحبه وعدوه كمينا، وغرر بمن طبعه السذاجة فأرداه في مجاهل اللجاجة. وكم من مرة لم يراع حرمة الدين فهتك العرض وسرق عرق الجبين. من استعصى عليه بالتنمر أنهت هراوتُه منه كل تذمر، ومن لم يستجب للكلام عصف به في يقظة أو منام. وكان دأبه الغدر وديدنه الطعن في الظهر. فاشتهرت عنه كل نقيصة، وكل دنيئة ورخيصة.
ولم يكن ذيب قبيح الشكل والمنظر وإن اشتد فيه سواد القلب والمخبر. بل كان من يراه دون سابق معرفة يظن أنه رجل مألفة. ولكن كان جفاء طبعه، وردئ أخلاقه، وكل كلمة من فِيه تفضح ما يخفيه من سوء طويتـه وفساد نيتـه.
وفي يوم قال له صديق سوء: "ألا تعلم أن الإنسان تصرف وسلوك؟ ففعلٌ واحدُ يجعلك صعلوكاً وآخر يضعك في مصاف الملوك؟ إن جفاء طبعك ينفر الناس منك. فإن أردت خداعهم فلا تعاملهم بطبعك .. بل بطباعهم."
قال ذيب: "وما أدراك أنت يا ابن الخبيثة؟ يكفيني ذراعي لأجعل ملوك الأرض أتباعي ..."
فقاطعه صديقه الناصح وقال: "ألا ترغب في المزيد دون تعب ولا تعقيد؟ ألا يرضيك أن تشبع من شهوتك وتحصل على بغيتك بأقل القليل من العناء، ودون مخاطر وشقاء؟
قال ذيب وقد أعمل رأسه في حياته لأول مرة: "ولم لا؟"
قال الصديق: "فتعال أُعَرِّفك على من ملأ الأرض ضجيجاً بنزاهته، وعلا صراخه ليخفي من نفاقه وتفاهته ما تستحي منه ديدان الأرض، وما يتضاءل بجواره كل هاتك للعرض. وهو من علمني ما قلته لك حديث، فهذا معسول الكلام الذي يخفي بباطنه كل خبيث.
فاشرئب عنق ذيب للقاء المذكور الذي يستبدل الظلام بالنور.
دخل ذيب بيت "أبي الصنم"، وراحت عيناه تدوران يسرة ويمينا، واشتمَّ في البيت رائحة ألِفَتها أنفه سنينا، ثم تسربت إلى أذنيه كلمات أحس بطعمها في فمه، وشعر بوقعها في نفسه، وخالطت شغاف قلبه، فأسرع على الفورِ ليستمع إلى صاحب الصوت الجهوري، فإذا به يخطب في جماعة -واستمر خطابه ساعة- وهم يهزون رؤوسهم موافقين، وبين الحين والحين، يرفعون أكفهم مؤَمِّنين. فذكَّره هذا بحلقات الدراويش، وجلسات المُنْكَر والحشيش، إذ يجتمع الناس للتفقير وبينهم الغني والفقير، والكبير والحقير، والغبي والنحرير، ولابسي العمم والطراطير، وما أشبههم من نافخي الكير، فيتظاهرون بذكر رب البرية، وهم أبعد عن الفطرة السوية.
وكان مما استجاب له حسه وتمايلت له نفسه قول أبي الصنم:"أنا أبو الصنم، أنا العَلَم، رب السيف والقلم، أحرك النفوس وأشحذ الهمم. أنا لكم -أحبتي- كالشمعة في الظلام، أنفض النوم وأبرئ الأسقام، وأحيي الموات وأزيل الركام. كلامي كالسحر بلسم، وأبعد الشر عنكم فنسلم، فصدقوني ولكم أقسم، فقد حججت بيت الله ثلاثة مرات، وأقمت بمنىً وارتقيت عرفات، واعتمرت بدل المرة خمسة عشر، فسمتي التدين وحسن المظهر، وقلبي نظيف وهمتي أكبر. وتعلمون أني سلس المعشر، خُلُقي التواضع ونصاعة المخبر. أعمل لأجلكم ليل نهار وقلما يقرب النوم أجفاني، ولا أفضح عنكم الأسرار وإنِ الحِمْل أعياني. فأنا أمين ابن أمين، ومن خيرة المرسلين. رسالتي رسالتكم، ومنبري ملك لكم. فلنكن جميعاً يداً واحدة على كل معتدٍ، نحمى الحمى من آخرٍ ومبتدي. واتخذوني قدوة فأنا الدليل وأنتمُ نِعْمَ المقتدِي."
فاشتعلت القاعة تصفيقاً، وارتفعت الأكف للسماء تحليقاً. هذا يسبح بحمده، وهذا يتمسح به، وهذا يقبِّل يديه، وهذا يعفر وجهه عند قدميه.
واستأنف أبو الصنم كلامه فقال:
"تعلمون إخواني إني منكم ولكم، ويسمع صوتي الأصم والأبكم، فرسائلي يتلقفها الآلاف، لأني في الحق لا أخاف. كم زلزلت كلماتي من عروش، فاهتزت الدنمارك وبلاد بوش. وأثناء انشغالي بمقارعة أعداء الدين وأمة العرب بادرني الخونة بطعنات سال منها الدم للركب، فكنت أقاتل في جميع الجبهات وألعن الآباء منهم والأمهات، وأضربهم بحسامي بين أنين وآهات، حتى خارت قواي فسقطت سقوط الصريع، وبكيت بكاء الرضيع. ولم أجد لجروحي يداً حانية أو لآلامي نفوساً فادية؛ فانهرت وانهار معي صرحي ... وصرحكم.
ولكنني كما ترون اليوم بينكم. ونسي الخونة أن عندي مناعة تحميني من كل ما يجرحني ويؤذيني. أنا أبو الصنم لو تعلمون، أنا الهرم لو تفقهون، أنا زعيم أكبر قوة عربية، أنا صرح النفوس الأبية. أنا الأمس، أنا اليوم، أنا الغد وكل حين، آهٍ آهِ يا أمتي لو تذعنين! كنت يومها حققت لكم كل آمالي ... وآمالكم، وأحلامي ... وأحلامكم، وطموحاتي ... وطموحاتكم. فبيننا قاسم مشترك، وواقعي وواقعكم مشتبك، فأنا أشعر بنبضكم، وبغيتي بغيتكم، وأعلم منكم أنك تريدون ما أريد، وشعاري يا قومِ هل من مزيد؟"
"الحياة للزعيم، وللخونة العار، تفديك نفوسنا من الأشرار، قدنا يا دليل لجنة أو نار."
"الحق ما نطقت به شفتاك، نحميك في المكره هنا وهناك، الكل شيطان وأنت الملاك."
"هوِّن عليك وخض يا زعيم، سنسحق لأجلك كل لئيم، فأنت الجنة، أنت النعيم."
"أشِر علينا وقل سنطيع، فأنت الراعي ونحن القطيع، فسقنا ومُرْنا وبعنا بريع."
فانتشى أبو الصنم وأخذ يكمل خطبته العصماء في حشده المغَيَّب المعطاء ...
الصمت في محراب مقامات الليثي فرض عين؛ حتى تكتمل لنا المقامة... بعدها يحلو التهليل والتكبير
فأكمل علينا رواية الذيب بن أبي الضباع أيها الراوي القدير
ننتظر بشوق... فلا تغيب
الصمت في محراب مقامات الليثي فرض عين؛ حتى تكتمل لنا المقامة... بعدها يحلو التهليل والتكبير
فأكمل علينا رواية الذيب بن أبي الضباع أيها الراوي القدير
ننتظر بشوق... فلا تغيب
ههههههههههه
الصمت فرض عين على نظام "سكتم بكتم"!!!
حياك الله أختنا الفاضلة الأستاذة عبلة.
ولكن لا مانع من التهليل والتكبير الذي يدخل في ميزان العبد طيلة اليوم.
أما من النوع السائد في هذه المقامة "عمال على بطـال" فنعوذ بالله منه.
وسأضع البقية سريعاً إن شاء الله!
دمتِ سالمـة من كل سـوء.
انتشى أبو الصنم وأخذ يكمل خطبته العصماء في حشده المغَيَّب المعطاء فقال:
"أريد منكم -وأنتم أهل الكرم والجود- أن تعطوني بلا حدود، وأن تطلقوا يدي فلا قيود، وأن تخرجوا من جيوبكم وخزائنكم ما تجود به أنفسكم ... وإن أبت ذلك عقولكم وضمائركم؛ فأنا أعلم منكم بالصواب، وأمور التخطيط والحساب. ولتنشروا بين أهل الأرضين السبع، وأصحاب الأموال وكل مصدر ونبع: أنني هنا مدافع عن كل حق لهم، أتحدث بلسانهم وإن لم يختاروني، فأنا الزعيم الملهم وإن سبني الخونة أو شتموني. أنا الحاضر أنا المستقبل، أنا غطاءٌ عليكم مُسبَل، أنا أبو النور وإن كبلوني، أنا الطريق وإن خذلوني. أين أيام الرشيد هارون؟ أين أيام ابنه المأمون؟
ها أنا ذا أنادي منذ سنوات -وسأظل هكذا حتى الوفاة- وكأن حديثي موجه لأموات! حلمي من البنايات عمارة، طوابقها تعلو تارة وتارة، ومكتب لي في الصدارة. وأموال تنسكب من فوقي وتحتي، ومن كل جانب، من متبرع ومعطٍ وواهب، ولا يسائلني أحد ماذا أنفقت، ولا فيما أخذت، ولا من أعطيت، ولا ماذا وضعت بجيبك وأخفيت. كلكم تعلمون أني أهل للثقة ورمز للعفاف، ورغبتي في نفعكم خالطت مني الشغاف، لا أعرف الهضم ولا الضيم ولا الإسفاف.
وككل صاحب دعوة ومدافع عن قضية تتناوبني السهام من كل عربي وعربية لا أصل لهم سوى الدناءة والوضاعة ، ولا يعرفون سوى الفاقة والمجاعة، ويلفقون حولي كل نقيصة وإشاعة، وأنا السيد بينكم، ولي تجب الطاعة. يقول الوشاة عني أني "كذاب أشر"، كذبوا وحقت عليهم اللعنات في حياتهم وبعد الممات. قالوا "أقول كلاما ثم أغيره، وأقسم اليوم على شيء ثم أحوله" خسئوا، أولئك أبناء الأفاعي، وخابت منهم المساعي. ويقولون "سارق ومحتال، أغرر بالسذج طمعاً في الجاه والمال" خسروا وانقطعت منهم الأنفس والأقوال. إنهم –أحبتي- يحسدونني على كل نجاح، ويملئون الدنيا بصخبهم والصياح، وليس لهم سوى الدعاء عليهم من المغرب للصباح، فليموتوا بغيظهم، وليلقوا حتفهم في كل ساح. إنهم شرذمة من الخونة الحاقدين، الموتورين الحاسدين، لنعمتي من المنكرين، ولتضحياتي من القالين، فليذهبوا إلى الجحيم، إلى الشيطان الرجيم، إلى مقام إبليس اللعين ...
فهتف جمع متفاصحين من الحاضرين: "آمين آمين، يا منقذ الضآلين، ومرشد الحائرين، ويا زعيم المغبونين، وقاهر الظالمين. أنت صوت الحق والإباء، ورمز المحبة والإخاء. بالروح والدم نفديك، وبالعطر والورد نرميك، وعلى كل ما فعلت نحييك. نحن -إن لم تكن- بلا معنى، نتيه حيارى وليس سواك يرشدنا."
فقاطعهم أبو الصنم وهو يشعر أنه على قمة الهرم، وأبت نفسه إلا المزيد، فانتقل إلى التهديد والوعيد، وقال:
"إني قد تعبت يا إخواني، وهذا الحمل أعياني، فإن لم تكن منكم المعونة المادية، والمبالغ النقدية، والهدايا السخية، والتبرعات الذهبية، والعملات الفضية، فهاهي استقالتي أقدمها إليكم فاقبلوها، ورسالتي قد علمتموها ووعيتموها، وليس المال لمصلحة شخصية، أو فائدة عَرَضية، بل هي لمنفعتكم الحالية والمستقبلية، فأنا الأمين المؤتمن، ونزاهتي بلا حدود أو ثمن ....."
فقاطعه بلا وعي الحضور، ورددوا دون فكر أو شعور: "أنت العلم، أنت الهرم، أنت المسيِّر أنت الصنم.
أنت السرور وأنت الحبور وأنت الجابرُ كلَّ الكسور.
أنت الزعيم وأنت العظيم وأنت الرمز وأنت الكريم.
أنت الهادي وأنت الحادي وأنت الدليل في كل واد.
أنت النجم وأنت الحلم وأنت الحقيقة ولست الوهم.
أنت الصبيح وأنت المليح وأنت الرمز لكل صحيح ."
وارتجت القاعة بالهتافات مدوية، بلغات عربية وغير عربية. وأبو الصنم يلوح بذراعيه، ويقفز في الهواء ويهز رجليه، ويطلب منهم الهدوء والسكوت فلديه المزيد من كلام التوت والنبوت.
أردف أبو الصنم قائلاً:
تعلمون أني في التواضع آية، وليس لي فيما عند الناس غاية، لا أحب اللف والدوران، ولا الخوض فيما يكون وكان. ولذا أحب أن أشكركم على التحامكم خلف زعيمكم وإمامكم. ومن الناس من يسعى لشرف المراتب فيدق الأبواب، ومنهم -مثلي- من تشرُف به المسميات والألقاب. فاجتماعكم على منحي درجة الدكفوخية إنما هو تعبير صريح عما في نفوسكم الأبية، من محبة وكرامة وطنية. وأعدكم من الآن وقد أضفتم لاسمي لقب دكفوخ، أن أستمر في سياسة مسح الجوخ، وملاحقتكم بالرسائل ووجع النافوخ، على البريد الإليكتروني والناسوخ، والهاتف الجوال والفاسوخ، ولو كنتم في جبال الألب أو تعيشون بكوخ، أو بالشانزليزيه أو مجاهل طوخ، فأنتم مني وأنا منك، ومن يدوخ يدوخ.
ولكنني -إخواني وربعي وعشيرتي، ومصدر إلهامي ومنبع قوتي- لا يمكن أن أقبل أن أكون دكفوخاً إلا ... إذا أقسمتم برب السماء والملة إن هذه رغبتم الصادقة لقلوب الحاسدين حارقة، وتوقعون جميعاً بأسمائكم وألقابكم على شهادة الدكفوخية، التي هي أعلى شهادة على الكرة الأرضية، لأنها صدرت منكم وأنتم تبلغون السماء طولا، وأنتم النخبة والطليعة الأولى لأهل الفكر والعقول، والنُهى والعلم الأصيل والمنقول.
فسرت في القوم مشاعر الحماسة، وعادوا يهتفون لصاحب المقام والرياسة، واختلطت الألسن الفصيحة والعامية، وامتلأت القاعة بشعارات مدوية: يا رئيسنا يا كبير حرك صابعك بالتأشير واحنا بنجري عليك ونطير
يا زعيمنا يا فانوس، يا مقارع الهكسوس، انت السيف والدبوس سير سير واحنا معاك، نحمي ضهرك وقفاك
صول صول ع الأعادي برجليك والأيادي والغربان والحدادي يا قائدنا يا دكفوخ ع البذورة والشيوخ انت تلف واحنا ندوخ.
قال أبو الصنم، شاحذ الهمم:
"إخواني الأعزاء، وأتباعي الأوفياء: تغيبون عني ولا أغيب، وأقبل منكم ربعي والغريب، وتعلمون أنكم قبلي كنتم بلا وطن، مشتتون في الأرض جاثمون في العطن. كنتم -وكلنا نعلم- بلا هوية، تعيشون عيشة رزية، مهانون من كل شقي وشقية. فمددت إليكم يدي وانتشلتكم انتشالا من الحضيض وأزلت عنكم الأوحالَ. ولم أبال أكنتم من أهل العقول أم الجنون، أو إلى أي مذهب أو دين تنتمون، فيد النبيّ من أمثالي تمتد إلى كل شارع وحارة، فأنا أعشق اليهود وأوالي النصارى، وأصانع العلمانيين تارة وأهل الدين تارة. وأنافق أصحاب الأموال والعقول، وتجار الماشية والعجول، وعلماء اللغة والفحول، ومن كان نجمهم في صعود وبلا أفول. على يديَّ تُصنع المعجزات، ويُنْبِت كلامي في صحراء عقولكم النبات. أنا الغيث والمطر، أنا المبتدا والخبر، أنا البَرَد في قلب السحاب، أنا النبع إذا ما القطر غاب، أنا الدكفوخ يا أولاد الكـ .. (كح كح كح)" يا أولاديَ والأحباب ... (كح كح كح).
ثم أخذته الحماسة الفائرة، فشمر بنطاله وأرخى أساوره، وأخذ يدور حول نفسه في دائرة، ويقفز قفز القرود الحائرة، وبأعلى صوته راح ينعق كالغراب، كمن مسته الشياطين أو عضته الكلاب، فكان مما قال:
"إننا هنا مجتمعون كما تعلمون؛ لتحقيق ثورة نهضوية، ثقافية وتاريخية، وأنا من الخندق الأول أصيح كالأرنب المسلوخ أو الطير الذبيح: يا أمة الضاد هل تسمعين صياحي؟ هل تسمعين شكوتي ونباحي؟ أولول عليك ليل نهار، أمُوء كقط وأنهز كفار ... ...
وهنا نهض ذيب وانتصب قائما، وهرول إلى الطريق هائما، وهو يقول:
"تالله مالي بهذا الخبيث من طاقة، وما بي ما به وأصحابه من حماقة. ولكنني اليوم أدركت أني ذا شرف؛ فهذا اللئيم منحرف، وأصحابه بُلْهٌ يستحقون ما يحيق بهم من هذا المجنون. لو أن له قلبي وجناني، ولي لسانه دون لساني، لكنا في الأرض جباريْن، ولَلَقِي على أيدينا كل مخالف الحَيْن. ولكني أحمد الله في سمائه أنني لست كهذا الرجل في غبائه. فيالله كم في الناس من عجب، وكم فيهم من لقيط القول مضطرب."
يقول الراوي: عاد ذيب إلى أرضه وماله، ولم يلبث أن أشتد في جبروته، وأكثر من ترحاله. ثم استقر في المدينة، وعاش بين أهلها، فزادها وحلاً على وحلها. وأصبح بعد سماعه أبا الصنم الظلوم صاحب فلسفة وهو الغشوم: "إن كان الناس بأبي الصنم معجبين، فهم على نعمة الله ناقمين، ولرحمته غير مستحقين. فهذه الحماقة التي أعيت من يداويها، هي أولى بالتراب أن يواريها. فإن خدعتهم عن أنفسهم وأموالهم فيئا، فهذا ورب البيت حالهم لم أزد فيه شيئا."
فسبحان من جعل من ذيب الدنايا حكيما، يفتي في الخبيث، ويبررالحقير اللئيما. ونسأله أن يجعل سيرنا مستقيما، وأن يكون علينا في الدنيا ستارا، وفي الآخرة حليما.
تعليق