الباب الأول
ïïï
تحْت ليْلِ خيامٍ تَعَذَّرَ بُلوغُها يُسقى سَدَنَتُها نبيذا أحمرَ و لحمًا بَربريَّ الطَعم تهْوي نجومٌ لا تلمسُ الأرضَ بل تبقى مشدودة بحبال وهمية من ابتهالات نسائنا شهودا على وقوع البِكر لِسِراطِ المذبحِ كهيئة الطيرِ تلتحِفُ الكهفَ، ترتسم المقبرةُ و تعْوي كلماتُنا رغم اُئتِمانِها على كلّ صُنوف السِّحر..
من علّم الدّايةََ تشفيرَ المَشيمةِ.. من أسّس لِلْبَغَاءِ في أقفاص الذاكرة ؟
الرّغبة تنزّ تِبْرًا وجَمْرا يُشوى عليْه الجِلْد دُهونا تَقتطرُ والأمير يمُرّ ببُرْنُسهِ والسيف يسبقهُ...الصحراءُ سيّدة بربرية تلفّعَتْ بالسرّ جارحةَ الكبرياء جامحة البصر...
في مغرب الهجير تنضج العناقيد ويصير ماءُ الرحم مِدادا يُسفح على ألواح الألم المختومة ويُرفع في موعد معلوم لصاحبة السّتر: امرأةً على هيئة بُحيرة بل بُحيرة في هيئة امرأة تَنصُب سُرادقَ فِتنتها نِصالًا رفيعَ القيمة في غطشٍ من المراكب العائمة عَقِبَ شفقٍ أحمر و يصيح المنادي أنها الكَاهِنَة فتزداد لوعةُ نسائِنا بعد مواسمَ بيضاءَ من الخصب ووضْعِ الذكور المتمترسين في الجبال منذ التبرّك بأصنامِ الروم على حافة المعبد تتجسد في ليال معلومة تقع لأسْرَى النّوْعِ و الآنفينَ من الِّنساء .
(أقدام تخلّف الشتات أينما حلّت تطبع على الزبد قروحا و تجاويف غاب الأدلّاء عن فك رموزها و استقراء أخبارها..موسيقى تهبّ من جهة المغرب المأخوذ بصنوف الأوهام...جِمال تمرّ و أسنام خاويات و مخاض بلا ذاكرة كلما شُهِر خنجر اجتمعت عليه خناجر كثيرة فأخمدته في مهده و كأنها تخشى انتصابه فيها دليلا على العنفوان بدل الخذلان و قد تُكذّب الإشارة مُريدَها و قد تنام في الجرح السّكينُ فينغلق عليها و ليست منه و ليس منها..و قد يلتقي الغرباء في مكان غريب يألفونه و لا يألفهم يكون من قبيل حي لاتيني يلتهم أوجاعهم و هواجسهم قصائد و مشارب أخرى و لا يعطيهم إلا تصريحا بعدم الانتماء فيشتدّ عواؤهم وتُعتّق خمر الرجوع و لا يشربون..)
ريحُ البَخور تضمّخ ضفائرَ الليل و لا مفرّ من مُعاقَرَة السّيْلِ حتى تنفتح الصحراءُ واحةً غرائبية الفاكهة متكبرة الوجع تُواصلُ سيرها ـ و قد انتثر الملحُ في جراحها ـ إلى لاهُناك في ألْف من الإبل و تاج معفّر بالرّمَاد.
صحراءُ تُقشر الأميرَ من أوهامِنا بعد أن استقرّ على الدفّةِ و حامت حوله جوارحُ لا قِِبل للآدميين بها، خلعتْ عليه الألقابَ الرّنّانة و هَجَتْهُ بخِصال لا يملكها ثم انتشرت فوقَه غيمةً تبتلع أصحابََ الدّمى يُلْقمونها ألسِنتَهم حتّى أذِنَ الأميرُ بِقَطعِها دون شُهود...جُلود مسلوخةفي الممرّات...دِماءٌ متنوعة اللون و الرائحة و الإسمُ واحِد..رؤوس تُعلّق في واجهات القصور يفتخر بها الصيادُ عند عودته و تفخر بها زوجته دليلا على فحولة زوجها الضائعة ذات مساء في مَجلس لَهْوٍ للسُّجناء...فحولة كانت حُبلى بإمكانات الولادة و الوضْع لوْلا أن بعض الدسُاسين سدّوا بابَها بالاسمنت المُصفّح و حكموا على صاحبها بالثكل و قطع الرّحِم...زواحفُ متسلّقة لا يسَعُها تُراب الأرض فتتخذ الجدران مِعراجا، يَعضُّها الفناء فتُحرق الأخضرَ و اليابسَ..تفانٍ حيوانيّ في قَصْقصة الجذور و تهالُكٌ على اُلتهام ثمر الفروع ما عاد يُعطي طَعمَهُ إلا بما استُورِد من اللقاح يأتون به من بلاد الغال بعد أن حمل الاحتلال الغريبُ كُلّ المذاقات و حرّف كلِماتِها ثمّ أعادَها يُذِلّها الخِصَاءُ..كانت لعلعة المجانيق كافية في كل مرّة لصنع الضباب و استبدال أصحاب الكراسي و كانت الأرض بما فيها و من فيها منقطعة لسبب أو لآخر عن هذا الهذيان كأن سورا مرتفعا بين الرعية و أهل السلطان لا يخرقه أحد منها حتى يموت أو تصيبه لعنة و هذا من شيم العرب و المستعربين دون غيرهم أما غيرهم فيُحكى أنهم يستقطبون الكتابات و لديهم ما يشبه الديوان يضمّ اختلافاتهم و يضمن حقوقهم فلا نيران تنام و لا فِتن تتكاثر و لا عقول توأدُ...
قالت الحفيدة:" ويلكم من ذِكر الأبواب، عمارة مُقفّاة تسقط بين يدي سنمّار شاعرا يعجن طينة الحرف بما أوتي من دمع البصيرة، قوالب و أشكال، عقارب و أفعال قاصرة عن دفن الحقيقة، ويلكم ثم ويلكم من غرام الحقيقة ما أضاءت سكونا إلا و أشعلت فتونا،،، ويلكم و الحقيقة"
كانت كل القِصص تُحاك حول جِنّيات البَحر يأتِِينَ مُتسربلاتٍ بخناجرَ عليها نُقوشٌ قديمة لإيهام الغاوين أنها من موروثات أجدادهنّ و قد كان أوْلى بها نساؤنا البدوياتُ يُحسنّ توقيعَ الخلخال و إخصابَ الجذوع الخاوية في الصحارى القاحلة لا يُسْلِمن نعوش آبائهنّ و لا يقطعن خصلاتهن...قاصرات الطرف حينا رائضات مروّضات حينا يخرج من أرحامهن كائنات خفية غير حفية بما ينتظرها من انقطاع الطريق عند سِدرة الشك يورث الشحناء عند غير ذوي العقول و الدعة الموقوتة عند سواهم...عجيبٌ حياءُ النخيل يلتحف كينونته الحيّة في وحشة النواة يتأبّد الندى عند سعفاته المُثقَلة بِغُروب الحضارة ترقُب شروقها من شباك نافذة تطلّ على فَجْرٍ مُبهَم..
صاحت الكَاهِنَة و قد نضج يأسُها عناقيد ثقيلة تطلب أن تُزهَق على قُبور الآتي يقف بيننا و بينه ضوءٌ يُعْشينا:
" قد فتحتُم على أنفسِكم بَكارةَ الحُزن تعتكف فيها مخاوفٌكم، تتكوْثرُ فيها أوهامٌ بلا عددٍ و تُسفح فيها معارفُ القُدامى، شَرَكٌ تقع فيه صغارُ العناكبِ ينسجُه كِبارُها و زهور تتفتّح من فضْلةِ الوقتِ لاحمةً تشتهي كَبِدَ الفراغ"
خرائطُ ممدودة لصحراءَ من الخرافات المتوارَثة و جنونٌ قائم، أحابيلُ يصنعها أهل السلطان و يسقط في شَرَكها العامّة جهلا بجهلهم وحُسْنَ ظنّ في أولياءِ الأمور قديمِهم و مُحْدَثهم ممّن اُحتنكوا ماضيَنا و حاضرََنا فذلّ لهم آتٍ لا نملِكُه قد انفرط منّا أفعى تتّخذ طريقها سَرَبا من رحِم الماضي.
حمَلت الكَاهِنَة أسئلتَها قناديلَ و سَرَت تصّعّدُ في سبعٍ من السّماوات تُجمّع الكتابات التي رُفعت عن شَعبها بعد أن أعطيَ الرّوايةَ...سارت في ثلج و حَميم حتى وَصَلت، و كانت قد عرفت اللهَ في صحرائِها فعَرفَها في سمائه و لم يمنعها ما سألت فنزلت في ألف من الطير قد اُسْرِجت كلّها لحمْل الصّحائف و تعتعة أصحاب السلطان الدنيوي يحتنكون الحقيقة يصرّفونها ذات اليمين و ذات الشمال بالعمائم و الكراسي تارة و التحكمِ في السّكّة طوِْرا.
هناك يقتلون السؤال و يُعلون حكم القبيلة و يسبغون على أهل الدين ما ليس فيهم من الخرافة و الخوارق ليُظِلّوا به العامّة و يُعفوها من شرك الوعي لكنها تضحك على أذقانهم في كلّ مرّة و تصنع وعْيها عجينة مخلوطة بالمسك و دمع الماس تضيء كل ليلة في صرخة ولادة أو قبلة حبيبين أو عودة غائب..
الكَاهِنَة أنثى و الأنثى لعنة استوقدها أربابُ الهياكل ليُغوُوا بها و يَصُدّوا..طِينٌ يُنتهَك و أصنامٌ تُنصَب و منازلُ يَعبث بها أولو الحُكم ممن تسربلوا بالعِلم و غلب على أثوابهم مَطرُ الدّم...كَاهِنَة أيقونة الخزّاف يبتغي تاج الإمارة و رياحُها مشدودة لِدُوَلٍ لا تدُولُ و لكنّ نسلَها مُهجَّرٌ قد شهِد كلّ المَحارِقِ و صار يعرف رائحة البارود أكثر مما يعرف رائحة أمِّهِ...نسْل تشققت وجوهه أخاديد يرتسم فيها تعب الجبال و قدحت عيونه شررا مما ليس عند الرجال..نسل غريب الذاكرة حميم حميم لا يموت أبدا و لا يحيا...
نقوش بربرية تدفئنا حين يقع عليها البصر لحظة يكتمل الليل و تصرخ فينا منعطفاته الكاسرة..حبيبة تتلوّى حزنا على شبح غائب يسيل الكحل من عينيها اللاعنتين فراغ المدينة و يأسها المتأسن في ضباب شتاءاتها و أحزان رحلاتها المبتورة نحو الذات-العنكبوت.
ظِلّ مفقود و فاقد الظِلّ لا يُعطيهِ...كلمات تَلطُم غفلتنا...فَراغٌ وَلود يُفضي إلى سراديبََ و متاهات...أمَا آن لنا أن نقوم بحفرياتنا بمفردنا؟..أن نُعدِم كُلّ علامات التنقيط و ننسى عَفَن الصّلصالِ؟ أن نحضنَ جُثثنا و أحياءََنا ليتأكْسدَ الموتُ و الحياة فنُولد من جديد؟
حكيمةٌ بلادُنا تجمَع زُبدة الحضارة، زَبَدًا يذهب جُفاء و ما يقَِِرُ في الأرض لا يكفي هذا الإسمَ الممنوعَ من التّذكير أن يتحدّى الممنوعَ و يكفُر بالخوارق فيعرفَ أن الهوى لا يكون إلّا واحدا فإمّا السيادةُ و إمّا التّرحالًُ.
الباب الثاني
ïïï
كان المتكلّمون يَهيبون بالأبجدية أن تُلاك بَتَلاتُها و أن يُشقّ بُرْدُها و قد علِِموا سِرّها و نجواها فأحالت وحشتَهم أنْسًا و هوانَهُم عِزّا و رقصت كالحُور العِين أصواتا بلا صُوَرٍ و صُوَرًا بلا أصوات اتخذت مسافاتِ الليل هوْدجا لا تتمّ له لذّة إلا و قد تراقصت جمراتُه عاما بعد عام تذكّر بفتح قريب في زمنٍ يوازي بين القرن الميلادي و القرن الهجري شُهودا بالغيب على اُستشراق الغرب و اُستغراب الشرق في موعد معلوم و لكن هل يجمع الفكر ما فرّقه الدهر؟ حلم منتصف العمر اصطلاح الحضارة في مفرق السنون و لكن الأمل قد يغرب في ثنايا المصطلح و تغدو اللغة كابوسَ ذاتِها عندما تنغرس في الجسد الفاني محارق قتل النفس لغة مسمارية و تصيح السماء: الرحمة يا أهل الأرض..ماذا لو تبادلنا المواقع فأستريح قليلا..
هيكل من الوهم يتاجر به أهل الأرض عند أهل السماء و لكن المقايضة لا تستوي في عُرف العالمَيْن...خرائط متداخلة يستجير أصحابها بالأغراب من أهل الفتك و الغلبة ليدوم الشقاق و يزداد القوي قوة و الضعيف تفككا و انقساما..
هناك في الشعاب يتجمّع المتكلمون بعد أوقات من السكوت الموسمي يسبقهم شيخٌ قرشي يُعلّمهم الحكمة فينطقون بمُعجزة من الباري بعد أن ضُرب على أفواههم سبعين حَوْلا و عشرينَ...هنالك اتّبعوا ذيلَ القافلة و بانت لهم الصحائف القديمة رِتاجا من نورٍ...هنالك تكاثروا بالنّطقِ و زادهم الألمُ اقترابا من شأن الإنس يُشقيهم الزوالُ و يذهب بنفوسِهم الخوفُ يُحرق أحلامهم كائناتٍ لطيفةً غيرَ معصومةٍ من الفناء و التّبعثر..
طريقةُ مفروضة و دربٌ لا محالةَ شائكة اُنقسامُ الكائنِ البشريّ روحًا و حسّا و اجتماعُه في مداراتٍ مختلفة من الصور و الأفكار...ضاقت الكتبُ بالتلميح و أغنت عنها شاشة تلتمع في كبد السماء في الهزيع الآخِر من الليل، شاشة تنفتح في كل زمان و مكان آية للسائلين الصادقين المُقرّبين البالغين طريقَهم مهما بعُدت الشُّقةُ من باعوا ضجيج الأشياء بِتِبر العزلة لا تعطي سرّها إلا لمن اصطبر على توحّش الرّحِم تُكشّرُ أنيابَها لدى الموت و الولادة.
لِلتَّمْرِ طعمُ المِلح و لِملمسِ الحريرِ خشونةُ الدروع، و الليلُ بئر غامضة تعرُج إليها آلاف الأسرار قبل شهيقِ الضوء و تتناسل فيها سراديبُ الحِسّ يُخاتِلُها الشبقُ و تَصْرَعُها اللُّقْيَا فلا يكون على صاحبِ حاجةٍ حَرَجٌ من ذِكرها إذ ينتقلون في حالة صوفية من ذِكر الموت إلى ذِكر الحياة سبيكةً مَسْكوكة في مخطوط تغيّر لونُ أوراقِه و لم تزدد حروفُه إلا ضياءا و وُضوحا فتتفتح لهم مقامات الليل و النهار و الجسد و الروح مُرسََلة على بعضها فيخُطّون عندها كلّ ما يجحدونه على النساء و أرباب السلطان حتى إذا زالت العلّة عادوا في سكوتهم المَوْسِمي دوابَّ في هيئة البَشر أو بشرا في هيئة الدّواب لا يُضيرهم من الزّمن مُرورُه أو قَرارُه ما داموا قادرين على جمع أطرافه في ليلة يتيمة يحُجون إليها من كل حدب و صوب في مقرّ معلوم يدعى شَقبُنّار* بَرْزَخًا بين جبَليْن يأوون إليه فيتخذ هيئة البحر حتى إذا غادروه عاد لهيئتِه الأولى و هذا من أسرار الجان.
لَاسِعَةٌ شقبنّارُ بوَحْشِها و أُنّاسِها، خَفِيّةٌ تحت الجِلد أينما ولّيْت وجهَك، خرائطُها وشْمٌ و إيناسُها وهْمٌ و عِشقُها رجْمٌ...رحِمٌ مشروخة ترشَحُ بما فيكَ تُخضِّبُ أرجُلَ الخيْلِ تعرُجُ في سماءٍ من الشوْق المُوجِع تتقبّلها صبايا لا تعرفُ القِراءة إنّما تستمتعُ بالقصِّ يطير في السماء حَمَامًا يحتمل مخاضًا و يتكاثرُ عند الغُروب يُنذرُ بِنَسْلِهِ قمرٌ وَليد..
كان المتكلمون في صمتهم الموسمي يملؤهم هَرَجُ العامّةِ و مَرَجُها فلا تكاد تعرفهم إلا حين يَجِنّ الليل فينقطع كل منهم إلى كتاب يقرؤه أو نجم يتأمله أو امرأةٍ في هيئة الطير تأتيه يسكن إليها و تسكن إليه و قد ران عليهم الليلُ بأستاره و غَيْبِه و عبير جُلْناره فَهُم إلى المعرفة أقربُ و عن العامة أبعدُ يطهّرهم الليل و يفك عقدة
ألسنتهم-ماء محبوس لا يبلغ الأرحام و لا يعصم من الآلام-قد انقطع كل منهم إلى صفائه الروحي يتمحّض عند السحَر قطعا من التراتيل و الأذكار حتى يأتي الفَجر فيخوضوا معا و قد تحلّقوا تحت صخرة في أمور البلاد و العباد و يُفيضوا في ذِكر الأمير و الكَاهِنَة واستحالة الوصل بينهما و لو حدث لحَسُن حالُ البلاد و العباد و لكنْ مازال الأميرُ مقيما على حُبّهِ للغنيمة وأنَفَته من المشورة و ما فتئت كَاهِنَة مُلِمّة بزلّاته التي تحجُب عنها أفضاله و ربما كانت عاشقة فيما يقال لأحد المتكلمين (أفضلِهم حُسنا و أوفرِِهم عقلا و يُدعى إبراهيم و سيأتي ذِكره في مقام آخر من الكتاب) فَيُسْهِم هذا للحظة و قد غلبت عليه لهفةُ ذِكرها فيقوم عن المجلس ساعةً يتوضأ فيها وضوءَه للصلاة و تنزل دموعه و هو يلحظ شبح خيمتها من بعيد دائمة الإنارة فيأنس لفتيلة الزيت تحترق على مهل و هي تضيء وجه محبوبته السرّية يجمعهما القلب و يفرقهما الدرب و يعرف المتكلمون منه ذلك فيسكتون مراعاة لاستحالة الوصال تسحق القلب و تذهب بالعقل و ما يفتأ يعود إلى المجلس و قد لمعت في عينيه الصّبابة فيخوضون في حديث غيره فيجِدونه نَسَّابَةً يعرف كل القبائل، أسماءَها و أفرادها و حِلّها و ترحالها و مواقيت هُجُومِها و سُكونها فيشهدون له بالسّبْق فإذا انبلج النهار عادوا إلى حال العامة في مدّها و جَزْرها و خَبْطها في بحار الجهالة و الظلمات خوفا من عيون الأمير و حاسة الشم لدى أتباعه و هذا ما تنكره الكَاهِنَة على إبراهيم فهو الأوْلى بالحكم و السلطان والأقدرُ عليه لكنّه يعيش حياتَه شِقّين لا يلتقيان و هل يلتقي الليل و النهار؟
و لمّا كان ذِكر الكَاهِنَة ممّا يُوغِرُ صدرَ الشاعرِ العربي و لمّا كانت فِضّتُها العتيقة تعلو على غُبار الذهب ذَهَبَ ببريقِه الفُرسُ و الرومُ يمزجون العلومَ و الأخْلاط القديمة و يَصْنعون سِحرا لا قبل للمشرقيين به اُرتفعت في الصحراء الكبرى موسيقى الأرض و كان الأمير نائما فَلَسَعَهُ الحلمُ...كيف يَغفو و شِرْبُهُ كَدِرٌ من جُموح القبائل تطلب الرِّفْدَ و تكره العَقْدَ و أمرَ بسفْك النبيذِ القاني على جَنَبَات الحَجَر المُحاذي لِكهْف الرّقيق إذا لم يمتثل البدوُ لطراوة الحضَر و صنائع المستعمرِ أما كَاهِنَة فقامت و ثيابُها تنضح عِطرا و خِدْرا واعدة القبائلَ أن لا يُبدِّلَنّ أحدٌ شِرْبها و مَأكلها أو واحدة من عاداتها دون أن تنزل بِهِ مُصيبة في ليلة معلومة من أول شهر من شهور السنة البربرية فسكنت القبائلُ و اطمأنت حتى حين و قد أخْفَتْ مخطوطاتها و خرائطها القديمة في شَقبنّار ثقة في خاصتها من الإنس و الجان بعد أن أوقفت عليها قرابينَ سَنوية تُدفع في تلك الليلة اليتيمة التي يستأنس فيها الثّقَلان لتوحيد الخالق و تمجيد العقل...هناك يُناوِرون العبارةَ يذهب بطهارتها أهل الجهل و السلطان رِجْسٌ على رِجْسٍ حتى تتجمّعَ الحروفُ في مُقلة الكون فإذا بكى اُنطلقت إلى أعلى في سنَة ضوئية تؤتي ثمارها في موعد معلوم يوافق زمنَ أهل الكهف يَجمعون إلى القُرون القمرية من السنينِ الشمسيةِ تسعًا فيكون ميعادُ الحقيقة و المعرفة.
أما الأمير فقد كان يستعمل حِسابَ الجُمَّلِ لمعرفة مواعيد الهَيَجان و الدَّعة لدى قبائله المرتبطة بمواسم الجِماع و نحوِها فهو العليمًُ أن الغضب و الحُب شقيقان و هو العليمُ أنه لا يملك أيّا منهما و إنما تُغري ملابسُه و منصبه أتباعَه و أشباهَه لكنّه لم يعرف ماهية العشق و لا عنفوان الغضب يفتّح في الرّجُل زهرة الفحولة و يُحبّب إليه النساءََ.
كان الأميرُ يعالج الإمارة بحسابِ المنفعةِ التي تحْصُل له من هذا أو ذاك فكان أن صارتِ الإمارةُ جُرْثومًا يتوالدُ بالانقسام و لم تهنأ لهُ الراحة حتى حوّلها إلى رقعة بعدد مُربّعات الشطرنج يتسلّى بإبدال بيادقِها عند المََلالةِ يُعينه في ذلك قُطّاع العُمر و الغاية...و أرسل على بعضِها الجوعَ و العطشَِ حتى إذا رأت الماءَ تطاحنت وأكل بعضُها بعضا و أرسل على بعضها الليلَ مَقاما حَجَرِيّا يكسّرون رؤوسَهم المفتونة بالخمرة على صخرتِهِ حتى إذا اُنبَجس نهارُه حالت تِلْك في أحشائِهم دِماءً و سكاكينَ فلم يدْرُوا ما يفعلون بِها فزادتهم قُعودًا...
هو الرجل، جنس وهمي ابتدعَتْه ضرورةُ العمران البشري ليَسُودَ المدينة الفاضلة بِفَسادِه الفِطري فيصنع توازُنها يحاصرها بالفكر و الثرثرة، عابر هو في مجاهل الزمن متكلس في العروق و الشرايين كَدَمٍ مُتَخثر يجعل الحَرفَ يتعثر يتبعثر على قارات التضاد الجنسي المتداخل بروائح التوابل الذكية و مزيج الأخلاط المستحيلة من أرض السند و الهند و الشاق-واق...هَيْكَلٌ كاتم للصوت يرعى الذكور الصغيرة حتى تَسْتَأسِد و تتفتح في أحدها زهرة الطّوْطم فيشْرَبَ روحَها في كأس جديدة لتتناسخَ الحكايات...فاكهة أرضية عجيبة قد اجتمع فيها طينُ كل المدن مُتَأسِّنا مُعتّقا خامّا منذ بدء الخليقة، ماردٌ عمودي الشكل أبدا ينجذب إلى مغناطيس الكون ضعيفا كأن لمْ يَغْنَ يوْما و لم يسْطُ سطوة العملاق.
هو البحر يرطّب الهواء و الأفكار و يعدّل الأمزجة..مناسب هو للساسة يفعل فعله في العباد فيتكاثرون في الغفلة و التبلّد بعد أن ينسوا شيئا فشيئا صحراءهم و مراتع وعيهم و إرهاصات الرجولة لديهم..
أمّا المرأة فَرِسالةُ الانفجار الكوني القديم لِتُشكّل اليابسةَ بعد أن كانت الأرضُ كوْكبًا مائيا فاقدَ التحديد و تصنعََ الاستقرار في عقل الرجل، هذا الكائن العابر بطبعه بعد أن تغويه بطفل ينقل اسمه من جيل إلى جيل و يحمِيه من الفناء...كائن شفاف ما ورائي يعيد إليه الألوان بعد انكسافها و يحميه من جرح الإيجار.
كان من حاشية كَاهِنَة فيما يقال جِنّيات يحمِلن إليها أخبار المُدن و أسرار الغزاة فكانت تشتَمّ رائحة الإغارة قبل أيام تكفيها لإعداد العُدة دون إعلام الوُشاة حتى لا يَصل الخبر إلى عيون الأمير أو تجار البحار فيكيدوا لها و كانت تحفظ خرائط الصحراء عن ظهر قلب ولم ترضَ توريثها إلا لحفيد يأتي في عصر متأخّر ليحفظ ذكرى الأزمنة و الأمكنة و تنفتح بصيرتُه بقدرة القدير على الماضي و القادم تلفظه كل الأمكنة فهو الغريب حتى يبلغ الغاية أو يهلك دونها.
كانت الكَاهِنَة تُحسن اقتفاء الآثار المَمْلوحةِ تتركها أقدامُ المسافرين ينزّ منها الدّم و هُم يُتِمّون رحلة الحجّ إلى صخور ينمو علبها عشب عقيم لا ثمر فيه و لا زهر يتركون وراءَهم الصاحبةَ و الولدَ و ينُوءون بهَوْدَج الذّكرى يَثقُل على عظامِهم المُغطّاة بجِلْد مسحول.
حُجّابٌٌ عند بوابة الشمس تُسعفهُم الدّلالة و تُخطئهُم العبارةُ فيجعلون في الطريق غايتَهُم يباركون أنفاسَ الأحاجي تتراقص كألسنة اللهب العَصِيّةِ تُدغدغ الصّدور...قوافلُ من المعاني تسير على نحيب الحادي؛ متى يكُفّ الحِداء عن أن يكون حَزينا، متى نَأمنُ مَكْر الطّريق و تَقتل الصّدورُ وسواسَها..متى نُوقِد نَهاراتِنا من حَطب خَوفِنا...متى يجمعنا لبنُ الكَاهِنَة ثانية فتلتحم أجزاؤنا و يُرتَقُ فتقُنا...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*شقبنار أوسيكافينيريا أو سيكا: مدينة الكاف من الجمهورية التونسية.
تعليق