في منعطف النهرقبل الفجر.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • الضيف حمراوي
    أديب وكاتب
    • 28-11-2008
    • 70

    في منعطف النهرقبل الفجر.

    [align=center]في منعطف النهر.[/align]
    كان الطاهر حجرا في جوفه قلب ، كان يكتسب قوته بالتدحرج بين الطبقات المتطاحنة وعندما يزداد الضغط حوله يتطاير عنه شرر سرعان ما يتلاشى ويخبو ، وقد تنز من جبينه قطرات؛ يحسبها البعض ماء؛ ويراها البعض عبرات ، تلمس و قرأ في فترة تشكله شيئا من طبائع الأشياء؛ مغتنما اختلاف نظرات الخلق إليه ، واقتناع البعض بعدم صلاحيته للبناء أو الترميم ، وولع البعض بسحر الطفولة، وحماه مظهره من ضعفه ، و في مقابل ذلك تحمل حز المدي والألسنة على مختلف المواضع الملساء الظاهرة من جسمه ، وتحمل قذارة المتيممين في الكتاب عندما حمل إليه بعد أن أصاب وباء مواشي ملاك الأرض، وتعلقت آمال السادة وأحلامهم بهامات السنابل المشرئبة التي راحت تعمُر
    و تتذهب كي تسجد تسبيحا لربها قبل أن يفتك بأعناقها وتكون نعمة للأشرار... و للأخيار، ولأنه لم يعد يصلح لشيء بعد هلاك البهائم جيء به إلى المقام ليخدم نازليه... مطيعا ،صامتا، منصتا ، كان يمتص ما استعصى على الفناء من رحيق العقول حتى مهر في تهجية النصوص ، ثم أدمن قراءة قصاصات الجرائد المرمية التي تلف فيها حجات الناس وأشجانهم الميتة ، ثم الرسائل ، ثم الكتب ،ثم تظاهر بأنه أدمن العطالة أقرب الصفات إليه ، وأنسبها لوضاعة أصله، وكانت القراءة تفتك بجزء كبير من وقته فتزيده فقرا ، ولكنه كان يجد لذة تجعل الماء بجوفه يضطرب ،وتنسيه التفكير بوضع أحسن، وتعزيه .
    عد في قريته شيئا بسيطا،طيب القلب –زائدا- وقد يبدو غض العاطفة حينما يهزه أمر ما هزا عنيفا ، فيه ملامح عزة تنام دائما في الزوايا الخلفية من وجدانه،وحين تستثار ، تشتم منه رائحة الاحتقار للعار تتوثب لتعلن للناس؛ أن الضعف
    و الفقر والحاجة لا يمكنها أبدا أن تزيح العزة من وجدان العزيز. غير أن الطاهر كان - وبسرعة الشرر- يقمع هذا الشعور غالبا ، ينتفش، ويتخذ وضع الهجوم على المسيء متوعدا بطحنه و سحقه كما تعود سحق الصراصير التي تفسد راحته ؛ وحين يدرك أن الأمر قد يتحول إلى شجار حقيقي ،يثبت في مكانه متخذا هيئة عنترة ضئيل الجسم ؛ مع يقينه أن مثله لا تعبأ به الطغاة ، ولا تأتم به الهداة ، فإذا أقدم العدو نحوه غير هياب ، علت وجهه ابتسامة فيها كثير من الضعف والأسى واكتفى بالسب والشتم بينه وبين ذاته.
    كان ذاك في مرحلة التشكل والتكوين...
    و اضطجع الطاهر على ظهره متخذا راحتيه المشبوكتين وسادا لقفاه ، وراح متأملا يحملق في الفراغ ، يمحص ما مضى من حياته، التي بدأ يكرهها، رغم أنه ما أحب فيها شيئا سوى قراءة الكتب ومداعبة الأمل في فجر جديد ، تبين له الآن أنه لن يأتي أبدا.
    - الغريب أنني منذ أن بدأت في تمييز ذاتي عن بقية الذوات وأنا أشعر أنني سأعيش إلى الأبد ، وستكون قوتي وسعادتي كل يوم أفضل من سابقه ، ومع ذلك فلا أنكر أنني كنت أحزن للموتى في زاوية ما من وجداني ، وأنتشي سرورا لذلك في زوايا أخرى ،لأن موتهم وبقائي كان يعزز لدي الإحساس الغريب بأني عصي على التلاشي: عمقي حياة وماء ،وجسمي صلابة ونقاء ، وديدن الحياة عندما تتنادى أسبابها زيادة ونماء، وطيبتي وطهري لي وقاء ، فمن أين تتسرب صوبي عوامل الفناء؟.
    أمامي ما يكفي من الوقت الذي سوف يرغم هؤلاء الهمل على الاعتراف بتميزي ، برفعة أخلاقي ، بفضائلي الجمة ، لابد أن تعترف الشياطين يوما بطهر الملائكة ، ودرجات المقام ، كيف يعبرون عن اعترافهم ؟! ذاك شأنهم ، وعندئذ يبزغ نجمي ، ويمد الفجر جلاله على هذا الوادي ، وتنحني الرقاب هيبة وحبا ، لا إرهابا ولا خوفا أو رعبا، وأتملك فيه بقعة يحرم على الآخرين دخولها لأن حدودها مسيجة بالنور، حرمة لي ولذريتي من بعدي ، تمنحني فرصة النوم لفترات أطول كما يفعل السادة وأولي الأمر .
    وكأن أمي وأبي ، الكائنين الغريبين اللذين لا يملكان شيئا لا في الأرض ولا في السماء ،و اللذين لا حق لهما في أن يسخطا على أي شيء سواي ، كانا يراقبان تزاحم هذه الأحلام في جمجمتي الصغيرة ، يغاران لنجاحي الباهر، فيثبتان وجودهما ويعبران عنه من خلال ضربي الذي أصبح لا يجدي ، وقد أقرا بعد ذلك - وعلى مسمع مني - بأنهما يضربان حجرا ، فأتعزى ... الفجر لابد أن يأتي، حبل متين يجدر بالمرء أن يتمسك به.
    وأقر الآن لنفسي الأمارة بالسوء، أن ذلك كان خطئا فادحا ، أنامني على فراش وثير من عسل مغشوش وأوهمني بأن الحياة شيء ساحر يستحق أن يعاش بغض النظر عن أصلك ومقامه ، وأن تمسكك بحبل الرجاء ..خير، زوجة ، فولد، ثم بنت ثم ولد، و كثر السائلون عني في البيت ،وبالأخص أثناء غيابي، كانت زوجتي حريصة على أن تقدم لي قائمة بأسمائهم ، مع بعض الملاحظات التي كنت أفهم مغزاها، وألوذ بالصمت لثقتي الكبيرة فيها، ولأنني كنت في أغلب المرات أرقب البيت من بعيد، وأراها تتحمل، وضاعة أقوالهم وحركاتهم ، وتردهم بلباقتها وأدبها وقوة شخصيتها .
    تزوج كبير أولادي، وجرته زوجته للاستقلال ببيت لها من طين وقش، لا يبعدها عنا ولا يدنيها. تتكئ قبالة تلفاز يعلم الفاحشة مجانا وبإتقان، و تطلق العنان لمذياع ينبح في كيس جلدي ، ،يعلن وحدتها بعد أن أرسلت الزوج الولهان ، يطارد لقمة العيش في المدينة ، وظهرت الضباع تتمطى بروائحها النتنة .
    وتيقنت - مع الأيام- بأن الله قد أوجدني في بقعة يرتع فيها الشر خالصة له ، وأن صخرا صلدا لا قبل له بتحمل عهر خلق مثل هؤلاء دون أن يتصدع .
    ...و ماذا عن عالم الكتب السحري، والمدارس، والحفظ والتحفيظ والحشو ، والملائكة ، والفجر؟ .
    - وهل تنفع فلاحة السبخة ؟! بياض الأصول ، وامتداد حقولها الملعونة ، غابات وأحراش ومستنقعات آسنة مكتظة بنباتات سامة وحشرات ، خضرة مغرية مؤذية ، طقوس الصلوات وتوالي الحجات ، يا وي، يا ويح من حاذاها أو ولاها.. مزارع الشياطين لا تدخلها الملائكة ، ومزارع الملائكة لا تمر بمحاذاتها الشياطين. هذا ما كان يكتب بخيوط النور ، ولا يراه غيرك.
    وتجمد عقله ، جوفه . فكرة واحدة لا يحيد عنها ،ولا تشعر حواسه بغيرها. لا بد أن يغادر ، الحبل في جميع الحالات منقذ.
    جبن،كفر ، هزيمة ؛ فهل آنت متأكد أنك تنوي أن تغادر؟
    - نعم.لأن هناك ، شرطة ، ودرك ، ومحاكم ، هناك القانون ، والعلاقة بين الأخلاق والقانون كالعلاقة بيني وبين الضباع ، والمكان لا يتسع ، المعركة خاسرة مسبقا،
    - إلى أين؟
    - لا أدري؟
    -.... وواصلت رجلاه نقر الأرض في تثاقل ودون هدف ومضى يدندن بأسى قاس وساخر، ثم انهمرت الدموع من الصخر في صمت على خدين متغضنتين شق الدهر في طياتهما أخاديد.
    عاد بدون قصد مع غروب الشمس إلى بيته، كآلاف المرات ، نظر حوله نظرة تائهة ،ودارت بذهنه أسئلة لا تنتهي ؛ ماذا تعني كلمة بيت ؟، وما الفرق بين البيت والجحر ؟، بين الجحر والإسطبل ؟، بين الإسطبل والقبو ؟؛ بين الإنسان والوحش؟، ثم لماذا هذه الأسماء والتصنيفات؟.
    الجار الجور والجوار، ومذياع ينبح في كيس جلدي في اللابيت ؟. وابتسم.
    يجلس ويستعيد البداية لعله .... ما الذي يمكن أن أفعله معها ؟ : أكسر مذياعها اللعين ، تلفازها ؟ ثم ...؟ شبقة لا ترتوي ، تترك آثارا تدل على وجودها ورغبتها ،واستعدادها،معلقة على أظلاف التين الهندي أو مرمية بين جذوعه ، وتأتي إشارات الإثم بطرق خفية لا يمكن ملاحقتها ، تبذل الجهد في أي عمل تباشره ،وأحيانا بقوة وتصميم الرجال وعنادهم ، علاقتها بهذا الابن الرخو كعلاقة الضبعة مع ضبعها مسيطرة تغضب فينكمش وينزوي في أقرب جحر إليه .
    - أغرس خنجري في ظهر من وجدته معها ثم أذبحها تحته؟ ،ممكن ، لكن هناك ... شرطة ، ودرك ، ومحاكم ، هناك القانون السجن ، الأطفال؟... أتركها لأبنائها ؟ ! ؟
    - هل تحب أن تخلد ؟ كان يخيل إليك أنك لن تموت ، مأساة لو يصح ما تخيلته .
    وفي اليوم الموالي وجدت جثته ترقص في منعطف النهر على إيقاع الريح.



    الضيف حمراوي 03/02/2010


    .
    التعديل الأخير تم بواسطة الضيف حمراوي; الساعة 05-02-2010, 06:39.
  • مجدي السماك
    أديب وقاص
    • 23-10-2007
    • 600

    #2
    تحياتي

    اخي الضيف حمراوي..تحياتي
    عمل جميل..الى الامام.
    مودتي
    عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

    تعليق

    • عائده محمد نادر
      عضو الملتقى
      • 18-10-2008
      • 12843

      #3
      الزميل القدير
      الضيف حمراوي
      هل لم أكن مركزة جيدا ..أم أن هناك شيئا ما شتت تركيزي؟
      لم أفهم جيدا كيف كان السرد في البداية عن الطاهر ثم أصبح حوارا ذاتيا ..ثم عاد مجددا!!
      أعتذر منك سأعود لقراءتها غدا لأني الظاهر اليوم لست على مايرام فلم تتبين لي علاقة الربط والتواصل وكأن هناك قطع ما.
      أعرف مدى قدرتك وقد قرأت لك سابقا بل أني رشحت لك نصا للذهبية فمعذرة منك
      تحياتي ومودتي
      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

      تعليق

      يعمل...
      X