مقارنة لمقاربات السرد الروائي والسيري
ملخص: قصد هذا البحث دراسة شخصية فتاة أمريكية, نقشت اسمها علي جدارية الذاكرة الفلسطينية, إنها راشيل كوري, وذلك من خلال مقاربة السرد الروائي والسيري في رواية هارون هاشم رشيد: "راشيل كوري حمامة أولمبيا"؛ حيث شكلت هذه الشخصية بنية السرد التأسيسية، بجميع تداخلاتها, وخصائصها, وجمالياتها.
ولعل بنية السرد الدلالية، كانت متكأ لهذه المقاربة، وأساساً لمنهجيتها المقارنية، التي اعتمدت على تناول أبعادها الإنتاجية، وهي على النحو الآتي:
1-الذاكرة الفنية وحضور الغائب.
2-اسمي راشيل كوري.
3-القرار "راشيل" – هارون.
4-جدلية الحضور والغياب للخطاب الأمريكي.
5-حمالة السرد.
6-القص والقصيدة.
7-جدل الوعي وفلسطين.
8-الرسائل بوصفها منشور السرد ومنتجته.
9-سؤال الذات وشعرية الإجابة في الرسائل.
10-رهانات السرد وجمالية البنية النصية.
11-الكف والمخرز.
12- قاصمة السرد ومستويات السرد البنائية.
وأحسب أن هذا البحث هو الأول الذي تناول بالدرس والتحليل هذه الرواية وهذه الشخصية في آن.
(لله الأمر من قبل ومن بعد) (الروم (4):
الذاكرة الفنية وحضور الغائب:
الذاكرة الفلسطينية، المقاومة، والسياسية، والفنية، لا يمكن أن تنسى أو تتناسى تلك الفتاة الأمريكية، التي قضت نحبها على أرض فلسطين في مدينة رفح، انتصاراً للحق، ووقوفاً مع المظلومين من أبناء شعبنا، فهي حاضرة غائبة، لها نصيب في جدارية ذاكرتنا الفنية، التي ليس من طبيعتها أن تنسى الأوفياء. وبالمعنى الملحمي السردي، تلتحم هذه الذاكرة السياسية برديفتها الفنية الحاضرة، وبتراكب مبدع للأجناس: الرواية بالسيرة، والسيرة بالشعر، يتشكل النسيج الفني الخاص للنص الروائي لرواية( راشيل كوري حمامة أولمبيا) لهارون هاشم رشيد.
ومتأمل هذه الرواية يجدها قد قامت على خلفيات ثقافية، وسياسية، وإنسانية، وسيرة فرضت نمطاً جديداً من الكتابة السردية، تتعدى الالتزام بالتقانات الروائية الحديثة، التي تعتمد على قواعد وأصول بعينها، إذ تكثف في هذه الرواية- وضمن إطارها الدلالي، وتشكلها البنيوي- ارتكازها على عنصر المفارقة، الذي شغل حيزاً كبيراً من مساحة المتن الروائي. فالآخر الأمريكي، الذي شكل جرحاً غائراً، وهاجساً قلقاً في الذاكرة الفلسطينية، أصبح العنصر الأبرز، والأحرص على تأكيد وتأصيل الذات الفلسطينية، والأكثر حماية لثوابتها الوطنية، وحقوقها الإنسانية، بل أصبح عنصر مجابهة ووقاية من حالات النكوص، فكان تحولاً إيجابياً، بعد أن اقترن سرد هذا الآخر مع الذات العربية بإخفاقات تاريخية وسياسية مريرة وأليمة، جعلت من اختلافه إبداعاً فردياً، يستحق أن يسجل رؤية فنية واعية وواعدة، تتجاوز حالة الاستعلاء الحضاري والتفوق العلمي الذي يمارسه الغرب، فكان هذا الآخر، الذي جسدته شخصية راشيل كوري أنموذجاً إنسانياً يعي رسالته الأخلاقية، فكان دورها ورسائلها وحياتها، التي أصبحت أشبه بمرافعة احتجاج ضد الصلف والتجبر الحضاري الغربي، بشكل عام، والإسرائيلي الصهيوني، بشكل خاص، مما حتم على القاص أن يثبت هذا الوعي، ويجعله في محرق التركيز السردي لروايته، وكأنه إيذان بميلاد قناعات سياسية غربية جديدة، قادرة على خلق حال استقطاب إنساني لنصرة القضية الفلسطينية، تسعى بقيمها الفكرية والجمالية نحو مغايرة الواقع السياسي الرسمي، وكسر أطره التقليدية الجامدة والعقيمة. هذا الدور للآخر، وضمن سياقه التشكيلي الفني، والسيري الواقعي، وعلاوة عن كونه اختراق للمحرمات العنصرية لمؤسسته الرسمية، هو كاشف فاضح _أيضاً_ لممارساتها، صادم لمشروعها المهيمن، بكل أبعاده: الثقافية والسياسية، والحضارية .... إلخ.
وأياً كانت التأويلات الدلالية الناجزة لهذا الآخر؛ فإن دوره تجاوز مغالطات الخطاب السياسي الصهيوني، وأصبح يتمتع بقدرة فائقة على بلورة حساسية جديدة، لا تقتصر على إبداء حسن النوايا النظرية، أو الخطابات الإنشائية اللفظية، المنطوقة أو المكتوبة، الناتجة عن شعور الذات بالشفقة أو الحزن، إذا افترضنا خطابا إنسانياً متضامناً، هو موقف افتراضي لا يقوم على أسس ومبادئ وحقائق، إنما هو إعلان فاعل، ومنطلق صميم، وإرادة صلبة، وتمرد حقيقي على سلطة القوة الصادمة للحق، بلغ أوجه في النهاية التكوينية الوحشية المعلنة لهذه المبادئ، فكانت مزلزلة، ترددت أصداؤها في جميع المحافل: السياسية، والثقافية، والفنية، وكما يقول د. طه وادي: " إن بطل الرواية السياسية بطل ( إشكالي ) يتحرك– فنياً– في إطار قضية أيديولوجية، قد يقدر على حلها، أو يخفق، أي أنه قد يستطيع أن يناضل عن عقيدته، أو يسقط صريعاً دونها."[1]
اسمي راشيل كوري : ومن الحب ما قتل
إذا كانت كل رواية حكاية، " فإن الحكاية لا تكتسب طابعها الحقيقي إلا بروائيتها، أي بالفن فيها، فالحقيقي بنسيجه الروائي أثر لمرجع تحيل عليه الرواية وترتقي به، في الوقت نفسه، إلى ما هو أبعد من هذا المرجع، إلى ما هو إنساني عام"[2] ولما كانت حكاية راشيل كوري محورية في هذه الرواية؛ فإن هذا الأمر يفسر احتفالية القاص بسيرتها ورسائلها، واهتمامه الشديد بأدق التفاصيل فيها، كما يتضح ذلك منذ اللحظة الأولي للسرد، بدءاً من لوحة غلاف الرواية وعنوانها. فالغلاف عبارة عن صورة فوتوغرافية"لراشيل"، وهي تتوشح الحزن، وكأنه إرهاص بنهاية مأساوية لحياتها، التي انطفأت، فتبددت أحلامها، وتلاشت أوهامها، وهي في زهرة عمرها. وكأن القاص أراد أن يمارس طقوساً درامية، بالأدوات والإجراءات الفنية المختلفة، بما يكفل له بيان شدة المضاعفات الدلالية الضاغطة للألم والحزن والقهر الذي يشعر به.
ويأتي اسم الرواية:"راشيل كوري حمامة أولمبيا"، ليمارس فعل المفارقة دون تلكؤ، مكتوباً بخط ذهبي عريض، وكأنه أراد أن ينتزع منا إقراراً واستحقاقاً وتقديراً ذهبياً لصاحبة هذا الاسم، الذي استحق أن يكتب بالذهب، فجاء ألقاً تشكيلياً، ومتكأ دلالياً ليستكمل أبنية المفارقة؛ لأن صاحبة هذا الاسم أمريكية، "ولدت بتاريخ 10 أبريل 1979م في أولمبيا بواشنطن"[3]، فارقت موطنها، وأهلها؛ "لتحمل معها مهمتها الإنسانية بعد أن قرأت طويلاً، واقتنعت بعدالة ما هي مقدمة عليه، من نصرة لشعب مقهور، ومغلوب على أمره، يواجه وحيداً دولة إرهابية، تتحدى الدنيا، بارتكابها يومياً وكل ساعة أبشع الجرائم الإنسانية. "راشيل" الصبية الوردة، الربيع الثالث والعشرون، ذات الجدائل الذهب، والعيون الساحرة، التي لا أحلى ولا أجمل، الجامعية الموشكة على إنهاء دراستها الجامعية، وهي في سنتها الأخيرة. إنها "راشيل" الغالية التي نبتت، وتربت في أحضان أسرة ناعمة هانئة، كبرت ونمت على تشربها للمبادئ والأخلاق، والتعاليم الإنسانية .. كبرت وهي تستلهم من والديها، الأخلاقيات التي حملتها."[4]
هذه البنية الاجتماعية والأخلاقية المستقرة والعميقة التي اتسمت بها شخصية "راشيل"، لا تحمل في ثناياها تأويلات تحنث بالدلالة الإيجابية للآخر، فهي شخصية ليست كأية شخصية نعرفها لدى الآخر، الذي شكل نفوراً سياسياً تاريخياً، وشرخاً قيمياً وحضارياً، امتد في عناصر التكوين الثقافي للأمة العربية والإسلامية، على حد سواء، حتى أصبحت قراءته على غير هذا النحو، مغايرة لا يسهل التسليم بمنطقها، ما لم تكن مفارقة تمتلك من عناصر القوة والجمال ما يجعلها قادرة على استبعاد مرجفات النفور، وإقصاء فكرة الافتراض القائم بضرورة التسليم السلبي بعداوة الآخر الأمريكي، لهذا كانت حياة "راشيل" مفارقة، وشاهد إثبات يشغف بمغايرة قواعد فهم الآخر، وحتم علينا قراءته من جديد، بنضج ووعي يتجاوز الفهم السائد للمفاهيم السلبية إزاء الغرب.
حين كتبت راشيل كوري مذكراتها معرفة نفسها بقولها: "أنا اسمي راشيل كوري"[5]، لم تكن تتصور أن هذا التعريف سيشكل محوراً دلالياً مهيمناً ومختزلاً لسيرتها، وناهضاً فنياً، ليصبح الأقدر على التعريف بها، حين يُراد لسيرتها الواقعية أن تلتحم باتساق مبدع مع التجربة الفنية؛ وذلك لما يحمله من خواص إنتاجية وترجيعية، قادرة على تحفيز المتلقي لفك شيفرة دلالة هذا الاسم. وقد كان المخرج البريطاني المشهور "Alan Rickman آلن ريكمان" واعياً لهذا التعريف، فعمل على استثماره بصيغته، كما أرادته "راشيل"، فكتب مسرحيته:" أنا اسمي راشيل كوري My Name Is Rachel Corrie " معتمداً على ما نشرته "راشيل"، وبريدها الالكتروني، وسيرتها، "تستثمر السيرة الذكريات والاعترافات، وتتوسل سرود اليوميات والمذكرات والرسائل."[6]
ولما كانت هذه المسرحية تثوي أبعاداً سياسية، وإنسانية، ودرامية تسجيلية، اخترقت بتساؤلاتها أقصى نداءات الغرب الحضارية، تساؤلات أخضعت بمنطقها المخرج "آلن ريكمان"، الذي قال: "أردنا أن نعرف ما الذي دفع فتاة في عمرها لتتحدى نمط الحياة الاستهلاكية المحيط بها وبمثيلاتها في حياتها الهانئة في أميركا. ما الذي قادها لأن تتسيس وتبحث عن مناصرة العدل ... وطارت راشيل كوري إلى رفح لتعانق أطفالها بعد أن تعرفت على حظر التجول ونقاط التفتيش والدبابات. هناك طالت قامتها: قديسة تمارس تمردها وغضبها الإنساني الفوار في وجه دبابات التوحش وبلدوزرات الموت. تزرع جسدها اليافع في أرض رفح ما بين البيت المهدد بالتدمير و"البلدوزر" الذي يجرف الحياة ويرص الموت على أنقاض البيوت. اللحم الطري يحاول إيقاف "البلدوزر" المتقدم، وصوت "راشيل" في مكبر الصوت يصرخ توقف.. توقف.. توقف. عيون المجرم القابض على مقود "البلدوزر" تخترق عيون "راشيل"، هذا الملاك القادم من عمق جوهرنا ليعلن أنه لا تكافؤ بين لحم الأطفال وفولاذ الدبابات"[7]
بسبب هذه التساؤلات، التي تكثفت فنياً، والتي أصبحت على درجة عالية من إنتاج الفاعلية الجمالية الواعية، المسكونة بالشحن الدلالي، الذي يسعى إلى أن يعيد للعقل الغربي منطقه وإنسانيته، منع الاستمرار في عرض هذه المسرحية. تقول الممثلة البريطانية "فينارد غرايف":"إنه أمر معيب أن توضع فتاة ميتة ومذكراتها على اللائحة السوداء ... إنه فكر همجي يعد لقتل الأحياء والأموات ... فأين هي الحقوق الكونية لكل المقهورين والمضطهدين التي يريد هؤلاء الكتاب تأمينها"[8] ومن يستعرض أسباب المنع، سيجدها مترعة بالعنصرية، التي تتجاوز حد الاختلاف في الرأي أو اللغة أو الوطن.
القرار : "راشيل" – هارون
"راشيل"..
من بعيد أقبلت ..
تعبر المحيط،
من بلاد "العم سام"..
كأنها مريم ..
من جديد أقبلت ،
لبيت لحم ..
تقرع الأجراس ..
تقرأ .. السلام ..
أتت إلى أرض المسيح ..
في يمينها غصن زيتون ..
وفي شمالها حمام ..
تهتف للسلام ..
تصرخ للسلام ..
تموت للسلام .. [9]
هذه الإحالة الشعرية، وهي مجتزأة من قصيدة رثى فيها القاص"راشيل"، لم أقصد من إيرادها تحليلاً نقدياً، أو تزيداً لفظياً لا طائل منه، ولكنها إحالة لها قيمتها الدلالية في بيان تلك العلاقة الحميمة التي نشأت بين "راشيل" وهارون بعد موتها، وإن كانت الرواية محور الحمولة الفنية التي قصد هارون أن تجسد هذه العلاقة، بالاشتراك مع الرسائل والشعر، بوصفها مختزنات للسرد ومتممة له، ولن أحاول في هذا الموضع أن أدافع عن هذا الرأي، أو أبينه، لأن تداخل الأجناس وتواشج شعريتها السردية أصبحت من أكثر التقانات الفنية حيوية وجمالاً، بل إنها تمنح السرد تصلباً درامياً له امتداداته وتصوراته التي تجعل من آلية تحطيم الأجناس ميزة إبداعية لا يقوى عليها إلا من تمثل التجربة الفنية تمثلاً حقيقياً .
ومن الواضح أن مواجهة القاص لمفتتح السرد، لم يشكل إشكالية أو عقبة فنية، إذ لم تبخل وقائع سيرة "راشيل" عليه في تمثل وقائعها، وإسناده بعناصر المفارقة التي تتوافق مع رغبته في بناء سمات دالة، ترتبط بشبكة دلالية متعددة الأهداف، منها ما يظفر في تصوير مستقرات المجتمع الأمريكي، والتي يزهو بها، ومع ذلك لم تنجح رهاناته في تحقيق المتطلبات المنطقية والإنسانية للنفس البشرية السوية، ومنها ما يحاول استثمار الالتفات الدلالي للنمط التفكيري المغاير للفتاة الأمريكية المراهقة "راشيل"، التي كان من المنتظر أن تحقق أحلامها المراهقة، في مجتمع لا تمنعه عاداته وتقاليده من ممارسة شهواته، بالطريقة التي يراها. ومنها ما حاول أن يمنح السرد ألقاً غنياً، من خلال الجمع بين شعرية القص والقصيد.
كما تطرح الرواية رهانات التوتر الحضاري، كجزء من ثقافة المجتمع الغربي، التي تفترض ضمنياً قطيعة عنصرية، لا تحتمل التأويل، وإن بدت لنا متواصلة في ظاهر خطابها الاستهلاكي، بجميع مفرداته: السياسية، والمجتمعية، والعلمية، فهي غير متآلفة معنا؛ لذلك كان لمفتتح السرد نكهته الخاصة به: "تلك الليلة، في ذلك البيت الجميل، في شارع "أولميمفيه" بمدينة "أولمبيا Olympia كانت الجلسة الحميمة لراشيل مع والديها كريج وسندي.
جلست "راشيل"إلى والديها لتبرر لهما الخطوة التي قررتها باقتناع تام، .... وقد علماها منذ الصغر، أن تفعل ما تجده مقنعاً لها، ومتمشياً مع رضا ضميرها.
قرار صعب، بالنسبة للوالدين من "أولمبيا" ذلك المكان النائي، في الطرف الآخر للولايات المتحدة الأمريكية على شاطئ المحيط الهادي ... حيث فتاة صبية في ربيع عمرها، الثالث والعشرين، في السنة النهائية لدراستها الجامعية، قدمها على عتبة المستقبل، لبناء حياتها، وتنفيذ طموحاتها وهي الغالية، والعزيزة على الوالدين المحبين، اللذين يتمتعان بقدر كبير من الإنسانية، والفضائل، هما اللذان علماها كيف تكون الحياة الفاضلة ..
قرار رهيب ..
وتوجه خطير ..
وطريق غامض ..
ومستقبل مجهول ..
هذه صورة ما اتخذته"راشيل" من قرار، عندما أعلنت أنها قد انضمت إلى "فريق التضامن الدولي"، العامل في فلسطين، لحماية الشعب الفلسطيني من إرهاب الدولة الذي تمارسه السلطات الإسرائيلية ضده .."[10]
سردياً، يشكل هذا الاجتزاء صدارة المفارقة التي تقوم عليها الرواية، حيث عمد القاص على التركيز على الواقع الاجتماعي ومنظوره، وكثف من حضوره، بوصفه الحاضن الأساسي"لراشيل". وبقراءة بسيطة لدلالات هذا الحاضن، يتبين ما يلي:
1-تثبيت واستحضار فاعلية المكان والمنشأ الغربي– بيت جميل في مدينة أولمبيا بالولايات المتحدة الأمريكية– واستقراره، هي فاعلية لها دلالتها الإيحائية التي تنبئ بأن "راشيل" لم تكن ضائقة ذرعاً بحياتها، أو أنها تعاني من أزمات اقتصادية،أو اجتماعية، أو نفسية، دفعتها إلى المضي قدماً في قرارها المصيري.
2-التركيز على رسوخية العلاقة الوجدانية بين "راشيل" ووالديها، لتمارس هذه العلاقة، بفضائها السيري، ومن خلال الرسائل المتبادلة بينهما، بتصوراتها التخييلية في الرواية والمسرحية.
3-الإخبار بمستواها العلمي، هي محاولة واعية، قصد منها تجريد قرارها، بالانضمام إلى فريق التضامن الدولي، من العبثية اللامسؤولة، أو الحماقة اللامعقولة.
بهذا الوعي، وبهذه الدلالات، " قالت "راشيل"، والحنان يشع من عينيها، ونبرات صوتها: يأمي، ويأبي، أنا أدري أنني اتخذت قراراً يوجع القلب، وخاصة قلب الأب والأم للمخاطر التي تنتظرني، وأن هذه الخطوة، ربما كانت غير ما خططتما لي، وفق معطيات حياتي، وأنا على وشك إنهاء دراستي الجامعية، ولكنني مقتنعة، كل الاقتناع، بعدالة القضية التي أتوجه للنضال عنها، ورغم المخاوف التي تساوركما أدري بأنكما ستساعداني، على مواصلة ما هدفت وانتويت أن أفعل."[11]
هذا القرار الذي شكل ملمحاً رئيسياً لحياة "راشيل"، استثمره القاص استثماراً فنياً عالياً، بوصفه نشاطاً إنسانياً خلاقاً، له قيمته العظيمة في حياة الشعوب، المختلفة في عاداتها، وتقاليدها، ولغاتها، ودينها، ولم يكن سرداً جمالياً تقليدياً، يقوم على تتابع الأحداث، وما ينتج عنها من تفاصيل، وتلافيف صياغية، تشتبك مع سياقاتها المتضادة، التي ترهق المتلقي، وتجعله مشغولاً في المشاكل والاختلاف، دون أن تمنحه أفقاً دلالياً حقيقياً.
جدلية الحضور والغياب للخطاب السياسي الأمريكي:
العلاقة التشابكية الجدلية والتوافقية، التي تحضر حينا وتغيب حيناً آخر، بين الخطاب السياسي الأمريكي وممارسة الفعل الصهيوني، فضحها السرد، وكثف من حضورها، حتى أصبحت حقيقة صلبة لا تحتاج لبرهان، خاصة للمواطن الأمريكي، الذي يجهل حقيقة دور بلده فيما يحدث في الساحة العربية. ومع ذلك حاول السرد أن يبين فرادة موقف "راشيل" من هذه العلاقة الآثمة: "إنني أشعر بعقدة الذنب لأن حكومة بلدي أمريكا تقف مع الظالم ضد المظلوم وتناصر إرهاب الدولة، الذي تمارسه إسرائيل على شعب أعزل يقع تحت الاحتلال، تقتل المدنيين العزل، وتقتل الأطفال والنساء بدون رحمة، ومع ذلك تقف حكومة بلدي مناصرة وداعمة لها ..
قال الوالد :
عزيزتي "راشيل"، أنا أشعر بما تشعرين، وأدري أن كثيرين من الأمريكيين يشعرون بما تشعرين، وأن دافع الضرائب الأمريكي، يؤذيه، ويؤلمه، أنه بتقديم الضرائب للدولة، يدعم الترسانة الإسرائيلية، الإرهابية ويساعدها على ارتكاب جرائمها ضد الإنسانية. بش وجه "راشيل" وقالت:
لذا أعتقد أن ما سأقوم به، هو أقل ما يمكن أن يقدم تكفيراً عن هذه الذنوب"[12] هم يخافونها ويحسبون لها ألف حساب .. لأنها أمريكية، وهم يخافون أمريكا ... وتتساءل مريم: أمريكية لماذا لا تقول"لبوش" أن يأمر الإسرائيليين بالخروج من بلادنا وأن لا يقتلوا الأطفال وأن لا يهدموا البيوت، وأن لا يقتلعوا الأشجار"[13]
" كيف سخرت أمريكا الفيتو لخدمة إسرائيل ... فكلما أجمعت دول العالم على إدانة إسرائيل وحاولت أن تأخذ قراراً بذلك تصدت لها أمريكا بالفيتو وأحبطت قرارها. كانت قضية فلسطين، ومأساة الشعب الفلسطيني، وموقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل، محور الحديث المستمر بين "راشيل" وستيفان."[14]
" لماذا كل هذا ؟ وأغرب من ذلك، أن يقول الرئيس الأمريكي "بوش" إن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، كيف ؟ وأين ؟ ... جيش إسرائيل هو الذي يقتلع الأشجار، ويهدم البيوت، ويغتال الأبرياء، وتأتي أمريكا، لتستعمل حق "الفيتو" عندما يقرر المجتمع الدولي، بعد أن تكون لديه كافة الأدلة، على إجرامها ... إصدار قرار إدانة لإسرائيل تقف أمريكا وتستعمل حق الفيتو لتكرس الإجرام وتحمي المجرمين.
وتهز "راشيل" رأسها قائلة :
إنني جئت من بعيد إلى هنا بعد أن قرأت، وتابعت، وتأكدت من أن حكومة بلدي ترتكب إثماً بدعمها لإسرائيل.
جئت في محاولة صغيرة للتكفير عما يرتكب باسم أمريكا، فشعب أمريكا بريء مما يفعله بوش وحكومته."[15]
وتأسيساً على هذه المجتزآت وغيرها، المنتشرة في الرواية، يمكن القول: إن انتشارها هو انتشار دلالي مبدع، يطل من علٍ، حتى لا يتوهم المتلقي أن مآل السرد وموئله وتأويله، يقتصر على صانع الحدث وحامل وزره الصهيوني فحسب، ويبرئ من سواه، بل إن الخطاب الأمريكي تساوي سردياً مع الفعل الصهيوني، ويتجلى ذلك من خلال الربط المتساوي بين شخصيتين سياسيتين، كما ورد في إحدى رسائلها:" أجيب عن أسئلتهم، باستخدامي القليل مما أعرفه من اللغة العربية قائلة: "بوش" مجنون و"شارون" مجنون ... "بوش" رجل أعمال... "بوش" ليس إلا أداة "[16]
حمالة السرد:
بنسق مرهف، وبموسيقى حزينة، بدأ السرد يعزف ألحان رحلته الدرامية، رحلة ذات أحمال خاصة، ومذاق خاص، ليست كغيرها، فهي لا تقصد التعاقب الزمني، ولا تعتد به، ولكنها أشبه بالوجد الصوفي، حين ينشد نشوته الروحية، بطقوس يتخلى فيها عن منطق الأشياء وماديتها، لا يتيح دعة للإخلاد أو الركون إلى سريالية لا تحق حقاً ولا تقيم عدلاً. فدنت الرحلة وتدلت دلائلها:" أخيراً أضاءت إشارة ربط الأحزمة، والامتناع عن التدخين، وأعلن عن اقتراب هبوط الطائرة ... هاهي الرحلة الطويلة، على وشك الانتهاء عن التدخين، وأعلن عن اقتراب هبوط الطائرة ... هاهي الرحلة الطويلة، على وشك الانتهاء من مدينة "أولمبيا Olympia"، على شاطئ المحيط الهادئ، أبعد نقطة في شمال غرب الولايات المتحدة الأمريكية، إلى النصف الآخر من الكرة الأرضية، عند فلسطين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط رحلة طويلة، وشاقة، ومملة ...
تنفست "راشيل" الصعداء وهي تشد حزام الأمان على وسطها، آملة بلحظات من الراحة، بعد ساعات من العناء ...
خاب ظن "راشيل" ، فما أن نزلت إلى أرض المطار، حتى استقبلتها السلطات الإسرائيلية بالإجراءات البوليسية التعسفية، والمضايقات والاستفزازات، فور ما عرفت أنها واحدة من الناشطات الأمريكيات، المتضامنات مع الشعب الفلسطيني، فأخذت تقوم بإجراءات بوليسية غير عادية، لم يسبق ل"راشيل" أن واجهتها في أي مكان في الدنيا، فقد أوقفها السلطات الإسرائيلية طويلا في غرفة منعزلة، وأخضعتها لعملية تفتيش، قاسية قامت بها مجندة إسرائيلية صلفة .. ضخمة مقطبة الجبين، يرشح من عينيها غضب غير مبرر، قامت بتفتيش "راشيل" من رأسها إلى قدميها، بعد أن جردتها من ملابسها ...
عند معبر "إيرز" مدخل قطاع غزة من الناحية الشمالية، أخضعت "راشيل" مرة أخرى للمسائلة، والتحقيق والتدقيق في أوراقها، وتفتيشها ذاتها، ورأت بعينها الوحشية التي يعامل بها العمال الفلسطينيون عند هذا المعبر من اعتداءات، ومساءلات، في الدخول، والعودة كأنما هم على بوابة الجحيم ... انطلقت السيارة تاركة معبر "إيرز" لتدخل قطاع غزة الذي كم قرأت وسمعت عنه، وكم حزنت لما يعانيه."[17] وبدأت الرحلة في فلسطين.
بهذه البداهة الآسرة لبداية السرد، بدا متجاوزاً للتخييل ومستوياته، وافتراضاته، وإشاراته، إلى التماثل الواقعي للقائم السياسي؛ للدلالة على أن التشكيل البنيوي الحقيقي للسرد وإيقاعه، يكمن في إبراز الخصوصية الدرامية الفلسطينية، وإن غاب التكافؤ القياسي بين بنية التجربة التخييلية ومستوياتها الدلالية والتجربة الموضوعية الفلسطينية، التي تعتبر الأكثر قدرة في تصوير دراميتها، خاصة حين تنفتح على ما هو واقعي سيري، الذي يرتبط باتساق تام مع جراح وآلام الذات العربية.
بناء عليه،"يغيب الروائي المتخيل نسبياً لصالح السيرذاتي، وتدخله في توجيه الذات الساردة، وهي تستأنف رثائها الدامي لذاتها وللأشياء، في الوقت الذي تصبح فيه اللغة دون قدرتها على تمثيل التجربة وتصوير حساسيتها التي أثقلت الذات الساردة بفداحة الغياب والخسران."[18]
لم يكن القهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للإنسان الفلسطيني غائباً عن حمالة السرد "راشيل"، التي ذهلت من كثافة السكان، وفقرهم، في قطاع غزة، علاوة على كثافة وجود الحواجز الإسرائيلية التي عملت على تمزيقه إرباً إرباً:" قطاع غزة قطاع صغير، طوله لا يزيد على 45 كيلو متراً، ويتراوح عرضه بين خمسة إلى ثمانية كيلو مترات، يحتشد فيه حوالي مليون إنسان، أكثر من الثلثين فيه من اللاجئين الذين انتزعوا من مدنهم وقراهم، ومن منازلهم ، ومزارعهم ... على درجة من الفقر الشديد، والقطاع على رغم من ضيقه وصغره، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتقطيعه، وإقامة الحواجز المحصنة بالجدران الأسمنتية، والأبراج، وعشرات الدبابات المزودة بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً."[19]
"راشيل" في رفح : القص والقصيدة
" الطائر الجميل الملون ...
"راشيل" الحلوة كما البدر،
الشباب الناضر، المتدفق بالحيوية.
هاهي تصل رفح .. تقتحم العاصفة .. تتحدى الإرهاب .. "[20]
هذه الأغراس الشعرية، وتجليات كشوفها المعرفية، وسحر جمالها، وكسرها للتجنيس الكتابي، حتى أصبحنا لا نعرف إن كنا نقرأ شعراً أم قصة، جعلت من السرد كتابة حداثية: "تربأ بهويتها عن التصنيف: فلا الشعر شعر، ولا الرواية رواية ولا القصة قصة، ولكنها قبل كل شيء وفي كل الأطوار كتابة، ولا يمكن أن تكون إلا كتابة، حتى لو شاءت أن تمرق من جلدها لما مرقت، ولو أرادت أن تبرأ من نفسها لما برئت. فالرواية تعمد إلى الشعرية فتبنى بها صور لغتها. والقصيدة تعمد إلى السردية تتسرد بها أحداثها، وتقيم على غرارها حوارها ... فالكتابة لا تعادل إلا نفسها، داخل نفسها، فتعادل الصمت، والعدم والمستحيل، والتلاشي، واللا شيء .."[21]
وليس بخاف على أحد، أن توظيف مثل هذه الكتابة، العابرة للأنواع، ومثل هذه المنمنمات الشعرية، ما كانت لتصدر إلا عن نفس شاعرة، محبة لوطنها، ولكل من ينصره، فاستحقتها "راشيل"؛ لتكون لها وساماً فنياً، وإعلاناً مثبتاً برفيع مقامها، وعلو مكانتها لدى الراوي، بعد دخولها لأكثر المناطق خطورة، وتحدياً للجانب الصهيوني.
إن مدخلا شعرياً كهذا، لا يمكن اعتباره متاهة نصية سردية، لا دلالة له، ولكنه مدخل دلالي نادب، يقصد إنتاج حساسية إدراكية، متوجسة خيفة على مصير"راشيل": على أرض رفح، المدينة التي اختارتها، وهي هناك في مدينتها "أولمبيا" حلمت، بأن تنتقل من الأحضان هناك إلى أحضان مدينة رفح." [22]
هذا الاحتضان، وبغض النظر عن التفاصيل، ينبئ سردياً، بأن أحداثاً بالغة الأهمية ستحدث في رفح، وبالتالي، عمل السرد على استفزاز أقصى الطاقات التصويرية الذهنية والجمالية للمتلقي؛ ليدفعه نحو إعادة ترميم الواقع السياسي والإنساني المأزوم، الذي يرفض أن يقيم مقارنة للمعاش بين أولمبيا ورفح، وتتساءل"راشيل" بلغة استنكارية رافضة لمنطق هذا العالم المعاصر، الذي ينغلق بحضارته وإنسانية ثقافته، وذاكرته التاريخية أمام هذه المدينة "أحقاً هذه المدينة تنتمي إلى الأرض ... ؟
أتدخل عالماً له علاقة بالعصر ؟
أين هي الحضارة المزعومة التي تكذب علينا .. من الوهلة الأولى، أحست"راشيل" بمأساة المدينة المغتالة ... ورأت الفارق الكبير بينها، وبين رفح التي سمعت عنها، وقرأت ... الكارثة أكبر بكثير." [23]
هذا القص القصيد، لم يكن مشهداً درامياً غائباً عن الحياة السياسية الفلسطينية، اكتشفته نبوءة حمالة السرد الكاشفة، ولكنه إدراك متأخر، عملي، وفردي، لوعي "راشيل"، الذي عاش مرحلة طويلة تحت وطأة الزيف والتيه، والعنصرية، التي تفرق بين إنسان وآخر، ولقد جسدت "راشيل" تشكل الوعي الحقيقي، الجديد لها في رسائلها، التي كانت ترسلها لأمها: " لم يكن في مستطاع أي قدر من القراءات، أو حضور المؤتمرات، أو الاطلاع على الوثائق، أو الكلمات التي تخرج من أفواه الآخرين أن تجعلني قادرة على مواجهة حقيقة الوضع هنا، فلا يمكن لك أن تتخيلي الوضع هنا إلا إذا شاهدته بنفسك، وحتى لو أقدمت على ذلك، ستدركين دائماً أن تجربتك مع هذا الواقع بعيدة كل البعد عن الحقيقة نفسها، فماذا هي الصعوبات التي قد يواجهها الجيش الإسرائيلي، إذا قام بإطلاق النار على مواطن أمريكي أعزل، وماذا عن حقيقة أنني أمتلك من المال، ما يمكنني من شراء المياه، في الوقت الذي يسعى فيه الجيش دون هوادة، إلى تدمير آبار المياه .. أما الآن، وبعد تفكير مستدرك، فأنا أمكث حاليا في رفح .. "راشيل."[24]
من هذا الوعي الجديد الذي رصدته الرسائل، بنى السرد عناصره التخييلية الواقعية التي تجلت في صورة مونولوج: "لا تدري "راشيل" ما الذي جعلها تستحضر"روزيت" زميلتها في الكلية الليلة، تذكرتها، وتذكرت ما كان يدور بينهما من حوار، لا يتوقف، ويصل أحياناً درجة الشجار ..
"روزيت" تكره العرب، وتكره المسلمين، متأثرة بحقد دفين، لم تعرف له "راشيل" سبباً، فقد كانت من حين لآخر، تتعمد أن تثير "راشيل" وتستفزها بحديثها، المتواصل عن الشرق الأوسط المتخلف، وعن العرب الأجلاف، والحفاة، والقتلة، وبالمقابل، عن إسرائيل واحة الديمقراطية ... الحمل الوديع المحاط بذئاب تريد أن تنهشه.
تذكرت "راشيل" صاحبتها الليلة ... وكيف تردد بغباء، ما تتناقله أجهزة الإعلام الأمريكية وما يقوله الرئيس "بوش" والوزير "رامسفيلد" ومحطة ( SNN ) ، دون أن تحاول بأية طريقة أن تتحقق ما تسمع، أو أن تجد لمواقف رئيسها مبرراً، فهي دائمة الحديث عن أمريكا الإمبراطورية الأقوى، التي ترعب العالم .. "روزيت " شأنها شأن شريحة كبيرة من الأمريكيين الذين يستقون معلوماتهم من أجهزة الإعلام الموجهة، والتي في الغالب تسيطر عليها جهات صهيونية، لأنها تجيء دائماً منحازة لإسرائيل ... ليت "روزيت" تأتي إلى هنا ... تقول "راشيل" ... ليت "روزيت " تأتي إلى رفح."[25]
هذه اللغة التذكرية الرامزة، قصدت أن تجوس بشاعريتها الخطاب السياسي الأمريكي الرسمي، وديناميكيته المحسوبة لصالح الكيان الصهيوني، ورفضها له، بل إنها اجتهدت وبمشقة لخلخلة هذا الموقف الرسمي، وحرف فلسفته الإعلامية، القائمة على نزعة عنصرية. كما أنها تفترض عداء الآخرين، وتتوجس خيفة من أفعالهم وأفكارهم، ففرضت قطيعة ذهنية وقيمية مع العرب والمسلمين، مما أوجد تضاداً لافتاً في طبيعة البنية التفكيرية، والديمقراطية، والحضارية للشعب الأمريكي، الذي يطمح إلى تحقيق الحرية والعدالة والمساواة لنفسه، ويتبرأ من حق الآخرين في ممارستها والتمتع بها.
جدل الوعي وفلسطين :
إن إعلان ناصر الوعي وجدليته لدى "راشيل"، وصرخات احتجاجها، وإدانتها المعلنة لهذا الواقع المأزوم، لم يكن مجرد بنية تعبيرية جزلة منتظمة، أو إشارة لإنشاء تخييلات جمالية، تم إدراجها في صلب السرد؛ لتوسيع آفاق قراءة المتلقي، بالقدر الذي سعى فيه القاص، منذ البداية، إلى بيان مكونات هذا الوعي ومداراته، بطريقة تكفل للمتلقي ربط حيثيات البداية مع ما يتلوها من مواقف إلى النهاية: "من زمن وأنا أتابع قضية الشعب الفلسطيني، وقد شاركت في المظاهرات، والاحتجاجات، والاعتصامات، ولكني لم أجد أية جدوى لذلك، لأن أصواتنا كانت تحجب، فالإعلام عندنا منحاز كما الحكومة إلى إسرائيل ...
لهذا وجدت أن من الضروري أن أكون هناك في فلسطين: لأعلن احتجاجي، وأتضامن مع المظلومين، فكرت في ذلك طويلاً وتناقشت مع أصدقائي، إلى أن وصلت إلى القناعة ... بأن وجودي هناك هو وسيلة التعبير عما في أعماقي، من تضامن مع الشعب الفلسطيني، ولكي أكون درعاً بشرياً، لحماية العائلات المهددة.."[26]
إن ما نقرؤه في هذا المجتزأ، يمثل بداية صراع الوعي، ولوازمه الدالة عليه، "ويصلح كل عنصر في النص كمؤشر للشخصية "[27]، فالأحداث التي تلاحقت – فيما بعد – شكلت الشخصية، وضوابطها الواعية لما يدور حولها خارج سياقات السرد: "من بعيد .. جاءت "راشيل" تحمل معها مهمتها الإنسانية بعد أن قرأت طويلاً، واقتنعت بعدالة ماهي مقدمة عليه، من نصرة لشعب مقهور، ومغلوب على أمره، يواجه وحيداً، دولة إرهابية، تتحدى الدنيا، بارتكابها يومياً وكل ساعة أبشع الجرائم الإنسانية."[28]
ولعل انسباك هذه المكونات في نسيج سردي خلاق، امتلأ بأنساغ تركيبية محكمة، جعلت للصياغة التعبيرية خاصيتها الدلالية، القادرة على إحداث التفاتة درامية مشبعة برموز الواقع المأساوي. يقول "وولفجانج آيرز": "إنه النص الأدبي الذي يفعل قدراتنا الخاصة، كي يمكننا من إعادة خلق العالم الذي يقدمه. والناتج من هذا التفعيل الخلاق هو ما نستطيع أن نطلق عليه (البعد الافتراضي) Virtual dimension )) للنص، الذي يمنحه وجوده الحقيقي. وهذا البعد الافتراضي ليس النص ذاته وليس خيال القارئ كذلك، إنه اجتماع الأمرين معاً، النص والخيال."[29]
ويتجلى الميتاقص، بفاعليته الملموسة في السرد، "والميتاقص: مصطلح أسبغ على الكتابة الواعية بذاتها ، التي تجذب الانتباه– تنظيماً– نحو وضعيتها (=حالتها) ، بوصفها نتاجاً مصنعاً، كي تطرح أسئلة حول العلاقة بين القص والواقع، وهو جماع لفعاليات كسر الإيهام القصي الذي يقوم به الراوي كلي العلم– في العادة– ليقدم تصوراً حول ما يحدث كتابياً."[30]
ومن المجتزآت التي تمثل انتظام "الميتانص" دلاليا في السرد، هذا المشهد المتسائل، الذي يجسد حالة مفصلية في تيار الوعي الذي يسري في الرواية: "وما أطولها الأحاديث التي كانت تدور بين "راشيل"، وبين زملائها، حول ما يجري في فلسطين ... ونتسائل ... دائماً ... كما تتساءل الآن وهي على سريرها في غزة ... بعيداً جداً عن مدينتها الحبيبة "أولمبيا" وعن أسرتها الحبيبة. كيف يتم هذا ؟
ولماذا ..؟
سؤال يدق رأسها بمطارق لا تتوقف ... سؤال يطارد السكون، ويطرد النوم .."[31]
الرسائل بوصفها منشور السرد ومنتجته وبنيته:
تحتل الرسائل موقعاً باصراً، ومهيمناً، في بنية السرد وامتداداته الدلالية، بل إنها تشكل الأمثولة الكلية، المنتجة لإجراءاته التعبيرية، الاستراتيجية منها والمرحلية، "تقوم تقنية الرسائل Epistolary، بصورة عامة، على إفساح المجال أمام الشخصيات المضطلعة بإنتاج الأفعال والأحداث، لتتكلم بحرية كاملة، مساعدة الشخصيات على إبراز مشاعرها وعواطفها دون تدخل مباشر للراوي، وبانقطاع نسبي لمنتجي الرسائل عما آلت، وستؤول إليه، وقائع السرد، ذلك أن تعبر عن لحظات زمنية خاصة، لا يبرر وجودها، أو جمعها في حيز ما، إلا السياق السردي الجديد الذي تندرج فيه."[32]
والرسائل– من مطلع رواية "راشيل" وبدايتها– ضرب من الرؤية اليقظة، إنها نزع من التحرر الذاتي للوعي، الذي يتجاوز نعيب الآخر، وقدرته–الهائلة– على تزييف الوعي وتضليله، "فلا يهضب الوعي هنا بالأحاسيس المتضاربة غير المعللة، ولا يتدفق في تيار عارم جياش، بل يسير في خطوط مقننة ومرسومة ومنيرة "[33]
وتمارس هذه الثقافة– من الرسالة الأولى– فعلها الدلالي، وإمكاناتها التصويرية، المشحونة بأقصى درجات التعبير الدرامية، اعتماداً على الوقائع، في الأراضي الفلسطينية، التي لا يلتبس–على العاقل– فهم منطقها، وعلة تكاثرها، على نحو تسقط فيه أقنعة التأويل، وتتلاشى فيه أخيلة الحالمين بالسلام:"أصدقائي، أسرتي، بعد التحية والسلام ...
لقد مضى على قدومي إلى فلسطين أسبوعان وساعة واحدة، حتى الآن، ومازال لدى القليل من الكلمات، لوصف ما أشاهده في فلسطين، إذ يصعب علي للغاية التفكير فيما يحدث هنا، عندما أبعث برسائلي إليكم، في الولايات المتحدة، فلا أعرف إذا كان العديد من الأطفال هنا، قد عاشوا يوما ما، دون أن يشاهدوا الثقوب التي أحدثتها المدرعات الإسرائيلية، في حوائط منازلهم ... فقد قامت دبابة إسرائيلية، بإطلاق النار، على صبي يبلغ من العمر ثمانية أعوام، وأردته قتيلاً."[34]
ولعل الخاصية، الأكثر تركيباً، في جميع رسائل الرواية، بخلاف شعريتها المألوفة، ووجدانيتها الرومانسية، خاصيتها التسجيلية، التي تمارس حضوراً قوياً، سواء أكان ذلك على مستوى صياغة السرد، وجسارته اللغوية أم على مستوى تسجيل اللحظات الدرامية– الكثيرة– في حياة الشعب الفلسطيني، تسجيلاً سينمائياً، يكشف عن عمق المغامرة السياسية الذاهبة إليها "راشيل": " لقد بدأ الجيش الإسرائيلي الآن، في واقع الأمر في حفر الطريق إلى غزة، وإغلاق نقطتي التفتيش الرئيسيتين، وهذا يعني عدم قدرة الفلسطينيين على الذهاب للجامعة للتسجيل للفصل الدراسي القادم ... وأعتقد أن أكثر المخاطر المحتملة التي ستعوقني هي التعرض للاعتقال في حال توسع إطار الهجمات، إذ إن تحرك الإسرائيليين لإعادة احتلال غزة قد يؤدي إلى تصاعد حدة الغضب، مقارنة بمحاولات " شارون" الاغتيالية خلال مفاوضات السلام، وإستراتيجية نزع الأراضي بالقوة، والتي تسير على وتيرة متواصلة حتى الآن."[35]
وتبدو رسالتها الثالثة– وهي الأطول في جميع رسائلها– مسكونة بالتوجس والخوف، وكأنها إجابات مستفيضة، لأسئلة قلقة عليها، وكأنها مهاد رثائي، ترثي فيه "راشيل" نفسها، بعد أن شعرت بارتفاع في وتيرة العنف، ورؤيتها للأحلام المزعجة التي أصبحت تراودها بشكل دائم. والأحلام ليست بمجرد كلمات لغوية، ذات دلالة معجمية أو سياقية، فهي في الحيز السردي الروائي، منطقة حساسة دلالياً، لارتباطاتها النفسية والعقلية والواقعية، وما يناوشها من عناصر رامزة، خاصة إن شكلت نبوءة تحققت في نهاية الرواية: "إنني مشتاقة كثيراً إليك يأمي، لقد عانيت من الأحلام المفزعة التي أرى فيها الدبابات و"البلدوزرات" خارج منزلنا وأنا وأنت بداخله، ففي بعض الأحيان أقوم باستخدام "الأدرينالين"، كمهدئ لأسابيع، ولكن سريعاً ما يحل المساء أو الليل، وتنتابني هذه الأحلام ثانية، فهي أحلام تجسد القليل من واقع الموقف هنا، إنني حقاً أخاف على الناس هنا ... فبالأمس، كنت أراقب أحد الآباء يقود طفليه الصغيرين، ممسكاً بأيديهما بعيداً عن رؤية الدبابات"[36]
ويتوالى الرصد، والتسجيل، والتصوير، في الرسائل، لأدق التفاصيل اليومية، التي تعيشها "راشيل"، ويعيشها الشعب الفلسطيني، دون مجازات لغوية، أو إيهامات تخييلية مصطنعة، من أجل انتظام السرد وإيقاعه الدلالي، لأن"الواقع (= الرسائل) يقتحم ميدان السرد كأنه لطمة."[37]
فما تسفر عنه تفاصيل الرسالة، من مشاهد درامية دامية، خرجت من رحم المعاناة الفلسطينية،"المترعة بدراميتها القومية / الكونية."[38]
وأحسب أن منطق ذكر هذه التفاصيل، يكمن في رغبتها التبرؤ من لعنة الموقف السياسي الأمريكي الرسمي، ووقوعها تحت تأثير رفضه، يجعلها دائماً تحاول أن تتخذ موقفاً مضاداً معلناً، مما يدفع وعي المتلقي العربي نحو التجربة الفردية الفريدة بإنسانيتها، مع محاولة تغييب الموقف الرسمي، لدولتها:" إنني أشعر بالإحباط لأن الوضع هو ركيزة واقع عالمنا، وإننا في الحقيقة نضطلع بدور فيه، فلم يكن هذا بالقطع ما رغبت فيه عندما جئت إلى هذا العالم، ولم يكن هذا ما يبغيه الناس هنا، عندما تفتحت أعينهم على الدنيا، وهذا ليس العالم الذي رغبت فيه أنت وأبي، عندما قررتما أن تؤتيا بي إليه، لم يكن هذا ما قصدته عندما أنظر إلى (Capital Lake) وأقول: هذا العالم الواسع وأنني آتية إليه. لم أكن أعني أنني سآتي إلى عالم، حيث أستطيع أن أنعم بحياة مريحة، دون بذل أي مجهود، وأعيش وأجهل الدور الذي أشارك به في الإبادة العرقية، هناك انفجارات عديدة وكثيرة، وقعت في مكان ما بالخارج، عندما أعود إلى الولايات المتحدة من فلسطين سأعاني – من المحتمل– من الأحلام المفزعة، وسأشعر باستمرار بالذنب، لعدم وجودي هنا في فلسطين، لكنني قد أنقل ما يحدث هنا عبر كتابة الكثير من الأعمال، إن حضوري إلى هنا من أفضل الأشياء التي قمت بها في حياتي، فإذا ما جن جنوني وإذا ما عهد الجيش الإسرائيلي إلى خرق ميولهم العنصرية، وهي الابتعاد عن إيذاء ذوي البشرة البيضاء، فأرجو يا أمي أن تركزي بشدة على حقيقة أنني أعيش هنا، وسط الإبادة العرقية، التي أؤيدها أيضاً بشكل غير مباشر، وتتحمل حكومتي مسئوليتها."[39]
ولم تقصد أن تصف الواقع المأساوي فحسب، ولكنها عبرت عبر توظيف وسائل استقطاب قوية، وجدانية، وعقلية، ودلالية كبيرة، عن امتلاء ذاتها بهذا الواقع، فأصبح اللاوعي، كوسيط نفسي، يبرز باطن النفس، وما يعتمل بوعيها الداخلي، فكانت الأحلام المفزعة، والضغط النفسي، والقلق الكبير، مما دفعها لاستخدام مهدئ الأعصاب. ويمتاز هذا الاستخدام بقدرته المذهلة على شحن الذات المتلقية شحنا دلالياً مكثفاً، إذ لم يجبر أحد "راشيل" الأمريكية على تحدي هذا الواقع الضاج بالظلم، مما يثير الشفقة والوعي في آن، الشفقة على حال "راشيل" التي تسير على حواف الانهيار، بعيدة عن أهلها، وأصدقائها، ومدينتها، وقد كان بإمكانها الابتعاد عن هذا الواقع، وعدم الاكتراث به، على الأقل شعورياً، إلا أن شيئاً من هذا لم يتحقق، فهي في الوعي واللاوعي مرتبطة بهذا الواقع ارتباطاً حميماً، ويستشار الوعي حين تبدو ملامح هذا الالتصاق أكثر تجذراً، عندما تعلن بوعي مبدئي عن نيتها البقاء في رفح؛ وفاء للقيم، وانتصاراً للحق، تقول بلغة تكاد أن تكون إلى حد كبير منولوج: "وللحقيقة أنا لا أرغب في العودة إلى بيتنا في أولمبيا(Olympia) وإن كنت مضطرة إلى الذهاب لإخراج بعض حاجياتي من الكراج. كما أنوي أن أنقل للجميع التجربة التي قمت بها هنا، وكما أشعر في الوقت نفسه بأنني وقد عبرت المحيط، مازالت لدي الرغبة بأني أبقى هنا، لمدة أخرى حيث أنني ارتبطت بهؤلاء الناس، وبمأساتهم .... حتى أنني أفكر في العمل بتدريس اللغة الإنجليزية، وتعلم اللغة العربية... إنني لا أريد أن أترك رفح، دون أن تكون لدى خطة واضحة للعودة إليها."[40]
وعلى أساس من هذه العلاقة، كما توثقها الرسائل، بدا السرد أكثر ثقة في اقتناص هذه الصيغ التعبيرية، وتوسل إدراكاتها السيرية، وحساسيتها الجمالية، وتجربتها الدلالية، ونقلها بوعي مبدع – يفترض متانة العلاقة وجدليتها بين القاص و"راشيل" – وتحويلها إلى منجز إبداعي قادر على استيعاب مفردات الواقع، وحمولاته، واحتمالاته، التي تتجاوز الوصف البصري، لما يحدث على أرض الواقع. وبالتالي فإن اندغام جماليات التقابل بين الرسالة والسرد، يشكل تخليقاً فنياً مبدعاً، يسقط حسابات الفصل التجنيسي، بين ما هو سردي يختبئ خلف الرسالة، وبين ما هو رسالة تختبئ خلف ما هو سردي.
وإيغالاً في هذا المزج، ورغبة من القاص في صوغهما في نسيج واحد، بعيداً عن الفصل، عمد في سياق الرواية، إلى استخدام الأسماء الحقيقية لزملاء "راشيل"، وشهود الحدث، كما أثبت ذلك في مقدمة الرواية، وكأنه أراد– منذ البداية– أن يرسخ العلاقة السببية والمنطقية بين الأحداث والسرد والرسائل.
فمثلاً، لم يفارق السرد الحقيقة– وبمناظرة شديدة مع الأحداث والوقائع– حين قام ببناء صيغة رومانسية لقصة حب بين "راشيل" و"استيفيان" السويدي، الذي حضر من مدينة "استوكهولم"، لنفس السبب الذي حضرت من أجله "راشيل"، فكانت العلاقة مقنعة تقوم على أسس سببية، من التشابه في الأفكار والمبادئ بينهما، مع الاتفاق على الخطوات العملية الإجرائية، لمواجهة شتى أشكال الظلم والتعسف والجور: "وطويلاً كانت تمر الساعات،و"راشيل" تصغي إلى "ستيفان"، وهو يتحدث إليها في مختلف قضايا الدول والشعوب الفقيرة، وقضايا الإنسان، وعندما يصل إلى القضية الفلسطينية، لا يتوقف عن الحديث عن جوانبها المختلفة، سياسية، أو إنسانية، دولية أو محلية ... ويركز على مواقف الدول الإمبريالية تجاهها وكيف، أن مصالح الدولتين، الأمريكية، والبريطانية، التقت مع المصالح الصهيونية ... كانت قضية فلسطين، ومأساة الشعب الفلسطيني، ومواقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل، محور الحديث المستمر بين "راشيل"و" ستيفان" بل كان الموقف الإنساني المشترك لهما، السبب الأول الذي يجمعهما معا ... في مشاركه حميمة ... ظلت تتحرك داخلهما، دون أن يعبر أحدهما للآخر بما في صدره.
إلى أن كانا بالصدفة، يسيران معاً برفقة "توم ديل"و" جوزيف" في أحد شوارع مخيم "حي السلام" حيث تنتشر الدبابات، ومدافعها الرشاشة، وقاذفاتها ...
وفجأة دوي الرصاص، لا يدري أحد من أين، أو أي من هذه القلاع المنتشرة، أطلقه، ... ولكنهم رأوا شاباً فلسطينياً كان من لحظات يمر من أمامهم، قد أرداه الرصاص ... دونما سبب كان مشهداً مخيفاً، هوى الشاب مرة واحدة، وهمدت الجثة فوراً ... توقفت "راشيل" و" استيفان" وبقية المجموعة، مأخوذين بالمشهد المرعب، ... وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم، رأوا الإسرائيليين يعاودون إطلاق النار على الجثة، في رغبة لتفجيرها، وتشويه معالمها.
قررت "راشيل" و"استيفان" ومن معهما،... التصدي لحماية الجثة ... وعيون الجنود الإسرائيليين تتابعها، وبنادقهم تلاحقها ... ولم تتوقف، عند أصحابها بل اندفعت بسرعة، وبشجاعة نحو جثة الشهيد دون أن تلتفت يميناً أو يساراً ودون أن يخيفها أو يوقف تقدمها، زخ الرصاص الذي يلعلع فوق رأسها، أو أمامها، أو خلفها، وهي مصرة على الوصول إلى الجثة مهما كلف الثمن .... في طريق عودة "راشيل" إلى منزل الدكتور سمير، اقترح عليها "استيفان" أن يقوما بجولة في أنحاء المخيم .... إذ ما زالت هناك فسحة من الوقت ... كانت تلك فرصة، ليعبر فيها "استيفان" "لراشيل"عما يجول في خاطره، وعما تكنه نفسه لها من محبة، ورغبته في الارتباط بها، وإعلان خطبتهما.
أحس "استيفان" من الوهلة الأولى، بأن رغبته تلك لم تكن مفاجأة "لراشيل"، إذ بدت السعادة والفرحة في عينيها، ووجهها، لأنها كانت قد ارتاحت إليه من اللحظات الأولى التي التقته فيها."[41]
هذا المجتزأ يشكل أقصوصة فنية مكتملة العناصر، أحداثها وقعت على وجه الحقيقة، تتشابك في مفاصلها السردية، ودلالاتها الكبرى مع الذات الساردة في الرسائل، فكل منهما ينتمي إلى الآخر، في توافق وتفاعل واعتماد متبادل، دون أن يلغي أحدهما الآخر، أو يمارس عليه تفوقه التجنيسي. ومن ثم فإن العلاقة الطردية بينهما، تصبح تأسيسية، على الرغم من قيامها على ثنائيات نصية: السرد، والرسائل، والشعر، والأخبار.
سؤال الذات وشعرية الإجابة في الرسائل
اللوامة، والتأنيب، والشعور بالذنب، جميعها عناصر شعورية ذات أحمال فاعلة في إنتاج الدلالة، وجمالياتها السردية، كما أوضحتها الرسائل، ومع ذلك لم تملأ فراغ الذات الساردة، فلجأت إلى ثقافة فنية هي الأشد تأثيراً في النفس، وهي السؤال، الذي تم استحضاره، ليشكل حواراً مقارناً واعياً بين ما هو واقع فلسطيني، وبين ما يمكن أن يحدث لو أن ما يحدث في فلسطين يمكن أن يحدث في أمريكا مثلاً، ذلك لبيان مستويات الانحراف القياسي في موازين السياسة: "تأتي "البلدوزرات"، وتقتلع مزارع الناس، وحدائقهم المليئة بالخضرة، فماذا تبقي لهؤلاء الأشخاص؟ أخبريني إذا استطاعت التفكير في أي شيء .... أما أنا فلا أستطيع.
فماذا يحدث، عندما تنقلب حياة أحد منا ورفاهيته، رأساً على عقب، ويلجأ إلى العيش مع أبنائه داخل مكان ضيق، مكان اعتدنا التردد عليه بسبب تجربتنا السابقة مع هذا الوضع، والتفكير في أن هؤلاء الجنود يأتون فوق الدبابات، في أية لحظة، وتعمد إلى تدمير كافة المنازل المحاطة بالخضرة، التي قمنا بزراعتها لفترة زمنية ما، يقومون بذلك بينما ينهالون بالضرب، على بعضنا واعتقاله ... فهل تعتقدين أننا قد نحاول استخدام وسائل العنف لحماية القليل مما تبقى؟ إنني أفكر في ذلك خاصة عندما أرى زهور"الأركيد" والمساحات الخضراء حول المنازل، وأشجار الفاكهة قد دمرت، بعد أن لاقت سنوات من الرعاية والزراعة، بل إنني أفكر فيك أيضاً، وكم تستغرقين من وقت، لزراعة النباتات والخضرة ... فإذا ما تعرضنا للموقف نفسه، فإنني أعتقد أن معظم الأشخاص قد يحاولون الدفاع عن أنفسهم بقدر المستطاع، فالعم "كريج" وجدتي وأنا لن نتوانى عن ذلك.
كنت قد سألتني عن المقاومة السلمية .
إنني لا أستطيع في واقع الأمر تصديق أن شيء مثل هذا قد يحدث في العالم، دون إعلاء صرخة الاحتجاج إزاء ما يحدث، إن ما يجدد الآلام بداخلي، مثلما كان يحدث في الماضي، هو مراقبة كيف يمكن لنا أن نسمح للعالم، أن يصل إلى ما هو عليه الآن؟"[42]
حين نعاين نسقية توالي هذه الأسئلة، وانهمارها على بنية السرد، نصطدم بمفارقة المقارنة بين الواقعين الفلسطيني،الأمريكي، التي تمثلها شذرات إشارية استنكارية، ترفض أن يقوم أساس التمايز بين الناس على أسس جغرافية، أو سياسية، بل إنها تقترح على المتلقي وتجبره على تبني الموقف الفلسطيني في حقه في الدفاع عن نفسه، تماماً كما يفترض أن يكون موقفها، لو أنها تعرضت لما يتعرض له المواطن الفلسطيني.
وتدل هذه الانشغالات المتسائلة، وحيثياتها الدلالية، على أنها تقترح الدلالة الكبرى للرواية "أشهد هنا إبادة عرقية، مزمنة وماكرة، وإنني حقاً خائفة، وأتوجه بأسئلتي لإيماني الأساسي بطبيعة الطبيعة البشرية، لكن يجب أن يتوقف هذا" [43]
وتبدو شاعرية الذات فياضة، وأكثر تألقاً وجمالاً، حين تلبس لبوس الميلودراما، بل تبلغ ذروة تدفقها الشاعري، حين تدفع بإصرار هواجس القلق والرعب لديها، ولدى زملائها،ذلك أملا في التخلص منها والتفوق عليها: "أعتقد أننا إذا قمنا بوضع كل شيء جانباً، وكرسنا حياتنا لوقف ما يحدث هنا، ستكون فكرة جيدة لنا جميعاً، فما زلت أرغب حقاً في الرقص مع "بات بينتر" وأتمنى أن أحظى برفقاء شباب، وأقوم بحركات كوميدية لإضحاك أترابي في العمل، ولكني آمل في إيقاف ما يحدث هنا، فما أشعر به الآن هو الرعب والجحود ما يتملكني الآن هو خيبة الأمل"[44]
وليس ثمة مبالغة القول، بأن اتسام ألفاظ وتعابير"راشيل" في رسائلها بالشعرية، يعني أنها مسكونة بالحركة الدلالية الباثة لكل الجدليات الإشكالية المنتقاة، من أجل خلق توتر جمالي يتجاوز المنصات التقليدية للتعبير الشعري، فهي قصدت أن تعبر عن ذاتها بصيغ خاصة، تحقق مرادها، وهو خلخلة هذا الواقع المأزوم.ومن خلال هذه الحركة الدلالية الباثة للشعرية في الرسائل، استطاع هارون هاشم رشيد أن يأخذ أغراسها الشعرية، لينثرها بكيفية تسمح لها بالنمو مع السرد الروائي، على نحو تتشابك في إدراكية القاص للحدث مع السيرة الذاتية، التي هي أصل وأساس مرجعية السرد، وشحنته الدلالية، بحيث يصبح عصياً على المتلقي أن يفرق بين شاعرية "راشيل" وشاعرية السرد، ما لم يُوضح ذلك في ثنايا المتن الروائي، كما هو حادث بالفعل، ولكن "الغاية، ليست التماثل بقدر ما هي الرغبة في إبداع عالم روائي مواز، هناك مجابهة بين الأدبي واللا أدبي، بين الأدبي وبين الواقع والفن، حيث نحصل على نص وثائقي إعلامي يصل فيه السرد درجة الصفر، مما يدفع إلى طرح السؤال: إلى أي حد يمكن اعتباره نصا روائياً؟ وما علاقة التوثيق بالجنس الروائي ؟
والسؤال مشروع، ما دام أن الرواية أصبحت توظف أشكال المنشور السياسي والخبر الصحافي والوثيقة التاريخية والبحث الأكاديمي والشريط السينمائي، فضلا عن النص المسرحي والتعبير الشعري، وكثيراً ما جرى المزج بينها في بناء متكامل، بحيث أصبحت متجاورة فوق أرضها ... تصبح إلى جعل الكتابة داخل الجنس الروائي مفتوحة. وتتوسل بالبحث المتواصل عن شكل جديد ورؤية متجددة "[45]
لم يحاول السارد أن يغير من ملفوظية الرسائل، أو مرئيتها الكتابية، أو وثائقيتها، أو يبدل في مكوناتها، بل استثمر وهج حضورها استثماراً بنيوياً، انسابت فيه جزئياتها في بنية السرد، دون نتوء أو اضطراب، "وتم هذا التلاقح بواسطة الخلق الروائي لهذه العناصر، لا بالتصرف بالمتن الوثائقي أو المرجعي، ولا بتبديل الصياغة، وإنما بالخلق الجديد، لا بالكتابة من الخارج، ولكن بالكتابة من الداخل وعميقاً. حيث تفقد الوثيقة بذلك نسبها الأساس وتشكل نسيجاً جديداً يرتبط بالعالم الجديد: العالم الروائي"[46]
رهانات السرد وجمالية البنية النصية :
شكلت الرسائل، والأحداث والوقائع، منبع السرد ورهاناته، بلا شك، ولكن ما كان لهذه الجذاذات السيرية أن تحقق للمتلقي تجلياً جمالياً فاعلاً، دون أن ترتق في نسيج فني خلاق، أو تنسكب في تجربة فنية فاعلة، تحرر الحالة الفردية، وخبريتها العابرة من أغلال خصوصيتها البسيطة والجزئية، لتعانق الرؤية الفكرية والسياسية والأخلاقية والإنسانية الطموح، التي يسعى القاص إلى تأصيلها، انتصاراً لقضيته الفلسطينية، حتى لا تبقى هذه الحالة، أسيرة فرديتها، فتصبح ذاتاً فردية نكرة، تتلاشى في الكل المهيمن على الخطاب الرسمي الأمريكي، الذي يسعى جاهداً إلى طمس معالم كل حالة إنسانية تتمرد على فلسفته السادية العنصرية. أدرك القاص ذلك، فمنح هذه الحالة، حضوراً بهيجاً، انطلاقاً من تسميتها، والتعريف بها في مقدمة الرواية، إعلاء لشأنها، وإعلان قاطع على أنها تمثل مركز الثقل الدلالي، وعصبة التعبيري، بل خطط مسبقاً لاستخدام كل التفصيلات الحقيقية، لإدماجها في البنية النصية للرواية، بدءاً من ذكر جنسيتها الأمريكية، وهي خاصية دالة، وانتهاء بذكر الأسماء الحقيقية لزملائها، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنه يبغي تمجيد هذه الشخصية، التي ضحت بنفسها من أجل قيمها ومبادئها، لذلك فإن احتفال النص بها لا يقتصر في بناءه الفني على الإشارة الخبرية الخاطفة، بل سعى فنياً إلى إحالتها بأكملها، خبرياً وفنياً، إلى مواطن تثير في المتلقي إنسانيته، وتخلخل لحظته السياسية المأسورة بالإعلام، عبر لغة ذات حساسية فنية عالية.
فاللغة شاعرية حين يقترب السياق السردي من ذكر اسم "راشيل"، وكأنه أراد أن يفرغ محمولاتها الإيحائية، التي تعبق بمتآلفات جمالية تقلص من شروط القص التقليدي، لدى المتلقي؛ لتبدأ في ملامسة جوهر الشعرية، وحوافها، ومغامرتها التجنيسية وإن كانت مفعمة بالدرامية، التي اكتست بها الرواية بشكل عام: "هاهي تصل رفح ... تقتحم العاصفة ... تتحدى الإرهاب .... تعلن أن قدرة الإنسان، هي قدرة الحب .... والعطاء .. إنها قدرة الإنسان، قدرة السلام، قدرة القلوب التي يعمرها الصفاء.... شعور غريب، يسيطر عليها، من اللحظات الأولى، لوصولها، لمدينة رفح، المدينة السر، المدينة الوعد، بوابة الحقيقة، عنوان الطريق ، .... إنها "راشيل" وصلت لتبحث عن الحقيقة، لتقف إلى جوار العدل"[47]
القاص أكثر امتلاكاً لأدوات الشعرية، مما جعل من المتيسر له أن يقرن اسم "راشيل" بغنائيته" جاءت "راشيل" الزنبقة الحلوة ... من هناك من أولمبيا حيث الهدوء والسلام، والحياة الوادعة لتعيش على فوهة بركان، وترى الموت في كل مكان يتربص بها، وبغيرها .... إنه يعشش حتى في أوراق الشجر."[48]
وهو كذلك أكثر امتلاكاً لتفصيلات المكان، فاسمها دائماً يكون مشفوعاً بالتفصيلات الحركية والمكانية، الدالة على شغف السرد بالمكان، بطريقة يقصد فيها أن يعزز من مأساة المكان، التي تنعكس بدورها على حياة الإنسان الفلسطيني، وهذه الآلية تفاقم الإحساس لدى المتلقي بأن لحظة صادمة تنتظره، لا تقل في فجائيتها عن مأساوية هذا الواقع: "المدينة ... رفح ... رغم كل ما يحيط بها من المآسي والآلام، والأحزان ... تراها مرحبة "براشيل" تفرش لها بساطاً أحمر من "شقائق النعمان" التي هي أجمل مئات المرات مما يمد الملوك والرؤساء أمام الطائرات أو في مداخل القصور، "شقائق النعمان" وشذى اللوز، والنسمات العليلة، الرقيقة، أول من رحب "براشيل" عند دخولها رفح ... وأسراب من العصافير تملأ السماء، مغردة منشدة، البلابل والحساسين، التي اشتهرت بها مدينة رفح، والتي ظلت دائماً تتحدى أزيز الرصاص ودوي المدافع ... بشائر الربيع أول ما استقبل "راشيل" ... في مدخل مدينة رفح .. حقاً إنها أحبتها ... رغم كل ما ترى من البيوت المدمرة، وتلال الركام، والأنقاض، والأشجار المغتالة، أشجار الزيتون، واللوز، والليمون، والبرتقال، كلها، مغتالة، مذبوحة عبر بها جيش وحشي لم يرحم.... شيئا لا الإنسان ولا الحيوان ... ولا الحجر، ولا الشجر"[49]
بهذه الكيفيات المكانية، والأجواء النفسية، أخذت الغنائية الملحمية ترفع من منسوب توتر صيغ التحدي في السرد، عبر وسيط حواري مع زملائها؛ ليكشف عن مدى التحامها بمبادئها، ورغبتها الملحة في تحقيق ما تصبو إليه: "قالت لها "جيني":
ستكونين الليلة في أحضان رفح ، كما طلبت ...
قال "توم ديل" :
في رفح ستعيشين حياة اللاجئين الفلسطينيين، الحياة التي يعيشونها، ويتوارثونها منذ أخرجوا من ديارهم عام 1948، وهم يطاردون ويلاحقون من هجرة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر، مطاردون بالموت ... والدمار، وأبشع الأسلحة.
قالت "راشيل" وقد بدا الجد في محياها:
"أعرف وأنا ما جئت إلا لأعيش الحقيقة التي أبحث عنها، ولأقف إلى جوار المظلومين، لتحقيق العدالة التي أنشدها ".
قال "ديل":
سنحقق لك ما ترغبين، فأنت الآن في مخيم "حي السلام" في رفح، على الحدود المصرية ....
التفت "توم ديل" إلى "راشيل" قائلاً:
بعد لحظات سنحقق لك ما طلبت، ستكونين في بيت أحد اللاجئين الفلسطينيين، وستقيمين معهم، وتعيشين حياتهم، وتشاركينهم معاناتهم.
قالت "راشيل" وقد بش وجهها :
تلك كانت أغلى أمنياتي بل وحلم حياتي وما جئت وطرت كل هذه الساعات إلا لهذه الغاية.
قالت "جيني":
سنحقق لك ذلك الليلة ...
توقفت السيارة عند شارع مخيم اللاجئين "حي السلام":
أخيراً وصلنا ...
قال "توم ديل" وأردف :
هذا بيت صديقنا، الدكتور سمير نصر الله" [50]
على الرغم من وثائقية المشهد السردي، وتوافقه مع الجانب السيري، إلا أن جمالية بنيته النصية، باتت أكثر نصاعة في قدرتها على تهيئة المتلقي، بشروط الوعي السياسي والإنساني، كلوازم أولية، لأية محاولة يقصد منها التأثير، أو تغيير أية أفكار سلبية، أو وجدانيات شعورية لدى المتلقي. فحين تلوذ الرواية بالوثائقية والوقائعية، التي يعيشها المجتمع الفلسطيني، فهي تقصد أن تجرم الموقف السياسي، وحيزه الإعلامي، الذي يتوازى ويتجاوب في غوايته للمتلقي، على نحو متساو، منذ اللحظة الأولى:" فجأة دوت رصاصت، لوثت سكون الصباح الجميل، وبعثرت أحلام النائمين، وأخرجت "راشيل" من عالمها الحلو ... كل من في البيت هب مذعوراً، تجمعوا كلهم حول "راشيل"، الدكتور سمير وطفلاه، وزوجته ومريم الصغيرة إحدى قريبات الدكتور سمير "وجيني" و"توم ديل " ...
أهكذا ... من اليوم الأول ... دوى انفجار هائل ... اهتز له البيت .. صرخ الأطفال وقد اعتراهم الخوف ... توالت الهجمات طوال اليوم، حتى العصر، اغتيل خمسة من رجالات المخيم، ونسفت بيوتهم، والبيوت التي حولها، كما اقتلعت أكثر من عشرين شجرة مثمرة، وجرفت الأراضي الزراعية القريبة من البيوت"[51]
إن مسرحة البنية النصية هنا، لا يقصد بها أن تكون اللائذة الجمالية الفولكلورية، التي تعتمد على العواطف الانفعالية للتأثير في المتلقي، ولكنها خاصية تأصيلية بنائية، لها دورها الناجز في نمو الحدث.
نحن إذن، أمام رؤية عميقة، لا تتملق المتلقي، ولا تسعى إلى تجريده من حقه في امتلاك الحقائق الواقعة على الأرض، التي هي الأساس في البنية النصية لهذه الرواية: "لأن القول السردي يكتسب فنيته بديمقراطيته، أي بانفتاح موقع الراوي على أصوات الشخصيات، بما فيها صوت السامع الضمني، فيترك لهم حرية التعبير الخاص بهم، ويقدم لنا منطوقاتهم المختلفة والمتفاوتة والمتناقضة، وبذلك يكشف الفني عن طابع سياسي عميق، قوامه حرية النطق والتعبير."[52]
هذا المجتزأ من القول، ينقلنا إلى فضاء المفارقة في التصور، التي أدهشت وعي "راشيل"، التي تحاول أن تنقل تصورها ومعايناتها لهذا الواقع للآخرين، وهي محاولة إيجابية، تعبر عن إدراك حسي وعقلي عميق، كما أنها تجسد حضوراً متفاعلاً، تسقط فيه عناصر التمييز العنصري، الذي يقوم على أساس من اللون أو اللغة أو الهوية أو الدين أو الجغرافيا: "هل ستصدق والدتي ما يتضمنه من خمسين عاماً ... هل تستطيع صديقتها "روزيت" هناك عندما تلتقيها في أولمبيا أن تتفهم هذا، أم أنها ستعتبره من باب المبالغة، وعدم الواقعية."[53]
"هزت "راشيل" رأسها أسى وقالت:
" جرائم لا مثيل لها في التاريخ، الناس يخرجون من بيوتهم، كما خلق الله، يركبون التاكسي العادي أو يسيرون على أقدامهم، تفاجئهم طائرات الأباتشي المسخرة للقتل، الشيء المؤسف .. والشيء المخزي لأمريكيا، أن طائرتها هي التي ترتكب هذه الجرائم، ضد شعب أعزل، مظلوم.. إنه يحزنني، بل يجرحني هذا.. عند عودتي، سأنقل بصدق، وأمانة ما رأيت إلى الشعب الأمريكي، وهو شعب يحب الحرية والديمقراطية ويؤذيه أن تسخر أمواله، وأن تقوم طائراته "الأباتشي" و" أف 16 " بقتل الأبرياء"[54]
ليس من قبيل الصدفة، أن تشكل هذه المفردات طبيعة البنية النصية، بطريقة متكررة، يشعر معها المتلقي–أحياناً– برتابة تخلو من المغايرة، وبالتالي فهي تبارح منطق الاكتفاء باللقطة المشهدية الواحدة، حتى أنه يمكن اتهام درجة مألوفيتها بأنها أصبحت فائضاً لفظياً ودلالياً، يبدد عمق المفارقة التي تأسست عليها الرواية، سواء أكان ذلك على مستوى بؤرة السرد ونسيجه، أم على مستوى القلق الموازي الذي وثقته رسائل "راشيل"، وذلك لعدة أمور، أولها: أن هذه المفردات تشكل، على وجه الحقيقة، مياسم الحياة الفلسطينية، وبالتالي، هي ليست فعلا تخييلياً، أو تمظهراً أسلوبياً مراوغاً، يتطفل على البناء السردي، ليحقق درجة إيقاعية للرواية. والثاني: أن تكرارها يعطيها منزلة إسنادية، إقناعية مدهشة، تحقق بتركيبتها الفنية توازناً منطقياً للمتلقي، الذي يفترض أنه غير محايد، وذلك ليقيم مقارنة بين الضاغط الفلسطيني الدرامي المعاش ومستقراته السياسية والأخلاقية، وضرورة التنازل عنها، لصالح السرد، بعد إدراكه للمختلف والمتباين من قناعاته: " ومن الطبيعي أن يحدث هذا، لأننا عندما نقرأ عملاً قصصياً، فإننا لا نقرؤه بعقل بطر ومحايد، فالبكارة العقلية لا وجود لها كما أن الحياد النصي خرافة دحضها النقد منذ زمن طويل... فالنص يكتسب كينونته الحية عندما يقرأ. وإذا أردنا أن نفحصه، فإن من الضروري عند ذلك أن ندرسه عبر عيون القارئ."[55]
الثالث من الأمور: لا تسقط السمة السيمية، وفعلها الدرامي، بتكرار هذه المفردات، إن توفرت لها لحظة الوهج، والمكثف في آن، القائم على أساس واع، يتناغم وينسجم مع الملحمة الفلسطينية الكبرى، التي ما زالت رحى الحرب تجندل صغارها ونساءها وشيوخها إلى يومنا هذا، فالحرب مستمرة بكل مأساويتها، دون أن تكون معلنة رسمياً، ولكنها تتلظى، معلنة بكل أدواتها ومفرداتها:" كم من الأطفال قد يتموا هذا الصباح؟!! كم من امرأة رملت ؟ وكم من أم ثكلت ؟ .. وكم من أب فجع ؟ كم عين بكت ؟ ماذا ستكتب "راشيل" لأمها ؟ وماذا ستروي لصديقاتها ؟ وأية بشاعة هذه التي تجري على هذه الأرض؟ .. في الحرب يعرف الناس من أين يأتي الموت، ومتى لأيام .. لأشهر .. لسنوات، لكنه ينتهي بانتهاء الحرب، ولكن الذي في رفح، في غزة، في الضفة، في القدس .. موت غير محدد المكان، ولا الزمان .. إنه احتلال، وحرب .. هذا ما قاله "شارون" ألم يقل بأن حرب 1948 مازالت مستمرة .. لم يحاول أحد أن يسأله كيف؟ .. حرب معلنة على شعب أعزل محاصر، تخلى عنه الجميع وألجم وكبل عن نصرته الجميع."[56]
بهذه الكيفيات التجريدية، التي وصفت بموضوعية الواقع السياسي، تشكلت البنية النصية، دون أن تبتذلها تداعيات وتداخلات السارد، بل إنها أصبحت من أهم جماليات التماهي، التي تقصد أن يستثمر السرد لحظته التسجيلية الواعية؛ ليجعل منها إدانة جدلية مفتوحة لكل ما هو سياسي، وفني وواقعي، وإنساني مأزوم في عمق تصوراته.
هذه الجدلية تفيض جمالاً، وتتكثف دلالياً وإحالة فنية، حين تظهر صيغ التحدي، والصلابة، والجلد في خطاب هذه الفتاة الأمريكية:" أنا هنا بكل مشاعري، وأحاسيسي وحبي، إنني على تلال الردم والركام وعبر الغبار، والدخان ووسط دوى المدافع، وأزيز الرصاص، وهدير الانفجارات.. أستنطق يوماً آخر، لهؤلاء، وأحلم بعالم أجمل، تعلمت أن الظلمة كلما اشتدت تكون بشيراً بالفجر." [57]
هذه الصيغ الدرامية، فلسطينية في عمق دالها ومدلولها، وإن يممت وجهها شطر شخصية "راشيل"، بمعنى أن إحساس المتلقي حين يقرأ هذا الخطاب، يشعر بأنه حيال فاعل فلسطيني، بكل ملامحه السياسية، يخالف منطق رؤية الشخصية الأمريكية، ولكن السرد حين أنطقها على لسان "راشيل"، وفق علائق سببية ومنطقية، قصد أن يفتح ثغرات في وعي المتلقي؛ ليعده لاستقبال اللحظة الدرامية المتوقعة، والتي تسير "راشيل" نحوها بسرعة شديدة.
ويبدو أن جدلية هذه الصيغ دفعت بالسارد نحو صناعة بطولة فردية لم يعهدها القص العربي، من فتاة أمريكية تنقذ شاباً من الموت المحقق، لا أن ينقذها هو، وذلك في مشهد سينمائي مليء بالحركة البطولية، التي لا نراها إلا في الأفلام: "كانت تقترب من المنزل، لحظة مر إلى جوارها شاب من شباب المخيم، في مثل سنها عائد إلى منزله، وألقى التحية باستحياء، وكتفه يوشك أن يحتك بكتفها، لمحت وهي تهم بأن ترد التحية فوهة مدفع رشاش، يتحرك على ظهر دبابة، غير بعيد منهما، يستهدف الشاب، دفعته "راشيل"، وسقطت معه، والرصاص يلعلع فوقهما، كما زخ المطر ... صرخت "جيني"، واندفع "ديل" نحو "راشيل"، وهو يلعن ويولول ... خشية أن تكون "راشيل" قد أصيبت .. لحظة مذهلة مرت بهم جميعاً، حمدوا الله بعدها على سلامة "راشيل" وسلامة الشاب المستهدف ... أي شكر، وامتنان، أنا قمت بواجبي، وأنا أشكر الله أن أتاح لي هذه الفرصة، لإنقاذ روح بريئة من الموت على يد شريرة ...
قال الشاب :
لقد عرضت نفسك للموت، كانت مخاطرة غير مضمونة العواقب، لا يفعلها إلا إنسان شجاع، مؤمن."[58]
هذه الجسارة البطولية التي سجلها المشهد، غير مألوفة في طبيعة الأمر المرجعية، للتكوين المجتمعي الأمريكي، خاصة المدني منه، مثلما أنها غير مألوفة في الرواية العربية، كما قلت آنفاً، ولم يكن السرد مديناً في إفادته لتصوير هذا المشهد لتقنيات التصوير السينمائي فحسب، ولكنه أفاد أيضاً، وعلى وجه اليقين، من رسائل "راشيل"، التي كانت مولعة، وبرغبة جموح، لممارسة هذا الدور البطولي السينمائي، في الحياة الواقعية، تقول في رسالتها الأخيرة لأبيها، والتي كتبتها في صبيحة اليوم الذي قتلت فيه، يوم الأحد الموافق 16 مارس 2003،"وتستطيع أن تكتب إلى، كأنني في إجازة ترفيهية، في"هاواي" أتعلم حياكة الصفوف .. من الأشياء التي تجعلني أشعر أن البقاء هنا سهلاً، أنني أتخيل نفسي جزءاً من أحد أفلام "هوليود" مع البطل ( ميتشيل.ج.فوكس )، ( Michael .J. Fox )
وفي مواضع مختلفة، متناثرة في الرواية نلاحظ أن السرد يعتمد على تقنية المزج بين ما هو فني ذاتي سيري، وبين ما هو سياسي تاريخي، وكأنه قصد التعريف به، ليكون الأساس التعليلي، والمبرر لتداعيات الواقع، فمثلاً ، يذكر السرد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، لغاية دلالية إزاحية، تهدف لصياغة أبنية تخييلية ترتبط بنسيج الواقع الحالي: "محمد ابن جارتنا، والده استشهد برصاص الجنود الإسرائيليين، وهو عائد من عمله، عام 1977، دون أي سبب، وكانت جارتنا حاملاً، فولد محمد بعد ذلك ولم يقدر له أن يرى والده .. في البيت، واصل الدكتور سمير الحديث عن محمد، إنه أحد أبرز الأطفال، الذين قادوا الانتفاضة عام 1987، وقد ناله، ما نال الكثيرين من الأطفال الفلسطينيين، عندما طبق الجنود الإسرائيليين، ما دعاهم إليه رئيسهم "رابين" بأن طلب منهم أن يكسروا عظام الأطفال الذين يقعون في أيديهم، وقد كسر الجنود الإسرائيليون ذراعي محمد، اليمين والشمال؛ لأنه كان من نشطاء الانتفاضة البارزين. مسحت "راشيل" شعر محمد، وهي تبتسم، ابتسامة حنونة، وقالت:
هذه فرصة كنت أنتظرها، لألتقي بمن يزودني بالمعلومات عن انتفاضة الحجارة، التي لم أعاصرها ... فأنا أعد أبحاثاً، سأقوم بإتمامها، وبإنجازها عن نضال الشعب الفلسطيني، خاصة مرحلة الاحتلال الذي يعانيه منذ عام 1967، والذي أوصل رابين لأن يتمنى يوماً أن يصحو من النوم، ليجد أن البحر قد ابتلع غزة." [59]
القرائن النصية، وشخصيات الرواية، أصبحت تنفتح سردياً على التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني، لتفاقم الإحساس لدى المتلقي بمأساوية قضيته، لأن التاريخ لا يجوز حذفه أو استبعاده، بل إن منطق الاحتماء بوقائعه وشخصياته يوفر للسرد خصوبة معرفية، ذات أحمال لقيم جمالية، تشع منها الدلالة الآسرة.
وليس ثمة شك، بأن ما أقصده ليس إقحام وقائع التاريخ التجريدية:" إن سعي النص إذن إلى وضع نفسه في أفق الاحتمال البنيوي والدلالي لا يعني الوقوع في أجولة التجريد، وتحويل الشخصيات إلى محض حوامل لأفكار منفصلة عن نظام النص، وإلا أصبحنا مع خطاب يبتعد عن الأدب بقدر اقترابه من العلم والدعاية."[60]
الكف والمخرز: مواجهات اليوم الأخير
لك البقاء الخالد الأشهى .
وللقبيلة من عتاة الليل عارُ خالدُ أيضاً الشاعر : أيمن اللبدي
احتدم الصراع، واقتربت ساعة رهاناته، وباتت تنهمر أحداثها على نحو يشعر فيه المتلقي بأن شعرية السرد التي احتفت بشخصية "راشيل" القادمة من البعيد، الذي يغايرنا في خطابه ولونه ولغته، لتملأ فراغ السرد بالأمل، بالحرية والعدل والمساواة، في فلسطين، تقلصت ليصبح السرد التسجيلي ملمحاً أثيراً، يميل إلى رصد الأحداث وحركتها، دون أن تغيب عنه نكهته الشعرية، التي يشع وميضها بين الفينة والأخرى.
هكذا بدت ملامح السرد في مشاهده الأخيرة، دون أن يفقد سمة انسجامه وانتظامه الكلي، فحركة "راشيل" مع بقية أفراد فريق التضامن لم تتوقف، بل أصبحت حركتها المفعمة بالنشاط، سمة مهيمنة، وكأنها بدأت تدخل مرحلة حاسمة في صراعها وتحديها للعدو الصهيوني، كما تشير إلى ذلك وقائع السرد: "في الساعة الواحدة والدقيقة الثالثة عشرة، لاحظ نشطاء "حي السلام" من فريق التضامن الدولي، أن بلدوزرين مدججين بالأسلحة، ودبابتين مزودتين بالمدافع والصواريخ، ظهروا فجأة، قادمين من ناحية الحدود الإسرائيلية، من ناحية المستوطنات، ومتجهين بشكل هجومي، نحو الممتلكات الفلسطينية .. وما أن وصلوا أطرافها، حتى باشروا باقتحامها .. وبدأوا في عمليات التدمير، واقتلاع الأشجار، وهتك المزروعات، وتجريف التربة، وهدم المنازل .. تفاجأت الحملة الإسرائيلية، بالجدار البشري، وبدأت المحاورات، والمداورات، الجرافات والدبابات تتقدم، وفريق التضامن يتصدى، ويجبرها على التراجع ... مرة... ومرات ... كانت "راشيل" في ذروة الحماس، وذروة الغضب، لماذا يهدمون البيوت الآمنة، ويشردون أهلها المسالمين الأبرياء، لماذا يعاودون الهدم .. تقدمت "راشيل" وأخذت موقعها، في مواجهة "البلدوزر" المنطلق نحو بيوت حي السلام ... جلست "راشيل" في المقدمة، لا تبعد عن بيت الدكتور سمير أكثر من عشرة أمتار، وهي في حلتها البرتقالية العاكسة للضوء، تلوح بأعلام التضامن، وتنادي بمكبر الصوت مطالبة الإسرائيليين المعتدين بالتراجع، وأن ما يرتكبونه حرام، غير إنساني، ومخالف للمبادئ والشرائع الدولية والإنسانية."[61]
حرص الكاتب في هذا الموضع أن يقدم مجموعة من المشاهد الدرامية المتكاملة، التي تفترض تعاطف المتلقي، وتكتسب موثوقية، ولتبسط سيطرتها الفنية الدلالية القادرة على إنتاج تشكيل الوعي، بما يكفل تفاعلاً ألقاً، ذلك "أن النص– دائماً– في حالة إنتاج وسيرورة عمل، لا يكف عن التفاعل، وعن تعهد مدارج الإنتاج، ولا تظهر الإنتاجية بوضوح، ولا تصبح إعادة توزيع اللغة مكتملة، إلا عندما يبدأ الكاتب أو القارئ أو أحدهما في مداعبة الدال."[62]
كان الكاتب واعياً بضرورة وضع "راشيل" في حدقة التركيز السردي، باعتبارها جوهر القص وعلته، وجذبه، وعليه أصبح السرد يحمل مرارة المفارقة وإشكالاتها: "طلبت "راشيل" من عدد آخر من زملائها، ملاحقة "البلدوزر" والدبابة، وتتبعهم، حتى يتأكدوا من عدم عودتهم، والبقاء حولهم، ومراقبتهم، وإرسال إشارة التحذير عند اللزوم .. وما توقعته "راشيل" حصل، ففي حدود الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة، رأت أحد "البلدوزرين" يتحرك محصناً بدبابتين، وجهته بكل وضوح المنطقة التي تجلس فيها، والذي يقع فيها بيت الدكتور سمير ... "البلدوزر"، والدبابة، يتقدمان، غير عابئين بما يسمعون، والجنود يطلون من نوافذ "البلدوزر"والدبابتين ويمدون رؤوسهم، وأيديهم، مهددين ومحذرين، ويطالبون"راشيل" بترك موقعها والابتعاد عن طريقهم ... وهم يرددون كلمات بذيئة، ويقومون بحركات خارجة عن الآداب، ويلوحون بخوذهم، ويضحكون مستهزئين "براشيل" ومن معها" يميز السرد "راشيل" في تصويره لتفكيرها وفعلها وقولها وسلوكها من بين أقرانها، ويجعلها متجاوزة لشرطها الأمريكي، المجتمعي منه والسياسي، فهي ليست مقبلة على الحياة الرخيصة، وليست مهيأة لتقبل الخطاب السياسي، بالإضافة إلى أنها تعي خطورة ما هي مقبلة عليه بتحد من لون خاص: "فهي ثابتة في مكانها ، متحدية ومصممة، رغم مواصلة "البلدوزر" التقدم في اتجاهها، والذي أخذ يقترب من موقعها شيئاً ونصله المنحني نحو الأرض، يواصل جرف التربة، ويتقدم أكثر، و "البلدوزر" يدفع كل ذلك أمامه في اتجاه"راشيل" ... وما أن اقترب "البلدوزر" من موقع "راشيل" ، حتى أخذت الأرض تهتز تحتها ، مما اضطرها أن تقف وتصعد إلى ظهر الركام الزاحف نحوها، والذي يدفعه "البلدوزر" في اتجاهها، بحيث أصبحت تشاهد من نافذة كابينة السائق بوضوح وجها لوجه ... والتقت العيون ... عيون "راشيل" وعيون سائق "البلدوزر."[63]
هذا النسيج السردي التسجيلي، لم يشف غليل الكاتب، إذ استخدم النكهة الشعرية، واستنفر دلالتها، لتقيله من غواية الابتذال النثري، وكأنه أراد أن نعاين الواقع بمنظار إشكالي، له خواصه التأويلية, والجمالية والحوارية التي يعشقها المتلقي، "ومن الملامح البارزة تلك الشاعرية التي حاول من خلالها أن يعطي حيوية للحدث دون أن يعزل هذه اللغة عن سياقه الروائي في التعبير عن طبيعة العلاقة بين الحدث والشخصية"[64]، ويمكن ملاحظة ذلك بجلاء في شعرية القص التي صاغها الكاتب:
مرة أخرى ..
هاهو الكابوس ..
الكابوس الذي داهم أحلامها ..
الكابوس الذي يطاردها في النوم والصحو ..
إنه الكابوس ذاته ..
لمعت عيناه ... ما أبشعهما ..
كما شلال الموت ..
ذلك الغريب ، القادم من بعيد ..
رآها ...
تحقق منها، ملأ عينيه بصورتها ..
منتصبة أمامه كالسيف ..
تتحدى "البلدوزر" الضخم، وسكينه ..
وفمه المفتوح للموت ..
"راشيل" واقفة صلبة .. وشجاعة أمامه ...
تماماً كما أشجار الزيتون التي يهاجمها .. فلا تحني رأسها ..
بل تتحداه .. وتتلقى ضرباته بشجاعة .. وهو يقتلعها ..
إنها تريد الحياة ..
وهو يريد الموت ..
إنها تريد السلام ..
وهو يريد الحرب ..
إنها تريد الحرية ..
وهو يريد الاحتلال ..[65]
وأحسب أن امتثال وارتهان القص للشعرية، وانفجارها التعبيري على هذا النحو، يعني أن استغراقاً جمالياً ودلالياً مكثفاً، يطلب السرد حثيثاً، كتعويض عن حالة الاستلاب والنكوص التي تعرض لها الكاتب و"راشيل" في آن، وكأن ضراوة الأحداث وفجائعيتها جعلت الرؤية الشعرية أكثر توهجاً وتناسقاً. ولكن هذا لا يعني انفصامها عن سياق الأحداث وتتابعها، بالقدر الذي استطاعت فيه أن توفر قلقاً لا يريم للمتلقي، قلق داحض يدفعه لتجاوز هوامش فروق التجنيس الكتابي، ليلج بؤرة التوتر الدرامي، وهي القلق على مصير "راشيل"، التي اقتحمت النائي من المعاني الإنسانية التي كاد الغرب أن ينساها.
ويواصل السرد عراكه الدرامي، وحراكه الدلالي، بتفصده تشكيلات مشهدية سينمائية، تخترق المألوف، وتستدعي كل مفردات الشعور بالقهر والعجز، "والصرخات بلا توقف ... تراجع أيها السائق، توقف، إنك توشك أن تقتلها ... تراجع .. توقف ... كفى .. ولكن السائق، أغلق أذنيه وعينيه، وتحجر قلبه، وماتت إنسانيته، إنه الوحش الكابوس الذي أرق نومها، وأزعج ليلها.. نصل "البلدوزر" ينغرز في الأرض ... تتغرز في قلب الأرض التي نزلت عليها رسالات السماء .. تتغرز تحت أقدام "راشيل" الأمريكية .. التي جاءت تحمل رسالة شعب يحب الخير ... إنها تفعل ذلك دفاعاً عن سمعة شعبها الأمريكي، والتفكير عما تقوم به حكومتها الأمريكية من انحياز للظلم ونصرة لإرهاب الدولة .. بدأ "البلدوزر" الوحشي ، يدفع سكينه أسفل الركام الذي تقف عليه "راشيل"، إنه يستهدفها، أخذت الأرض تهتز تحتها، والركام يتحرك، وقطع الاسمنت تصطك، مما أخل بتوازن "راشيل"، فانزلقت من فوق الركام، ووقعت على الأرض، أمام الكتل الإسمنتية، التي أطبقت على ساقها فكسرتها .. وأعجزتها"[66]
يبدو أن هذا المشهد يمتح تصويره ووصفيته من تخيل الوقائع البصرية كما جسدتها الصور الحقيقية الوصفية لمأساة "راشيل"، وهي تواجه "البلدوزر"، حتى تكاد أن تكون اللغة البصرية المكتوبة هي الآلية الأنسب لإظهار درامية المشهد، وانفتاحه على مخاضات التجربة الإنسانية، بشكل عام، التي تخوض صراعاً من أجل الحق والحرية.
ومن الطبيعي، وفي ذروة الحدث ودراميته، أن يكون ثمن هذه التضحية والقيم المتبناة، هو إعلان البراءة من الخطاب السياسي الأمريكي، وموقفه المساند لإسرائيل، وهو إعلان متكرر على مستوى السرد والرسائل، وعمد الكاتب أن يجعله ماثلاً في هذا المشهد، ليقع في بؤرة الوعي، وحتى يقطع على المتلقي هاجس الحكم المنفرد، بتجريم إسرائيل، دون أمريكيا، وهي الهم الأكبر الذي هيمن على السرد، وانثيالاته الانفعالية، وإشكالياته الفكرية. ويصبح المشهد الأخير ضاجاً، في ذروته الدرامية، حين يبدأ التعبير انفجارياً في استخدامه للألفاظ النادبة الملتاعة بالحسرة والألم: كسرت ساق "راشيل" / تأكد من إصابتها / وتأكد من عجزها/ لم يتوقف/عيناه تقدحان شراً/ في صدره حقد/ كره للإنسان/ لم يرحم هذه الإنسانة الوردة/ لم يرق قلبه/ لم تتحرك مشاعره/ الكابوس المرعب/ هزمها/ هدها / ألقاها مكسورة تحته/ الإسرائيلي البشع / يقتلها/ أصبحت تحته/ تعالى الصراخ/ علت الأيدي/ دوت الاحتجاجات/ عميت عيناه/ لم يعد يسمع إلا صوت الموت ... و"راشيل" تحته عاجزة مكسورة، وقد دفع التراب، والردم فوقها .. فأصبحت لاترى .. وهو يواصل التقدم، ولا يتوقف"راشيل"أصبحت تحت التراب، بل تحت "البلدوزر"، تماماً ... وإمعاناً في جريمته، بدأ يتراجع فوقها دون أن يرفع النصل، بل يجره فوق جسدها مرة أخرى ليتأكد من أنه قتلها."[67]
وإذا كانت القاعدة الدلالية تقول: إن الألفاظ دائماً منحازة لسياقها، وتسير وفقاً لتحولات السرد البنائية، فإن الاكتناز الدلالي الذي يلاحظه المتلقي من خلال احتشاد هذه الألفاظ الدرامية في هذا المشهد الختامي، يدل على أن خاتمته الفجائعية تحمل في ثناياها قهراً، وألماً، ينضاف إليهما تحد ممزوج، في بنية واحدة متشابكة، إذ يشتبك تحدي الحق البطلة "راشيل" مع الباطل الإسرائيلي، ويشتبك هذا العدو مع الحق الفلسطيني، في قصة هذه الفتاة الأمريكية.
قاصمة الظهر ومستويات السرد البنائية :
التوقف بعمق، عند عبارة "راشيل" الأخيرة، التي نطقت بها، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، قالتها بعفوية مفرطة: ظهري مكسور، قالتها لزملائها "ديل" و"جوزيف" و"ريتشارد"حين وجِدت تحت التراب، يمكن أن تشكل بؤرة انطلاق نحو توليد شفرات دلالية متعددة، عبر مستويات بنائية قادرة على أن توجه توجهاً دلالياً مركباً، يتجاوز حقيقة ملفوظية العبارة، كونها الدال الذي يشي بمدى الألم الذي لحق "براشيل"، بعد أن انسحب "البلدوزر" من فوقها، لاستثمارها، وجعلها بمثابة جدلية وإشكالية، لا تبحث في استرجاعية السرد التاريخي أو السيري، أو لسانيتها فحسب، إنما يمكن استثمارها كعنصر معالجة لهذا الواقع المكسور والمأزوم، وهي دلالة تؤدي أكثر من وظيفة، وتحقق أكثر من غاية، خاصة إذا انسحبت دلالتها على حالة عدم النصرة، والتقصير في مؤازرة الشعب الفلسطيني، والتقصير في نصرة فريق التضامن، الذي أصبح بلا ظهر يحميه من هذا الظلم، كما أن دلالات هذه العبارة تتساوق مع الإخفاقات السياسية المريرة التي يشهدها العالم العربي جراء السياسة الأمريكية.
وهكذا أصبحت حادثة، أو بالأصح السيرة الذاتية "لراشيل كوري"، الفتاة الأمريكية التي قتلت في فلسطين، وحظيت باهتمام عالمي، فرثاها الشعراء، الأجانب والعرب، وكتبت عنها الصحافة، في العالم، إلى بنية سردية روائية، ذات صياغة فنية جديدة، لها سمتها وخصوصيتها، التي اجتهد الكاتب في استحضار أقصى محفزات الصياغة السردية الفنية لها، بدءاً من لوحة الغلاف، على اعتبار أنها مفتاح السرد البصري، وسره الدلالي، إذ عمد الكابت على كتابة اسم: راشيل كوري، بالخط العريض، وباللون الذهبي، فوق صورة خاصة "لراشيل"؛ وذلك ليكسب العين الباصرة ألقاً بصرياً يمتد في عمق وعيه ووجدانه، وليجعل من قراءته للرواية قراءة إنتاجية مغايرة، تتساوى مع قيمة حجم غياب "راشيل"، وانتهاء بشعرية القص، ومنشورية الرسائل.
حواشي البحث وهوامشه
[1] د. طه وادي، الرواية السياسية، ( القاهرة: دار النشر للجامعات المصرية،،1996م)،ط1، ص:11 .
[2] يمنى العيد، فن الرواية العربية، بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، (بيروت: دار الآداب، 1998م )، ط1، ص:58.
[3] Http: //WWW. Royalcourttheatre. Com / files/downloads /Educaionpack.p2
[4] هارون هاشم رشيد، راشيل كوري، حمامة أولمبيا ( الأردن، عمان: دار المجدلاوي ،2005م)، ط1، ص: 18.
[5] الموقع الالكتروني السابق.
6. نبيل سليمان، سيرة، جريدة الأسبوع الأدبي ( سورية، دمشق)، العدد 1013، 2/7/2006.
[7] خالد الحروب من موقع :
. net / Articles /2006/04/10/22783.htmhttp://www.alarabiya
[8] من موقع : http://www.awu -dam.org/esbou1000/1010-010.htm
[9] هاشم رشيد ، راشيل كوري ، ص 176- 177.
[10] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص7 .
[11] هاشم رشيد ، راشيل كوري ، ص: 9 .
[12] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 10.
[13] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 35.
[14] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص :40- 41.
[15] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص :66.
[16] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 37.
[17] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 13- 15.
[18] د. محمد صابر عبيد، الرواية السير ذاتية سيرنة الرواية أم روينة السيرة، (دمشق :مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، 2006م)عدد 418،.
[19] هاشم الرشيد، راشيل كوري ، ص 22.
[20] هاشم الرشيد، راشيل كوري ، ص 24.
[21] عبد الملك مرتاض، سؤال الكتابة... ومستحيل العدم، (دمشق:مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، 2006م)عدد 417.
[22] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص:26.
[23] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 26.
[24] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 38 – 39.
[25] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 94 – 96.
[26] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 10- 11.
[27] شلوميت ريمون كنعان، التحليل القصصي الشعرية المعاصرة، ترجمة: لحسن أحمامة،( المغرب، الدار البيضاء: دار الثقافة للنشر والتوزيع،1995م) ، ط1، ص:91..
[28] هارون هاشم رشيد، راشيل كوري، ص 18.
[29] Wolfgang Iser , (The reading process,Aphenomenological Approach,) in reader response criticism :From Formalism to post-structuralism,Ed . Jane P.tomkins , London , 1986,p:.54.
[30] أحمد خريس ، ثنائيات إدوار الخراط النصية – دراسة في السردية وتحولات المعنى،( عمان: دار أزمنة للنشر والتوزيع،1998م) ط1،ص :81.
[31] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 20 – 21.
[32] أحمد خريس، ثنائيات إدوار الخراط النصية، ص: 66.
[33] إدوار الخراط ، أصوات الحداثة، (بيروت: دار الآداب، 1999م) ط1 ، ص: 142.
[34] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 36- 37.
[35] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 52.
[36] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 68.
[37] رولان بور نوف وريال أوتيليه، ، ت: نهاد التكرلي، (بغداد: عالم المعرفة1991 م)، ص: 64.
[38] صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، (بيروت: دار الآداب، 1995)، ط1، ص: 156.
[39] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 72- 73.
[40] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 120.
[41] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 40- 44.
[42] هاشم رشيد، راشيل كوري، ص: 69 – 71.
[43] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 72.
[44] هاشم رشيد، راشيل كوري، ص: 72.
[45]http://salam.bettna.com/articals/rt/fl.htm
[46] http://salam.bettna.com/articals/rt/fl.htm
[47] هاشم رشيد، راشيل كوري، ص: 25.
[48] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص:35- 36.
[49] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 25- 26.
[50] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 26- 27.
[51] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 30 – 31.
[52] يمنى العيد، الراوي: الموقع والشكل، ( بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1986) ص:10–11.
[53] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 57 – 58.
[54] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 65.
[55] د. صبري حافظ، قراءة في رواية حديثة، "مالك الحزين" الحداثة والتجسيد المكاني للرؤية الروائية، مجلة فصول، 1984، مجلد 4 عدد 4، ص: 160.
[56] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 75 – 76.
[57] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 92.
[58] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 98 – 99.
[59] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 100.
[60] د. محمد بدوي، الكتابة والحنين، قراءة في رواية "خالتي صفية والدير، مجلة فصول، 1992م، مجلد 11، عدد 2، ص: 255.
[61] د. محمد بدوي، السابق، ص 255.
[62] حسن محمد حماد ، تداخل النصوص في الرواية العربية،( القاهرة:الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م)،ص: 26.
[63] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 133.
[64] د. إبراهيم السعافين، تحولات السرد – دراسات في الرواية العربية،( عمان: دار الشروق، 1996م) ، ط 1،ص: 246.
[65] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 133- 134.
[66] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 135 – 136.
[67] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 137 – 138.
المصادر والمراجع:
1.د. طه وادي، الرواية السياسية، ( القاهرة: دار النشر للجامعات المصرية،،1996م)،ط1.
2.يمنى العيد، فن الرواية العربية، بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، (بيروت: دار الآداب، 1998م )، ط1.
3.Http: //WWW. Royalcourttheatre. Com / files/downloads /Educaionpack.p2
4.هارون هاشم رشيد، راشيل كوري، حمامة أولمبيا ( الأردن، عمان: دار المجدلاوي ،2005م)، ط1، ص: 18.
5.نبيل سليمان، سيرة، جريدة الأسبوع الأدبي ( سورية، دمشق)، العدد 1013، 2/7/2006.
6.. net / Articles /2006/04/10/22783.htm http://www.alarabiya
7.http://www.awu -dam.org/esbou1000/1010-010.htm
8.د. محمد صابر عبيد، الرواية السير ذاتية سيرنة الرواية أم روينة السيرة، (دمشق :مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، 2006م)عدد 418.
9.عبد الملك مرتاض، سؤال الكتابة... ومستحيل العدم، (دمشق: مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، 2006م)عدد 417.
10.شلوميت ريمون كنعان، التحليل القصصي الشعرية المعاصرة، ترجمة: لحسن أحمامة،( المغرب، الدار البيضاء: دار الثقافة للنشر والتوزيع،1995م) ، ط1.
11.Wolfgang Iser , (The reading process,Aphenomenological Approach,) in reader response criticism :From Formalism to post-structuralism,Ed . Jane P.tomkins , London , 1986.
12. أحمد خريس ، ثنائيات إدوار الخراط النصية – دراسة في السردية وتحولات المعنى،( عمان: دار أزمنة للنشر والتوزيع،1998م) ط1.
13.إدوار الخراط، أصوات الحداثة، (بيروت: دار الآداب، 1999م) ط1.
14.رولان بور نوف وريال أوتيليه، ت: نهاد التكرلي، (بغداد: عالم المعرفة1991 م)
15.صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، (بيروت: دار الآداب، 1995)، ط1.
16.http://salam.bettna.com/articals/rt/fl.htm
17.يمنى العيد، الراوي: الموقع والشكل، ( بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1986)
18.د. صبري حافظ، قراءة في رواية حديثة، "مالك الحزين" الحداثة والتجسيد المكاني للرؤية الروائية، مجلة فصول، 1984، مجلد 4 عدد 4.
19.د. محمد بدوي، الكتابة والحنين، قراءة في رواية "خالتي صفية والدير، فصول، 1992م، مجلد 11، عدد 2.
20.حسن محمد حماد ، تداخل النصوص في الرواية العربية،( القاهرة:الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م)
21.د. إبراهيم السعافين، تحولات السرد – دراسات في الرواية العربية،( عمان: دار الشروق،1996م)، ط1
في رواية "راشيل كوري حمامة أولمبيا"
للروائي هارون هاشم رشيد
الباحث
أ.د. موسى إبراهيم أبو دقة
أستاذ النقد الأدبي الحديث والمقارن
بقسم اللغة العربية
عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سابقاً
ملخص: قصد هذا البحث دراسة شخصية فتاة أمريكية, نقشت اسمها علي جدارية الذاكرة الفلسطينية, إنها راشيل كوري, وذلك من خلال مقاربة السرد الروائي والسيري في رواية هارون هاشم رشيد: "راشيل كوري حمامة أولمبيا"؛ حيث شكلت هذه الشخصية بنية السرد التأسيسية، بجميع تداخلاتها, وخصائصها, وجمالياتها.
ولعل بنية السرد الدلالية، كانت متكأ لهذه المقاربة، وأساساً لمنهجيتها المقارنية، التي اعتمدت على تناول أبعادها الإنتاجية، وهي على النحو الآتي:
1-الذاكرة الفنية وحضور الغائب.
2-اسمي راشيل كوري.
3-القرار "راشيل" – هارون.
4-جدلية الحضور والغياب للخطاب الأمريكي.
5-حمالة السرد.
6-القص والقصيدة.
7-جدل الوعي وفلسطين.
8-الرسائل بوصفها منشور السرد ومنتجته.
9-سؤال الذات وشعرية الإجابة في الرسائل.
10-رهانات السرد وجمالية البنية النصية.
11-الكف والمخرز.
12- قاصمة السرد ومستويات السرد البنائية.
وأحسب أن هذا البحث هو الأول الذي تناول بالدرس والتحليل هذه الرواية وهذه الشخصية في آن.
والله ولي التوفيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الذاكرة الفنية وحضور الغائب:
الذاكرة الفلسطينية، المقاومة، والسياسية، والفنية، لا يمكن أن تنسى أو تتناسى تلك الفتاة الأمريكية، التي قضت نحبها على أرض فلسطين في مدينة رفح، انتصاراً للحق، ووقوفاً مع المظلومين من أبناء شعبنا، فهي حاضرة غائبة، لها نصيب في جدارية ذاكرتنا الفنية، التي ليس من طبيعتها أن تنسى الأوفياء. وبالمعنى الملحمي السردي، تلتحم هذه الذاكرة السياسية برديفتها الفنية الحاضرة، وبتراكب مبدع للأجناس: الرواية بالسيرة، والسيرة بالشعر، يتشكل النسيج الفني الخاص للنص الروائي لرواية( راشيل كوري حمامة أولمبيا) لهارون هاشم رشيد.
ومتأمل هذه الرواية يجدها قد قامت على خلفيات ثقافية، وسياسية، وإنسانية، وسيرة فرضت نمطاً جديداً من الكتابة السردية، تتعدى الالتزام بالتقانات الروائية الحديثة، التي تعتمد على قواعد وأصول بعينها، إذ تكثف في هذه الرواية- وضمن إطارها الدلالي، وتشكلها البنيوي- ارتكازها على عنصر المفارقة، الذي شغل حيزاً كبيراً من مساحة المتن الروائي. فالآخر الأمريكي، الذي شكل جرحاً غائراً، وهاجساً قلقاً في الذاكرة الفلسطينية، أصبح العنصر الأبرز، والأحرص على تأكيد وتأصيل الذات الفلسطينية، والأكثر حماية لثوابتها الوطنية، وحقوقها الإنسانية، بل أصبح عنصر مجابهة ووقاية من حالات النكوص، فكان تحولاً إيجابياً، بعد أن اقترن سرد هذا الآخر مع الذات العربية بإخفاقات تاريخية وسياسية مريرة وأليمة، جعلت من اختلافه إبداعاً فردياً، يستحق أن يسجل رؤية فنية واعية وواعدة، تتجاوز حالة الاستعلاء الحضاري والتفوق العلمي الذي يمارسه الغرب، فكان هذا الآخر، الذي جسدته شخصية راشيل كوري أنموذجاً إنسانياً يعي رسالته الأخلاقية، فكان دورها ورسائلها وحياتها، التي أصبحت أشبه بمرافعة احتجاج ضد الصلف والتجبر الحضاري الغربي، بشكل عام، والإسرائيلي الصهيوني، بشكل خاص، مما حتم على القاص أن يثبت هذا الوعي، ويجعله في محرق التركيز السردي لروايته، وكأنه إيذان بميلاد قناعات سياسية غربية جديدة، قادرة على خلق حال استقطاب إنساني لنصرة القضية الفلسطينية، تسعى بقيمها الفكرية والجمالية نحو مغايرة الواقع السياسي الرسمي، وكسر أطره التقليدية الجامدة والعقيمة. هذا الدور للآخر، وضمن سياقه التشكيلي الفني، والسيري الواقعي، وعلاوة عن كونه اختراق للمحرمات العنصرية لمؤسسته الرسمية، هو كاشف فاضح _أيضاً_ لممارساتها، صادم لمشروعها المهيمن، بكل أبعاده: الثقافية والسياسية، والحضارية .... إلخ.
وأياً كانت التأويلات الدلالية الناجزة لهذا الآخر؛ فإن دوره تجاوز مغالطات الخطاب السياسي الصهيوني، وأصبح يتمتع بقدرة فائقة على بلورة حساسية جديدة، لا تقتصر على إبداء حسن النوايا النظرية، أو الخطابات الإنشائية اللفظية، المنطوقة أو المكتوبة، الناتجة عن شعور الذات بالشفقة أو الحزن، إذا افترضنا خطابا إنسانياً متضامناً، هو موقف افتراضي لا يقوم على أسس ومبادئ وحقائق، إنما هو إعلان فاعل، ومنطلق صميم، وإرادة صلبة، وتمرد حقيقي على سلطة القوة الصادمة للحق، بلغ أوجه في النهاية التكوينية الوحشية المعلنة لهذه المبادئ، فكانت مزلزلة، ترددت أصداؤها في جميع المحافل: السياسية، والثقافية، والفنية، وكما يقول د. طه وادي: " إن بطل الرواية السياسية بطل ( إشكالي ) يتحرك– فنياً– في إطار قضية أيديولوجية، قد يقدر على حلها، أو يخفق، أي أنه قد يستطيع أن يناضل عن عقيدته، أو يسقط صريعاً دونها."[1]
اسمي راشيل كوري : ومن الحب ما قتل
إذا كانت كل رواية حكاية، " فإن الحكاية لا تكتسب طابعها الحقيقي إلا بروائيتها، أي بالفن فيها، فالحقيقي بنسيجه الروائي أثر لمرجع تحيل عليه الرواية وترتقي به، في الوقت نفسه، إلى ما هو أبعد من هذا المرجع، إلى ما هو إنساني عام"[2] ولما كانت حكاية راشيل كوري محورية في هذه الرواية؛ فإن هذا الأمر يفسر احتفالية القاص بسيرتها ورسائلها، واهتمامه الشديد بأدق التفاصيل فيها، كما يتضح ذلك منذ اللحظة الأولي للسرد، بدءاً من لوحة غلاف الرواية وعنوانها. فالغلاف عبارة عن صورة فوتوغرافية"لراشيل"، وهي تتوشح الحزن، وكأنه إرهاص بنهاية مأساوية لحياتها، التي انطفأت، فتبددت أحلامها، وتلاشت أوهامها، وهي في زهرة عمرها. وكأن القاص أراد أن يمارس طقوساً درامية، بالأدوات والإجراءات الفنية المختلفة، بما يكفل له بيان شدة المضاعفات الدلالية الضاغطة للألم والحزن والقهر الذي يشعر به.
ويأتي اسم الرواية:"راشيل كوري حمامة أولمبيا"، ليمارس فعل المفارقة دون تلكؤ، مكتوباً بخط ذهبي عريض، وكأنه أراد أن ينتزع منا إقراراً واستحقاقاً وتقديراً ذهبياً لصاحبة هذا الاسم، الذي استحق أن يكتب بالذهب، فجاء ألقاً تشكيلياً، ومتكأ دلالياً ليستكمل أبنية المفارقة؛ لأن صاحبة هذا الاسم أمريكية، "ولدت بتاريخ 10 أبريل 1979م في أولمبيا بواشنطن"[3]، فارقت موطنها، وأهلها؛ "لتحمل معها مهمتها الإنسانية بعد أن قرأت طويلاً، واقتنعت بعدالة ما هي مقدمة عليه، من نصرة لشعب مقهور، ومغلوب على أمره، يواجه وحيداً دولة إرهابية، تتحدى الدنيا، بارتكابها يومياً وكل ساعة أبشع الجرائم الإنسانية. "راشيل" الصبية الوردة، الربيع الثالث والعشرون، ذات الجدائل الذهب، والعيون الساحرة، التي لا أحلى ولا أجمل، الجامعية الموشكة على إنهاء دراستها الجامعية، وهي في سنتها الأخيرة. إنها "راشيل" الغالية التي نبتت، وتربت في أحضان أسرة ناعمة هانئة، كبرت ونمت على تشربها للمبادئ والأخلاق، والتعاليم الإنسانية .. كبرت وهي تستلهم من والديها، الأخلاقيات التي حملتها."[4]
هذه البنية الاجتماعية والأخلاقية المستقرة والعميقة التي اتسمت بها شخصية "راشيل"، لا تحمل في ثناياها تأويلات تحنث بالدلالة الإيجابية للآخر، فهي شخصية ليست كأية شخصية نعرفها لدى الآخر، الذي شكل نفوراً سياسياً تاريخياً، وشرخاً قيمياً وحضارياً، امتد في عناصر التكوين الثقافي للأمة العربية والإسلامية، على حد سواء، حتى أصبحت قراءته على غير هذا النحو، مغايرة لا يسهل التسليم بمنطقها، ما لم تكن مفارقة تمتلك من عناصر القوة والجمال ما يجعلها قادرة على استبعاد مرجفات النفور، وإقصاء فكرة الافتراض القائم بضرورة التسليم السلبي بعداوة الآخر الأمريكي، لهذا كانت حياة "راشيل" مفارقة، وشاهد إثبات يشغف بمغايرة قواعد فهم الآخر، وحتم علينا قراءته من جديد، بنضج ووعي يتجاوز الفهم السائد للمفاهيم السلبية إزاء الغرب.
حين كتبت راشيل كوري مذكراتها معرفة نفسها بقولها: "أنا اسمي راشيل كوري"[5]، لم تكن تتصور أن هذا التعريف سيشكل محوراً دلالياً مهيمناً ومختزلاً لسيرتها، وناهضاً فنياً، ليصبح الأقدر على التعريف بها، حين يُراد لسيرتها الواقعية أن تلتحم باتساق مبدع مع التجربة الفنية؛ وذلك لما يحمله من خواص إنتاجية وترجيعية، قادرة على تحفيز المتلقي لفك شيفرة دلالة هذا الاسم. وقد كان المخرج البريطاني المشهور "Alan Rickman آلن ريكمان" واعياً لهذا التعريف، فعمل على استثماره بصيغته، كما أرادته "راشيل"، فكتب مسرحيته:" أنا اسمي راشيل كوري My Name Is Rachel Corrie " معتمداً على ما نشرته "راشيل"، وبريدها الالكتروني، وسيرتها، "تستثمر السيرة الذكريات والاعترافات، وتتوسل سرود اليوميات والمذكرات والرسائل."[6]
ولما كانت هذه المسرحية تثوي أبعاداً سياسية، وإنسانية، ودرامية تسجيلية، اخترقت بتساؤلاتها أقصى نداءات الغرب الحضارية، تساؤلات أخضعت بمنطقها المخرج "آلن ريكمان"، الذي قال: "أردنا أن نعرف ما الذي دفع فتاة في عمرها لتتحدى نمط الحياة الاستهلاكية المحيط بها وبمثيلاتها في حياتها الهانئة في أميركا. ما الذي قادها لأن تتسيس وتبحث عن مناصرة العدل ... وطارت راشيل كوري إلى رفح لتعانق أطفالها بعد أن تعرفت على حظر التجول ونقاط التفتيش والدبابات. هناك طالت قامتها: قديسة تمارس تمردها وغضبها الإنساني الفوار في وجه دبابات التوحش وبلدوزرات الموت. تزرع جسدها اليافع في أرض رفح ما بين البيت المهدد بالتدمير و"البلدوزر" الذي يجرف الحياة ويرص الموت على أنقاض البيوت. اللحم الطري يحاول إيقاف "البلدوزر" المتقدم، وصوت "راشيل" في مكبر الصوت يصرخ توقف.. توقف.. توقف. عيون المجرم القابض على مقود "البلدوزر" تخترق عيون "راشيل"، هذا الملاك القادم من عمق جوهرنا ليعلن أنه لا تكافؤ بين لحم الأطفال وفولاذ الدبابات"[7]
بسبب هذه التساؤلات، التي تكثفت فنياً، والتي أصبحت على درجة عالية من إنتاج الفاعلية الجمالية الواعية، المسكونة بالشحن الدلالي، الذي يسعى إلى أن يعيد للعقل الغربي منطقه وإنسانيته، منع الاستمرار في عرض هذه المسرحية. تقول الممثلة البريطانية "فينارد غرايف":"إنه أمر معيب أن توضع فتاة ميتة ومذكراتها على اللائحة السوداء ... إنه فكر همجي يعد لقتل الأحياء والأموات ... فأين هي الحقوق الكونية لكل المقهورين والمضطهدين التي يريد هؤلاء الكتاب تأمينها"[8] ومن يستعرض أسباب المنع، سيجدها مترعة بالعنصرية، التي تتجاوز حد الاختلاف في الرأي أو اللغة أو الوطن.
القرار : "راشيل" – هارون
"راشيل"..
من بعيد أقبلت ..
تعبر المحيط،
من بلاد "العم سام"..
كأنها مريم ..
من جديد أقبلت ،
لبيت لحم ..
تقرع الأجراس ..
تقرأ .. السلام ..
أتت إلى أرض المسيح ..
في يمينها غصن زيتون ..
وفي شمالها حمام ..
تهتف للسلام ..
تصرخ للسلام ..
تموت للسلام .. [9]
هذه الإحالة الشعرية، وهي مجتزأة من قصيدة رثى فيها القاص"راشيل"، لم أقصد من إيرادها تحليلاً نقدياً، أو تزيداً لفظياً لا طائل منه، ولكنها إحالة لها قيمتها الدلالية في بيان تلك العلاقة الحميمة التي نشأت بين "راشيل" وهارون بعد موتها، وإن كانت الرواية محور الحمولة الفنية التي قصد هارون أن تجسد هذه العلاقة، بالاشتراك مع الرسائل والشعر، بوصفها مختزنات للسرد ومتممة له، ولن أحاول في هذا الموضع أن أدافع عن هذا الرأي، أو أبينه، لأن تداخل الأجناس وتواشج شعريتها السردية أصبحت من أكثر التقانات الفنية حيوية وجمالاً، بل إنها تمنح السرد تصلباً درامياً له امتداداته وتصوراته التي تجعل من آلية تحطيم الأجناس ميزة إبداعية لا يقوى عليها إلا من تمثل التجربة الفنية تمثلاً حقيقياً .
ومن الواضح أن مواجهة القاص لمفتتح السرد، لم يشكل إشكالية أو عقبة فنية، إذ لم تبخل وقائع سيرة "راشيل" عليه في تمثل وقائعها، وإسناده بعناصر المفارقة التي تتوافق مع رغبته في بناء سمات دالة، ترتبط بشبكة دلالية متعددة الأهداف، منها ما يظفر في تصوير مستقرات المجتمع الأمريكي، والتي يزهو بها، ومع ذلك لم تنجح رهاناته في تحقيق المتطلبات المنطقية والإنسانية للنفس البشرية السوية، ومنها ما يحاول استثمار الالتفات الدلالي للنمط التفكيري المغاير للفتاة الأمريكية المراهقة "راشيل"، التي كان من المنتظر أن تحقق أحلامها المراهقة، في مجتمع لا تمنعه عاداته وتقاليده من ممارسة شهواته، بالطريقة التي يراها. ومنها ما حاول أن يمنح السرد ألقاً غنياً، من خلال الجمع بين شعرية القص والقصيد.
كما تطرح الرواية رهانات التوتر الحضاري، كجزء من ثقافة المجتمع الغربي، التي تفترض ضمنياً قطيعة عنصرية، لا تحتمل التأويل، وإن بدت لنا متواصلة في ظاهر خطابها الاستهلاكي، بجميع مفرداته: السياسية، والمجتمعية، والعلمية، فهي غير متآلفة معنا؛ لذلك كان لمفتتح السرد نكهته الخاصة به: "تلك الليلة، في ذلك البيت الجميل، في شارع "أولميمفيه" بمدينة "أولمبيا Olympia كانت الجلسة الحميمة لراشيل مع والديها كريج وسندي.
جلست "راشيل"إلى والديها لتبرر لهما الخطوة التي قررتها باقتناع تام، .... وقد علماها منذ الصغر، أن تفعل ما تجده مقنعاً لها، ومتمشياً مع رضا ضميرها.
قرار صعب، بالنسبة للوالدين من "أولمبيا" ذلك المكان النائي، في الطرف الآخر للولايات المتحدة الأمريكية على شاطئ المحيط الهادي ... حيث فتاة صبية في ربيع عمرها، الثالث والعشرين، في السنة النهائية لدراستها الجامعية، قدمها على عتبة المستقبل، لبناء حياتها، وتنفيذ طموحاتها وهي الغالية، والعزيزة على الوالدين المحبين، اللذين يتمتعان بقدر كبير من الإنسانية، والفضائل، هما اللذان علماها كيف تكون الحياة الفاضلة ..
قرار رهيب ..
وتوجه خطير ..
وطريق غامض ..
ومستقبل مجهول ..
هذه صورة ما اتخذته"راشيل" من قرار، عندما أعلنت أنها قد انضمت إلى "فريق التضامن الدولي"، العامل في فلسطين، لحماية الشعب الفلسطيني من إرهاب الدولة الذي تمارسه السلطات الإسرائيلية ضده .."[10]
سردياً، يشكل هذا الاجتزاء صدارة المفارقة التي تقوم عليها الرواية، حيث عمد القاص على التركيز على الواقع الاجتماعي ومنظوره، وكثف من حضوره، بوصفه الحاضن الأساسي"لراشيل". وبقراءة بسيطة لدلالات هذا الحاضن، يتبين ما يلي:
1-تثبيت واستحضار فاعلية المكان والمنشأ الغربي– بيت جميل في مدينة أولمبيا بالولايات المتحدة الأمريكية– واستقراره، هي فاعلية لها دلالتها الإيحائية التي تنبئ بأن "راشيل" لم تكن ضائقة ذرعاً بحياتها، أو أنها تعاني من أزمات اقتصادية،أو اجتماعية، أو نفسية، دفعتها إلى المضي قدماً في قرارها المصيري.
2-التركيز على رسوخية العلاقة الوجدانية بين "راشيل" ووالديها، لتمارس هذه العلاقة، بفضائها السيري، ومن خلال الرسائل المتبادلة بينهما، بتصوراتها التخييلية في الرواية والمسرحية.
3-الإخبار بمستواها العلمي، هي محاولة واعية، قصد منها تجريد قرارها، بالانضمام إلى فريق التضامن الدولي، من العبثية اللامسؤولة، أو الحماقة اللامعقولة.
بهذا الوعي، وبهذه الدلالات، " قالت "راشيل"، والحنان يشع من عينيها، ونبرات صوتها: يأمي، ويأبي، أنا أدري أنني اتخذت قراراً يوجع القلب، وخاصة قلب الأب والأم للمخاطر التي تنتظرني، وأن هذه الخطوة، ربما كانت غير ما خططتما لي، وفق معطيات حياتي، وأنا على وشك إنهاء دراستي الجامعية، ولكنني مقتنعة، كل الاقتناع، بعدالة القضية التي أتوجه للنضال عنها، ورغم المخاوف التي تساوركما أدري بأنكما ستساعداني، على مواصلة ما هدفت وانتويت أن أفعل."[11]
هذا القرار الذي شكل ملمحاً رئيسياً لحياة "راشيل"، استثمره القاص استثماراً فنياً عالياً، بوصفه نشاطاً إنسانياً خلاقاً، له قيمته العظيمة في حياة الشعوب، المختلفة في عاداتها، وتقاليدها، ولغاتها، ودينها، ولم يكن سرداً جمالياً تقليدياً، يقوم على تتابع الأحداث، وما ينتج عنها من تفاصيل، وتلافيف صياغية، تشتبك مع سياقاتها المتضادة، التي ترهق المتلقي، وتجعله مشغولاً في المشاكل والاختلاف، دون أن تمنحه أفقاً دلالياً حقيقياً.
جدلية الحضور والغياب للخطاب السياسي الأمريكي:
العلاقة التشابكية الجدلية والتوافقية، التي تحضر حينا وتغيب حيناً آخر، بين الخطاب السياسي الأمريكي وممارسة الفعل الصهيوني، فضحها السرد، وكثف من حضورها، حتى أصبحت حقيقة صلبة لا تحتاج لبرهان، خاصة للمواطن الأمريكي، الذي يجهل حقيقة دور بلده فيما يحدث في الساحة العربية. ومع ذلك حاول السرد أن يبين فرادة موقف "راشيل" من هذه العلاقة الآثمة: "إنني أشعر بعقدة الذنب لأن حكومة بلدي أمريكا تقف مع الظالم ضد المظلوم وتناصر إرهاب الدولة، الذي تمارسه إسرائيل على شعب أعزل يقع تحت الاحتلال، تقتل المدنيين العزل، وتقتل الأطفال والنساء بدون رحمة، ومع ذلك تقف حكومة بلدي مناصرة وداعمة لها ..
قال الوالد :
عزيزتي "راشيل"، أنا أشعر بما تشعرين، وأدري أن كثيرين من الأمريكيين يشعرون بما تشعرين، وأن دافع الضرائب الأمريكي، يؤذيه، ويؤلمه، أنه بتقديم الضرائب للدولة، يدعم الترسانة الإسرائيلية، الإرهابية ويساعدها على ارتكاب جرائمها ضد الإنسانية. بش وجه "راشيل" وقالت:
لذا أعتقد أن ما سأقوم به، هو أقل ما يمكن أن يقدم تكفيراً عن هذه الذنوب"[12] هم يخافونها ويحسبون لها ألف حساب .. لأنها أمريكية، وهم يخافون أمريكا ... وتتساءل مريم: أمريكية لماذا لا تقول"لبوش" أن يأمر الإسرائيليين بالخروج من بلادنا وأن لا يقتلوا الأطفال وأن لا يهدموا البيوت، وأن لا يقتلعوا الأشجار"[13]
" كيف سخرت أمريكا الفيتو لخدمة إسرائيل ... فكلما أجمعت دول العالم على إدانة إسرائيل وحاولت أن تأخذ قراراً بذلك تصدت لها أمريكا بالفيتو وأحبطت قرارها. كانت قضية فلسطين، ومأساة الشعب الفلسطيني، وموقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل، محور الحديث المستمر بين "راشيل" وستيفان."[14]
" لماذا كل هذا ؟ وأغرب من ذلك، أن يقول الرئيس الأمريكي "بوش" إن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، كيف ؟ وأين ؟ ... جيش إسرائيل هو الذي يقتلع الأشجار، ويهدم البيوت، ويغتال الأبرياء، وتأتي أمريكا، لتستعمل حق "الفيتو" عندما يقرر المجتمع الدولي، بعد أن تكون لديه كافة الأدلة، على إجرامها ... إصدار قرار إدانة لإسرائيل تقف أمريكا وتستعمل حق الفيتو لتكرس الإجرام وتحمي المجرمين.
وتهز "راشيل" رأسها قائلة :
إنني جئت من بعيد إلى هنا بعد أن قرأت، وتابعت، وتأكدت من أن حكومة بلدي ترتكب إثماً بدعمها لإسرائيل.
جئت في محاولة صغيرة للتكفير عما يرتكب باسم أمريكا، فشعب أمريكا بريء مما يفعله بوش وحكومته."[15]
وتأسيساً على هذه المجتزآت وغيرها، المنتشرة في الرواية، يمكن القول: إن انتشارها هو انتشار دلالي مبدع، يطل من علٍ، حتى لا يتوهم المتلقي أن مآل السرد وموئله وتأويله، يقتصر على صانع الحدث وحامل وزره الصهيوني فحسب، ويبرئ من سواه، بل إن الخطاب الأمريكي تساوي سردياً مع الفعل الصهيوني، ويتجلى ذلك من خلال الربط المتساوي بين شخصيتين سياسيتين، كما ورد في إحدى رسائلها:" أجيب عن أسئلتهم، باستخدامي القليل مما أعرفه من اللغة العربية قائلة: "بوش" مجنون و"شارون" مجنون ... "بوش" رجل أعمال... "بوش" ليس إلا أداة "[16]
حمالة السرد:
بنسق مرهف، وبموسيقى حزينة، بدأ السرد يعزف ألحان رحلته الدرامية، رحلة ذات أحمال خاصة، ومذاق خاص، ليست كغيرها، فهي لا تقصد التعاقب الزمني، ولا تعتد به، ولكنها أشبه بالوجد الصوفي، حين ينشد نشوته الروحية، بطقوس يتخلى فيها عن منطق الأشياء وماديتها، لا يتيح دعة للإخلاد أو الركون إلى سريالية لا تحق حقاً ولا تقيم عدلاً. فدنت الرحلة وتدلت دلائلها:" أخيراً أضاءت إشارة ربط الأحزمة، والامتناع عن التدخين، وأعلن عن اقتراب هبوط الطائرة ... هاهي الرحلة الطويلة، على وشك الانتهاء عن التدخين، وأعلن عن اقتراب هبوط الطائرة ... هاهي الرحلة الطويلة، على وشك الانتهاء من مدينة "أولمبيا Olympia"، على شاطئ المحيط الهادئ، أبعد نقطة في شمال غرب الولايات المتحدة الأمريكية، إلى النصف الآخر من الكرة الأرضية، عند فلسطين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط رحلة طويلة، وشاقة، ومملة ...
تنفست "راشيل" الصعداء وهي تشد حزام الأمان على وسطها، آملة بلحظات من الراحة، بعد ساعات من العناء ...
خاب ظن "راشيل" ، فما أن نزلت إلى أرض المطار، حتى استقبلتها السلطات الإسرائيلية بالإجراءات البوليسية التعسفية، والمضايقات والاستفزازات، فور ما عرفت أنها واحدة من الناشطات الأمريكيات، المتضامنات مع الشعب الفلسطيني، فأخذت تقوم بإجراءات بوليسية غير عادية، لم يسبق ل"راشيل" أن واجهتها في أي مكان في الدنيا، فقد أوقفها السلطات الإسرائيلية طويلا في غرفة منعزلة، وأخضعتها لعملية تفتيش، قاسية قامت بها مجندة إسرائيلية صلفة .. ضخمة مقطبة الجبين، يرشح من عينيها غضب غير مبرر، قامت بتفتيش "راشيل" من رأسها إلى قدميها، بعد أن جردتها من ملابسها ...
عند معبر "إيرز" مدخل قطاع غزة من الناحية الشمالية، أخضعت "راشيل" مرة أخرى للمسائلة، والتحقيق والتدقيق في أوراقها، وتفتيشها ذاتها، ورأت بعينها الوحشية التي يعامل بها العمال الفلسطينيون عند هذا المعبر من اعتداءات، ومساءلات، في الدخول، والعودة كأنما هم على بوابة الجحيم ... انطلقت السيارة تاركة معبر "إيرز" لتدخل قطاع غزة الذي كم قرأت وسمعت عنه، وكم حزنت لما يعانيه."[17] وبدأت الرحلة في فلسطين.
بهذه البداهة الآسرة لبداية السرد، بدا متجاوزاً للتخييل ومستوياته، وافتراضاته، وإشاراته، إلى التماثل الواقعي للقائم السياسي؛ للدلالة على أن التشكيل البنيوي الحقيقي للسرد وإيقاعه، يكمن في إبراز الخصوصية الدرامية الفلسطينية، وإن غاب التكافؤ القياسي بين بنية التجربة التخييلية ومستوياتها الدلالية والتجربة الموضوعية الفلسطينية، التي تعتبر الأكثر قدرة في تصوير دراميتها، خاصة حين تنفتح على ما هو واقعي سيري، الذي يرتبط باتساق تام مع جراح وآلام الذات العربية.
بناء عليه،"يغيب الروائي المتخيل نسبياً لصالح السيرذاتي، وتدخله في توجيه الذات الساردة، وهي تستأنف رثائها الدامي لذاتها وللأشياء، في الوقت الذي تصبح فيه اللغة دون قدرتها على تمثيل التجربة وتصوير حساسيتها التي أثقلت الذات الساردة بفداحة الغياب والخسران."[18]
لم يكن القهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للإنسان الفلسطيني غائباً عن حمالة السرد "راشيل"، التي ذهلت من كثافة السكان، وفقرهم، في قطاع غزة، علاوة على كثافة وجود الحواجز الإسرائيلية التي عملت على تمزيقه إرباً إرباً:" قطاع غزة قطاع صغير، طوله لا يزيد على 45 كيلو متراً، ويتراوح عرضه بين خمسة إلى ثمانية كيلو مترات، يحتشد فيه حوالي مليون إنسان، أكثر من الثلثين فيه من اللاجئين الذين انتزعوا من مدنهم وقراهم، ومن منازلهم ، ومزارعهم ... على درجة من الفقر الشديد، والقطاع على رغم من ضيقه وصغره، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتقطيعه، وإقامة الحواجز المحصنة بالجدران الأسمنتية، والأبراج، وعشرات الدبابات المزودة بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً."[19]
"راشيل" في رفح : القص والقصيدة
" الطائر الجميل الملون ...
"راشيل" الحلوة كما البدر،
الشباب الناضر، المتدفق بالحيوية.
هاهي تصل رفح .. تقتحم العاصفة .. تتحدى الإرهاب .. "[20]
هذه الأغراس الشعرية، وتجليات كشوفها المعرفية، وسحر جمالها، وكسرها للتجنيس الكتابي، حتى أصبحنا لا نعرف إن كنا نقرأ شعراً أم قصة، جعلت من السرد كتابة حداثية: "تربأ بهويتها عن التصنيف: فلا الشعر شعر، ولا الرواية رواية ولا القصة قصة، ولكنها قبل كل شيء وفي كل الأطوار كتابة، ولا يمكن أن تكون إلا كتابة، حتى لو شاءت أن تمرق من جلدها لما مرقت، ولو أرادت أن تبرأ من نفسها لما برئت. فالرواية تعمد إلى الشعرية فتبنى بها صور لغتها. والقصيدة تعمد إلى السردية تتسرد بها أحداثها، وتقيم على غرارها حوارها ... فالكتابة لا تعادل إلا نفسها، داخل نفسها، فتعادل الصمت، والعدم والمستحيل، والتلاشي، واللا شيء .."[21]
وليس بخاف على أحد، أن توظيف مثل هذه الكتابة، العابرة للأنواع، ومثل هذه المنمنمات الشعرية، ما كانت لتصدر إلا عن نفس شاعرة، محبة لوطنها، ولكل من ينصره، فاستحقتها "راشيل"؛ لتكون لها وساماً فنياً، وإعلاناً مثبتاً برفيع مقامها، وعلو مكانتها لدى الراوي، بعد دخولها لأكثر المناطق خطورة، وتحدياً للجانب الصهيوني.
إن مدخلا شعرياً كهذا، لا يمكن اعتباره متاهة نصية سردية، لا دلالة له، ولكنه مدخل دلالي نادب، يقصد إنتاج حساسية إدراكية، متوجسة خيفة على مصير"راشيل": على أرض رفح، المدينة التي اختارتها، وهي هناك في مدينتها "أولمبيا" حلمت، بأن تنتقل من الأحضان هناك إلى أحضان مدينة رفح." [22]
هذا الاحتضان، وبغض النظر عن التفاصيل، ينبئ سردياً، بأن أحداثاً بالغة الأهمية ستحدث في رفح، وبالتالي، عمل السرد على استفزاز أقصى الطاقات التصويرية الذهنية والجمالية للمتلقي؛ ليدفعه نحو إعادة ترميم الواقع السياسي والإنساني المأزوم، الذي يرفض أن يقيم مقارنة للمعاش بين أولمبيا ورفح، وتتساءل"راشيل" بلغة استنكارية رافضة لمنطق هذا العالم المعاصر، الذي ينغلق بحضارته وإنسانية ثقافته، وذاكرته التاريخية أمام هذه المدينة "أحقاً هذه المدينة تنتمي إلى الأرض ... ؟
أتدخل عالماً له علاقة بالعصر ؟
أين هي الحضارة المزعومة التي تكذب علينا .. من الوهلة الأولى، أحست"راشيل" بمأساة المدينة المغتالة ... ورأت الفارق الكبير بينها، وبين رفح التي سمعت عنها، وقرأت ... الكارثة أكبر بكثير." [23]
هذا القص القصيد، لم يكن مشهداً درامياً غائباً عن الحياة السياسية الفلسطينية، اكتشفته نبوءة حمالة السرد الكاشفة، ولكنه إدراك متأخر، عملي، وفردي، لوعي "راشيل"، الذي عاش مرحلة طويلة تحت وطأة الزيف والتيه، والعنصرية، التي تفرق بين إنسان وآخر، ولقد جسدت "راشيل" تشكل الوعي الحقيقي، الجديد لها في رسائلها، التي كانت ترسلها لأمها: " لم يكن في مستطاع أي قدر من القراءات، أو حضور المؤتمرات، أو الاطلاع على الوثائق، أو الكلمات التي تخرج من أفواه الآخرين أن تجعلني قادرة على مواجهة حقيقة الوضع هنا، فلا يمكن لك أن تتخيلي الوضع هنا إلا إذا شاهدته بنفسك، وحتى لو أقدمت على ذلك، ستدركين دائماً أن تجربتك مع هذا الواقع بعيدة كل البعد عن الحقيقة نفسها، فماذا هي الصعوبات التي قد يواجهها الجيش الإسرائيلي، إذا قام بإطلاق النار على مواطن أمريكي أعزل، وماذا عن حقيقة أنني أمتلك من المال، ما يمكنني من شراء المياه، في الوقت الذي يسعى فيه الجيش دون هوادة، إلى تدمير آبار المياه .. أما الآن، وبعد تفكير مستدرك، فأنا أمكث حاليا في رفح .. "راشيل."[24]
من هذا الوعي الجديد الذي رصدته الرسائل، بنى السرد عناصره التخييلية الواقعية التي تجلت في صورة مونولوج: "لا تدري "راشيل" ما الذي جعلها تستحضر"روزيت" زميلتها في الكلية الليلة، تذكرتها، وتذكرت ما كان يدور بينهما من حوار، لا يتوقف، ويصل أحياناً درجة الشجار ..
"روزيت" تكره العرب، وتكره المسلمين، متأثرة بحقد دفين، لم تعرف له "راشيل" سبباً، فقد كانت من حين لآخر، تتعمد أن تثير "راشيل" وتستفزها بحديثها، المتواصل عن الشرق الأوسط المتخلف، وعن العرب الأجلاف، والحفاة، والقتلة، وبالمقابل، عن إسرائيل واحة الديمقراطية ... الحمل الوديع المحاط بذئاب تريد أن تنهشه.
تذكرت "راشيل" صاحبتها الليلة ... وكيف تردد بغباء، ما تتناقله أجهزة الإعلام الأمريكية وما يقوله الرئيس "بوش" والوزير "رامسفيلد" ومحطة ( SNN ) ، دون أن تحاول بأية طريقة أن تتحقق ما تسمع، أو أن تجد لمواقف رئيسها مبرراً، فهي دائمة الحديث عن أمريكا الإمبراطورية الأقوى، التي ترعب العالم .. "روزيت " شأنها شأن شريحة كبيرة من الأمريكيين الذين يستقون معلوماتهم من أجهزة الإعلام الموجهة، والتي في الغالب تسيطر عليها جهات صهيونية، لأنها تجيء دائماً منحازة لإسرائيل ... ليت "روزيت" تأتي إلى هنا ... تقول "راشيل" ... ليت "روزيت " تأتي إلى رفح."[25]
هذه اللغة التذكرية الرامزة، قصدت أن تجوس بشاعريتها الخطاب السياسي الأمريكي الرسمي، وديناميكيته المحسوبة لصالح الكيان الصهيوني، ورفضها له، بل إنها اجتهدت وبمشقة لخلخلة هذا الموقف الرسمي، وحرف فلسفته الإعلامية، القائمة على نزعة عنصرية. كما أنها تفترض عداء الآخرين، وتتوجس خيفة من أفعالهم وأفكارهم، ففرضت قطيعة ذهنية وقيمية مع العرب والمسلمين، مما أوجد تضاداً لافتاً في طبيعة البنية التفكيرية، والديمقراطية، والحضارية للشعب الأمريكي، الذي يطمح إلى تحقيق الحرية والعدالة والمساواة لنفسه، ويتبرأ من حق الآخرين في ممارستها والتمتع بها.
جدل الوعي وفلسطين :
إن إعلان ناصر الوعي وجدليته لدى "راشيل"، وصرخات احتجاجها، وإدانتها المعلنة لهذا الواقع المأزوم، لم يكن مجرد بنية تعبيرية جزلة منتظمة، أو إشارة لإنشاء تخييلات جمالية، تم إدراجها في صلب السرد؛ لتوسيع آفاق قراءة المتلقي، بالقدر الذي سعى فيه القاص، منذ البداية، إلى بيان مكونات هذا الوعي ومداراته، بطريقة تكفل للمتلقي ربط حيثيات البداية مع ما يتلوها من مواقف إلى النهاية: "من زمن وأنا أتابع قضية الشعب الفلسطيني، وقد شاركت في المظاهرات، والاحتجاجات، والاعتصامات، ولكني لم أجد أية جدوى لذلك، لأن أصواتنا كانت تحجب، فالإعلام عندنا منحاز كما الحكومة إلى إسرائيل ...
لهذا وجدت أن من الضروري أن أكون هناك في فلسطين: لأعلن احتجاجي، وأتضامن مع المظلومين، فكرت في ذلك طويلاً وتناقشت مع أصدقائي، إلى أن وصلت إلى القناعة ... بأن وجودي هناك هو وسيلة التعبير عما في أعماقي، من تضامن مع الشعب الفلسطيني، ولكي أكون درعاً بشرياً، لحماية العائلات المهددة.."[26]
إن ما نقرؤه في هذا المجتزأ، يمثل بداية صراع الوعي، ولوازمه الدالة عليه، "ويصلح كل عنصر في النص كمؤشر للشخصية "[27]، فالأحداث التي تلاحقت – فيما بعد – شكلت الشخصية، وضوابطها الواعية لما يدور حولها خارج سياقات السرد: "من بعيد .. جاءت "راشيل" تحمل معها مهمتها الإنسانية بعد أن قرأت طويلاً، واقتنعت بعدالة ماهي مقدمة عليه، من نصرة لشعب مقهور، ومغلوب على أمره، يواجه وحيداً، دولة إرهابية، تتحدى الدنيا، بارتكابها يومياً وكل ساعة أبشع الجرائم الإنسانية."[28]
ولعل انسباك هذه المكونات في نسيج سردي خلاق، امتلأ بأنساغ تركيبية محكمة، جعلت للصياغة التعبيرية خاصيتها الدلالية، القادرة على إحداث التفاتة درامية مشبعة برموز الواقع المأساوي. يقول "وولفجانج آيرز": "إنه النص الأدبي الذي يفعل قدراتنا الخاصة، كي يمكننا من إعادة خلق العالم الذي يقدمه. والناتج من هذا التفعيل الخلاق هو ما نستطيع أن نطلق عليه (البعد الافتراضي) Virtual dimension )) للنص، الذي يمنحه وجوده الحقيقي. وهذا البعد الافتراضي ليس النص ذاته وليس خيال القارئ كذلك، إنه اجتماع الأمرين معاً، النص والخيال."[29]
ويتجلى الميتاقص، بفاعليته الملموسة في السرد، "والميتاقص: مصطلح أسبغ على الكتابة الواعية بذاتها ، التي تجذب الانتباه– تنظيماً– نحو وضعيتها (=حالتها) ، بوصفها نتاجاً مصنعاً، كي تطرح أسئلة حول العلاقة بين القص والواقع، وهو جماع لفعاليات كسر الإيهام القصي الذي يقوم به الراوي كلي العلم– في العادة– ليقدم تصوراً حول ما يحدث كتابياً."[30]
ومن المجتزآت التي تمثل انتظام "الميتانص" دلاليا في السرد، هذا المشهد المتسائل، الذي يجسد حالة مفصلية في تيار الوعي الذي يسري في الرواية: "وما أطولها الأحاديث التي كانت تدور بين "راشيل"، وبين زملائها، حول ما يجري في فلسطين ... ونتسائل ... دائماً ... كما تتساءل الآن وهي على سريرها في غزة ... بعيداً جداً عن مدينتها الحبيبة "أولمبيا" وعن أسرتها الحبيبة. كيف يتم هذا ؟
ولماذا ..؟
سؤال يدق رأسها بمطارق لا تتوقف ... سؤال يطارد السكون، ويطرد النوم .."[31]
الرسائل بوصفها منشور السرد ومنتجته وبنيته:
تحتل الرسائل موقعاً باصراً، ومهيمناً، في بنية السرد وامتداداته الدلالية، بل إنها تشكل الأمثولة الكلية، المنتجة لإجراءاته التعبيرية، الاستراتيجية منها والمرحلية، "تقوم تقنية الرسائل Epistolary، بصورة عامة، على إفساح المجال أمام الشخصيات المضطلعة بإنتاج الأفعال والأحداث، لتتكلم بحرية كاملة، مساعدة الشخصيات على إبراز مشاعرها وعواطفها دون تدخل مباشر للراوي، وبانقطاع نسبي لمنتجي الرسائل عما آلت، وستؤول إليه، وقائع السرد، ذلك أن تعبر عن لحظات زمنية خاصة، لا يبرر وجودها، أو جمعها في حيز ما، إلا السياق السردي الجديد الذي تندرج فيه."[32]
والرسائل– من مطلع رواية "راشيل" وبدايتها– ضرب من الرؤية اليقظة، إنها نزع من التحرر الذاتي للوعي، الذي يتجاوز نعيب الآخر، وقدرته–الهائلة– على تزييف الوعي وتضليله، "فلا يهضب الوعي هنا بالأحاسيس المتضاربة غير المعللة، ولا يتدفق في تيار عارم جياش، بل يسير في خطوط مقننة ومرسومة ومنيرة "[33]
وتمارس هذه الثقافة– من الرسالة الأولى– فعلها الدلالي، وإمكاناتها التصويرية، المشحونة بأقصى درجات التعبير الدرامية، اعتماداً على الوقائع، في الأراضي الفلسطينية، التي لا يلتبس–على العاقل– فهم منطقها، وعلة تكاثرها، على نحو تسقط فيه أقنعة التأويل، وتتلاشى فيه أخيلة الحالمين بالسلام:"أصدقائي، أسرتي، بعد التحية والسلام ...
لقد مضى على قدومي إلى فلسطين أسبوعان وساعة واحدة، حتى الآن، ومازال لدى القليل من الكلمات، لوصف ما أشاهده في فلسطين، إذ يصعب علي للغاية التفكير فيما يحدث هنا، عندما أبعث برسائلي إليكم، في الولايات المتحدة، فلا أعرف إذا كان العديد من الأطفال هنا، قد عاشوا يوما ما، دون أن يشاهدوا الثقوب التي أحدثتها المدرعات الإسرائيلية، في حوائط منازلهم ... فقد قامت دبابة إسرائيلية، بإطلاق النار، على صبي يبلغ من العمر ثمانية أعوام، وأردته قتيلاً."[34]
ولعل الخاصية، الأكثر تركيباً، في جميع رسائل الرواية، بخلاف شعريتها المألوفة، ووجدانيتها الرومانسية، خاصيتها التسجيلية، التي تمارس حضوراً قوياً، سواء أكان ذلك على مستوى صياغة السرد، وجسارته اللغوية أم على مستوى تسجيل اللحظات الدرامية– الكثيرة– في حياة الشعب الفلسطيني، تسجيلاً سينمائياً، يكشف عن عمق المغامرة السياسية الذاهبة إليها "راشيل": " لقد بدأ الجيش الإسرائيلي الآن، في واقع الأمر في حفر الطريق إلى غزة، وإغلاق نقطتي التفتيش الرئيسيتين، وهذا يعني عدم قدرة الفلسطينيين على الذهاب للجامعة للتسجيل للفصل الدراسي القادم ... وأعتقد أن أكثر المخاطر المحتملة التي ستعوقني هي التعرض للاعتقال في حال توسع إطار الهجمات، إذ إن تحرك الإسرائيليين لإعادة احتلال غزة قد يؤدي إلى تصاعد حدة الغضب، مقارنة بمحاولات " شارون" الاغتيالية خلال مفاوضات السلام، وإستراتيجية نزع الأراضي بالقوة، والتي تسير على وتيرة متواصلة حتى الآن."[35]
وتبدو رسالتها الثالثة– وهي الأطول في جميع رسائلها– مسكونة بالتوجس والخوف، وكأنها إجابات مستفيضة، لأسئلة قلقة عليها، وكأنها مهاد رثائي، ترثي فيه "راشيل" نفسها، بعد أن شعرت بارتفاع في وتيرة العنف، ورؤيتها للأحلام المزعجة التي أصبحت تراودها بشكل دائم. والأحلام ليست بمجرد كلمات لغوية، ذات دلالة معجمية أو سياقية، فهي في الحيز السردي الروائي، منطقة حساسة دلالياً، لارتباطاتها النفسية والعقلية والواقعية، وما يناوشها من عناصر رامزة، خاصة إن شكلت نبوءة تحققت في نهاية الرواية: "إنني مشتاقة كثيراً إليك يأمي، لقد عانيت من الأحلام المفزعة التي أرى فيها الدبابات و"البلدوزرات" خارج منزلنا وأنا وأنت بداخله، ففي بعض الأحيان أقوم باستخدام "الأدرينالين"، كمهدئ لأسابيع، ولكن سريعاً ما يحل المساء أو الليل، وتنتابني هذه الأحلام ثانية، فهي أحلام تجسد القليل من واقع الموقف هنا، إنني حقاً أخاف على الناس هنا ... فبالأمس، كنت أراقب أحد الآباء يقود طفليه الصغيرين، ممسكاً بأيديهما بعيداً عن رؤية الدبابات"[36]
ويتوالى الرصد، والتسجيل، والتصوير، في الرسائل، لأدق التفاصيل اليومية، التي تعيشها "راشيل"، ويعيشها الشعب الفلسطيني، دون مجازات لغوية، أو إيهامات تخييلية مصطنعة، من أجل انتظام السرد وإيقاعه الدلالي، لأن"الواقع (= الرسائل) يقتحم ميدان السرد كأنه لطمة."[37]
فما تسفر عنه تفاصيل الرسالة، من مشاهد درامية دامية، خرجت من رحم المعاناة الفلسطينية،"المترعة بدراميتها القومية / الكونية."[38]
وأحسب أن منطق ذكر هذه التفاصيل، يكمن في رغبتها التبرؤ من لعنة الموقف السياسي الأمريكي الرسمي، ووقوعها تحت تأثير رفضه، يجعلها دائماً تحاول أن تتخذ موقفاً مضاداً معلناً، مما يدفع وعي المتلقي العربي نحو التجربة الفردية الفريدة بإنسانيتها، مع محاولة تغييب الموقف الرسمي، لدولتها:" إنني أشعر بالإحباط لأن الوضع هو ركيزة واقع عالمنا، وإننا في الحقيقة نضطلع بدور فيه، فلم يكن هذا بالقطع ما رغبت فيه عندما جئت إلى هذا العالم، ولم يكن هذا ما يبغيه الناس هنا، عندما تفتحت أعينهم على الدنيا، وهذا ليس العالم الذي رغبت فيه أنت وأبي، عندما قررتما أن تؤتيا بي إليه، لم يكن هذا ما قصدته عندما أنظر إلى (Capital Lake) وأقول: هذا العالم الواسع وأنني آتية إليه. لم أكن أعني أنني سآتي إلى عالم، حيث أستطيع أن أنعم بحياة مريحة، دون بذل أي مجهود، وأعيش وأجهل الدور الذي أشارك به في الإبادة العرقية، هناك انفجارات عديدة وكثيرة، وقعت في مكان ما بالخارج، عندما أعود إلى الولايات المتحدة من فلسطين سأعاني – من المحتمل– من الأحلام المفزعة، وسأشعر باستمرار بالذنب، لعدم وجودي هنا في فلسطين، لكنني قد أنقل ما يحدث هنا عبر كتابة الكثير من الأعمال، إن حضوري إلى هنا من أفضل الأشياء التي قمت بها في حياتي، فإذا ما جن جنوني وإذا ما عهد الجيش الإسرائيلي إلى خرق ميولهم العنصرية، وهي الابتعاد عن إيذاء ذوي البشرة البيضاء، فأرجو يا أمي أن تركزي بشدة على حقيقة أنني أعيش هنا، وسط الإبادة العرقية، التي أؤيدها أيضاً بشكل غير مباشر، وتتحمل حكومتي مسئوليتها."[39]
ولم تقصد أن تصف الواقع المأساوي فحسب، ولكنها عبرت عبر توظيف وسائل استقطاب قوية، وجدانية، وعقلية، ودلالية كبيرة، عن امتلاء ذاتها بهذا الواقع، فأصبح اللاوعي، كوسيط نفسي، يبرز باطن النفس، وما يعتمل بوعيها الداخلي، فكانت الأحلام المفزعة، والضغط النفسي، والقلق الكبير، مما دفعها لاستخدام مهدئ الأعصاب. ويمتاز هذا الاستخدام بقدرته المذهلة على شحن الذات المتلقية شحنا دلالياً مكثفاً، إذ لم يجبر أحد "راشيل" الأمريكية على تحدي هذا الواقع الضاج بالظلم، مما يثير الشفقة والوعي في آن، الشفقة على حال "راشيل" التي تسير على حواف الانهيار، بعيدة عن أهلها، وأصدقائها، ومدينتها، وقد كان بإمكانها الابتعاد عن هذا الواقع، وعدم الاكتراث به، على الأقل شعورياً، إلا أن شيئاً من هذا لم يتحقق، فهي في الوعي واللاوعي مرتبطة بهذا الواقع ارتباطاً حميماً، ويستشار الوعي حين تبدو ملامح هذا الالتصاق أكثر تجذراً، عندما تعلن بوعي مبدئي عن نيتها البقاء في رفح؛ وفاء للقيم، وانتصاراً للحق، تقول بلغة تكاد أن تكون إلى حد كبير منولوج: "وللحقيقة أنا لا أرغب في العودة إلى بيتنا في أولمبيا(Olympia) وإن كنت مضطرة إلى الذهاب لإخراج بعض حاجياتي من الكراج. كما أنوي أن أنقل للجميع التجربة التي قمت بها هنا، وكما أشعر في الوقت نفسه بأنني وقد عبرت المحيط، مازالت لدي الرغبة بأني أبقى هنا، لمدة أخرى حيث أنني ارتبطت بهؤلاء الناس، وبمأساتهم .... حتى أنني أفكر في العمل بتدريس اللغة الإنجليزية، وتعلم اللغة العربية... إنني لا أريد أن أترك رفح، دون أن تكون لدى خطة واضحة للعودة إليها."[40]
وعلى أساس من هذه العلاقة، كما توثقها الرسائل، بدا السرد أكثر ثقة في اقتناص هذه الصيغ التعبيرية، وتوسل إدراكاتها السيرية، وحساسيتها الجمالية، وتجربتها الدلالية، ونقلها بوعي مبدع – يفترض متانة العلاقة وجدليتها بين القاص و"راشيل" – وتحويلها إلى منجز إبداعي قادر على استيعاب مفردات الواقع، وحمولاته، واحتمالاته، التي تتجاوز الوصف البصري، لما يحدث على أرض الواقع. وبالتالي فإن اندغام جماليات التقابل بين الرسالة والسرد، يشكل تخليقاً فنياً مبدعاً، يسقط حسابات الفصل التجنيسي، بين ما هو سردي يختبئ خلف الرسالة، وبين ما هو رسالة تختبئ خلف ما هو سردي.
وإيغالاً في هذا المزج، ورغبة من القاص في صوغهما في نسيج واحد، بعيداً عن الفصل، عمد في سياق الرواية، إلى استخدام الأسماء الحقيقية لزملاء "راشيل"، وشهود الحدث، كما أثبت ذلك في مقدمة الرواية، وكأنه أراد– منذ البداية– أن يرسخ العلاقة السببية والمنطقية بين الأحداث والسرد والرسائل.
فمثلاً، لم يفارق السرد الحقيقة– وبمناظرة شديدة مع الأحداث والوقائع– حين قام ببناء صيغة رومانسية لقصة حب بين "راشيل" و"استيفيان" السويدي، الذي حضر من مدينة "استوكهولم"، لنفس السبب الذي حضرت من أجله "راشيل"، فكانت العلاقة مقنعة تقوم على أسس سببية، من التشابه في الأفكار والمبادئ بينهما، مع الاتفاق على الخطوات العملية الإجرائية، لمواجهة شتى أشكال الظلم والتعسف والجور: "وطويلاً كانت تمر الساعات،و"راشيل" تصغي إلى "ستيفان"، وهو يتحدث إليها في مختلف قضايا الدول والشعوب الفقيرة، وقضايا الإنسان، وعندما يصل إلى القضية الفلسطينية، لا يتوقف عن الحديث عن جوانبها المختلفة، سياسية، أو إنسانية، دولية أو محلية ... ويركز على مواقف الدول الإمبريالية تجاهها وكيف، أن مصالح الدولتين، الأمريكية، والبريطانية، التقت مع المصالح الصهيونية ... كانت قضية فلسطين، ومأساة الشعب الفلسطيني، ومواقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل، محور الحديث المستمر بين "راشيل"و" ستيفان" بل كان الموقف الإنساني المشترك لهما، السبب الأول الذي يجمعهما معا ... في مشاركه حميمة ... ظلت تتحرك داخلهما، دون أن يعبر أحدهما للآخر بما في صدره.
إلى أن كانا بالصدفة، يسيران معاً برفقة "توم ديل"و" جوزيف" في أحد شوارع مخيم "حي السلام" حيث تنتشر الدبابات، ومدافعها الرشاشة، وقاذفاتها ...
وفجأة دوي الرصاص، لا يدري أحد من أين، أو أي من هذه القلاع المنتشرة، أطلقه، ... ولكنهم رأوا شاباً فلسطينياً كان من لحظات يمر من أمامهم، قد أرداه الرصاص ... دونما سبب كان مشهداً مخيفاً، هوى الشاب مرة واحدة، وهمدت الجثة فوراً ... توقفت "راشيل" و" استيفان" وبقية المجموعة، مأخوذين بالمشهد المرعب، ... وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم، رأوا الإسرائيليين يعاودون إطلاق النار على الجثة، في رغبة لتفجيرها، وتشويه معالمها.
قررت "راشيل" و"استيفان" ومن معهما،... التصدي لحماية الجثة ... وعيون الجنود الإسرائيليين تتابعها، وبنادقهم تلاحقها ... ولم تتوقف، عند أصحابها بل اندفعت بسرعة، وبشجاعة نحو جثة الشهيد دون أن تلتفت يميناً أو يساراً ودون أن يخيفها أو يوقف تقدمها، زخ الرصاص الذي يلعلع فوق رأسها، أو أمامها، أو خلفها، وهي مصرة على الوصول إلى الجثة مهما كلف الثمن .... في طريق عودة "راشيل" إلى منزل الدكتور سمير، اقترح عليها "استيفان" أن يقوما بجولة في أنحاء المخيم .... إذ ما زالت هناك فسحة من الوقت ... كانت تلك فرصة، ليعبر فيها "استيفان" "لراشيل"عما يجول في خاطره، وعما تكنه نفسه لها من محبة، ورغبته في الارتباط بها، وإعلان خطبتهما.
أحس "استيفان" من الوهلة الأولى، بأن رغبته تلك لم تكن مفاجأة "لراشيل"، إذ بدت السعادة والفرحة في عينيها، ووجهها، لأنها كانت قد ارتاحت إليه من اللحظات الأولى التي التقته فيها."[41]
هذا المجتزأ يشكل أقصوصة فنية مكتملة العناصر، أحداثها وقعت على وجه الحقيقة، تتشابك في مفاصلها السردية، ودلالاتها الكبرى مع الذات الساردة في الرسائل، فكل منهما ينتمي إلى الآخر، في توافق وتفاعل واعتماد متبادل، دون أن يلغي أحدهما الآخر، أو يمارس عليه تفوقه التجنيسي. ومن ثم فإن العلاقة الطردية بينهما، تصبح تأسيسية، على الرغم من قيامها على ثنائيات نصية: السرد، والرسائل، والشعر، والأخبار.
سؤال الذات وشعرية الإجابة في الرسائل
اللوامة، والتأنيب، والشعور بالذنب، جميعها عناصر شعورية ذات أحمال فاعلة في إنتاج الدلالة، وجمالياتها السردية، كما أوضحتها الرسائل، ومع ذلك لم تملأ فراغ الذات الساردة، فلجأت إلى ثقافة فنية هي الأشد تأثيراً في النفس، وهي السؤال، الذي تم استحضاره، ليشكل حواراً مقارناً واعياً بين ما هو واقع فلسطيني، وبين ما يمكن أن يحدث لو أن ما يحدث في فلسطين يمكن أن يحدث في أمريكا مثلاً، ذلك لبيان مستويات الانحراف القياسي في موازين السياسة: "تأتي "البلدوزرات"، وتقتلع مزارع الناس، وحدائقهم المليئة بالخضرة، فماذا تبقي لهؤلاء الأشخاص؟ أخبريني إذا استطاعت التفكير في أي شيء .... أما أنا فلا أستطيع.
فماذا يحدث، عندما تنقلب حياة أحد منا ورفاهيته، رأساً على عقب، ويلجأ إلى العيش مع أبنائه داخل مكان ضيق، مكان اعتدنا التردد عليه بسبب تجربتنا السابقة مع هذا الوضع، والتفكير في أن هؤلاء الجنود يأتون فوق الدبابات، في أية لحظة، وتعمد إلى تدمير كافة المنازل المحاطة بالخضرة، التي قمنا بزراعتها لفترة زمنية ما، يقومون بذلك بينما ينهالون بالضرب، على بعضنا واعتقاله ... فهل تعتقدين أننا قد نحاول استخدام وسائل العنف لحماية القليل مما تبقى؟ إنني أفكر في ذلك خاصة عندما أرى زهور"الأركيد" والمساحات الخضراء حول المنازل، وأشجار الفاكهة قد دمرت، بعد أن لاقت سنوات من الرعاية والزراعة، بل إنني أفكر فيك أيضاً، وكم تستغرقين من وقت، لزراعة النباتات والخضرة ... فإذا ما تعرضنا للموقف نفسه، فإنني أعتقد أن معظم الأشخاص قد يحاولون الدفاع عن أنفسهم بقدر المستطاع، فالعم "كريج" وجدتي وأنا لن نتوانى عن ذلك.
كنت قد سألتني عن المقاومة السلمية .
إنني لا أستطيع في واقع الأمر تصديق أن شيء مثل هذا قد يحدث في العالم، دون إعلاء صرخة الاحتجاج إزاء ما يحدث، إن ما يجدد الآلام بداخلي، مثلما كان يحدث في الماضي، هو مراقبة كيف يمكن لنا أن نسمح للعالم، أن يصل إلى ما هو عليه الآن؟"[42]
حين نعاين نسقية توالي هذه الأسئلة، وانهمارها على بنية السرد، نصطدم بمفارقة المقارنة بين الواقعين الفلسطيني،الأمريكي، التي تمثلها شذرات إشارية استنكارية، ترفض أن يقوم أساس التمايز بين الناس على أسس جغرافية، أو سياسية، بل إنها تقترح على المتلقي وتجبره على تبني الموقف الفلسطيني في حقه في الدفاع عن نفسه، تماماً كما يفترض أن يكون موقفها، لو أنها تعرضت لما يتعرض له المواطن الفلسطيني.
وتدل هذه الانشغالات المتسائلة، وحيثياتها الدلالية، على أنها تقترح الدلالة الكبرى للرواية "أشهد هنا إبادة عرقية، مزمنة وماكرة، وإنني حقاً خائفة، وأتوجه بأسئلتي لإيماني الأساسي بطبيعة الطبيعة البشرية، لكن يجب أن يتوقف هذا" [43]
وتبدو شاعرية الذات فياضة، وأكثر تألقاً وجمالاً، حين تلبس لبوس الميلودراما، بل تبلغ ذروة تدفقها الشاعري، حين تدفع بإصرار هواجس القلق والرعب لديها، ولدى زملائها،ذلك أملا في التخلص منها والتفوق عليها: "أعتقد أننا إذا قمنا بوضع كل شيء جانباً، وكرسنا حياتنا لوقف ما يحدث هنا، ستكون فكرة جيدة لنا جميعاً، فما زلت أرغب حقاً في الرقص مع "بات بينتر" وأتمنى أن أحظى برفقاء شباب، وأقوم بحركات كوميدية لإضحاك أترابي في العمل، ولكني آمل في إيقاف ما يحدث هنا، فما أشعر به الآن هو الرعب والجحود ما يتملكني الآن هو خيبة الأمل"[44]
وليس ثمة مبالغة القول، بأن اتسام ألفاظ وتعابير"راشيل" في رسائلها بالشعرية، يعني أنها مسكونة بالحركة الدلالية الباثة لكل الجدليات الإشكالية المنتقاة، من أجل خلق توتر جمالي يتجاوز المنصات التقليدية للتعبير الشعري، فهي قصدت أن تعبر عن ذاتها بصيغ خاصة، تحقق مرادها، وهو خلخلة هذا الواقع المأزوم.ومن خلال هذه الحركة الدلالية الباثة للشعرية في الرسائل، استطاع هارون هاشم رشيد أن يأخذ أغراسها الشعرية، لينثرها بكيفية تسمح لها بالنمو مع السرد الروائي، على نحو تتشابك في إدراكية القاص للحدث مع السيرة الذاتية، التي هي أصل وأساس مرجعية السرد، وشحنته الدلالية، بحيث يصبح عصياً على المتلقي أن يفرق بين شاعرية "راشيل" وشاعرية السرد، ما لم يُوضح ذلك في ثنايا المتن الروائي، كما هو حادث بالفعل، ولكن "الغاية، ليست التماثل بقدر ما هي الرغبة في إبداع عالم روائي مواز، هناك مجابهة بين الأدبي واللا أدبي، بين الأدبي وبين الواقع والفن، حيث نحصل على نص وثائقي إعلامي يصل فيه السرد درجة الصفر، مما يدفع إلى طرح السؤال: إلى أي حد يمكن اعتباره نصا روائياً؟ وما علاقة التوثيق بالجنس الروائي ؟
والسؤال مشروع، ما دام أن الرواية أصبحت توظف أشكال المنشور السياسي والخبر الصحافي والوثيقة التاريخية والبحث الأكاديمي والشريط السينمائي، فضلا عن النص المسرحي والتعبير الشعري، وكثيراً ما جرى المزج بينها في بناء متكامل، بحيث أصبحت متجاورة فوق أرضها ... تصبح إلى جعل الكتابة داخل الجنس الروائي مفتوحة. وتتوسل بالبحث المتواصل عن شكل جديد ورؤية متجددة "[45]
لم يحاول السارد أن يغير من ملفوظية الرسائل، أو مرئيتها الكتابية، أو وثائقيتها، أو يبدل في مكوناتها، بل استثمر وهج حضورها استثماراً بنيوياً، انسابت فيه جزئياتها في بنية السرد، دون نتوء أو اضطراب، "وتم هذا التلاقح بواسطة الخلق الروائي لهذه العناصر، لا بالتصرف بالمتن الوثائقي أو المرجعي، ولا بتبديل الصياغة، وإنما بالخلق الجديد، لا بالكتابة من الخارج، ولكن بالكتابة من الداخل وعميقاً. حيث تفقد الوثيقة بذلك نسبها الأساس وتشكل نسيجاً جديداً يرتبط بالعالم الجديد: العالم الروائي"[46]
رهانات السرد وجمالية البنية النصية :
شكلت الرسائل، والأحداث والوقائع، منبع السرد ورهاناته، بلا شك، ولكن ما كان لهذه الجذاذات السيرية أن تحقق للمتلقي تجلياً جمالياً فاعلاً، دون أن ترتق في نسيج فني خلاق، أو تنسكب في تجربة فنية فاعلة، تحرر الحالة الفردية، وخبريتها العابرة من أغلال خصوصيتها البسيطة والجزئية، لتعانق الرؤية الفكرية والسياسية والأخلاقية والإنسانية الطموح، التي يسعى القاص إلى تأصيلها، انتصاراً لقضيته الفلسطينية، حتى لا تبقى هذه الحالة، أسيرة فرديتها، فتصبح ذاتاً فردية نكرة، تتلاشى في الكل المهيمن على الخطاب الرسمي الأمريكي، الذي يسعى جاهداً إلى طمس معالم كل حالة إنسانية تتمرد على فلسفته السادية العنصرية. أدرك القاص ذلك، فمنح هذه الحالة، حضوراً بهيجاً، انطلاقاً من تسميتها، والتعريف بها في مقدمة الرواية، إعلاء لشأنها، وإعلان قاطع على أنها تمثل مركز الثقل الدلالي، وعصبة التعبيري، بل خطط مسبقاً لاستخدام كل التفصيلات الحقيقية، لإدماجها في البنية النصية للرواية، بدءاً من ذكر جنسيتها الأمريكية، وهي خاصية دالة، وانتهاء بذكر الأسماء الحقيقية لزملائها، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنه يبغي تمجيد هذه الشخصية، التي ضحت بنفسها من أجل قيمها ومبادئها، لذلك فإن احتفال النص بها لا يقتصر في بناءه الفني على الإشارة الخبرية الخاطفة، بل سعى فنياً إلى إحالتها بأكملها، خبرياً وفنياً، إلى مواطن تثير في المتلقي إنسانيته، وتخلخل لحظته السياسية المأسورة بالإعلام، عبر لغة ذات حساسية فنية عالية.
فاللغة شاعرية حين يقترب السياق السردي من ذكر اسم "راشيل"، وكأنه أراد أن يفرغ محمولاتها الإيحائية، التي تعبق بمتآلفات جمالية تقلص من شروط القص التقليدي، لدى المتلقي؛ لتبدأ في ملامسة جوهر الشعرية، وحوافها، ومغامرتها التجنيسية وإن كانت مفعمة بالدرامية، التي اكتست بها الرواية بشكل عام: "هاهي تصل رفح ... تقتحم العاصفة ... تتحدى الإرهاب .... تعلن أن قدرة الإنسان، هي قدرة الحب .... والعطاء .. إنها قدرة الإنسان، قدرة السلام، قدرة القلوب التي يعمرها الصفاء.... شعور غريب، يسيطر عليها، من اللحظات الأولى، لوصولها، لمدينة رفح، المدينة السر، المدينة الوعد، بوابة الحقيقة، عنوان الطريق ، .... إنها "راشيل" وصلت لتبحث عن الحقيقة، لتقف إلى جوار العدل"[47]
القاص أكثر امتلاكاً لأدوات الشعرية، مما جعل من المتيسر له أن يقرن اسم "راشيل" بغنائيته" جاءت "راشيل" الزنبقة الحلوة ... من هناك من أولمبيا حيث الهدوء والسلام، والحياة الوادعة لتعيش على فوهة بركان، وترى الموت في كل مكان يتربص بها، وبغيرها .... إنه يعشش حتى في أوراق الشجر."[48]
وهو كذلك أكثر امتلاكاً لتفصيلات المكان، فاسمها دائماً يكون مشفوعاً بالتفصيلات الحركية والمكانية، الدالة على شغف السرد بالمكان، بطريقة يقصد فيها أن يعزز من مأساة المكان، التي تنعكس بدورها على حياة الإنسان الفلسطيني، وهذه الآلية تفاقم الإحساس لدى المتلقي بأن لحظة صادمة تنتظره، لا تقل في فجائيتها عن مأساوية هذا الواقع: "المدينة ... رفح ... رغم كل ما يحيط بها من المآسي والآلام، والأحزان ... تراها مرحبة "براشيل" تفرش لها بساطاً أحمر من "شقائق النعمان" التي هي أجمل مئات المرات مما يمد الملوك والرؤساء أمام الطائرات أو في مداخل القصور، "شقائق النعمان" وشذى اللوز، والنسمات العليلة، الرقيقة، أول من رحب "براشيل" عند دخولها رفح ... وأسراب من العصافير تملأ السماء، مغردة منشدة، البلابل والحساسين، التي اشتهرت بها مدينة رفح، والتي ظلت دائماً تتحدى أزيز الرصاص ودوي المدافع ... بشائر الربيع أول ما استقبل "راشيل" ... في مدخل مدينة رفح .. حقاً إنها أحبتها ... رغم كل ما ترى من البيوت المدمرة، وتلال الركام، والأنقاض، والأشجار المغتالة، أشجار الزيتون، واللوز، والليمون، والبرتقال، كلها، مغتالة، مذبوحة عبر بها جيش وحشي لم يرحم.... شيئا لا الإنسان ولا الحيوان ... ولا الحجر، ولا الشجر"[49]
بهذه الكيفيات المكانية، والأجواء النفسية، أخذت الغنائية الملحمية ترفع من منسوب توتر صيغ التحدي في السرد، عبر وسيط حواري مع زملائها؛ ليكشف عن مدى التحامها بمبادئها، ورغبتها الملحة في تحقيق ما تصبو إليه: "قالت لها "جيني":
ستكونين الليلة في أحضان رفح ، كما طلبت ...
قال "توم ديل" :
في رفح ستعيشين حياة اللاجئين الفلسطينيين، الحياة التي يعيشونها، ويتوارثونها منذ أخرجوا من ديارهم عام 1948، وهم يطاردون ويلاحقون من هجرة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر، مطاردون بالموت ... والدمار، وأبشع الأسلحة.
قالت "راشيل" وقد بدا الجد في محياها:
"أعرف وأنا ما جئت إلا لأعيش الحقيقة التي أبحث عنها، ولأقف إلى جوار المظلومين، لتحقيق العدالة التي أنشدها ".
قال "ديل":
سنحقق لك ما ترغبين، فأنت الآن في مخيم "حي السلام" في رفح، على الحدود المصرية ....
التفت "توم ديل" إلى "راشيل" قائلاً:
بعد لحظات سنحقق لك ما طلبت، ستكونين في بيت أحد اللاجئين الفلسطينيين، وستقيمين معهم، وتعيشين حياتهم، وتشاركينهم معاناتهم.
قالت "راشيل" وقد بش وجهها :
تلك كانت أغلى أمنياتي بل وحلم حياتي وما جئت وطرت كل هذه الساعات إلا لهذه الغاية.
قالت "جيني":
سنحقق لك ذلك الليلة ...
توقفت السيارة عند شارع مخيم اللاجئين "حي السلام":
أخيراً وصلنا ...
قال "توم ديل" وأردف :
هذا بيت صديقنا، الدكتور سمير نصر الله" [50]
على الرغم من وثائقية المشهد السردي، وتوافقه مع الجانب السيري، إلا أن جمالية بنيته النصية، باتت أكثر نصاعة في قدرتها على تهيئة المتلقي، بشروط الوعي السياسي والإنساني، كلوازم أولية، لأية محاولة يقصد منها التأثير، أو تغيير أية أفكار سلبية، أو وجدانيات شعورية لدى المتلقي. فحين تلوذ الرواية بالوثائقية والوقائعية، التي يعيشها المجتمع الفلسطيني، فهي تقصد أن تجرم الموقف السياسي، وحيزه الإعلامي، الذي يتوازى ويتجاوب في غوايته للمتلقي، على نحو متساو، منذ اللحظة الأولى:" فجأة دوت رصاصت، لوثت سكون الصباح الجميل، وبعثرت أحلام النائمين، وأخرجت "راشيل" من عالمها الحلو ... كل من في البيت هب مذعوراً، تجمعوا كلهم حول "راشيل"، الدكتور سمير وطفلاه، وزوجته ومريم الصغيرة إحدى قريبات الدكتور سمير "وجيني" و"توم ديل " ...
أهكذا ... من اليوم الأول ... دوى انفجار هائل ... اهتز له البيت .. صرخ الأطفال وقد اعتراهم الخوف ... توالت الهجمات طوال اليوم، حتى العصر، اغتيل خمسة من رجالات المخيم، ونسفت بيوتهم، والبيوت التي حولها، كما اقتلعت أكثر من عشرين شجرة مثمرة، وجرفت الأراضي الزراعية القريبة من البيوت"[51]
إن مسرحة البنية النصية هنا، لا يقصد بها أن تكون اللائذة الجمالية الفولكلورية، التي تعتمد على العواطف الانفعالية للتأثير في المتلقي، ولكنها خاصية تأصيلية بنائية، لها دورها الناجز في نمو الحدث.
نحن إذن، أمام رؤية عميقة، لا تتملق المتلقي، ولا تسعى إلى تجريده من حقه في امتلاك الحقائق الواقعة على الأرض، التي هي الأساس في البنية النصية لهذه الرواية: "لأن القول السردي يكتسب فنيته بديمقراطيته، أي بانفتاح موقع الراوي على أصوات الشخصيات، بما فيها صوت السامع الضمني، فيترك لهم حرية التعبير الخاص بهم، ويقدم لنا منطوقاتهم المختلفة والمتفاوتة والمتناقضة، وبذلك يكشف الفني عن طابع سياسي عميق، قوامه حرية النطق والتعبير."[52]
هذا المجتزأ من القول، ينقلنا إلى فضاء المفارقة في التصور، التي أدهشت وعي "راشيل"، التي تحاول أن تنقل تصورها ومعايناتها لهذا الواقع للآخرين، وهي محاولة إيجابية، تعبر عن إدراك حسي وعقلي عميق، كما أنها تجسد حضوراً متفاعلاً، تسقط فيه عناصر التمييز العنصري، الذي يقوم على أساس من اللون أو اللغة أو الهوية أو الدين أو الجغرافيا: "هل ستصدق والدتي ما يتضمنه من خمسين عاماً ... هل تستطيع صديقتها "روزيت" هناك عندما تلتقيها في أولمبيا أن تتفهم هذا، أم أنها ستعتبره من باب المبالغة، وعدم الواقعية."[53]
"هزت "راشيل" رأسها أسى وقالت:
" جرائم لا مثيل لها في التاريخ، الناس يخرجون من بيوتهم، كما خلق الله، يركبون التاكسي العادي أو يسيرون على أقدامهم، تفاجئهم طائرات الأباتشي المسخرة للقتل، الشيء المؤسف .. والشيء المخزي لأمريكيا، أن طائرتها هي التي ترتكب هذه الجرائم، ضد شعب أعزل، مظلوم.. إنه يحزنني، بل يجرحني هذا.. عند عودتي، سأنقل بصدق، وأمانة ما رأيت إلى الشعب الأمريكي، وهو شعب يحب الحرية والديمقراطية ويؤذيه أن تسخر أمواله، وأن تقوم طائراته "الأباتشي" و" أف 16 " بقتل الأبرياء"[54]
ليس من قبيل الصدفة، أن تشكل هذه المفردات طبيعة البنية النصية، بطريقة متكررة، يشعر معها المتلقي–أحياناً– برتابة تخلو من المغايرة، وبالتالي فهي تبارح منطق الاكتفاء باللقطة المشهدية الواحدة، حتى أنه يمكن اتهام درجة مألوفيتها بأنها أصبحت فائضاً لفظياً ودلالياً، يبدد عمق المفارقة التي تأسست عليها الرواية، سواء أكان ذلك على مستوى بؤرة السرد ونسيجه، أم على مستوى القلق الموازي الذي وثقته رسائل "راشيل"، وذلك لعدة أمور، أولها: أن هذه المفردات تشكل، على وجه الحقيقة، مياسم الحياة الفلسطينية، وبالتالي، هي ليست فعلا تخييلياً، أو تمظهراً أسلوبياً مراوغاً، يتطفل على البناء السردي، ليحقق درجة إيقاعية للرواية. والثاني: أن تكرارها يعطيها منزلة إسنادية، إقناعية مدهشة، تحقق بتركيبتها الفنية توازناً منطقياً للمتلقي، الذي يفترض أنه غير محايد، وذلك ليقيم مقارنة بين الضاغط الفلسطيني الدرامي المعاش ومستقراته السياسية والأخلاقية، وضرورة التنازل عنها، لصالح السرد، بعد إدراكه للمختلف والمتباين من قناعاته: " ومن الطبيعي أن يحدث هذا، لأننا عندما نقرأ عملاً قصصياً، فإننا لا نقرؤه بعقل بطر ومحايد، فالبكارة العقلية لا وجود لها كما أن الحياد النصي خرافة دحضها النقد منذ زمن طويل... فالنص يكتسب كينونته الحية عندما يقرأ. وإذا أردنا أن نفحصه، فإن من الضروري عند ذلك أن ندرسه عبر عيون القارئ."[55]
الثالث من الأمور: لا تسقط السمة السيمية، وفعلها الدرامي، بتكرار هذه المفردات، إن توفرت لها لحظة الوهج، والمكثف في آن، القائم على أساس واع، يتناغم وينسجم مع الملحمة الفلسطينية الكبرى، التي ما زالت رحى الحرب تجندل صغارها ونساءها وشيوخها إلى يومنا هذا، فالحرب مستمرة بكل مأساويتها، دون أن تكون معلنة رسمياً، ولكنها تتلظى، معلنة بكل أدواتها ومفرداتها:" كم من الأطفال قد يتموا هذا الصباح؟!! كم من امرأة رملت ؟ وكم من أم ثكلت ؟ .. وكم من أب فجع ؟ كم عين بكت ؟ ماذا ستكتب "راشيل" لأمها ؟ وماذا ستروي لصديقاتها ؟ وأية بشاعة هذه التي تجري على هذه الأرض؟ .. في الحرب يعرف الناس من أين يأتي الموت، ومتى لأيام .. لأشهر .. لسنوات، لكنه ينتهي بانتهاء الحرب، ولكن الذي في رفح، في غزة، في الضفة، في القدس .. موت غير محدد المكان، ولا الزمان .. إنه احتلال، وحرب .. هذا ما قاله "شارون" ألم يقل بأن حرب 1948 مازالت مستمرة .. لم يحاول أحد أن يسأله كيف؟ .. حرب معلنة على شعب أعزل محاصر، تخلى عنه الجميع وألجم وكبل عن نصرته الجميع."[56]
بهذه الكيفيات التجريدية، التي وصفت بموضوعية الواقع السياسي، تشكلت البنية النصية، دون أن تبتذلها تداعيات وتداخلات السارد، بل إنها أصبحت من أهم جماليات التماهي، التي تقصد أن يستثمر السرد لحظته التسجيلية الواعية؛ ليجعل منها إدانة جدلية مفتوحة لكل ما هو سياسي، وفني وواقعي، وإنساني مأزوم في عمق تصوراته.
هذه الجدلية تفيض جمالاً، وتتكثف دلالياً وإحالة فنية، حين تظهر صيغ التحدي، والصلابة، والجلد في خطاب هذه الفتاة الأمريكية:" أنا هنا بكل مشاعري، وأحاسيسي وحبي، إنني على تلال الردم والركام وعبر الغبار، والدخان ووسط دوى المدافع، وأزيز الرصاص، وهدير الانفجارات.. أستنطق يوماً آخر، لهؤلاء، وأحلم بعالم أجمل، تعلمت أن الظلمة كلما اشتدت تكون بشيراً بالفجر." [57]
هذه الصيغ الدرامية، فلسطينية في عمق دالها ومدلولها، وإن يممت وجهها شطر شخصية "راشيل"، بمعنى أن إحساس المتلقي حين يقرأ هذا الخطاب، يشعر بأنه حيال فاعل فلسطيني، بكل ملامحه السياسية، يخالف منطق رؤية الشخصية الأمريكية، ولكن السرد حين أنطقها على لسان "راشيل"، وفق علائق سببية ومنطقية، قصد أن يفتح ثغرات في وعي المتلقي؛ ليعده لاستقبال اللحظة الدرامية المتوقعة، والتي تسير "راشيل" نحوها بسرعة شديدة.
ويبدو أن جدلية هذه الصيغ دفعت بالسارد نحو صناعة بطولة فردية لم يعهدها القص العربي، من فتاة أمريكية تنقذ شاباً من الموت المحقق، لا أن ينقذها هو، وذلك في مشهد سينمائي مليء بالحركة البطولية، التي لا نراها إلا في الأفلام: "كانت تقترب من المنزل، لحظة مر إلى جوارها شاب من شباب المخيم، في مثل سنها عائد إلى منزله، وألقى التحية باستحياء، وكتفه يوشك أن يحتك بكتفها، لمحت وهي تهم بأن ترد التحية فوهة مدفع رشاش، يتحرك على ظهر دبابة، غير بعيد منهما، يستهدف الشاب، دفعته "راشيل"، وسقطت معه، والرصاص يلعلع فوقهما، كما زخ المطر ... صرخت "جيني"، واندفع "ديل" نحو "راشيل"، وهو يلعن ويولول ... خشية أن تكون "راشيل" قد أصيبت .. لحظة مذهلة مرت بهم جميعاً، حمدوا الله بعدها على سلامة "راشيل" وسلامة الشاب المستهدف ... أي شكر، وامتنان، أنا قمت بواجبي، وأنا أشكر الله أن أتاح لي هذه الفرصة، لإنقاذ روح بريئة من الموت على يد شريرة ...
قال الشاب :
لقد عرضت نفسك للموت، كانت مخاطرة غير مضمونة العواقب، لا يفعلها إلا إنسان شجاع، مؤمن."[58]
هذه الجسارة البطولية التي سجلها المشهد، غير مألوفة في طبيعة الأمر المرجعية، للتكوين المجتمعي الأمريكي، خاصة المدني منه، مثلما أنها غير مألوفة في الرواية العربية، كما قلت آنفاً، ولم يكن السرد مديناً في إفادته لتصوير هذا المشهد لتقنيات التصوير السينمائي فحسب، ولكنه أفاد أيضاً، وعلى وجه اليقين، من رسائل "راشيل"، التي كانت مولعة، وبرغبة جموح، لممارسة هذا الدور البطولي السينمائي، في الحياة الواقعية، تقول في رسالتها الأخيرة لأبيها، والتي كتبتها في صبيحة اليوم الذي قتلت فيه، يوم الأحد الموافق 16 مارس 2003،"وتستطيع أن تكتب إلى، كأنني في إجازة ترفيهية، في"هاواي" أتعلم حياكة الصفوف .. من الأشياء التي تجعلني أشعر أن البقاء هنا سهلاً، أنني أتخيل نفسي جزءاً من أحد أفلام "هوليود" مع البطل ( ميتشيل.ج.فوكس )، ( Michael .J. Fox )
وفي مواضع مختلفة، متناثرة في الرواية نلاحظ أن السرد يعتمد على تقنية المزج بين ما هو فني ذاتي سيري، وبين ما هو سياسي تاريخي، وكأنه قصد التعريف به، ليكون الأساس التعليلي، والمبرر لتداعيات الواقع، فمثلاً ، يذكر السرد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، لغاية دلالية إزاحية، تهدف لصياغة أبنية تخييلية ترتبط بنسيج الواقع الحالي: "محمد ابن جارتنا، والده استشهد برصاص الجنود الإسرائيليين، وهو عائد من عمله، عام 1977، دون أي سبب، وكانت جارتنا حاملاً، فولد محمد بعد ذلك ولم يقدر له أن يرى والده .. في البيت، واصل الدكتور سمير الحديث عن محمد، إنه أحد أبرز الأطفال، الذين قادوا الانتفاضة عام 1987، وقد ناله، ما نال الكثيرين من الأطفال الفلسطينيين، عندما طبق الجنود الإسرائيليين، ما دعاهم إليه رئيسهم "رابين" بأن طلب منهم أن يكسروا عظام الأطفال الذين يقعون في أيديهم، وقد كسر الجنود الإسرائيليون ذراعي محمد، اليمين والشمال؛ لأنه كان من نشطاء الانتفاضة البارزين. مسحت "راشيل" شعر محمد، وهي تبتسم، ابتسامة حنونة، وقالت:
هذه فرصة كنت أنتظرها، لألتقي بمن يزودني بالمعلومات عن انتفاضة الحجارة، التي لم أعاصرها ... فأنا أعد أبحاثاً، سأقوم بإتمامها، وبإنجازها عن نضال الشعب الفلسطيني، خاصة مرحلة الاحتلال الذي يعانيه منذ عام 1967، والذي أوصل رابين لأن يتمنى يوماً أن يصحو من النوم، ليجد أن البحر قد ابتلع غزة." [59]
القرائن النصية، وشخصيات الرواية، أصبحت تنفتح سردياً على التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني، لتفاقم الإحساس لدى المتلقي بمأساوية قضيته، لأن التاريخ لا يجوز حذفه أو استبعاده، بل إن منطق الاحتماء بوقائعه وشخصياته يوفر للسرد خصوبة معرفية، ذات أحمال لقيم جمالية، تشع منها الدلالة الآسرة.
وليس ثمة شك، بأن ما أقصده ليس إقحام وقائع التاريخ التجريدية:" إن سعي النص إذن إلى وضع نفسه في أفق الاحتمال البنيوي والدلالي لا يعني الوقوع في أجولة التجريد، وتحويل الشخصيات إلى محض حوامل لأفكار منفصلة عن نظام النص، وإلا أصبحنا مع خطاب يبتعد عن الأدب بقدر اقترابه من العلم والدعاية."[60]
الكف والمخرز: مواجهات اليوم الأخير
لك البقاء الخالد الأشهى .
وللقبيلة من عتاة الليل عارُ خالدُ أيضاً الشاعر : أيمن اللبدي
احتدم الصراع، واقتربت ساعة رهاناته، وباتت تنهمر أحداثها على نحو يشعر فيه المتلقي بأن شعرية السرد التي احتفت بشخصية "راشيل" القادمة من البعيد، الذي يغايرنا في خطابه ولونه ولغته، لتملأ فراغ السرد بالأمل، بالحرية والعدل والمساواة، في فلسطين، تقلصت ليصبح السرد التسجيلي ملمحاً أثيراً، يميل إلى رصد الأحداث وحركتها، دون أن تغيب عنه نكهته الشعرية، التي يشع وميضها بين الفينة والأخرى.
هكذا بدت ملامح السرد في مشاهده الأخيرة، دون أن يفقد سمة انسجامه وانتظامه الكلي، فحركة "راشيل" مع بقية أفراد فريق التضامن لم تتوقف، بل أصبحت حركتها المفعمة بالنشاط، سمة مهيمنة، وكأنها بدأت تدخل مرحلة حاسمة في صراعها وتحديها للعدو الصهيوني، كما تشير إلى ذلك وقائع السرد: "في الساعة الواحدة والدقيقة الثالثة عشرة، لاحظ نشطاء "حي السلام" من فريق التضامن الدولي، أن بلدوزرين مدججين بالأسلحة، ودبابتين مزودتين بالمدافع والصواريخ، ظهروا فجأة، قادمين من ناحية الحدود الإسرائيلية، من ناحية المستوطنات، ومتجهين بشكل هجومي، نحو الممتلكات الفلسطينية .. وما أن وصلوا أطرافها، حتى باشروا باقتحامها .. وبدأوا في عمليات التدمير، واقتلاع الأشجار، وهتك المزروعات، وتجريف التربة، وهدم المنازل .. تفاجأت الحملة الإسرائيلية، بالجدار البشري، وبدأت المحاورات، والمداورات، الجرافات والدبابات تتقدم، وفريق التضامن يتصدى، ويجبرها على التراجع ... مرة... ومرات ... كانت "راشيل" في ذروة الحماس، وذروة الغضب، لماذا يهدمون البيوت الآمنة، ويشردون أهلها المسالمين الأبرياء، لماذا يعاودون الهدم .. تقدمت "راشيل" وأخذت موقعها، في مواجهة "البلدوزر" المنطلق نحو بيوت حي السلام ... جلست "راشيل" في المقدمة، لا تبعد عن بيت الدكتور سمير أكثر من عشرة أمتار، وهي في حلتها البرتقالية العاكسة للضوء، تلوح بأعلام التضامن، وتنادي بمكبر الصوت مطالبة الإسرائيليين المعتدين بالتراجع، وأن ما يرتكبونه حرام، غير إنساني، ومخالف للمبادئ والشرائع الدولية والإنسانية."[61]
حرص الكاتب في هذا الموضع أن يقدم مجموعة من المشاهد الدرامية المتكاملة، التي تفترض تعاطف المتلقي، وتكتسب موثوقية، ولتبسط سيطرتها الفنية الدلالية القادرة على إنتاج تشكيل الوعي، بما يكفل تفاعلاً ألقاً، ذلك "أن النص– دائماً– في حالة إنتاج وسيرورة عمل، لا يكف عن التفاعل، وعن تعهد مدارج الإنتاج، ولا تظهر الإنتاجية بوضوح، ولا تصبح إعادة توزيع اللغة مكتملة، إلا عندما يبدأ الكاتب أو القارئ أو أحدهما في مداعبة الدال."[62]
كان الكاتب واعياً بضرورة وضع "راشيل" في حدقة التركيز السردي، باعتبارها جوهر القص وعلته، وجذبه، وعليه أصبح السرد يحمل مرارة المفارقة وإشكالاتها: "طلبت "راشيل" من عدد آخر من زملائها، ملاحقة "البلدوزر" والدبابة، وتتبعهم، حتى يتأكدوا من عدم عودتهم، والبقاء حولهم، ومراقبتهم، وإرسال إشارة التحذير عند اللزوم .. وما توقعته "راشيل" حصل، ففي حدود الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة، رأت أحد "البلدوزرين" يتحرك محصناً بدبابتين، وجهته بكل وضوح المنطقة التي تجلس فيها، والذي يقع فيها بيت الدكتور سمير ... "البلدوزر"، والدبابة، يتقدمان، غير عابئين بما يسمعون، والجنود يطلون من نوافذ "البلدوزر"والدبابتين ويمدون رؤوسهم، وأيديهم، مهددين ومحذرين، ويطالبون"راشيل" بترك موقعها والابتعاد عن طريقهم ... وهم يرددون كلمات بذيئة، ويقومون بحركات خارجة عن الآداب، ويلوحون بخوذهم، ويضحكون مستهزئين "براشيل" ومن معها" يميز السرد "راشيل" في تصويره لتفكيرها وفعلها وقولها وسلوكها من بين أقرانها، ويجعلها متجاوزة لشرطها الأمريكي، المجتمعي منه والسياسي، فهي ليست مقبلة على الحياة الرخيصة، وليست مهيأة لتقبل الخطاب السياسي، بالإضافة إلى أنها تعي خطورة ما هي مقبلة عليه بتحد من لون خاص: "فهي ثابتة في مكانها ، متحدية ومصممة، رغم مواصلة "البلدوزر" التقدم في اتجاهها، والذي أخذ يقترب من موقعها شيئاً ونصله المنحني نحو الأرض، يواصل جرف التربة، ويتقدم أكثر، و "البلدوزر" يدفع كل ذلك أمامه في اتجاه"راشيل" ... وما أن اقترب "البلدوزر" من موقع "راشيل" ، حتى أخذت الأرض تهتز تحتها ، مما اضطرها أن تقف وتصعد إلى ظهر الركام الزاحف نحوها، والذي يدفعه "البلدوزر" في اتجاهها، بحيث أصبحت تشاهد من نافذة كابينة السائق بوضوح وجها لوجه ... والتقت العيون ... عيون "راشيل" وعيون سائق "البلدوزر."[63]
هذا النسيج السردي التسجيلي، لم يشف غليل الكاتب، إذ استخدم النكهة الشعرية، واستنفر دلالتها، لتقيله من غواية الابتذال النثري، وكأنه أراد أن نعاين الواقع بمنظار إشكالي، له خواصه التأويلية, والجمالية والحوارية التي يعشقها المتلقي، "ومن الملامح البارزة تلك الشاعرية التي حاول من خلالها أن يعطي حيوية للحدث دون أن يعزل هذه اللغة عن سياقه الروائي في التعبير عن طبيعة العلاقة بين الحدث والشخصية"[64]، ويمكن ملاحظة ذلك بجلاء في شعرية القص التي صاغها الكاتب:
مرة أخرى ..
هاهو الكابوس ..
الكابوس الذي داهم أحلامها ..
الكابوس الذي يطاردها في النوم والصحو ..
إنه الكابوس ذاته ..
لمعت عيناه ... ما أبشعهما ..
كما شلال الموت ..
ذلك الغريب ، القادم من بعيد ..
رآها ...
تحقق منها، ملأ عينيه بصورتها ..
منتصبة أمامه كالسيف ..
تتحدى "البلدوزر" الضخم، وسكينه ..
وفمه المفتوح للموت ..
"راشيل" واقفة صلبة .. وشجاعة أمامه ...
تماماً كما أشجار الزيتون التي يهاجمها .. فلا تحني رأسها ..
بل تتحداه .. وتتلقى ضرباته بشجاعة .. وهو يقتلعها ..
إنها تريد الحياة ..
وهو يريد الموت ..
إنها تريد السلام ..
وهو يريد الحرب ..
إنها تريد الحرية ..
وهو يريد الاحتلال ..[65]
وأحسب أن امتثال وارتهان القص للشعرية، وانفجارها التعبيري على هذا النحو، يعني أن استغراقاً جمالياً ودلالياً مكثفاً، يطلب السرد حثيثاً، كتعويض عن حالة الاستلاب والنكوص التي تعرض لها الكاتب و"راشيل" في آن، وكأن ضراوة الأحداث وفجائعيتها جعلت الرؤية الشعرية أكثر توهجاً وتناسقاً. ولكن هذا لا يعني انفصامها عن سياق الأحداث وتتابعها، بالقدر الذي استطاعت فيه أن توفر قلقاً لا يريم للمتلقي، قلق داحض يدفعه لتجاوز هوامش فروق التجنيس الكتابي، ليلج بؤرة التوتر الدرامي، وهي القلق على مصير "راشيل"، التي اقتحمت النائي من المعاني الإنسانية التي كاد الغرب أن ينساها.
ويواصل السرد عراكه الدرامي، وحراكه الدلالي، بتفصده تشكيلات مشهدية سينمائية، تخترق المألوف، وتستدعي كل مفردات الشعور بالقهر والعجز، "والصرخات بلا توقف ... تراجع أيها السائق، توقف، إنك توشك أن تقتلها ... تراجع .. توقف ... كفى .. ولكن السائق، أغلق أذنيه وعينيه، وتحجر قلبه، وماتت إنسانيته، إنه الوحش الكابوس الذي أرق نومها، وأزعج ليلها.. نصل "البلدوزر" ينغرز في الأرض ... تتغرز في قلب الأرض التي نزلت عليها رسالات السماء .. تتغرز تحت أقدام "راشيل" الأمريكية .. التي جاءت تحمل رسالة شعب يحب الخير ... إنها تفعل ذلك دفاعاً عن سمعة شعبها الأمريكي، والتفكير عما تقوم به حكومتها الأمريكية من انحياز للظلم ونصرة لإرهاب الدولة .. بدأ "البلدوزر" الوحشي ، يدفع سكينه أسفل الركام الذي تقف عليه "راشيل"، إنه يستهدفها، أخذت الأرض تهتز تحتها، والركام يتحرك، وقطع الاسمنت تصطك، مما أخل بتوازن "راشيل"، فانزلقت من فوق الركام، ووقعت على الأرض، أمام الكتل الإسمنتية، التي أطبقت على ساقها فكسرتها .. وأعجزتها"[66]
يبدو أن هذا المشهد يمتح تصويره ووصفيته من تخيل الوقائع البصرية كما جسدتها الصور الحقيقية الوصفية لمأساة "راشيل"، وهي تواجه "البلدوزر"، حتى تكاد أن تكون اللغة البصرية المكتوبة هي الآلية الأنسب لإظهار درامية المشهد، وانفتاحه على مخاضات التجربة الإنسانية، بشكل عام، التي تخوض صراعاً من أجل الحق والحرية.
ومن الطبيعي، وفي ذروة الحدث ودراميته، أن يكون ثمن هذه التضحية والقيم المتبناة، هو إعلان البراءة من الخطاب السياسي الأمريكي، وموقفه المساند لإسرائيل، وهو إعلان متكرر على مستوى السرد والرسائل، وعمد الكاتب أن يجعله ماثلاً في هذا المشهد، ليقع في بؤرة الوعي، وحتى يقطع على المتلقي هاجس الحكم المنفرد، بتجريم إسرائيل، دون أمريكيا، وهي الهم الأكبر الذي هيمن على السرد، وانثيالاته الانفعالية، وإشكالياته الفكرية. ويصبح المشهد الأخير ضاجاً، في ذروته الدرامية، حين يبدأ التعبير انفجارياً في استخدامه للألفاظ النادبة الملتاعة بالحسرة والألم: كسرت ساق "راشيل" / تأكد من إصابتها / وتأكد من عجزها/ لم يتوقف/عيناه تقدحان شراً/ في صدره حقد/ كره للإنسان/ لم يرحم هذه الإنسانة الوردة/ لم يرق قلبه/ لم تتحرك مشاعره/ الكابوس المرعب/ هزمها/ هدها / ألقاها مكسورة تحته/ الإسرائيلي البشع / يقتلها/ أصبحت تحته/ تعالى الصراخ/ علت الأيدي/ دوت الاحتجاجات/ عميت عيناه/ لم يعد يسمع إلا صوت الموت ... و"راشيل" تحته عاجزة مكسورة، وقد دفع التراب، والردم فوقها .. فأصبحت لاترى .. وهو يواصل التقدم، ولا يتوقف"راشيل"أصبحت تحت التراب، بل تحت "البلدوزر"، تماماً ... وإمعاناً في جريمته، بدأ يتراجع فوقها دون أن يرفع النصل، بل يجره فوق جسدها مرة أخرى ليتأكد من أنه قتلها."[67]
وإذا كانت القاعدة الدلالية تقول: إن الألفاظ دائماً منحازة لسياقها، وتسير وفقاً لتحولات السرد البنائية، فإن الاكتناز الدلالي الذي يلاحظه المتلقي من خلال احتشاد هذه الألفاظ الدرامية في هذا المشهد الختامي، يدل على أن خاتمته الفجائعية تحمل في ثناياها قهراً، وألماً، ينضاف إليهما تحد ممزوج، في بنية واحدة متشابكة، إذ يشتبك تحدي الحق البطلة "راشيل" مع الباطل الإسرائيلي، ويشتبك هذا العدو مع الحق الفلسطيني، في قصة هذه الفتاة الأمريكية.
قاصمة الظهر ومستويات السرد البنائية :
التوقف بعمق، عند عبارة "راشيل" الأخيرة، التي نطقت بها، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، قالتها بعفوية مفرطة: ظهري مكسور، قالتها لزملائها "ديل" و"جوزيف" و"ريتشارد"حين وجِدت تحت التراب، يمكن أن تشكل بؤرة انطلاق نحو توليد شفرات دلالية متعددة، عبر مستويات بنائية قادرة على أن توجه توجهاً دلالياً مركباً، يتجاوز حقيقة ملفوظية العبارة، كونها الدال الذي يشي بمدى الألم الذي لحق "براشيل"، بعد أن انسحب "البلدوزر" من فوقها، لاستثمارها، وجعلها بمثابة جدلية وإشكالية، لا تبحث في استرجاعية السرد التاريخي أو السيري، أو لسانيتها فحسب، إنما يمكن استثمارها كعنصر معالجة لهذا الواقع المكسور والمأزوم، وهي دلالة تؤدي أكثر من وظيفة، وتحقق أكثر من غاية، خاصة إذا انسحبت دلالتها على حالة عدم النصرة، والتقصير في مؤازرة الشعب الفلسطيني، والتقصير في نصرة فريق التضامن، الذي أصبح بلا ظهر يحميه من هذا الظلم، كما أن دلالات هذه العبارة تتساوق مع الإخفاقات السياسية المريرة التي يشهدها العالم العربي جراء السياسة الأمريكية.
وهكذا أصبحت حادثة، أو بالأصح السيرة الذاتية "لراشيل كوري"، الفتاة الأمريكية التي قتلت في فلسطين، وحظيت باهتمام عالمي، فرثاها الشعراء، الأجانب والعرب، وكتبت عنها الصحافة، في العالم، إلى بنية سردية روائية، ذات صياغة فنية جديدة، لها سمتها وخصوصيتها، التي اجتهد الكاتب في استحضار أقصى محفزات الصياغة السردية الفنية لها، بدءاً من لوحة الغلاف، على اعتبار أنها مفتاح السرد البصري، وسره الدلالي، إذ عمد الكابت على كتابة اسم: راشيل كوري، بالخط العريض، وباللون الذهبي، فوق صورة خاصة "لراشيل"؛ وذلك ليكسب العين الباصرة ألقاً بصرياً يمتد في عمق وعيه ووجدانه، وليجعل من قراءته للرواية قراءة إنتاجية مغايرة، تتساوى مع قيمة حجم غياب "راشيل"، وانتهاء بشعرية القص، ومنشورية الرسائل.
حواشي البحث وهوامشه
[1] د. طه وادي، الرواية السياسية، ( القاهرة: دار النشر للجامعات المصرية،،1996م)،ط1، ص:11 .
[2] يمنى العيد، فن الرواية العربية، بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، (بيروت: دار الآداب، 1998م )، ط1، ص:58.
[3] Http: //WWW. Royalcourttheatre. Com / files/downloads /Educaionpack.p2
[4] هارون هاشم رشيد، راشيل كوري، حمامة أولمبيا ( الأردن، عمان: دار المجدلاوي ،2005م)، ط1، ص: 18.
[5] الموقع الالكتروني السابق.
6. نبيل سليمان، سيرة، جريدة الأسبوع الأدبي ( سورية، دمشق)، العدد 1013، 2/7/2006.
[7] خالد الحروب من موقع :
. net / Articles /2006/04/10/22783.htmhttp://www.alarabiya
[8] من موقع : http://www.awu -dam.org/esbou1000/1010-010.htm
[9] هاشم رشيد ، راشيل كوري ، ص 176- 177.
[10] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص7 .
[11] هاشم رشيد ، راشيل كوري ، ص: 9 .
[12] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 10.
[13] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 35.
[14] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص :40- 41.
[15] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص :66.
[16] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 37.
[17] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 13- 15.
[18] د. محمد صابر عبيد، الرواية السير ذاتية سيرنة الرواية أم روينة السيرة، (دمشق :مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، 2006م)عدد 418،.
[19] هاشم الرشيد، راشيل كوري ، ص 22.
[20] هاشم الرشيد، راشيل كوري ، ص 24.
[21] عبد الملك مرتاض، سؤال الكتابة... ومستحيل العدم، (دمشق:مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، 2006م)عدد 417.
[22] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص:26.
[23] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 26.
[24] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 38 – 39.
[25] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 94 – 96.
[26] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 10- 11.
[27] شلوميت ريمون كنعان، التحليل القصصي الشعرية المعاصرة، ترجمة: لحسن أحمامة،( المغرب، الدار البيضاء: دار الثقافة للنشر والتوزيع،1995م) ، ط1، ص:91..
[28] هارون هاشم رشيد، راشيل كوري، ص 18.
[29] Wolfgang Iser , (The reading process,Aphenomenological Approach,) in reader response criticism :From Formalism to post-structuralism,Ed . Jane P.tomkins , London , 1986,p:.54.
[30] أحمد خريس ، ثنائيات إدوار الخراط النصية – دراسة في السردية وتحولات المعنى،( عمان: دار أزمنة للنشر والتوزيع،1998م) ط1،ص :81.
[31] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 20 – 21.
[32] أحمد خريس، ثنائيات إدوار الخراط النصية، ص: 66.
[33] إدوار الخراط ، أصوات الحداثة، (بيروت: دار الآداب، 1999م) ط1 ، ص: 142.
[34] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 36- 37.
[35] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 52.
[36] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 68.
[37] رولان بور نوف وريال أوتيليه، ، ت: نهاد التكرلي، (بغداد: عالم المعرفة1991 م)، ص: 64.
[38] صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، (بيروت: دار الآداب، 1995)، ط1، ص: 156.
[39] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 72- 73.
[40] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 120.
[41] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 40- 44.
[42] هاشم رشيد، راشيل كوري، ص: 69 – 71.
[43] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 72.
[44] هاشم رشيد، راشيل كوري، ص: 72.
[45]http://salam.bettna.com/articals/rt/fl.htm
[46] http://salam.bettna.com/articals/rt/fl.htm
[47] هاشم رشيد، راشيل كوري، ص: 25.
[48] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص:35- 36.
[49] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 25- 26.
[50] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 26- 27.
[51] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 30 – 31.
[52] يمنى العيد، الراوي: الموقع والشكل، ( بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1986) ص:10–11.
[53] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 57 – 58.
[54] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 65.
[55] د. صبري حافظ، قراءة في رواية حديثة، "مالك الحزين" الحداثة والتجسيد المكاني للرؤية الروائية، مجلة فصول، 1984، مجلد 4 عدد 4، ص: 160.
[56] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 75 – 76.
[57] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 92.
[58] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 98 – 99.
[59] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 100.
[60] د. محمد بدوي، الكتابة والحنين، قراءة في رواية "خالتي صفية والدير، مجلة فصول، 1992م، مجلد 11، عدد 2، ص: 255.
[61] د. محمد بدوي، السابق، ص 255.
[62] حسن محمد حماد ، تداخل النصوص في الرواية العربية،( القاهرة:الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م)،ص: 26.
[63] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 133.
[64] د. إبراهيم السعافين، تحولات السرد – دراسات في الرواية العربية،( عمان: دار الشروق، 1996م) ، ط 1،ص: 246.
[65] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 133- 134.
[66] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 135 – 136.
[67] هاشم رشيد، راشيل كوري ، ص: 137 – 138.
المصادر والمراجع:
1.د. طه وادي، الرواية السياسية، ( القاهرة: دار النشر للجامعات المصرية،،1996م)،ط1.
2.يمنى العيد، فن الرواية العربية، بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، (بيروت: دار الآداب، 1998م )، ط1.
3.Http: //WWW. Royalcourttheatre. Com / files/downloads /Educaionpack.p2
4.هارون هاشم رشيد، راشيل كوري، حمامة أولمبيا ( الأردن، عمان: دار المجدلاوي ،2005م)، ط1، ص: 18.
5.نبيل سليمان، سيرة، جريدة الأسبوع الأدبي ( سورية، دمشق)، العدد 1013، 2/7/2006.
6.. net / Articles /2006/04/10/22783.htm http://www.alarabiya
7.http://www.awu -dam.org/esbou1000/1010-010.htm
8.د. محمد صابر عبيد، الرواية السير ذاتية سيرنة الرواية أم روينة السيرة، (دمشق :مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، 2006م)عدد 418.
9.عبد الملك مرتاض، سؤال الكتابة... ومستحيل العدم، (دمشق: مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، 2006م)عدد 417.
10.شلوميت ريمون كنعان، التحليل القصصي الشعرية المعاصرة، ترجمة: لحسن أحمامة،( المغرب، الدار البيضاء: دار الثقافة للنشر والتوزيع،1995م) ، ط1.
11.Wolfgang Iser , (The reading process,Aphenomenological Approach,) in reader response criticism :From Formalism to post-structuralism,Ed . Jane P.tomkins , London , 1986.
12. أحمد خريس ، ثنائيات إدوار الخراط النصية – دراسة في السردية وتحولات المعنى،( عمان: دار أزمنة للنشر والتوزيع،1998م) ط1.
13.إدوار الخراط، أصوات الحداثة، (بيروت: دار الآداب، 1999م) ط1.
14.رولان بور نوف وريال أوتيليه، ت: نهاد التكرلي، (بغداد: عالم المعرفة1991 م)
15.صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، (بيروت: دار الآداب، 1995)، ط1.
16.http://salam.bettna.com/articals/rt/fl.htm
17.يمنى العيد، الراوي: الموقع والشكل، ( بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1986)
18.د. صبري حافظ، قراءة في رواية حديثة، "مالك الحزين" الحداثة والتجسيد المكاني للرؤية الروائية، مجلة فصول، 1984، مجلد 4 عدد 4.
19.د. محمد بدوي، الكتابة والحنين، قراءة في رواية "خالتي صفية والدير، فصول، 1992م، مجلد 11، عدد 2.
20.حسن محمد حماد ، تداخل النصوص في الرواية العربية،( القاهرة:الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م)
21.د. إبراهيم السعافين، تحولات السرد – دراسات في الرواية العربية،( عمان: دار الشروق،1996م)، ط1
تعليق