انفلات الروح

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • إيهاب رضوان سعد
    عضو الملتقى
    • 27-07-2007
    • 47

    انفلات الروح

    ( انفلات الروح) قصة قصيرة

    فى الغربة يصبح المرض جحيما ، يشتد فتشف الروح ويصفو الذهن .. هذه المرة كانت نوبة البرد الأسيوية قاسية ، والشفافية فى أوجها حتى صارت الروح غيمة شتوية رقراقة ، تحلق بى بين خيالات بعيدة ، تدمع لها العين وتنز منها كل جراح القلب القديمة .. الدموع لا تنهمر لتغسل الروح وينتهى الأمر ، إنما تنحبس ليطول الألم وتتشابك خيوط الذكريات أكثر ، محاوِلةً أن تكبل الروح المحلقة ، لكنها تنفلت ..
    فى المساء أصبح عاجزا عن الحركة ، فأضطر للاتصال بأحد الزملاء ليحضر لى بعض الأقراص .. أجاهد لأفتح له الباب وما إن أرتمى على السرير مرة أخرى حتى أشير إلى جيب البنطلون ليأخذ نقود الدواء .. يأخذها ببساطة قاتلة قبل أن يسأل عما بى ويجلس ..
    – ما تجيب يا أخى حاجة نشربها .
    هو الذى قالها ، فلم أكن قادرا على الكلام .. أشرت إلى الثلاجة فأخذ منها علبة العصير وناولنى مشكورا زجاجة المياه والأقراص ..
    الروح الآن تشف أكثر وأكثر ، تصعد حتى تتجاوز عنان السماء .. ماذا لو أموت الآن ؟ .. نعم فى هذه اللحظة بالذات.. سوف يقلبنى مرتين يمينا ويسارا ثم يتصل بالشرطة بهدوئه المثير ، أثق أنه لن يستخدم تليفونه المحمول وإنما ستكون أنامله قادرة على أن تتحرك على أزرار تليفونى برقة مفزعة وهو يحوقل ويترحم علىّ ..
    بعدها سيتصلون بخالى الذى أنعم علىّ بعقد العمل ، سيأتى سريعا وينتشر الخبر بين الأقارب هنا ، سيتعاون الجميع لوصول الجثمان سالما إلى مصر بأقصى سرعة ..
    فى المطار سيكون أخى الأكبر دامعا .. سيكتمون الخبر عن أمى وزوجتى والأولاد حتى يصل الجثمان ألى البيت.. عندئذ يبدأ الكابوس الحقيقى ..
    أفقت على صوت زميلى وهو يمسك الريموت قائلا :
    - فين قنوات اللحمة الحمرا ؟
    أخذ يتنقل بين الكليبات العارية وهو يهز ركبته اليمنى مع الصراخ المتصاعد .. هذه الميتة البائسة لا تليق بى .. أحد أصدقاء العمر فجرته قنبلة وحبيبتى الأولى ماتت مقتولة فى إيطاليا بعد هربها من زوجها إلى هناك .. أخذت أفكر فى أحلى طريقة للموت .. ستمهلنى الأيام حتى آخر العام .. أستقل الطائرة حالما باللحظة التى سيرتمى فيها طفلاى وزوجتى بأحضانى المستعدة لالتقامهم .. فجأة تنفجر الطائرة .. لا تكن سوداويا .. سيرتمون بأحضانى بالفعل وسيفلت ( عمر ) من أمه كالمعتاد ومن رجال أمن المطار ليكون أول الواصلين إلىّ داخل صالة الوصول ..
    فى السيارة العائدة بنا سأضع رأسى المكدود على كتف زوجتى وتلفنى بذراعيها غير عابئة بالسائق ، سوف أسلم الروح عندئذ بهدوء .. نعم .. ذلك الشريان الضيق بالقلب الذى أهمله منذ سنوات والضغط المرتفع ، يؤهلاننى بجدارة لذلك .. ستظن هى أننى نائم ولن تكتشف الأمر إلا حين نصل إلى المنزل .. ياه .. أوحشونى كثيرا .. أوحشونى مووووت .. مرة أخرى موت ؟! .. أيها الأحمق لن تمنحك الدنيا البخيلة هذه الميتة الرومانتيكية أبدا ..
    بدأت دموعى تنهمر ، فشددت الغطاء على رأسى متخفيا عن عينيه اللتين تحدقان فى الشاشة الجهنمية بشراهة .. من سيتولى تسديد ديونى من بعدى ؟ .. ديونى هناك لإخوتى ، سيتنازلون عنها ، لكن ديونى هنا لابد من ترتيب أمرها .. سأترك لخالى تفاصيلها لتصل الحقوق لأصحابها من الورثة ..
    ماذا لو أموت فى المدرسة ؟ .. نعم .. أفضل وقت أثناء طابور الصباح والفناء ممتلئ .. لتكن اللحظة التى تسبق تحية العلم مباشرة .. السكون يسربل المكان والعيون تتطلع إلى سارية العلم التى سأقترب منها ويطاوعنى شريانى اللعين لينفجر وأنا أحتضن السارية ، ساقطا ليلفنى العلم.. ليس علم بلدى ، أعرف ، نحن أمة عربية واحدة كما تقول إذاعاتنا على أية حال .. ستحملنى سيارة الإسعاف سريعا ويكملون يومهم الدراسى بكل رتابته ولا جدواه ..
    أنا متعب هكذا حتى فى الموت .. فلتدهسنى إذن سيارة يابانية فارهة .. ليكن قائدها أحد تلاميذى فى الصف مثلا ، دون العشرين من عمره ، يطير بها مخمورا كعادته .. ربما يلحظ بعد فوات الأوان أننى أستاذه فيحاول كبحها ، لكنها لن تأبه لأمثالى من الوافدين الأجانب كما يقولون .. غلبنى النوم وأفقت فلم أجد من زميلى سوى صوت التليفزيون المرتفع الذى لم يهتم بإغلاقه ..
    فى الصباح بينما أرتدى ملابسى بصعوبة بالغة وأشنق رقبتى برباط العنق الذى يفرضونه علينا فى المدرسة ؛ أكون قد عرفت الميتة البشعة التى تدخرها الأيام لى .. ستتركنى لأحيا هنا – وحيدا – مزيدا من السنوات .. المدهش أننى فى هذه اللحظة بالذات ، مع تحطم الجسد وتصاعد اليأس إلى الحلق والروح ؛ وجدتها – روحى – تشف وتشف ولا تزال قادرة على التحليق بعيدا .. وجدتنى أتلمس يد زوجتى لنطيرعاليا ، عاليا جدا .. كعادتنا صرنا غيمتين شتويتين مترعتين بالدمع ، راحتا تمطران .. تمطران بغزارة حتى أوسعتا العالم كله مطرا .
    - تمت بحمد الله - إيهاب رضوان
    مدينة العين فى 2/11/2007
  • هلال فتحي
    • 19-10-2007
    • 3

    #2
    لن يكون القدر قاسيا علينا أكثر من ذلك ، فنحن صديقي لا ندري أيموت الإنسان بسبب الغربة أم يوت بسبب الصديق او ربما يتمنى بين أهله أن يكون الموت هو الدواء له مما هو فيه كما يقول المتنبي
    كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا أن يكن أمانيا
    تمنيتها ما تمنيت أن تـــــــــــــــرى صديقا فأعيا أو عدوا مداجـيا
    عبقرية الإبداع، و توظيف اللغة توظيفا يجعلها كالنبض الحي الذي يشعرنا بكل دقة في قلبك ونفس من انفاسك" أنامله" " رقة مفزعة" و كما قلت لك الوصف اللغوي للحال هنا نقلنا من مجرد اصحاب رأي ينقدون العمل إلى بشر يشعرون بك ويتفاعلون مع إحساسك، وربما مشفقون عليك.
    أخيرا الدنيا ليست عتمة لهذه الدرجة كما تتخيل ، مازال هناك من يحتاجك ، و يكفيك أنك لست تعبر عن ذاتك فقط بل تعبر عنهم أيضا .
    أنا في انتظار إشراقة أمل ، و عهد جديد ليس لأهل القرية بل لقبلك المكدود الذي امتلأ أسي في بداية رحلتك.

    تعليق

    • عثمان علوشي
      أديب وكاتب
      • 04-06-2007
      • 1604

      #3
      الأستاذ إيهاب رضوان،
      الغربة قنبلة غازية سامة إن لم تقتل المغترب أحيته. والغربة يا أخي أنواع كثيرة، فربما حتى الذين يعيشون في بلدانهم وبين أهلهم يشعرون بالغربة. وبعد العسر يسرا والله دائما يأتي بالفرج..
      قصة رائعة نبعت من روح وقلم راقيين..
      ودي وتقديري
      عثمان
      عثمان علوشي
      مترجم مستقل​

      تعليق

      • مجدي السماك
        أديب وقاص
        • 23-10-2007
        • 600

        #4
        هاجس الموت

        الاخ الكريم : ايهاب رضوان سعد
        تحيتي.. سرد رائع ..هو هاجس الموت الذي يسيطر علينا احيانا كثيرة .
        تحيتي
        عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

        تعليق

        • إيهاب رضوان سعد
          عضو الملتقى
          • 27-07-2007
          • 47

          #5
          الصديق هلال .. أحزننى ردك ..تقول " ليست الدنيا عتمة لهذه الدرجة كما تتخيل ، وفى انتظار إشراقة أمل ، وقلبك المكدود الذى امتلأ أسى فى بداية رحلتك "
          أولا لقد اعتبرت أننى بطل القصة وهذا ليس صحيحا بالطبع فمهما حملت القصة من ملامحى الشخصية ، هذا لا يعنى أن الأحاسيس والأفكار كلها لى أنا.
          ثانيا القصة تدعو للتفاؤل وليس اليأس والمقصود بانفلات الروح ليس خروجها من الجسد أى الموت وإنما انفلاتها من اليأس والتحليق عبر سماء الخيال.
          الصديقان علوشى عثمان ومجدى السماك ..
          شكرا لمروركما الكريم وخالص حبى .

          عزيزى ( دخل الربيع ) ..
          إننى دوما متفائل (بك وبهما ).. حبى وأشواقى .

          تعليق

          • هلال فتحي
            • 19-10-2007
            • 3

            #6
            الصديق....إيهاب
            أفهم جيدا أن مغزى القصة ليس الموت وإن كان قد ملأ كل جوانبها إلا في اللحظات الأخيرة فيها، و أفهم جيدا أن انفلات الروح ليس معناه خروج الروح في لحظات الموت الأخيرة ، ولكن انفلاتها لأنها عجزت عن تحقيق ما تصبو إليه وتريد ، انفلاتها من مواجهة الواقع وإن كان مؤلما ( الصديق الزائف - الغربة الموحشة - الأحباء المفقودين )و تحليقها في عالم الخيال و هذا الشكل الرومانسي يسيطر عليه موت المشاعر و الأحلام أحيانا و في هذا أسى.
            أما الجانب الآخر و هو أن القصة تحمل من ملامحك و لا تمثلك و لست بطلها فهذا في ظني ليس سليما لقد استخدمت ذاتك في التعبير عن كل من يعانون من الغربة ، وفقدان الصديق و الأحباء، وأنت واحد منهم فلابد أنك عانيت كما عانى الآخرين
            لذلك لا مانع من أن تكون بطلها.

            تعليق

            يعمل...
            X