دائرة الروعة
6-2-2010
كل الأشياء تبدو رائعة إذا نظرنا إليها من بعد،
الجبال شامخة ومهيبة،
البحار صافية وممتدة،
السماء عالية وراقية،
القمر مضيئا وخلابا،
والمرأة إبهارا وحياة،
الطفل براءة ونقاء،
الرجل قوة وشهامة،
وكذا
الشمس والمطر.. الحمام والأسد..
فالعين تشبع والنفس ترتوي إذا اكتفت من جمال الناس والأشياء بالتعامل عن بعد،
البعد يعطينا نظرة كلية جمالية عامة،
الجمال يغرس في قلوبنا حبا نحو هذا البعيد،
البعد ينشئ داخلنا رغبة للاستكشاف والمعرفة،
البعد يخلق داخلنا لهفة وشوق للالتصاق بهذا الجمال،
ولكن هيهات للهناء أن يسكن قلب شغوف؛ فهذا البعد لا يكفي،
لأن الإنسان عاقل، والعقل لا يشبع إلا بالقرب،
لا ليس بالقرب فقط بل بالتوغل في صميم الأمر،
وقتها يفهم حقيقة الأشياء، كينونتها وجزيئاتها،
وقتها يسبر غور النفوس، تطلعاتها وإخفاقاتها،
هنا
يتعلم، يعرف، يتثقف،
ينمو، يتطور يرتقي،
لكنه كلما تغلغل وفهم، كلما اكتشف نقائص، وكلما فقد الشيء بريقه،
وكلما اقترب أكثر ، فقد الحب جذوته، واللهفة سعيرها،
فالجبال تصبح قفرا وجدبا،
البحار تكشف أمواجا وغدرا،
السماء تتجرد إلى سحب وهواء،
القمر محاق ويمد ويجذر،
والمرأة تمسي حيرة ولغزا،
الطفل يحملنا مسئولية وشقاوة،
الرجل يتقوقع في سلطة وأنانية،
وكذا
الأب والأم.. الخال والعم..
ولكن مهلا فالنظرة القريبة الأولى لا تكفي، فمازالت في الأشياء والنفوس نقاط خفية،
وجمال كامن في الأعماق،
يتلهف إليها المرء..
ولكي يكشف أكثر..
يخترع تليسكوبا وميكروسكوبا وصاروخا،
يبتكر تحليلا نفسيا وتصنيفا للشخصية، وتنميطا مجتمعيا،
يكشف تضاريس ويكتب تاريخا ويؤلف قواعد،
وما يهنأ بالا إلا ويكتشف أن لكل قاعدة شواذا،
وأن لبعض الشذوذ قواعد حاكمة،
وأن للقواعد أسسا وأن للأسس أعماقا تختلف وتتباين كل حسب منشأه،
فيهدم كل هذا ويعيد البناء من جديد،
وتدور الدائرة..
جمال ظاهر في البعد،
نقترب..
جمال كامن في العمق،
نتغلغل..
نكتشف شذوذا ونقائص،
نهدم ونعيد البناء والتشكيل و..
ندور في فلك الجذب والطرد،
المد والجذر،
الحب والكُرْه،
البعد والقرب.. في دائرة الروعة.. حيث لا بداية ولا نهاية.
تعليق