الغربة عن الوطن
في قصص طه وادي القصيرة(1)
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
........................
(القسم الأول)
توطئة:
أصدر الدكتور طه وادي، سبع مجموعات قصصية، هي: «عمار يا مصــر» (1980م)، و«الدموع لا تمسح الأحزان» (982م)، و«حكاية الليل والطريق» (1985م)، و"دائرة اللهب" (1990م)، و«العشق والعطش» (1993م)، و«صرخة في غرفة زرقاء» (1996م)، و «رسالة إلى معالي الوزير» (2000م). كما أصدر أربع روايات هي: "الأفق البعيد" (1984م)، و"الممكن والمستحيل" (1987م)، و«الكهف السحري» (1994م)، و «عصر الليمون» (1998م) كما أصدر سيرة ذاتية بعنوان "الليالي" (1991م).
وتتنوّع الرؤى التي تطرحها قصص طه وادي ورواياته، وتتنوّع العوالم التي تقاربها، ما بين القرية والمدينة، ومصر والغربة، والعالم الدّاجن الساكن والعالم الذي يمور بالحركة، ويرغب في التغيير، وغيرها من الرؤى التي تحتاجُ إلى دراسات تطبيقية طويلة مفصّلة.
ولأن الفن كما يرى الدكتور طه وادي يطمح دائماً «لأن يعكس نبض الحياة وحركة الأحياء بما فيهما من صراعات وتناقضات، من أجل تثبيت الحق ومناصرة الحقيقة»(2) فسنتوقف في هذه المقالة أمام ملمح موضوعي يُلح على طه وادي في قصص عديدة من مجموعاته القصصية، وهو ما يمكن أن نسميه الغربة عن الوطن من خلال قراءة تحليلية لأربع قصص قصيرة من إبداعه، هي: «تغريبة ولد اسمه كرم»، و«حكاية شرخ في الجدار»، و«مواقف مجهولة من سيرة صالح أبو عيسى»، و«موسم القتل الجميل». محاولين أن نُجيب موضوعيا عن أسئلة تطرحها هذه الدراسة الموجزة موضوعيا وفنيا:
موضوعيا: ما الذي يجعل البطل يغترب ويترك وطنه؟ ومن الذين يغتربون؟ وماذا يواجهون في الغربة؟ وكيف يعيشون بعد أن يعودوا إلى أرض الوطن؟
وفنيا: ما الجماليات التي تطرحها قصص الغربة عند طه وادي؟
(1)
1- إن الذي يجعل البطل يغترب هو الفقر، الذي قال عنه علي بن أبي طالب ـ ـ «لو كان الفقر رجلا لقتلته» (وهي جملة تأتي في قصة «تغريبة ولد اسمه كرم». والأبطال لم يتركوا مصر راضين مختارين، وإنما سوء واقع عيشهم هو الذي طاردهم وجعلهم يختارون الغربة سبيلاً.
إن كرماً بطل قصة «تغريبة ولد اسمه كرم»، يتذكّر حينما ركب الطائرة لأول مرة قصة الأفواه التي مات أبوه وترك عليه مسؤولية إعاشتها، وكانت وراء أن يركب عربة «الترحيلة» ويغترب داخل مصر، ليعمل في مزارع عمدة ميسور الحال، أو أن يركب الطائرة ويذهب للخليج، بحثاً عن لقمة لهذه الأفواه:
«في الطائرة إلى الخليج العربي .. تذكرت أول مرة ركبت فيها عربة .. كانت عربة الترحيلة، لو كان الفقر رجلاً لقتلته، لكنه امرأة، ومن أجل امرأة ولدتني تحمّلتُ العذاب في كل مكان. مات أبي وأنا صغير، أصبحتُ مسؤولاً عن خمسة أفواه .. أم .. ثلاث بنات .. طفل صغير»(3).
وتقول هيفاء شفيق التي دفعت زوجها خالد سرحان بطل قصة «موسم القتل الجميل» للسفر «تزوّجت خالد وكنت سعيدةً به، انتشلني من الفقر والحي الشعبي. أنا التي طلبتُ منه السفر، رفض أن نذهب معه حتى يستطيع أن يدّخر أكثر وأكثر. الفقر يجعلك تسير مع الناس على أرض الواقع، أما المال فهو بساط سحري، تجلس متكئاً عليه، وتحلم بما لا أذن سمعت، ولا عين رأت، ولا خطر على قلب بشر … »(4).
وفي قصة «مواقف مجهولة من سيرة صالح أبو عيسى» نجد الزوجة الفقيرة ـ التي يعمل زوجها أجيراً عند آخرين ـ تحلم بالثراء الوافد، القادم من خارج الحدود (كما أثرى رجب الذي عمل في «السعودية»)، وترى أن هذه التجربة قابلة لأن تتكرر مع زوجها: «كنت يا روحي عند سكينة أم علي .. زوجها عاد بالسلامة من السعودية .. شاء الله يا أهل البيت. رجب زوجها الذي كان عرة الرجال يا صالح، داره الآن مبنية بالطوب الأحمر، وغناء المسجِّل لا ينقطع فيها ليل نهار، وأولاده صلاة النبي عليهم يلبسون نايلون في نايلون»(5).
2- ونحن نجد أبطال طه وادي في الغربة يعانون معاناة كبيرة، وهم لن يجدوا طريق الثراء ـ الذي تصوّروه في الغربة سهلاً مُيسراُ ـ فكرم بطل «تغريبة ولد اسمه كرم» يرينا جانباً من المعاناة:
3- «في مدينة الدوحة دختُ أياماً وليالي، ليس معي مؤهل سوى عافيتي، عملتُ نجاراً .. بناءً .. حامل طوب. أكل العيش مر. في حي شعبي يعيش المساكين أمثالي من الهند وباكستان وإيران والسودان .. كما كنا نفعل أيام الترحيلة في عزبة العمدة .. نجمع القطن .. نحصد القمح .. نشتل الأرز .. يا عم المسعد في بلاده مُسعَد في بلاد الناس»(6).
4- والغربة «تلد من الأمراض ما لا عين رأت ولا أذن سمعت»(7) وهذا الداء يظل مع صاحبه حتى بعد عودته إلى ارض الوطن «عاودته آلام الغربة ومرارة الليالي السوداء ... أحس انه مفرغ من الداخل»(8).
ومن ثم فقد يُعاتب البطل بلده التي جعلته يتغرّب!. يقول «كرم» في قصة «تغريبة ولد اسمه كرم»: «إيه يا مصر .. لمَ تركتِنا نتغرّب. الغربة صعبة وقتّالة. لو كان العمدة يُعطي أجراً مناسباً ما تغرَّبت»(9).
والغربة لا تستطيع أن تحل مشاكل من هم في الداخل، ففي قصة «حكاية شرخ في الجدار» تنتاب عبدَ الله الحسرة لأنه اكتشف فجأة شرخاً في الجدار الخلفي للبيت (بيت عائلة المنصوري الكبير)، ومن ثم يفزع عبد الله إلى إخوته الذين اغتربوا وتفرّقوا في أنحاء الأرض مستنجداً، لعل نقودهم تنقذ البيت الكبير، قبل أن ينهار:
"أرسل عبد الله خطابات إلى إخوته أولاد الحاج محمد رمضان المنصوري:
ـ مصطفى المنصوري .. مدينة أوتاوا بكندا.
ـ جلال المنصوري والعائلة .. مدينة برلين عن طريق ألمانيا الشرقية.
ـ حامد المنصوري وعروسه سوسن .. مدينة العين "بأبو ظبي".
ـ فاطمة المنصوري وزوجها سالم .. مدينة مكة المكرمة.
وفي كل مظروف كان يكتب "يصل في خير وسلام .. وشكراً لساعي البريد"(10).
و «مرت الليالي وطالتُ والشرخ يتسع يوماً بعد يوم. صار عبد الله لا يهنأ بنوم أو طعام، حتى زوجته نفيسة ـ ابنة عمه ـ غدا لا يكلم جسدها، ولا يُسافر في بحور عيونها. يبدو أن إخوته قد نسوا البيت ومن فيه، فالذي يده في الماء ليس كمن يده في النار»(11).
ويتأخر أخوته في الرد عليه لإنقاذ بيت العائلة من الانهيار، و«أحس عبد الله كبير العائلة أن ليس هناك عائلة ولا يحزنون. لقد ربى إخوته وعلّمهم حتى في حياة أبيهم. لكن لا فائدة، كل ما فعله من أجل الجميع ذهب أدراج الرياح. لا أمل في صغير أو كبير. كل واحد مشغول بهمومه»(12).
ويرهن عبد الله البيت الكبير للحاج «سامي الغرباوي»، وتموت زوجته نفيسة غما وكمدا، ويرسل له أخوته معتذرين عن عدم قدرتهم على مساعدته، بينما أخته الوحيدة (فاطمة) تعرض عليه أن يبيع البيت لزوجها.
وتنتهي القصة وقد آلت ملكية البيت إلى المرابي الذي رهن له البيت.
ولم تستطع نقود الغُربة أن تنقذ البيت من الضياع!!
ولم تستطع نقود الغربة أيضاً أن تحقق لكرم زواجه من «عفاف»، يقول السارد / البطل متذكِّراً عفاف في الغربة:
«إيه يا عفاف .. سأدخر كل درهم، أفتح محل بقالة .. أزوِّج أخواتي .. الولد صابر لازم يتعلّم .. حتى لا يرى ما رأيتُه .. وبعدها يا عفاف تكونين عروستي على سنة الله ورسوله»(13).
وفي موضع آخر، يقترن أمل العودة إلى مصر ـ وهو غربته ـ بذكر «عفاف»، يقول:
«طالت أيام الغربة .. أحن إلى مصر .. وإليك يا عفاف .. سنوات أربع بطيئة .. كئيبة .. شربت المر .. أكلت الذل .. كله في الحب يهون»(14).
ولكن ها هو يعود، ويحضر النقود، لكنه يفقد الحب!!
«يا ليتني ما عدت … عفاف زوّجها أهلُها بالإكراه من فاروق ابن شيخ البلد .. عندما تجد العيش تفقد الحب»(15).
(2)
تهدف القصة القصيرة «إلى تقديم الإمتاع والإقناع إلى قارئها: الإمتاع من خلال رؤاها الجمالية المختلفة، ومن خلال نزوعها التواق إلى التكامل مع الأجناس الأدبية الأخرى،والإفادة من إمكانات التشخيص، الموسيقى، السينما، التصوير وغيرها …، عندما تعالج قضايا الواقع محاولة ـ في فنية وفي جمال ـ أن تشبع عند القارئ رغبته الجمالية. وأما الإقناع فهو ماثل في محاولة القصة القصيرة في التوجه إلى عصرها من خلال مناقشة هموم الواقع أو الاقتراب الحميم منها، وطرح آمال الإنسان العادي الصغيرة وإحباطاته المروّعة أمام عينيه»(16).
ويستخدم الدكتور طه وادي في قصصه عدداً من التقنيات الفنية، لعل من أهمها:
1-استخدام لغة فصيحة قريبة من اللغة المحكية:
5- يحاول طه وادي في قصصه القصيرة أن يستخدم لغة قريبة من اللغة العامية، ولكنها فصيحة، وجمله القصيرة تكاد تتشابه مع الكلام ـ الفعلي الحياتي ـ الذي يستخدمه هؤلاء الأبطال في حياتهم الفعلية، يقول «كرم» بطل قصة «تغريبة ولد اسمه كرم» متحدثاً عن تجربته في الغربة:
6- «في مدينة الدوحة دختُ أياماً وليالي، ليس معي مؤهل سوى عافيتي، عملتُ نجاراً .. بناءً .. حامل طوب. أكل العيش مر. في حي شعبي يعيش المساكين أمثالي من الهند وباكستان وإيران والسودان .. كما كنا نفعل أيام الترحيلة في عزبة العمدة .. نجمع القطن .. نحصد القمح .. نشتل الأرز .. يا عم المسعد في بلاده مُسعَد في بلاد الناس»(17).
وفي قصة «مواقف مجهولة من سيرة صالح أبو عيسى»، نرى أيضاً قرب نصه اللغوي من اللغة المحكية التي يتحدث بها الناس ـ مع محاولة تفصيحها بقدر الإمكان، وإن كانت بعض الألفاظ العامية تتسلل إلى النص بين فقرة وأُخرى.
«هل يعجبك يا منيرة الولد عامر أبو عميرة الذي سافر ثاني يوم زواجه، وترك زوجته يا حبة عين أمها، والموكوس عبده عبود الذي ذهب وترك أباه الذي جاء به من سلسلة ظهره مشلولاً يا ولداه، والمسطول ناجي أبو النجا الذي ترك أرضه لأولاده الصغار وزوجته الغندورة، فبار نصف الأرض، وأكلت الدودة النصف الباقي».
ونلحظ في الفقرة السابقة قربها من اللغة المحكية، في قوله: الولد ـ سافر ثاني يوم ـ يا حبة عين أمها ـ الموكوس ـ من سلسلة ظهره ـ المسطول ـ زوجته الغندورة … إلخ.
ولعل صالحاً في قرارة نفسه كان يعلم إمكان الفشل قبل السفر، فحينما حدثته زوجته، بحديث زوجة سكينة أم علي، وأن «زوجها عاد من السعودية .. شاء الله يا أهل البيت .. رجب زوجها الذي كان عرة الرجال يا صالح، داره الآن مبنية بالطوب الأحمر، وغناء المسجل لا ينقطع فيها ليل نهار، وأولاده صلاة النبي عليهم يلبسون ملابس نايلون في نايلون».
إن الزوجة الفقيرة ـ التي يعمل زوجها أجيراً عند آخرين ـ تحلم بالثراء، لكن زوجها في هذه اللحظة يتذكّر التجارب الفاشلة التي مرّ بها آخرون، وكأنها ستتكرر معه «هل يعجبك يا منيرة الولد عامر أبو عميرة الذي سافر ثاني يوم زواجه، وترك زوجته يا حبة عين أمها، والموكوس عبده عبود الذي ذهب وترك أباه الذي جاء به من سلسلة ظهره مشلولاً يا ولداه، والمسطول ناجي أبو النجا الذي ترك أرضه لأولاده الصغار وزوجته الغندورة فبار نصف الأرض، وأكلت الدودة النصف الباقي».
(يتبع)
في قصص طه وادي القصيرة(1)
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
........................
(القسم الأول)
توطئة:
أصدر الدكتور طه وادي، سبع مجموعات قصصية، هي: «عمار يا مصــر» (1980م)، و«الدموع لا تمسح الأحزان» (982م)، و«حكاية الليل والطريق» (1985م)، و"دائرة اللهب" (1990م)، و«العشق والعطش» (1993م)، و«صرخة في غرفة زرقاء» (1996م)، و «رسالة إلى معالي الوزير» (2000م). كما أصدر أربع روايات هي: "الأفق البعيد" (1984م)، و"الممكن والمستحيل" (1987م)، و«الكهف السحري» (1994م)، و «عصر الليمون» (1998م) كما أصدر سيرة ذاتية بعنوان "الليالي" (1991م).
وتتنوّع الرؤى التي تطرحها قصص طه وادي ورواياته، وتتنوّع العوالم التي تقاربها، ما بين القرية والمدينة، ومصر والغربة، والعالم الدّاجن الساكن والعالم الذي يمور بالحركة، ويرغب في التغيير، وغيرها من الرؤى التي تحتاجُ إلى دراسات تطبيقية طويلة مفصّلة.
ولأن الفن كما يرى الدكتور طه وادي يطمح دائماً «لأن يعكس نبض الحياة وحركة الأحياء بما فيهما من صراعات وتناقضات، من أجل تثبيت الحق ومناصرة الحقيقة»(2) فسنتوقف في هذه المقالة أمام ملمح موضوعي يُلح على طه وادي في قصص عديدة من مجموعاته القصصية، وهو ما يمكن أن نسميه الغربة عن الوطن من خلال قراءة تحليلية لأربع قصص قصيرة من إبداعه، هي: «تغريبة ولد اسمه كرم»، و«حكاية شرخ في الجدار»، و«مواقف مجهولة من سيرة صالح أبو عيسى»، و«موسم القتل الجميل». محاولين أن نُجيب موضوعيا عن أسئلة تطرحها هذه الدراسة الموجزة موضوعيا وفنيا:
موضوعيا: ما الذي يجعل البطل يغترب ويترك وطنه؟ ومن الذين يغتربون؟ وماذا يواجهون في الغربة؟ وكيف يعيشون بعد أن يعودوا إلى أرض الوطن؟
وفنيا: ما الجماليات التي تطرحها قصص الغربة عند طه وادي؟
(1)
1- إن الذي يجعل البطل يغترب هو الفقر، الذي قال عنه علي بن أبي طالب ـ ـ «لو كان الفقر رجلا لقتلته» (وهي جملة تأتي في قصة «تغريبة ولد اسمه كرم». والأبطال لم يتركوا مصر راضين مختارين، وإنما سوء واقع عيشهم هو الذي طاردهم وجعلهم يختارون الغربة سبيلاً.
إن كرماً بطل قصة «تغريبة ولد اسمه كرم»، يتذكّر حينما ركب الطائرة لأول مرة قصة الأفواه التي مات أبوه وترك عليه مسؤولية إعاشتها، وكانت وراء أن يركب عربة «الترحيلة» ويغترب داخل مصر، ليعمل في مزارع عمدة ميسور الحال، أو أن يركب الطائرة ويذهب للخليج، بحثاً عن لقمة لهذه الأفواه:
«في الطائرة إلى الخليج العربي .. تذكرت أول مرة ركبت فيها عربة .. كانت عربة الترحيلة، لو كان الفقر رجلاً لقتلته، لكنه امرأة، ومن أجل امرأة ولدتني تحمّلتُ العذاب في كل مكان. مات أبي وأنا صغير، أصبحتُ مسؤولاً عن خمسة أفواه .. أم .. ثلاث بنات .. طفل صغير»(3).
وتقول هيفاء شفيق التي دفعت زوجها خالد سرحان بطل قصة «موسم القتل الجميل» للسفر «تزوّجت خالد وكنت سعيدةً به، انتشلني من الفقر والحي الشعبي. أنا التي طلبتُ منه السفر، رفض أن نذهب معه حتى يستطيع أن يدّخر أكثر وأكثر. الفقر يجعلك تسير مع الناس على أرض الواقع، أما المال فهو بساط سحري، تجلس متكئاً عليه، وتحلم بما لا أذن سمعت، ولا عين رأت، ولا خطر على قلب بشر … »(4).
وفي قصة «مواقف مجهولة من سيرة صالح أبو عيسى» نجد الزوجة الفقيرة ـ التي يعمل زوجها أجيراً عند آخرين ـ تحلم بالثراء الوافد، القادم من خارج الحدود (كما أثرى رجب الذي عمل في «السعودية»)، وترى أن هذه التجربة قابلة لأن تتكرر مع زوجها: «كنت يا روحي عند سكينة أم علي .. زوجها عاد بالسلامة من السعودية .. شاء الله يا أهل البيت. رجب زوجها الذي كان عرة الرجال يا صالح، داره الآن مبنية بالطوب الأحمر، وغناء المسجِّل لا ينقطع فيها ليل نهار، وأولاده صلاة النبي عليهم يلبسون نايلون في نايلون»(5).
2- ونحن نجد أبطال طه وادي في الغربة يعانون معاناة كبيرة، وهم لن يجدوا طريق الثراء ـ الذي تصوّروه في الغربة سهلاً مُيسراُ ـ فكرم بطل «تغريبة ولد اسمه كرم» يرينا جانباً من المعاناة:
3- «في مدينة الدوحة دختُ أياماً وليالي، ليس معي مؤهل سوى عافيتي، عملتُ نجاراً .. بناءً .. حامل طوب. أكل العيش مر. في حي شعبي يعيش المساكين أمثالي من الهند وباكستان وإيران والسودان .. كما كنا نفعل أيام الترحيلة في عزبة العمدة .. نجمع القطن .. نحصد القمح .. نشتل الأرز .. يا عم المسعد في بلاده مُسعَد في بلاد الناس»(6).
4- والغربة «تلد من الأمراض ما لا عين رأت ولا أذن سمعت»(7) وهذا الداء يظل مع صاحبه حتى بعد عودته إلى ارض الوطن «عاودته آلام الغربة ومرارة الليالي السوداء ... أحس انه مفرغ من الداخل»(8).
ومن ثم فقد يُعاتب البطل بلده التي جعلته يتغرّب!. يقول «كرم» في قصة «تغريبة ولد اسمه كرم»: «إيه يا مصر .. لمَ تركتِنا نتغرّب. الغربة صعبة وقتّالة. لو كان العمدة يُعطي أجراً مناسباً ما تغرَّبت»(9).
والغربة لا تستطيع أن تحل مشاكل من هم في الداخل، ففي قصة «حكاية شرخ في الجدار» تنتاب عبدَ الله الحسرة لأنه اكتشف فجأة شرخاً في الجدار الخلفي للبيت (بيت عائلة المنصوري الكبير)، ومن ثم يفزع عبد الله إلى إخوته الذين اغتربوا وتفرّقوا في أنحاء الأرض مستنجداً، لعل نقودهم تنقذ البيت الكبير، قبل أن ينهار:
"أرسل عبد الله خطابات إلى إخوته أولاد الحاج محمد رمضان المنصوري:
ـ مصطفى المنصوري .. مدينة أوتاوا بكندا.
ـ جلال المنصوري والعائلة .. مدينة برلين عن طريق ألمانيا الشرقية.
ـ حامد المنصوري وعروسه سوسن .. مدينة العين "بأبو ظبي".
ـ فاطمة المنصوري وزوجها سالم .. مدينة مكة المكرمة.
وفي كل مظروف كان يكتب "يصل في خير وسلام .. وشكراً لساعي البريد"(10).
و «مرت الليالي وطالتُ والشرخ يتسع يوماً بعد يوم. صار عبد الله لا يهنأ بنوم أو طعام، حتى زوجته نفيسة ـ ابنة عمه ـ غدا لا يكلم جسدها، ولا يُسافر في بحور عيونها. يبدو أن إخوته قد نسوا البيت ومن فيه، فالذي يده في الماء ليس كمن يده في النار»(11).
ويتأخر أخوته في الرد عليه لإنقاذ بيت العائلة من الانهيار، و«أحس عبد الله كبير العائلة أن ليس هناك عائلة ولا يحزنون. لقد ربى إخوته وعلّمهم حتى في حياة أبيهم. لكن لا فائدة، كل ما فعله من أجل الجميع ذهب أدراج الرياح. لا أمل في صغير أو كبير. كل واحد مشغول بهمومه»(12).
ويرهن عبد الله البيت الكبير للحاج «سامي الغرباوي»، وتموت زوجته نفيسة غما وكمدا، ويرسل له أخوته معتذرين عن عدم قدرتهم على مساعدته، بينما أخته الوحيدة (فاطمة) تعرض عليه أن يبيع البيت لزوجها.
وتنتهي القصة وقد آلت ملكية البيت إلى المرابي الذي رهن له البيت.
ولم تستطع نقود الغُربة أن تنقذ البيت من الضياع!!
ولم تستطع نقود الغربة أيضاً أن تحقق لكرم زواجه من «عفاف»، يقول السارد / البطل متذكِّراً عفاف في الغربة:
«إيه يا عفاف .. سأدخر كل درهم، أفتح محل بقالة .. أزوِّج أخواتي .. الولد صابر لازم يتعلّم .. حتى لا يرى ما رأيتُه .. وبعدها يا عفاف تكونين عروستي على سنة الله ورسوله»(13).
وفي موضع آخر، يقترن أمل العودة إلى مصر ـ وهو غربته ـ بذكر «عفاف»، يقول:
«طالت أيام الغربة .. أحن إلى مصر .. وإليك يا عفاف .. سنوات أربع بطيئة .. كئيبة .. شربت المر .. أكلت الذل .. كله في الحب يهون»(14).
ولكن ها هو يعود، ويحضر النقود، لكنه يفقد الحب!!
«يا ليتني ما عدت … عفاف زوّجها أهلُها بالإكراه من فاروق ابن شيخ البلد .. عندما تجد العيش تفقد الحب»(15).
(2)
تهدف القصة القصيرة «إلى تقديم الإمتاع والإقناع إلى قارئها: الإمتاع من خلال رؤاها الجمالية المختلفة، ومن خلال نزوعها التواق إلى التكامل مع الأجناس الأدبية الأخرى،والإفادة من إمكانات التشخيص، الموسيقى، السينما، التصوير وغيرها …، عندما تعالج قضايا الواقع محاولة ـ في فنية وفي جمال ـ أن تشبع عند القارئ رغبته الجمالية. وأما الإقناع فهو ماثل في محاولة القصة القصيرة في التوجه إلى عصرها من خلال مناقشة هموم الواقع أو الاقتراب الحميم منها، وطرح آمال الإنسان العادي الصغيرة وإحباطاته المروّعة أمام عينيه»(16).
ويستخدم الدكتور طه وادي في قصصه عدداً من التقنيات الفنية، لعل من أهمها:
1-استخدام لغة فصيحة قريبة من اللغة المحكية:
5- يحاول طه وادي في قصصه القصيرة أن يستخدم لغة قريبة من اللغة العامية، ولكنها فصيحة، وجمله القصيرة تكاد تتشابه مع الكلام ـ الفعلي الحياتي ـ الذي يستخدمه هؤلاء الأبطال في حياتهم الفعلية، يقول «كرم» بطل قصة «تغريبة ولد اسمه كرم» متحدثاً عن تجربته في الغربة:
6- «في مدينة الدوحة دختُ أياماً وليالي، ليس معي مؤهل سوى عافيتي، عملتُ نجاراً .. بناءً .. حامل طوب. أكل العيش مر. في حي شعبي يعيش المساكين أمثالي من الهند وباكستان وإيران والسودان .. كما كنا نفعل أيام الترحيلة في عزبة العمدة .. نجمع القطن .. نحصد القمح .. نشتل الأرز .. يا عم المسعد في بلاده مُسعَد في بلاد الناس»(17).
وفي قصة «مواقف مجهولة من سيرة صالح أبو عيسى»، نرى أيضاً قرب نصه اللغوي من اللغة المحكية التي يتحدث بها الناس ـ مع محاولة تفصيحها بقدر الإمكان، وإن كانت بعض الألفاظ العامية تتسلل إلى النص بين فقرة وأُخرى.
«هل يعجبك يا منيرة الولد عامر أبو عميرة الذي سافر ثاني يوم زواجه، وترك زوجته يا حبة عين أمها، والموكوس عبده عبود الذي ذهب وترك أباه الذي جاء به من سلسلة ظهره مشلولاً يا ولداه، والمسطول ناجي أبو النجا الذي ترك أرضه لأولاده الصغار وزوجته الغندورة، فبار نصف الأرض، وأكلت الدودة النصف الباقي».
ونلحظ في الفقرة السابقة قربها من اللغة المحكية، في قوله: الولد ـ سافر ثاني يوم ـ يا حبة عين أمها ـ الموكوس ـ من سلسلة ظهره ـ المسطول ـ زوجته الغندورة … إلخ.
ولعل صالحاً في قرارة نفسه كان يعلم إمكان الفشل قبل السفر، فحينما حدثته زوجته، بحديث زوجة سكينة أم علي، وأن «زوجها عاد من السعودية .. شاء الله يا أهل البيت .. رجب زوجها الذي كان عرة الرجال يا صالح، داره الآن مبنية بالطوب الأحمر، وغناء المسجل لا ينقطع فيها ليل نهار، وأولاده صلاة النبي عليهم يلبسون ملابس نايلون في نايلون».
إن الزوجة الفقيرة ـ التي يعمل زوجها أجيراً عند آخرين ـ تحلم بالثراء، لكن زوجها في هذه اللحظة يتذكّر التجارب الفاشلة التي مرّ بها آخرون، وكأنها ستتكرر معه «هل يعجبك يا منيرة الولد عامر أبو عميرة الذي سافر ثاني يوم زواجه، وترك زوجته يا حبة عين أمها، والموكوس عبده عبود الذي ذهب وترك أباه الذي جاء به من سلسلة ظهره مشلولاً يا ولداه، والمسطول ناجي أبو النجا الذي ترك أرضه لأولاده الصغار وزوجته الغندورة فبار نصف الأرض، وأكلت الدودة النصف الباقي».
(يتبع)
تعليق