في عيد الحب:
من أجل ابتسامة طفل متوحد
[align=right]
لخمس سنوات كانت ترى طفلها يكبر شِبرا شبرا دون أن تسمع –و لو لمرة واحدة- كلمة ماما، كان ذلك عذابَها اليومي فيما يمتلئ ليلُها بكوابيس عن حوادث سير و سجون معزولة.
كانت كلما نظرت إليه رأت فيه فشلها و تزايد لديها شعورُ الذنب الذي ورثته من طفولة مضنية اختلطت فيها الأوامر المتشددة بحياة موازية تُعاش في الخفاء هي حق حصري للكبار.
كان اُضطرابهُ يوترها و حركاتهُ المجانية و صياحُه العالي يدمّران عُمرها، هي الوحيدة تعلم أنه يشعر و يفهم و لكنها لا تستطيع أن تظفر بتلك اللحظة لنفسها إذ أنه كلما صَفَا إدراكُهُ لحظات اُشتدت به نوبات البكاء التي يشعر خلالها أنه مختلف عن كل الأطفال، لا حَقّ له في اللعب و المشاركة لأنهم يُقْصونَه و يروْن فيه كائنا فضائيا و ربما سخر منه أكثرهم و هو يبدو في سذاجته و كبر حجمه كشخصية مثيرة للاستغراب.
لم تستطع أبدا أن تُنجب طفلا آخر خوفا من أن تتكرر مأساتُها فقد صار زوجها يأتي للبيت من أجل النوم فقط و كأن ذلك الولد ليس اُبنهُ و لا يَمُتّ له بِصِلة و رُبّما عنّفها بلا سبب ليغطي على شعوره بالفشل أيضا.
ليالٍ بيضاءُ قضتها بِطولها و هي تفكر في طريقة تتعامل بها مع هذا الطفل الذي هو أقل حظا منها إن شكت حظها و أكثر عجزا منها إن شكت عجزها، إنها الكائن الوحيد المُسَخّر لخدمته و تقبُّلِهِ كما هو و لكن ماذا تفعل و حزنها العظيم عليه لا مِنهُ، إنه يبدو كمُصاب بمرض"الزهايمر" لكن في جسم طفل ، عنيف تارة، سَاهٍ تارة أخرى، كُتلة مشتعلة من القوة البدنية التي لم يستطع تصريف جزء منها بالكلام،فهو لا يتكلم و لا يتواصل و لكنه إنسان و هو اُبنُها و هي الوحيدة المسؤولة عن الارتقاء به درجات و درجات حتى يصير طفلا عاديا ككل الأطفال.
قررت أن تنزل إلى درجات أولية في التعامل معه لأنه بتلك الطريقة فقط سينتبه إليها و يهتم بها. قالت في سرّها:" إنه يحتاج للألوان لا للكلمات، نعم يجب أولا أن أوقظ فيه حواسّهُ و أهذّبها.
قررت أن تجعل من غرفته جَنّة حقيقية فيها كل الألوان و عملت على معرفة أيّ الألوان أحبّ إليه فعرفت أنه يُحبّ الأحمر و من خلال هذا اللون عرّفته على الأشكال المُختلفة باللمس تارة و بالشم تارة و بالذوق تارة أخرى حتى بنت معه علاقة جديدة بدا أنه اُكتسب الثقة فيها.
كانت تأخذه في جولات دون أن تشعر بالخجل أو الخوف من رفض المجتمع فمن حق ولدها أن يعيش حياة عادية حتى و لو كان متوحّدا.
اِهتدت إلى جلب اُهتمامه إلى الأصوات الطبيعية كصوت العصافير و الريح و البحر و الحيوانات و كان يتفاعل سلبا و إيجابا مع هذه الأصوات ثم اُستعملت المعزوفات و كانت تشعر بالتحسن البطيء الذي يبعث فيها الأمل شيئا فشيئا.
ثم صارت تأخذه إلى الأماكن المكتظة بالناس فكان في البداية يثور و يبكي و يسحبها بقوة من يدها لتعيده إلى البيت ثم بدأ يتفاعل كلما رأى ركن مبيعات الأطفال فيتعرف باللمس و النظر و الشم إلى الأشياء.
نعم كان "وليد" يسترجع إنسانيته شيئا فشيئا مع هذه الأم التي داست بقدميها على خوفها و عجزها من أجل أن ترتفع بولدها و بنفسها عن الضعف و الإهمال، كانت تدعو الله ليلا نهارا بأن يشفيه و يجعل منه طفلا عاديا و كانت تُغري أولاد الجيران بالقدوم إلى غرفته و مشاركته ألعابَهُ و أكل الطعام اللذيذ حتى صاروا يطلبون منها إخراجَهُ لبعض الوقت مع حراسَتَِه من الأولاد المزعجين و من أذيّة نفسه.
كانت تراه يبتسم و يفرح فتسكن نفسُها بعد أن تعوّدت تلك الضحكات العصبية منه و النشيج المتواصل. سجّلتهُ في نادٍ للرياضة فصار يستثمر قوته الجسدية مما خفف من عدائيته و صار له بعض الأصحاب الذين يتقبّلونه كما هو.
و في إحدى المرات أخذته إلى مكان يقع فيه التدريب على البيانو فصار ينتبه إلى صوت الأصابع ثنائية اللون و يلتصق بالبيانو أثناء العزف و كأنه يسترجع صوْتا سَمِعَهُ منذ زمن بعيد، كانت الأم تراقبه و هو يكتشف البيانو و يتلمّس أصابعه العجيبة و في إحدى المرّات وقف حِذْوَ العازف و أخذ يعزف بِقامتِهِ الصغيرة لحْنا جميلا ذاكرتُهُ من أصابعه أو من سَمعه شديد الإرهاف.
نعم كان "وليد" يعزف و كان العازف مندهشا من هذا الطفل الذي وجد أخيرا لغة يُعبّر بها عن نفسه و عن إنسانيته. عزف "وليد" على أصابع البيانو بسعادة كبيرة و حين تذكّرَ أمَّهُ اُلتفت فلم يجدها إذ كانت تراقبُه من مكان خفيّ وراء الباب و عيناها مغرورقتان بالدموع.
وجد "وليد" نفسَهُ وحيدا دون أمّهِ فأعتمت الدنيا في عينيه و اُمتلأ رُعْبا. بحث بعينيه في كل مكان فلم يجدها. في تلك اللحظة اُندفعت الحروف إلى شفتيه دون تفكير: "ماما، ماما" فاُهتزّ كل عصب في جسمِها و اُنتشت روحُها و لم تستطع الوقوف. جرى نحو أمّه و هي جاثية على رُكبتيها و الفرح يعقد لسانَها فاُحتضنته و هي تشعر أنها تضع مولودها لأول مرة و تولد هي معه لحياةٍ لا عجز فيها و لا خوف.
[/align]
09فيفري2010
تعليق