جلال التازي
المراقب يطاردني
لا أذكر منذ متى بالضبط وأنا أجري ... دائما أجري، لا أعرف كم أبلغ من العمر بالضبط... لنقل أن عمري كان عشرة سنين... أسكن محطة القطار، لنقل أن هذا هو عنواني .... ربما كان أبي هو القطار وأمي هي السكك الحديدية، لأنا كل ما أذكره هو أنني نزلت من القطار ... وركبت قطارا آخر وهكذا دواليك حتى أصبحت إبنا للقطار، عندما أجوع أسرق ... وعندما يأتي الليل أنام في أي مكان المهم أن لا يكون بعيدا عن المحطة، وعندما أستيقظ أركب أول قطار يأتي دون أسأل إلى أين يتجه ودون أن أشتري تذكرة ... ومن أين لي بثمنها .. ثم هل هناك أحد يشتري تذكرة ليركب ظهر أبيه ؟ ... كان القطار هو أبي، وكان المراقب هو عقبتي الوحيدة ... دائما يطاردني... وخلال المطاردة، أجري وأجري متخطيا أرجل الناس، ومن عربى إلى عربة وقد لا تتصور الشجاعة التي تنزل علي ... تصور ما تراه في السينما الناس يجرون فوق عربات القطار ... أنا كنت أفعل ذلك ولكن هذه المرة على أرض الواقع.. ولم أكن وحيدا، كان لي عدد لا بأس به من الأصدقاء ... ليسوا أصدقاء بل إخوان مادام أبونا واحد وأمنا واحدة ... في بعض المرات عندما كان يسقط أحدنا في يد المراقب، هذا الأخير يركل ويفرس يكاد يقتل ويسب ويشتم... ويلعن اليوم الذي إشتغل فيه هو مراقبا في القطار...
هكذا وباختصار شديد مرت طفولتي، إذا أمكن أن نسميها طفولة..
ومرت الأيام، وأصبحت رجلا... لم أعد أطيق النوم، لم تعد تكفيني سرقة الطعام ولم يعد يكفيني الأكل والنوم لكي أعيش.. وبدأت أتعاطى الحشيش ... لكي أنسى، وعندما لا أجد ثمنه أكتفي بشم لاصق العجلات حيث يكفي أن أشم نصف علبة حتى أنسى أن أمريكا دولة عظمى، وأعتقد أن بلدي هو إبمراطورية العالم وأن كل الدنيا ترقص .. وأعيش أميرا من أمراء ألف ليلة وليلة ولكن للأسف كل هذا للحظات فقط، ثم أعود إلى الآلام ووحشية الشارع وأنياب محطة القطار ...
وفي يوم قبض علي بتهمة السرقة ... سرقت محفظة أحد المسافرين ولكن خانني الحظ، وحمل لي العديد من المتاعب، إنني حتى لا أتوفر على البطاقة الوطنية، ودخلت إلى الزنزانة لم تكن تختلف كثيرا عن المحطة التي كنت أعيش بها بالنسبة لي ... وخرجت لأعود إلى المحطة أكثر شراسة وروح العنف والسرفة تنبض في عروقي، كأنها وساوس الشياطين، شياطين السرقة والاغتصاب والعنف ..
وبدأت أسرق معتمدا على السلاح .. وأقطع سبيل المارة والمسافرين وعندما يخونني الحظ أضرب بالسكين وأهرب لم تكن تخيفني الدماء بقدر ما كانت تخيف المحيطين بي، قد لا يخافون من رؤية السكين ولكن بمجرد رؤية الدماء البشرية، يختفي كل من سولت له نفسه مطاردتي ... ومع ذلك سقطت مرة أخرى، وهذه المرة خمسة سنين في السجن... وحتى هذه العقوبة لم تجعلني أتوب، خرجت لألتقي من جديد بالقطار والمحطة والمسافرين، كانوا الشيء الوحيد الذي إشتقت إليه وأنا في السجن...
وانطلقت من جديد، وركبت أول قطار جخل إلى المحطة ولم تمض خمس دقائق حتى وجدت المراقب فوق رأسي " تذكرة من فضلك " ... وهربت منه ... ورجيت ... وجريت وأنا أتخطى أرجل المسافرين ... ومن عربة إلى عربة ، تصورت أنني سأجد في القطار أصدقاء الطفولة ولكنني وجدت جيلا آخر أخذ مكاننا... أبناء جدد للقطار ...
هم أيضا كانوا هاربين من المراقب...
وهربت مع الهاربين...
وتسلقت العربة ... وجريت فوق سطح العربات ...
ومازال المراقب يطاردني ...
جلال التازي
TAZIJALAL@HOTMAIL.COM
المراقب يطاردني
لا أذكر منذ متى بالضبط وأنا أجري ... دائما أجري، لا أعرف كم أبلغ من العمر بالضبط... لنقل أن عمري كان عشرة سنين... أسكن محطة القطار، لنقل أن هذا هو عنواني .... ربما كان أبي هو القطار وأمي هي السكك الحديدية، لأنا كل ما أذكره هو أنني نزلت من القطار ... وركبت قطارا آخر وهكذا دواليك حتى أصبحت إبنا للقطار، عندما أجوع أسرق ... وعندما يأتي الليل أنام في أي مكان المهم أن لا يكون بعيدا عن المحطة، وعندما أستيقظ أركب أول قطار يأتي دون أسأل إلى أين يتجه ودون أن أشتري تذكرة ... ومن أين لي بثمنها .. ثم هل هناك أحد يشتري تذكرة ليركب ظهر أبيه ؟ ... كان القطار هو أبي، وكان المراقب هو عقبتي الوحيدة ... دائما يطاردني... وخلال المطاردة، أجري وأجري متخطيا أرجل الناس، ومن عربى إلى عربة وقد لا تتصور الشجاعة التي تنزل علي ... تصور ما تراه في السينما الناس يجرون فوق عربات القطار ... أنا كنت أفعل ذلك ولكن هذه المرة على أرض الواقع.. ولم أكن وحيدا، كان لي عدد لا بأس به من الأصدقاء ... ليسوا أصدقاء بل إخوان مادام أبونا واحد وأمنا واحدة ... في بعض المرات عندما كان يسقط أحدنا في يد المراقب، هذا الأخير يركل ويفرس يكاد يقتل ويسب ويشتم... ويلعن اليوم الذي إشتغل فيه هو مراقبا في القطار...
هكذا وباختصار شديد مرت طفولتي، إذا أمكن أن نسميها طفولة..
ومرت الأيام، وأصبحت رجلا... لم أعد أطيق النوم، لم تعد تكفيني سرقة الطعام ولم يعد يكفيني الأكل والنوم لكي أعيش.. وبدأت أتعاطى الحشيش ... لكي أنسى، وعندما لا أجد ثمنه أكتفي بشم لاصق العجلات حيث يكفي أن أشم نصف علبة حتى أنسى أن أمريكا دولة عظمى، وأعتقد أن بلدي هو إبمراطورية العالم وأن كل الدنيا ترقص .. وأعيش أميرا من أمراء ألف ليلة وليلة ولكن للأسف كل هذا للحظات فقط، ثم أعود إلى الآلام ووحشية الشارع وأنياب محطة القطار ...
وفي يوم قبض علي بتهمة السرقة ... سرقت محفظة أحد المسافرين ولكن خانني الحظ، وحمل لي العديد من المتاعب، إنني حتى لا أتوفر على البطاقة الوطنية، ودخلت إلى الزنزانة لم تكن تختلف كثيرا عن المحطة التي كنت أعيش بها بالنسبة لي ... وخرجت لأعود إلى المحطة أكثر شراسة وروح العنف والسرفة تنبض في عروقي، كأنها وساوس الشياطين، شياطين السرقة والاغتصاب والعنف ..
وبدأت أسرق معتمدا على السلاح .. وأقطع سبيل المارة والمسافرين وعندما يخونني الحظ أضرب بالسكين وأهرب لم تكن تخيفني الدماء بقدر ما كانت تخيف المحيطين بي، قد لا يخافون من رؤية السكين ولكن بمجرد رؤية الدماء البشرية، يختفي كل من سولت له نفسه مطاردتي ... ومع ذلك سقطت مرة أخرى، وهذه المرة خمسة سنين في السجن... وحتى هذه العقوبة لم تجعلني أتوب، خرجت لألتقي من جديد بالقطار والمحطة والمسافرين، كانوا الشيء الوحيد الذي إشتقت إليه وأنا في السجن...
وانطلقت من جديد، وركبت أول قطار جخل إلى المحطة ولم تمض خمس دقائق حتى وجدت المراقب فوق رأسي " تذكرة من فضلك " ... وهربت منه ... ورجيت ... وجريت وأنا أتخطى أرجل المسافرين ... ومن عربة إلى عربة ، تصورت أنني سأجد في القطار أصدقاء الطفولة ولكنني وجدت جيلا آخر أخذ مكاننا... أبناء جدد للقطار ...
هم أيضا كانوا هاربين من المراقب...
وهربت مع الهاربين...
وتسلقت العربة ... وجريت فوق سطح العربات ...
ومازال المراقب يطاردني ...
جلال التازي
TAZIJALAL@HOTMAIL.COM
تعليق