اللحظة سأعرج على المقهى العتيق القابع على تخوم البلدة لأشرب قهوة مركزة..ربما تفلح في تعديل مزاجي .. لكني لا أرى شيئا ..الضباب يستفرد بالمدينة..يهرق صخبها في جوفه وربما يحضنها عنوة..هو الآن من يتلذذ بتضاريسها الطرية..ارتجاجها تحت أقدامي أوحى لي بذلك..حملقت كثيرا لكني لم أر سوى حياة تنتشي بشبابها...ثم هذه الرموز والعلامات القابعة على الطرق والمتاجر والمؤسسات ..أين رسالتها؟ ..أصاب 'بيرس' فعلا عندما وضع تصنيفه الشهير للعلامة ..وجعل العالم الماثل أمامنا رمزيا تواصليا تواضعيا..قال لي أحد الأصدقاء ذات جلسة مسائية إن 'بيرس' أعفى البشرية من هدر طاقة الكلام ..وأضاف ..لو كان الأعمى يصرخ في الطرقات طول النهار ..افسحوا لي الطريق ياناس لذهب صوته كما ذهب بصره.. قلت له ..حسنا أنت محق في ذلك ..وربما لو عاش 'ابن برد' في هذا الزمن وفي هذه المدينة بالضبط لدهسته سيارة ما وهو يتحسس رائحة عشيقته.. لكني الآن أفكر في شيء آخر ..هذه الرموز هي كائنات تتنفس وتنمو سواء داخل اللغة أو خارجها..بيرس لم يأت بالجديد سوى أنه نظر وصنف ودرس ما هو موجود أصلا..الحياة تتجدد وتتطور غصبا عنا..لست داروينيا فأنا مؤمن حقيقي بالله.. ربما بدأت أثرثر ..أو بالأحرى أفكر بثرثرة ... هنا الباحة الخارجية لمقهى 'البوزيدي' ..البرد يكشر عن أنيابه فيدمى خدودا أسيلة يعذبها الحنين ..للضباب أياد لعينة تمتد لتعبث بالممتلكات ..سمعت بعض المراهقات ينفخن آهاتهن المعتقة في الهواء احتجاجا على سطو خفي.. بداخل المقهى على الأقل لم يبلغ دخان السجائر الى حد جبروت الضباب ..هنا دفء العاهرات المتربصات تحس أنه يحرس قلبك من خطر ما .. فتهرع لتؤجل موتك دائما الى زمن آخر ..وهي بيني وبينكم فكرة ساذجة ..لا نستطيع أن نؤجل الموت أبدا..لكن حضور امرأة فاتنة بين يديك حدث حتما سيسبق لحظة الموت..ربما تكون لحظة الموت هي لحظة الندم على الخطيئة .. يبدو أن دمائي تفور في مراعيها..هذا دليل على أن مزاجي تحسن ..سأخرج الآن لألقي نظرة على المدينة ..يا الهي .. تلاشت ولم يعد لها أثر..كم أعشق المدن السخية التي تمنحك شوارعها خلسة لتصعد أعلى الطبقات الاجتماعية ..لكن في أحيان أخرى قد تتقيأ غضبها لتهين الحضارة المبنية على الزيف ..المدن فيها مسحة من الاشتراكية لأنها توزع خيراتها وشرورها بعدل على الكل .... تعبت حقا من ثرثرتي .....سأتحسس طريقي إلى مكان لا أعرفه .. في الطريق ألمح ضوءا يتحرش بالضباب الذي تجمل وتطهر كعروس مقبلة على حصاد حقيقي ...اقترب مني الضوء كثيرا ..في حين لا أزال مشدودا الى أفكاري... يصدمني جسم صلب لا أدري حجمه ولا شكله ولا ماهيته..كل ما أدريه أني موجود بصيغة ما ...لحظة العبور من الدنيا إلى الآخرة كلحظة الانعطاف من فكرة إلى أخرى..لا شك في ذلك ...أنا الآن ميت وهذه حقيقة ...وهي فرصتي أن أهمس في آذانكم جميعا ..لا تخافوا من الموت إنه جباااااان جدا ...