أنا والقلب
إفترش ضوء القمر طريق النهر...
شمل زورقي الساري بين أحضان سلاسله الذهبية، قبّل وجنة الليل بأشعتهِ المرسلة؛ فأزاح الظلام... بينما الأحلام تطوف في عيون الحالمين، تسيل من السماء ممتزجة بقطرات الندى، فتشكل دوائر فوق سطح الماء...
وأنا جالس في الزورق.. أشاهد كل هذا..
ثم رأيتها، هي هي، الذكرى نفسها، الحلم الجميل ذاته... كانت تتمايل حولي، نسمة هي في ثوبها الفضفاض.. فيتبعها قلبي بلهفةٍ عليها.. ألوح لها، أحاول الإمساك بها.. فتتلاشى.. وتذوب مع نزق الرياح..
أعود إلى الذكرى.. أدركها محض خيال.. صورة لا حياة فيها.. أتحدث إليها ولا تحدثني.. ثم يتناهى صوتها إلي من بعيدٍ.. بعيدْ.. يلتف حول عنقي.. يخنقني:
- سأحيا لنفسي بلا مبالاة !..
تؤرقني الذكرى..
وما زال قلبي اللحوح منتفضاً، يضخ الحنين في عروقي، وكلما حاولت إسكاته انتانبتني هزّة عنيفة.. هزّة تخلخل صدري.. آلام قاسية تسيطر تعربد به.. أنظر إليه.. ألمح تجويفاً عميقاً.. أهمس فزعاً:
- أين قلبي؟
أسمع نهنهات آتية من يمّ النهر..
- قلبي؟!..
إنه يغرق.. يلفظ أنفاسه الأخيرة..
أمد له يدي بسرعة:
- أمسك بها.. لا تخف.. سنحيا معاً..
- لن أرجع بدونها !..
- ذكراها تؤلمنا.. لن نرجع إليها..
- إذاً، فاتركني أغرق !..
قلبي قد وهن.. وعقلي يلح علي بهجره.. لا.. مستحيل.. فحياتنا من دفقه وحياته فينا.. أنظر إليه مشفقاً عليه.. يلهث من التعب.. أتوسل إليه:
- عُدْ إلينا !..
- لا.. لن تحتملني..
- كيف وأنت مني؟
- وهي منك ومني..
أصرخ فيه.. فما عدت بقادر على الإنصاتِ إليه.. فهو يزيد من وجعي.. لكنه لا يسكت.. بل يصيح بكل ما فيه من نبضٍ.. صوته يخالط الماء.. يغرغر:
- أنت تقتلني !..
- كلانا يقتل بعضه..
وأُطرق طويلاً في شرودٍ.. ثم أضيف:
- هي تقتلني وأنا أقتلك..
يجتذبه الماء لأسفل، يغيب عن عيني للحظاتٍ، أشهق خوفاً عليه، أضرب بيدي على صدري، أهمس بصوتٍ مكتومٍ :
- لا.. لا تمت !..
يطفو مرة أخرى، لاهثاً... ما زالت به بقايا رغبة في الحياة :
- أريدها !.. لن أقدر علي العيش بدونها !..
وما زال عقلي أسير جموده.. ونفسي سجينة واقعها..
أشتات أنا.. أتركه.. ينتفض فجأة.. يضخ الماء .. نبضه يعتصرني.. ولا أكترث..
أوقف زورقي.. أنظر نبض الحياة حولي.. يشبه دقّ الطبول في رأسي.. وعيناي مشربتان بنداوةٍ من دموعي :
- لن أسير !..
تبدو علي قلبي ملامح الرهبة..
إصراري عقلي يشقيه وإصراره يضنينا..
يسألني بتوجسٍ :
- لِمَ ترفض الحياة ؟
يجيبه صوت عقلي بجمودٍ :
- أنتَ سبب الشقاء !..
- إني أغرق !..
يعزّ عليَّ عذابه.. لكن.. كلانا يُسحق بنار لا مبالاتها.. كلانا أسير الواقع بكل مرارتهِ.. وحبها بلهيبه المحرق.. أقول لقلبي بمشاعرٍ تنفطر :
- كلانا يغرق ..
وأتركه يواجه مصيره...
- تمت -
تعليق